تجديد الخطاب الدعوي ... بين الترف والشظف
تجديد الخطاب الدعوي ... بين الترف والشظف
- الشيخ محمد العبدة
- رئيس تحرير مجلة البيان سابقاً
تعيش كثير من المجتمعات العربية تناقضا صارخا في حياتها، فنجد في هذا المجتمع الشخص المسلم الملتزم بدينه ، الذي يخاف ربه ونجد أيضا فئة أخرى ابتعدت عن هويتها ودينها وصارت إلى حال تسبق فيه المجتمعات غير المسلمة في التهتك والمجون .نرى المترفين الذين ينفقون الملايين على لهوهم وشهواتهم وقصورهم ، وفي الطرف الآخر نشاهد الفقراء المعدمين الذين يسكنون العشش التي لاتليق بالإنسان ويقتاتون بكسرات من الخبز .
إن مايحصل في البلاد العربية هو غياب الطبقة الوسطى (المستورة الحال ) كما يقال ،فإما أغنياء جدا أو طبقة مسحوقة يذهب جل وقتها في البحث عن لقمة العيش ، وأكثر هؤلاء الأغنياء قد جاءهم المال نتيجة الفساد المستشري ولم يتعبوا في جمعه لاكثيرا ولاقليلا ، ولم يرثوه من آبائهم ولا أجدادهم ،هؤلاء المترفون يبنون القصور الكبيرة التي تتسع لعشيرة وليس لأسرة ، ويركبون السيارات الغارهة تفاخرا وتكاثرا ،حال يدل على السفه والإنحلال ، شئ لايفعله أكثر أغنياء الغرب لأن عقولهم تمنعهم من ذلك .
يتحدث محمد توفيق البكري عن هذا الترف قبل قرن تقريبا فيقول : " وخراج قرية أوقريتين يذهب في لهو ليلة أوليلتين " هذا في زمن البكري وأما الآن فخراج مدينة أومدينتين لايكفي . هناك سفهاء من بلادنا من يشتري قدم لاعب كرة بعشرات الملايين ، وأحدهم يكلفه استدعاء حلاق من لندن ليقص له شعره خمس وعشرون ألف دولار ، وبعض السفهاء يرسلون الطائرة إلى باريس لتأتي لهم بالعشاء .إن العقلاء في العالم ينظرون بسخرية إلى هذا النمط من الناس في البلاد العربية وبتعجبون من تصرفاتهم .
هناك أغنياء لم يبلغوا هذا الحد من السفه ولكنهم واقعون في الإسراف والتبذيرالذي نهى القرآن عنه ، ولايفكرون أبدا في إنفاق الأموال على تعليم النابهين من الشباب أوفي تأسيس جامعة أومشفى كما يفعل أقرانهم في العالم .
التقى الزاهد العابد عبدالله العمري( 1 ) بالخليفة هارون الرشيد في البيت الحرام فقال له " والله إن الرجل ليسرع في ماله فيستحق الحجر عليه ، فكيف بمن يسرع في أموال المسلمين "
ماهو موقف الدعاة والخطباء والوعاظ من هذا الترف المفسد للمجتمع وللأمة وللدولة أيضا ، قال تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) ولم يأت الترف في القرآن إلا مذموما ، وهو دليل على البعد عن الهداية الربانية ، قال تعالى : ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) وقال : (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ) . ماهو موقفهم من هذا الذي ذمه القرآن ذما شديدا ، هل يسكتون عن هذا السفه ، أم لم تصلهم أخباره ، أم يظنون أنها قضية ليس لها ذاك الأهمية ؟ قال تعالى مطالبا العلماء بالنهي عن هذا المنكر : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ماكانوا يصنعون ) والسحت هو الذي يستأصل جهود الناس من أجل أقلية مترفة، جهود الذين يتعبون ليل نهار، مشتغلين بالغرس والحرث وكل أنواع المهن كي ينال المترفون أرغد العيش والملبس والراحة والرفاهية. إن المال الذي في أيدي الناس ينظر الإسلام إليه على أنهم مستخلفين فيه لصالح أنفسهم ولصالح العباد معهم.
الفقر ليس العوز فقط ولكنه (الإثم) والجشع الذي تمارسه طبقة معينة من الناس، وعلى الدعاة أن يتكلموا في هذا الموضوع ويبينوا للناس هدي الإسلام في المال، وأن كل إنسان له الحق في المأوى والمأكل الذي لا يجعله يموت جوعا، وأن يحصل كل أحد على ما يلزم للحياة في حدود الكفاف. النظم الدكتاتورية لا تريد هذا لأنه يجعل الفرد مستقلا وحرا، لا يكفي الوعظ في مثل هذه الحالات ولا يكفي أن نسمي الشر شرا بل يجب أن نبحث عن السبب الذي أنبت هذا الشر، عن المغريات التي تملأ الجو الذي يعيش فيه أفراد المجتمع، ومن الذي يشجع هذه المغريات. كان بعض السلف إذا رأوا في البيت ما يدل على الترف، كاستعمال أواني الفضة خرجوا وإن كانوا مدعوّيين لوليمة. وأخشى أن يكون بعض المشايخ والدعاة هم أنفسهم قد وقعوا في الاسراف أو شيء من الترف في المسكن والمركب.
=====================================
1- من ذرية عمر بن الخطاب