الصفحات المحجوبة في الصراع الإسلامي الليبرالي !!

الصفحات المحجوبة في الصراع الإسلامي الليبرالي !!

 

سلطان بن عبدالرحمن العثيم

 

تعالت الأصوات وكُتبت المقالات وجاءت الردود وبُنيت السدود وبدأ التترس، وكان الاصطفاف ،ونُصبت الأعلام وبدأ الحذر جلياً هنا وهناك .. أفكار متناثرة وأطروحات متباينة وحراك فكري وثقافي كبير , أقعد النائم وأسهر القاعد وحيّر العقول فتساءلت إلى أين المسير..؟ وأين سوف تكون الجهة والوجهة والتوجه ؟ هذا هو عنوان المرحلة الفكرية والثقافية والدينية والحضارية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط حالياً ،فهناك مشروعان حضاريان يتشكلان ويأخذان مواقعهم لقيادة الأمة والوطن إلى الأمام وربما إلى الخلف فالتقييم يكون بعد نهاية العمل والحكم بعد المداولة والقول الفصل حينما تحط هذه المرحلة رحالها وتسكن رياحها .. ويبين أنحن خلف القطار أم مع القطار أم دهسنا القطار !!
أولى هذه التيارات هو التيار الإسلامي بجميع أطيافه وتكتلاته والتي يبرز منها التيار السلفي والاخواني والتبليغي والصحوي والإصلاحي و المستقلون وغيرهم وهو تيار شعبي بامتياز وله بهذا نفوذ كبير بحكم أطروحاته ومنطلاقاته وتاريخه ومرجعيته والخدمات المختلفة التي يقدمها للمجتمع ونزوله إلى الميدان بشكل قوي ولافت , ولكنه ليس تياراً رسميأً على الأغلب فهو يكاد يكون مبعداً عن مؤسسات الإعلام الرسمية في الدول المختلفة خصوصاً في الصحف والتلفزيون بالإضافة إلى بعده عن المطبخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الإدارة العليا وموطن صناعة القرار , حيث يلعب هذا التيار هنا دوراً استشارياُ تكميلياً على الأكثر ولكن لا يدخل في صلب وضع التوجهات ورسم السياسيات و إقرار الخطط والاستراتيجيات , ولكنه ينفذ ما افرزه هذا المطبخ فعليه التذوق ولكن ليس عليه الإعداد !!
وعلى الجانب الآخر يكون التيار الليبرالي و هو التيار الفضفاض جدًا في هذه الدول وهو بلا هوية واضحة أو إيطار متشكل , فهو خيمة تحتوي الكثير من الألوان والأطياف فهو خليط من مجموعة من المثقفين والاكاديمين الذين تخرجوا من جامعات غربية على الأغلب والعلمانيين والعقلانيين وجماعات المصالح والرأسماليين بالإضافة إلى الشيوعيين والاشتراكين والقوميين سابقأً والذين سقط مشروعهم و تخندقوا تحت هذه العباءة وانطلقوا من جديد عبر اعتلائهم هذه الموجه الجديدة فهم أهل خصومة تاريخية مع التيارات الإسلامية وبالتأكيد سوف يكونوا في المعسكر المناوئ لهم .
هذا التيار رغم قدمه في المنطقة وتلونه بمسميات مختلفة إلا انه لم يحظ بأي شعبية رغم إطلاق يده في وسائل الإعلام بشكل غير محدود ولافت وبعض الأجهزة والمحافل الثقافية والأدبية والتراثية حيث يتمتع هذا التيار بنفوذ كبير داخل المؤسسات الرسمية فهو تيار نخبوي بامتياز , لكنه لا يتمتع بأي عمق اجتماعي أو حضور شعبي على الاطلاق وهنا يتضح انقسام المجتمع الذي يعتبر اشكالية كبرى من اشكالية مشروع التنمية والتطور الحضاري والاجتماعي والاقتصادي وهو أحد التحديات الهامة لأي مشروع نهضوي يحتاج الى اتساق النسق العام وتجانس أطرافه وتعاون أركانه !!
ويفسر هنا غياب الشعبية عن التيار اللبرالي فيما يبدو لعدم تجانسه واتساق طرحه وغياب الأرضية الصلبة التي ينطلق منها وتبعثر توجهاته وارتباك رموزه وغياب مشروعه الحضاري المتكامل واكتفاءه يتصدير الآراء الشخصية والتأملات الفردية وتقديس قوى العقل والمنطق وتقديم العقل على النقل رغم أن القاعدة تقول: أن العقل السليم يوافق النقل السليم ناهيك عن ضياع طاقة هذا التيار في مناكفة الإسلاميين واستفزازهم والإسراف في الحديث عن قضايا إعتقد رموز هذا الفكر أنها سوف تجلب لهم الشعبية مثل حقوق المرأة والحريات والعدالة والمساواة وسيادة دولة القانون والنظام وحقوق الإنسان والتحّضر والدولة المدنية وتقديم نفسه كمنقذ للمجتمع وصانع للتغير , ولكنه وقع في فخ كبير وهو أن المجتمعات لا تحب مشاريع التحضر والتمدن المستوردة بالكامل من الخارج وتفضل الحلول المنطلقة من البيئة المحلية أو الإقليمية والتي تصنعها بسواعدها وتكون من بنات أفكارها ووليدة حضارتها وقيمها !!
ويؤكد ذلك أن الله تعالى أرسل كل نبي بمشروع تغيير لقومه ولم يرسل نبيا برسالة إلا بدأ بقومه فيصدقوه ويؤمنوا به وهي طبائع اجتماعية جُبل عليها البشر منذ أن خلق الله الخليقة، قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .(سورة إبراهيم ) ورغم كل شئ , سقط كل ذلك حيث أصبح هذا التيار متفرغاً لإسقاط الاسلامين ووصفهم بالتخلف والرجعية والتحجر والانغلاق والتطرف , وأنهم هم العثرة في طريق الحضارة والتقدم والنهضة والترويج للشعارات البراقة التي سقطت عند أول ممارسة عملية حيث دخل هذا التيار في قضايا أبرزت الأزمة التي يعيشها فهو يعاني من فوبيا الاسلامين والدولة الشرعية والنظام الإسلامي والاحتكام إلى الشرع والمشروع العقدي والظاهرة الأممية والتدين الفردي والاجتماعي , والصحوة ورموزها , وأضحى يحارب ذلك كله بهيجان أفقده صوابه .
وعندها زاد ذلك السقوط قسوةً عبر التناقض بين شعار الحرية والعدالة وتعادل الفرص بين الناس والتي يرفعها هذا التيار بين الحين والآخر وبين ممارسات الإقصاء والتحيد والإسقاط المستمرة خصوصا عبر أجهزة الإعلام التقليدية التي يسيطر عليها وهذا واضح من خلال إبراز شخصية المتدين في الدراما حيث يظهر دوما بالشخص المتجهم و الرجعي و المضطرب , القاتل للإبداع والرقي والتحضر والهارب من كل متع الحياة والمنكفئ على نفسه , ناهيك عن المقالات التي تكتب يوميأ وتساند هذا الطرح بالإضافة إلى البرامج الوثائقية التي تتحدث عن بعبع الإرهاب وخطر الاسلامين الكبير على المجتمعات !!
وأصبح يضع جل ثقله في أمور لا تمثل أهمية لدى السواد الأعظم من الناس الذين يريدون حلولاً لمشاكلهم الكبرى كتهديد الهوية وتأثيرات العولمة وزعزعت القيم والفقر والبطالة والعنوسة والفساد والانحلال الأخلاقي والجهل والأمية و غياب الوعي ومشاكل الإسكان والصحة والتعليم و البنية التحتية والخدمات و الحريات العامة والعدالة الاجتماعية وتساوي الفرص , وليست القضايا الشكلية للمرأة وليست الجوهرية كقيادة السيارة والسفر بلا محرم وممارسة الرياضة من عدمها ولبسها وزيها ومشاركتها في الاولومبياد وسباقات الفروسية وغيره !!
ناهيك عن مواضيع أخرى مثل وحقوق الأقليات التي حسمت قبل ألف وأربع مائة عام وتوحيد الأذان وإغلاق مكبرات الصوت في المساجد وعدم اغلاق المحلات وقت الصلاة وغيرها بالإضافة الى استيراد النماذج الغربية والتسويق الدائم لها وكأننا أمة همل بلا قانون أو مرجعية خصوصاً في الأصول والثوابت ناهيك الترويج الدائم للنمط الغربي في الحياة العامة والخاصة وتلميعه واعتباره النموذج المثالي على الدوام !!
وعلى الجانب الآخر تكمن مشكلة التيارات الإسلامية في عدة قضايا ،فرغم الحضور الاجتماعي الكبير والقبول في أغلب الأوساط الشعبية والملاءة المادية وتوفر الكوادر وتنوع الأنشطة ووجود الحماسة والإقبال .. إلا أنني أعتقد أن الانشغال بالردود والصراعات الفكرية مع الخصوم أكثر من الانشغال بالبناء والعمل والتنمية البشرية والفكرية وتطوير وبناء الانسان التي هي أساس أي تنمية شاملة تقوم بعد ذلك بالإضافة إلى ضعف الإعداد للمشروع النهضوي الذي يعتبر العمل فيه ومن أجله تعبداً لله لا يقل أهمية عن المكوث في المساجد والانقطاع للعبادة والذي يعتقد البعض خطأ أنه جوهر الدين وأساس الصفاء الروحي والرضى الإلهي !!كما تطل مشكلة غياب الرؤيا المستقبلية والتفكير الإبداعي في مشروع النهضة والتخطيط الاستراتيجي لهذه الأعمال التي تمثل حجز زاوية الدين والتدين و الذي جاء كمنهج حياة كامل وليس طقوس مفرغة من أي مغزى ومعنى !!
.وتظل هنا مشكلة التفكير الكلاسيكي محاصرةً جل المشهد الإسلامي حيث توجه الطاقات في الجهود التقليدية واليومية سواءاً في الوعظ والنصح والإرشاد أو العمل الخيري التقليدي المفرغ من أي نشاطات إنمائية مع إهمال الاهتمام والتركيز على العمل الفكري وتأسيس القناعات الايجابية والإعداد الاحترافي للعمل الإداري والقيادي والتنوع المعرفي والقراءة الشمولية للمواقف والأحداث والعمل الجاد والتعاون مع الجميع والانفتاح على جميع التيارات الفكرية واحتوائها قدر المستطاع وتطبيق مبدأ
" تفاعل بلا ذوبان وخصوصية بلا انغلاق "
والتركيز على القواسم المشتركة في الدين والمواطنه والمشروع الحضاري المشترك الذي سوف ينهض بنا جميعاً , بالإضافة التخلي عن التخوف من الجديد والحديث والمعاصر والبطء في التغير الايجابي والمواكبة بل الحرص التام إعادة صياغة الخطاب الديني وجعله خطاب تقدميأ يجمع الأصالة والمعاصرة وهنا تكون العودة إلى قيادة الركب من جديد وريادة العالم وهو التحدي اللذيذ في مشروع الرقي والتطوير لهذه الرقعة الهامة من العالم والتي يقبع تحت أرضها قرابة نصف ثروة العالم ناهيك عن الموقع الاستراتيجي والمقدسات والتاريخ الملهم .
هنا يكون هذا التيار مؤهلاً لقيادة المنطقة خلال الفترة القادمة إلى مشارف المستقبل المزهر بكل احترافية وثبات فهو الصوت الذي يأتي من الداخل وليس من الخارج وهو الذي إن استطاع التعاطي الايجابي مع المرحلة ومعطياتها ومتغيراته مستفيداً من تأملات المخاض السابق وتجلياته فلن يكون هذا الدين ومنطلقاته ومقرراته صالحه لكل زمان ومكان إنما مصلحة لكل زمان ومكان .. فهو صوت هذه الأمة وصدها وتراب هذه الأوطان وسماها والأب الحاني على جميع أبنائه , يضلهم بكل حنو وتسامح وعطاء ورقي .

المصدر: http://www.meshkat.net/node/13980

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك