أهمية المشروع الحضاري
أهمية المشروع الحضاري
د محمد وقيع الله
أكاديمي سوداني
أحال إليّ أحد الزملاء الأساتذة الجامعيين تقريراً دراسياً ممتازاً كتبته إحدى طالباته في مراجعة وتحليل كتاب المفكر الإسلامي الحضاري الكبير المهندس مالك بن نبي الذي حمل عنوان (مشكلة الثقافة).
وقد أحيت قراءة هذا التقرير في نفسي تلك الآمال الكبار المعقودة على الجيل الجامعي الجديد في أن يواصل مهمة التثقيف الذاتي، والتفكير الاجتماعي الموضوعي العلمي، في قضايا النهضة، إتباعاً لمنهج مالك بن نبي الاجتماعي، بدلاً من صرف عواطفه الجياشة في الحماسة، والإثارة، والتهييج السياسي، الذي ليس وراءه كبير جدوى.
بل ربما اندرج ذلك كله في إسار قضايا التخلف، والتشبث بالماضي التقليدي العاطل، الذي أقعد بنا وأخرجنا من حلْبة التاريخ.
أثارت قراءة هذا التقرير العامر في نفسي مجدداً أفكار ابن نبي القوية في موضوع الثقافة ونواحي ارتباطها الأوثق بقضايا النهضة واللحاق بمسار التاريخ الحديث.
عالم الأفكار الأعلى:
أنظر مثلاً إلى مناقشة مالك بن نبي للفكرة التي لا يمل من عرضها في إطارات متنوعة، وهي تلك التي تُعلى من عالم الأفكار على عالم الأشياء.
أكثر مالك بن نبي من ترديد تلك الفكرة لأن مفهوم النهضة ارتبط في أذهان مثقفي المسلمين في عصره، وربما لا يزال كذلك في أذهان الكثيرين منهم، بالأبعاد المادية التقنية وحدها.
وهذا ما قام مفكرو التنمية وعلماء الاقتصاد السياسي الغربيين بتأصيله من بعد فيما دعى بمدرسة التمدن ونظريته (Modernization Theory).
وخلاصة النظرية ودعوتها أنه ما على الشرق وما على البلاد المتخلفة إلا أن تكرر تجربة أوروبا بحذافيرها لتحقق ما حققت أوروبا من نهوض.
ومعنى ذلك أن يتخلى غير الغربيين عن أفكارهم ويقلدوا أوروبا في أفكارها كما يقلدونها في علومها التقنية وطرائق إنتاجها على السواء.
ومعروف أنه قد كان لهذه المدرسة امتدادات وذيول في الشرق والعالم المتخلف، من أبرزهم تلميذ المستشرقين الأشهر صاحب الكتب المعروفة (في الشعر الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر) و(حضارة الأثينيين) و(قادة الفكر).
النهوض بالأفكار:
ورداً على واحد من أساطين الفكر الغربي هو (أوبجرن) الذي ربط بين الثقافة ووسطها المادي، إلى حد أن قال: إن الثقافة ما هي إلا عالم من الأشياء المادية :(يحوطه جو من الأفكار فإذا انهارت الأشياء أخذت معها الأفكار)، يقول ابن نبي: إن أشياء ألمانيا المادية انهارت تماماً بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بقي لها مع ذلك عالم الأفكار.
ولأن ألمانيا احتفظت بعالم الأفكار فقد استطاعت أن تنهض قبل أن ينصرم عقد واحد على انهيارها.
هكذا وبضربة قلم واحدة قوض مالك بن نبي كل دعائم فكرة (أوبجرن) وأطاح بمفاهيم ودعاوى مدرسة التمدن الغربية بأسرها.
وأسس عوضاً عن ذلك متبنَّيات ومتضمنات وفرضيات نظرية رفض التبعية ومدرستها.
وهي التي غدت تدعى اختصاراً بنظرية التبعية (Dependency Theory).
وهي النظرية التي قام على تشييدها والمنافحة عنها مفكرو أمريكا اللاتينية (التنمويون المناضلون) الكبار من أمثال راؤول بريبش، ودوس سانتوس، وأوكتافيو لاني، وهانيبال كوينجانو، ورومولو بيتانكورت، وآرثورو فرانديزي، وهايا دي لاتور.
من لا يصنع أفكاره لا يصنع أشياءه:
وهنا تقرر لنا الطالبة الجزائرية النجيبة أفكارها وهي تنظر إلى فكر ابن نبي وتمتح من معينه الثر، وتقول: من وجهة نظري أنه لا التعريف الغربي ولا الماركسي مناسب للثقافة العربية، وذلك لاختلاف المجتمعات من ناحية العصر والاتجاهات والأهداف. وكما يرى مالك بن نبي فإنه لا يمكننا اقتباس حل أمريكي أو ماركسي متكامل لحل المشكلة العربية، لأن هذه الحلول وجدت لتخدم مجتمعات بعينها تختلف في ثقافاتها وتوجهاتها عنا.
ولذلك يجب أن نكون تعريفنا الخاص الذي يناسب أفكارنا ومجتمعنا العربي الإسلامي، وهنا تكمن المشكلة إذ أن الثقافة كالرسم البياني ثلاثي الأبعاد يجب أن يُدرس من كل الجوانب قبل أن يرسم.
وبما أن المجتمعات العربية الإسلامية أصبحت تصنف من المجتمعات اللا فعّالة من الناحية الاجتماعية، فأرى أننا ما مادمنا نواجه مشكلة في تحسين السلوك الاجتماعي، وبالتالي لدينا نقص في الأفكار فلن نتمكن حينئذ من إيجاد تعريف جيّد لثقافتنا، وبالتالي لن نجد حلولاً متكاملة لمشكلاتنا، فنحن لم نتمكن حتى الآن من سوى وضع اسم ورسم للأفكار، وما زال الطريق أمامنا طويلاً.
ونقول لهذه الطالبة ونقول لأبناء الجيل الجديد المثقف من أبناء الجامعات: نعم إنها طرق طويلة رحبة لأحبة..
إنها طريق الحضارة الإسلامية ..
التي تتفرع منها طرق متموجة من عوالم الأفكار والنظريات ونماذج التخطيط.
ولكن تقودها دائماً رؤية أصولية ثقافية حضارية ثاقبة مائزة.
تأبى الذوبان في الآخرين.
وفي الوقت نفسه لا تستعلي عليهم، ولا تأنف من الإفادة منهم.
ثم تبقى على اعتزازها الشديد بالذات.