ملوك القلوب
ملوك القلوب
- الشيخ مروان محمد أبوبكر
- داعية وباحث سوداني
أطل هارون الرشيد من نافذة قصره في بغداد فرأى جموعاً تلتف حول رجل بدا عليه الوقار، فسأل الرشيد حراسه من هذا؟ قالوا: هذا أحد العلماء، أقبل الناس عليه، منهم المستفتي ومنهم المستشير ومنهم من يلقي عليه التحية مودة وحباً، فقال هارون: والله إن هذا لهو الملك.
إن ذلك العالم الذي رآه الرشيد لم يبذل للناس مالا ليأتوه، وما له من جند وسلاح فيقبل الناس عليه خوف بطشه، ولكن له سلطان من نوع آخر إنه سلطان التقى الذي يملء القلوب محبة والنفوس إجلالاً، فتقبل القلوب قبل الأبدان، وهو سلطان لا ينازع، وملك لا ينتزع، ولعله المراد في قول مصعب بن عبد الله يمدح الإمام مالك رحمه الله:
يدع الجواب فلا يراجع هيبة * والسائلون نواكس الاذقان
عز الوقار ونور سلطان التقى * فهو المهيب وليس ذا سلطان
ومما يدل على أن مملكة القلوب راسخة الأركان، وملوكها لا ينزعهم خيل ولا سنان، التاريخ المليء بمعاركهم الظافرة، ومن ذلك أن العز بن عبد السلام لما أراد به السلطان سوءا خرج مهاجرا فخرج معه الناس، فقيل للملك: من ستحكم وقد خرج الناس مع العز بن عبد السلام؟ فأرسل في طلبه وأرضاه.
ولما حج هشام بن عبد الملك كان إذا أراد استلام الحجر زوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالا له، فوجم لها هشام وقال: من هذا ؟ فما أعرفه، فأنشأ الفرزدق يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك من هذا بضائره* العرب تعرف من أنكرت والعجم
وقد نعت الله تعالى العلماء ملوك القلوب بولاة الأمر فقال سبحانه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، وقد أبان أكثر العلماء أن أولي الأمر في هذه الآية العلماء والأمراء.
فالسلطات إذا خمسة وليست أربعة كما يحلو لبعض الناس تقسيمها وعلى الناس ألا ينسوا أشدها رسوخاً، وهي سلطة ملوك القلوب من العلماء العاملين بعلمهم الداعين له.
والمأمول أن يعترف ملوك البلاد بملوك القلوب، وأن يمتد بينهم حبل الوصال، ليشد بعضهم عضد بعض فتنتفع البلاد ويسعد العباد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: صنفان إذا صلحوا صلح الناس : الأمراء والعلماء.
وعلى ملوك القلوب أن يبسطوا سلطانهم اللطيف على قلوب الأمراء، فيصلحوا من اعوج ويعينوا من رشد بحكمة، وعلى عامة المسلمين إحسان الظن بأهل العلم في سعيهم الدؤوب لجلب المنافع وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، ويحسن في هذا المقام أن أذكر خبرا أورده الشوكاني رحمه الله فقال: دخل أحد العلماء على السلطان، وكان من جلسائه، فرآه عازما على قتل رجل ظلماً، فنهاه بلطف عن قتله، فأبى السلطان ألا قتله، فلم يزل العالم يلاطف السلطان حتى هدأت ثائرته، ولكنه قال: أدع قتله بشرط أن تقوم أيها العالم بضربه في السوق، فرضي العِالم بذلك، وضرب الرجل في وسط السوق، فانفض الناس وهم يقولون: ما أسوأ علماء زماننا! يعينون الملوك على ظلم الناس، ولو علموا أن العالم بضربه لهذا الرجل قد أنجاه من القتل لدعوا له.
فمراعاة حرمة العلماء، وإحسان الظن بهم، ومحبتهم من علامات صلاح القلب واستقامته، والوقيعة فيهم واتهامهم وإساءة الظن بهم علامة فساد القلب، فلحوم العلماء مسمومة ومن أطلق لسانه فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.