تصادم الحضارات

تصادم الحضارات

 

الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

مصطلح "تصادم الحضارات", من المصطلحات التي أدخلها الغرب في القاموس السياسي العالمي في أواخر القرن الماضي, وقد كان ذلك بعد هزيمة المعسكر الشرقي، وانهيار ما كان يسمى بالإتحاد السوفيتي, وتفكّكه كدولة حاملة لمبدأ الاشتراكية المنافس للرأسمالية في قيادة العالم.

 

1 . تصادم أم صراع؟

يستعمل الغرب غالبا كلمة التصادمCLASH , وأحيانا كلمة الحرب, للتعبير عن واقع العلاقة بين الحضارات ومستقبلها. ولا شكّ أنّ هذه مغالطة كبرى من الغرب للبشرية؛ لأنّ التصادم لا يعبّر عن واقع العلاقة بين الحضارات تعبيرا دقيقا, إنما يشعر بالبعد المادي أو العسكري للعلاقة, ويعبّر عن نتيجة واحدة مفزعة للإنسانية ألا وهي الحرب.

والواضح أنّ الغرب قصد استعمال كلمة التصادم ليحذّر من خطر حضارة قادمة, ولينذر البشرية بويلات حروب مدمرة إذا ما فكّر في التخلّي عن الرأسمالية, وليدفع العالم بعامّة والعالم الغربي بخاصّة إلى نبذ فكرة التغيير والرضا بالواقع السلمي المتمثّل في سيادة الحضارة الغربية.

 

والحقيقة, أنّ العلاقة بين الحضارات علاقة تنافسية, تقوم على الصراع من أجل قيادة العالم. فقيادة العالم, هدف كلّ حضارة لها صفة العالمية التي تتجلى في عقيدة كلية شمولية تكشف للإنسان حقيقة الوجود وتبصّره بالغاية من الحياة, كما تتجلى في نظام يعالج مشاكل الإنسان كلّها.

وأمّا الصراع, فهو جوهر العلاقة بين الحضارات وأساسها الوحيد الذي لا بدّ منه ولا بديل عنه, لذا فإنّ ما يدعو إليه بعض الناس من التقاء بين الحضارات وتعايش بينها لا واقع له ولا يمكن تحقيقه. فالالتقاء أو الوفاق, وهو الشكل النظري للعلاقة بين الحضارات, فكرة خيالية مناقضة لواقع الاختلاف والتباين بين الحضارات في عقائدها ومقاييسها وجملة تصوراتها عن الحياة. والتعايش السلمي, وهو الشكل العملي للعلاقة بين الحضارات, فكرة كاذبة لا واقع لها؛ لأنّ التعايش يكون ضمن منظومة فكرية واحدة, وتحت جناح قوّة سياسية وعسكرية واحدة. لذلك, فإنّ من يدعو إلى التقاء الحضارات وتعايشها السلمي يقصد، سواء أشعر بذلك أم لم يشعر، انضواء مختلف الحضارات تحت جناح حضارة واحدة رائدة هي الحضارة الغربية.

ومع أنّ الصراع بين الحضارات حتمي لا مفرّ منه, فليس بالضرورة أن يقع التصادم بينها؛ فليس بالضرورة والحتم وقوع حرب, إذ قد ينتهي الصراع بغلبة فكرية أو سياسية لطرف ما دون اللجوء إلى القوّة العسكرية. فالجانب المادي العسكري ليس بأساس في الصراع وإن كان منه, وليس بحتمي متى قصد تجنّبه؛ لأنّ الأصل في الصراع أن يكون عقديا فكريا سياسيا.

وعليه, فإنّ الغرب يضلّل البشرية باعتماده كلمة التصادم, وبتركيزه على الجانب المادي العسكري وإهماله الجانب الفكري العقدي الذي يمثّل أساس الصراع وجوهره.

 

2 . حقيقة صراع الحضارات

يعلم الغرب علم اليقين أنّ قوله بتصادم الحضارات ذرّ للرماد على أعين البشرية؛ لأنّ الحقيقة هي عدم وجود تصادم أو صراع بين حضارات إنما بين حضارتين فقط, هما الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية.

ذلك, أنّ ما يسمّيه الغرب بالحضارة الهندية والصينية واليابانية, لا واقع له. فالهند, قد قبلت بالرأسمالية, واليابان رأسمالية, والصين في طريق تحوّلها نحو الرأسمالية بل تحوّلت فعلا. وأماّ البوذية, والطاوية والكونفوشيوسية كأديان فليست بندّ للحضارة الغربية, كما يعلم الغرب نفسه؛ لأنّها ليست عالمية, ولا يحملها أهلها كبديل حضاري عالمي ينافس الغرب وحضارته. والحقيقة, أنّ الغرب تعمّد إضفاء الصبغة الدينية وتعميمها على الحضارات التي ادعى الصراع بينها لأسباب منها:

أولها: أنّ التعميم, بخلاف التخصيص, يضفي نوعا من الغموض على الحقيقة. فالغرب لا يريد تخصيص الإسلام بالصراع؛ لكي يبقى العالم الإسلامي في غفلة عن مراده وغايته. وأمّا شعبه, فيدرك حقيقة عدم وجود الخطر من البوذية وأمثالها, فليس من الصعب عليه إدراك حقيقة الصراع، وهو ما نلمسه الآن في البلاد الغربية من تركيز للشعوب الغربية على الإسلام دون سواه.

ثانيها: أنّ التعميم يؤدي إلى إشراك الجميع في مقاومة عدو واحد هو الإسلام. فالغرب قد وضع بفكرة تعميم الصراع قاعدة هي: إذا لم تكن معي فأنت عدوي. ولمّا كان البوذي – مثلا – في واقعه لا يعادي الحضارة الغربية, بل هو ممن يتبنّاها ويدعو إليها, فسيكون طبيعيا مناصرا لها وعدوا للإسلام.  

ثالثها: إنّ الغرب لا يريد إبراز الإسلام كعقيدة وشريعة تعالج مشاكل الإنسان ككلّ, أي لا يريد إبراز الإسلام كمبدأ وبديل حضاري للعالم؛ لأنّ في ذلك توعية لشعبه خاصّة وللبشرية عامّة على أفكاره ومقاييسه, تتبعها رغبة في البحث والتعرّف عليه. لذلك, يحرص الغرب على إبراز الإسلام كدين, لما في كلمة الدّين من مفاهيم سلبية مستقرّة في عمق الغربيين, منها الرجعية والتأخر, وعداء العلم والتعطّش للحروب والقتال.

رابعها: أنّ الغرب يدرك أنّ الصراع مع الإسلام يحتاج إلى وقت طويل, فلا بدّ من دعم من الشعوب وتفهّم له. غير أنّ هذا الدعم الحماسي اللازم لا توفّره مفاهيم الحضارة الغربية المغرقة في المادية والأنانية والفردية, فكان لا بدّ من تأجيج المشاعر وتحريك الوجدان وذلك بإيقاظ الروح الصليبية المعادية للإسلام. فمن هنا, دعا بوش الابن, بعد أحداث 11 سبتمبر, إلى حرب صليبية, ودعا بوتين الروسي وبرلسكوني الإيطالي إلى تجمّع أوروبي على قاعدة الجذور المسيحية المشتركة.

 

3 . ممارسة الصراع فعليا

صحيح, أنّ بعض المفكرين في الغرب يرفض نظرية "تصادم الحضارات" لأسباب متعددة, إلا أنّ رأي هؤلاء الرافض لهذه الفكرة ليس له أيّ تأثير على الواقع العملي؛ لأنّ الغرب يمارس فعليا صراعه للإسلام. فحين نادى بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر\أيلول بحرب صليبية, وحين أعلن شرودر الألماني بأنّ الهجوم على أمريكا هو هجوم على الحضارة الغربية التي افتخر بها وندد بمحاسنها كحقوق الإنسان وحرية الأديان التي لا توجد في البلدان الإسلامية, وحين قال برلسكوني الإيطالي بأنّ الحضارة الغربية أعلى من الإسلام وأرقى, فحينها أعلنت بداية الصراع عمليا. وما احتلال أفغانستان والعراق، والترويج لدمقرطة الشرق، والضغط على الجالية الإسلامية لتندمج في الثقافة الغربية، إلا أدلة قطعية على ما ندّعيه من ممارسة الغرب الفعلية للصراع.

 

4. هل نجح الغرب في صراعه مع الإسلام

إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود من يدعو إلى العلمانية، أو من يعتبر الديمقراطية سبيل النهضة، أو من يسعى لتطبيق الحرّيات الغربية، أو من يلفّق بين الحضارات، أو من يزعم الحوار بين الأديان ووحدتها، قلنا إن الغرب كسب الصراع؛ لأنّه حوّل وجهة الأمة الإسلامية من بحث في الإسلام وتطبيقه إلى بحث في القيم الغربية وتطبيقها أو اتخاذها قيمة عليا يسعى إليها ويفتخر بتبنيها والترويج لها.

لكن، إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود من يدعو إلى الخلافة باعتبارها الكيان السياسي التنفيذي للإسلام عقيدة وشريعة، أو من يحمل لواء الدعوة إلى تنقية عقيدة التوحيد، أو من يركّز على الولاء والبراء، أو من يحثّ على الجهاد، أو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو من يتصدى لمحاسبة الحكام على تركهم الحكم بالإسلام، أو من يحمل الإسلام مبدأ يصارع به الكفر، أو غير ذلك من مفاهيم الإسلام الأساسية الثابتة، قلنا إن الغرب لم ينجح في صراعه؛ لأنّ الأمّة لم تتنازل عن مفاهيمها الأساسية بل لا زالت متشبّثة بها داعية إليها ومستعدّة للموت من أجلها.

وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم وجدنا رغبة عارمة في تحكيم شرع الله، وعودة محمودة من الناس إلى دين الله، ووعيا بضرورة التحرر الفكري والسياسي من الغرب، واتفاقا على رفض الاحتلال ودعوة إلى مقاومته، وهذه الأمور وغيرها لتدل على أن الغرب فشل في صراعه وأن النجاح حليف الإسلام. وإذا أضفنا إلى هذا حقيقة كون الغرب يصارع حضارة لا تحملها دولة, أي يصارع حضارة يحملها أفراد، زاد يقيننا بغلبة الإسلام وفشل الغرب في هذا الصراع. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)} (الرعد).

 

20 ذو القعدة 1427هـ

المصدر: http://www.azeytouna.net/Fikr/Fikr010.htm

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك