الأمة بين حملات التكفير ومحاولات إبعادها عن الإسلام

الأمة بين حملات التكفير ومحاولات إبعادها عن الإسلام

مصطفى ملص

 

يسود منطقة «الشرق الأوسط» بحسب الاصطلاح الغربي اضطراب هائل قلما شهدت له المنطقة نظيراً على مر تاريخها، فالمسألة لا تتعلق بتغيير حاكم ولا بقلب نظام سياسي ولا بإعادة رسم حدود فقط، إنما المسألة متعلقة بإعادة تكوين المنطقة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وعقائدياً.

 

لقد كانت المنطقة أي العالمين العربي والإسلامي تشهد أحداثاً خطيرة كتغير حاكم أو حدوث غزو أو تقاتل أو غير ذلك، ولكن دون أن يشكل ذلك تحدياً للمرجعية الأساسية للمنطقة الا وهو الإسلام. إذ أن المطروح اليوم هو إخراج العالم الإسلامي عموماً من مرجعية الإسلام الفكري والثقافي والاجتماعي، وإلحاقه بمرجعية أخرى قد يكون تعبير العولمة وهو المصطلح الذي يتم تداوله اليوم، هو التعبير الدال عليها، والعولمة بحسب ما يفهم من القائلين بها ومن طروحاتهم تعني أمركة العالم أو أمركة ما يمكن أمركته من الشعوب والأنظمة الضعيفة أو التي لا تحظى بمناعة ضد العولمة، التي تعني بتعبير آخر وضع الشعوب الآخرى تحت سيطرة المفاهيم والسياسات والمصالح الأمريكية، وبهذا تواجه مرجعية الإسلام تحدياً كبيراً وخطيراً جداً، وهذا ما يدفع بالشعوب العربية والإسلامية، وبالقوى الشعبية وحتى النخبوية إلى خوض مواجهات تأخذ أبعاداً مختلفة ومتعددة وأحياناً متناقضة، في ظل واقع سي‏ء جداً على صعد مختلفة.

 

إن عوامل الضعف التي تعتري المجتمعات العربية والإسلامية متعددة، فعلى الرغم من ظاهرة التدين التي تشهد اتساعاً هائلاً منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، إلا أن هذه الظاهرة تترافق مع انخفاض كبير في مستوى الوعي الديني والفكري والثقافي والعلمي والسياسي وحتى التقني حيث التخلف على مستوى امتلاك أدوات التطور، ومواجهة مشكلات المجتمع يبلغ حداً قياسياً بالمقارنة مع شعوب العالم الآخرى، ولهذا يأخذ التدين وجوهاً عصبية أو مذهبية، ويبتعد عن أجواء الحوار والتسامح، لدى فئات أو مجموعات تنغلق على فهمها أو تصوراتها للإسلام أو لما يواجهه المسلمون من مشكلات وتحديات.

 

وهذا لا ينفي وجود فئات واعية ومستنيرة وعاملة في سبيل الوصول إلى مجتمع إسلامي صحيح، بل أكاد أقول إنه ما من فئة يمكن أن نطلق عليها أنها فئة واعية ومستنيرة وبريئة من كل تلك العيوب التي أشرنا إليها، ولكن هناك نخب قد توجد لدى معظم الفئات، غير أن تأثير هذه النخب على الفئات التي تحسب عليها أو تنتمي إليها تأثير ضئيل جداً، بحيث يكاد المرء يشعر بوجود حاجز يمنع التواصل بين النخب الفكرية أو الدينية وبين عموم الناس. أو بوجود حصانة أو مناعة لدى العامة وحتى لدى متعلمي العامة ضد التخلص من أمراض العصبية والمذهبية وغيرها من آفات الجهل والتخلف.

 

إن نظرة إلى الواقع تدلنا على أنه مهما بلغ مستوى المظهر الحواري وسيادة مفهوم قبول الآخر المختلف، فإن أي حادث يبدو كفيلاً بنسف كل الجسور التي كانت قد أقيمت بين الفئات المختلفة، حيث يسارع كل طرف إلى العودة إلى خنادقه التي كان قد غادرها، وإلى العودة إلى التمترس وراء المفاهيم أو القناعات التي بدا لوهلة معينة أنه قد استطاع التخلص منها.

 

وهكذا يكون تدني مستوى الوعي على كل الصعد من أهم عوامل الضعف في جسم الأمة في مواجهتها مع العولمة. * السيطرة الإعلامية:

 

الإعلام اليوم هو السلاح الأمضى لاكتساب أية مواجهة، وهو لم يعد مقتصراً على الكلمة وحدها، وإنما صار الإعلام اليوم إعلام الصورة حيث تحضر الكاميرات لا لتلتقط صوراً جامدة، وإنما صوراً حية متحركة مع إمكانية التلاعب بالصورة إلى حد يفوق خيال الناس العاديين على التصور، وكم من مواجهة تم النصر فيها بالإعلام ثم بعد ذلك في الميدان، ومنها كما هو معلوم حرب تحرير الكويت كما أطلق عليها يومئذ. فماذا تمتلك أمتنا من هذا السلاح الفتاك ومن تقنياته. ومن الخبرة في فنه، وما هي حدود الحرية المتاحة أمام هذا الإعلام في ظل تحكم القوى الكبرى، بل القوة الكبرى المتحكمة بالعالم بأسره؟

 

إن الإعلام العالمي ليس حراً أبداً، وليس مستقلاً، وإنما هو إعلام تابع وموضوع في خدمة القوى النافذة المسيطرة عليه. وهو صناعة (كما يقال) باهظة الكلفة تحتاج إلى تمويل تعجز عنه الدول فكيف بالشعوب أو بالأفراد والمنظمات. وعلى فرض وجود وسائل الإعلام التي لظروف خاصة تضطر إلى تقديم مادة إعلامية لا تخدم قوى النفوذ العالمية فإن محاصرتها والتضييق عليها أمر متيسر لهذه القوى كما حصل لمحطة الجزيرة الفضائية، ولمحطة المنار الفضائية اللبنانية فقد منعت الأولى من العمل في العراق، ومنعت الثانية من البث عبر القمر الصناعي الأوروبي في فرنسا وغيرها من دول أوروبا.

 

في ظل هذا الواقع الإعلامي المتخلف والمتردي بشكل عام، فإن الهجمة الإعلامية على أمتنا والتي تهدف إلى إخراجها من إطار مرجعيتها الإسلامية لا تنطلق فقط من الغرب أو أمريكا بالتحديد، بل تساهم فيها وسائل إعلامنا العربية والإسلامية التابعة لدول أو لشركات تجارية، لم تفهم الإعلام إلا تجارة لكسب المال، فعملت على بث مواد إعلامية تساهم في نشر التخلف والجهل والغرائزية الإنسانية وتبني الإنسان السطحي والتافه، الذي لا هم له سوى إشباع الغرائز والشهوات. والذي لا تعني له القضايا الكبرى والحيوية أي شي‏ء، لذلك وفي مقابل كم هائل من الإعلام المُفسد والمُدمِر لا نجد إلا بعض وسائل الإعلام التي تحاول أن تذب عن الأمة ومرجعيتها. * الانتماءات الإقليمية والمذهبية:

 

على الرغم من أن القرآن الكريم قد خاطب المسلمين باعتبارهم أمة واحدة، وأكد على وحدة الأمة بقوله: «وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» إلا أن النزوع باتجاه التجزئة والتميز بالانتماء يجد لدى المسلمين أرضاً خصبة، فهم الأمة الأكثر انقساماً على الرغم من كثرة عوامل الوحدة والاجتماع في المخزون الفكري والثقافي والديني، فتعداد المسلمين يفوق المليار نسمة وهم مقدرون بأنهم يعادلون سدس سكان الكوكب الأرضي، وهم يساوون تعداد شعب الصين، وهي دولة واحدة. ذات نظام سياسي واحد تقريباً باعتبار أن تايوان خارج هذا النظام وهي جزء من الصين ومع ذلك فهم مقسمون إلى عشرات الدول باعتبارات جغرافية وعرقية مختلفة وهم في هذه الدول منقسمون باعتبارات أيضاً عرقية ومناطقية ومذهبية وقبليّة... الخ.

 

وبالتأكيد ليس العيب في التنوع داخل الأمة على مختلف الصعد، فاختلاف الأعراق والألوان والألسن من طبيعة الناس كما اختلاف الأفكار والمفاهيم والعقائد، ولكن المسألة في عدم فهم وتقدير هذا التنوع المميز الذي تتمتع به الأمة، واعتباره سبباً للاختلاف بشكل أو بآخر بدل اعتباره عامل تكامل وتعاون وتعارف. ويترتب على هذا الاعتبار آثاره السلبية التي تعود بالضرر على العلاقة بين أبناء الأمة وأطيافها، فكم تفقد الأمة من أبنائها بسبب الخلافات الإقليمية أو العرقية كما يحصل اليوم في إقليم دارفور في السودان حيث النزاع على أشده بين عرب مسلمين وأفارقة مسلمين وهو نزاع عجزت الهيئات العربية والإسلامية عن التدخل فيه وعن وضع حد له ما أفسح المجال واسعاً أمام الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ومنظمة الأمم المتحدة للتدخل فيه، والأمور تسير باتجاه فرض عقوبات متنوعة على السودان بسبب هذا النزاع.

 

 

أما الخلافات المذهبية بين المسلمين فحدث ولا حرج، فهي تجد في ما بينهم تربة مواتية جداً بسبب قلة الوعي وضعف المعرفة الدينية، وبسبب هذا الاستحضار الدائم لكل ما شهدته الأمة من اختلاف وتنازع وتقاتل على مدى أربعة عشر قرناً من عمر الدعوة الإسلامية.

 

بل لقد بلغت الأمور في مجال الخلاف والاختلاف المذهبي حداً لم يسبق له مثيل على مر العصور، فما تشهده باكستان من أحداث دامية بين السنّة والشيعة، وما يشهده العراق من أعمال قتل تقوم بها مجموعات تحسب على طائفة المسلمين السنّة، مثل العمليات الانتحارية ضد المصلين في المساجد وضد زوار العتبات الدينية المقدسة عند الشيعة، تدل على أن الواقع الإسلامي قد أصيب في صميم رؤيته ومفاهيمه.

 

نعم قد يقول قائل وهو محق في قوله إن هذه الفئات أو هذه المجموعات التي تقوم بهذه الأعمال الإجرامية، وتتبنى الأفكار والمفاهيم السيئة والمغلوطة هي فئات ومجموعات قليلة، وتشكل أقلية قليلة بين المسلمين، ولكن الخطورة الكبيرة أن هذه المجموعات قد وُجدت، وهي في حقيقة أمرها ليست معزولة بالكامل، نعم هي تشكل قمة التطرف الفكري والعملي، ولكن لهذه القمة قاعدة بالتأكيد لا تصل إلى مستواها في التطرف الفكري والعملي ولكنها تشكل أساساً وقاعدة تستند إليها. وهذه القاعدة تتمثل في المنهج التكفيري السائد اليوم، والذي تعمل جهات متعددة فكرية ودينية وسياسية على الترويج له بين المسلمين. * منهج التكفير:

 

إن مسألة التكفير من أخطر المسائل التي يمكن أن يقع فيها المسلم، وقد حذر النبي المصطفى (ص) منها ونهى عنها بقوله: «من كفّر مسلماً فقد كفر»، وبقوله: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» وهذا دليل على حساسية المسألة ودقتها وإمكانية ارتدادها على مطلقها. فإذا رمى أحد المسلمين مسلماً آخر بالكفر استناداً إلى ممارسة أو اعتقاد معين، ولم يكن هذا الاعتقاد أو لم تكن هذه الممارسة مكفرة حقيقةً عند اللَّه تبارك وتعالى، فإن الرامي بالكفر يصبح كافراً. أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم قد نهى المسلمين عن رفض دعوى الإيمان من أحد أبداً ولو جاءت هذه الدعوة في أشد الظروف شبهة واتهاماً وتشكيكاً، قال تعالى: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً».

 

كما أن الممارسة العملية للنبي (ص) تدل على رفض منهج تكفير من يظهر أو من يدعّي الإيمان، والقبول منه بالحد الأدنى الظاهري وهو الصلاة، لذلك وعلى الرغم من معرفة النبي (ص) بالمنافقين وإخباره عنهم من قبل الوحي إلا أنه لم يعلن عن أسمائهم ولم يصرفهم للجماعة المؤمنة وإنما اقتصر الأمر على الإسرار بأسمائهم إلى شخص واحد هو الصحابي حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه مع الأمر بعدم الإفصاح عن اسم أحد منهم إلا في حال وصول أحدهم إلى منصب مهم أو قام بما يشكل خطراً على المجتمع المسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر» وهذا كما قلنا هو الحد الأدنى المقبول من الإنسان الذي يدعي الإسلام.

 

وتدل الوقائع التي جرت بعد عهد النبي (ص) وما حصل من اختلاف وتقاتل بين المسلمين أن كل ذلك لم يكن مبرراً لأن يرمي طرف الطرف الآخر بالكفر، بل كانوا يطلقون على بعضهم البعض اسم المسلمين ولم تكفر فئة منهم الفئة الثانية، وقيل أنهم اختلفوا على التأويل.

 

فإذا كان منهج النبي (ص) والصدر الأول من المسلمين هو الابتعاد عن تكفير من يدعي الإيمان باللَّه. فمن أين جاء هذا المنهج وكيف دخل على هذه الأمة؟ إنه علم الكلام، هذا العلم الطارئ على هذه الأمة، الذي نقل الناس من الاهتمام بتكليفهم الشرعي وما جاء به القرآن الكريم من وجوب الإيمان المطلق باللَّه تبارك وتعالى، إلى الدخول في تفاصيل ترتكز إلى فهم واستنتاج بشري لما ورد في النصوص القرآنية والنبوية، متعلق بالذات والصفات التي ذكرها اللَّه تبارك وتعالى لنفسه، وتبع ذلك تناول لمسائل السنّة والبدعة في الأعمال، حيث أوجب البعض كفر من يأتي ببعض الأمور المبتدعة، وصار بعد ذلك ربط للإيمان بالموقف من بعض أصحاب النبي (ص) أو من أهل بيته، وهكذا وجد بين المسلمين من قام يتفحص إيمان أبناء الأمة وفئاتها علّه يجد ما يخرجهم به من ربقة الإسلام والانتماء للمسلمين.

 

لقد أسس علم الكلام للخلاف الفكري والعقائدي وتكافل وتضامن مع الخلاف حول المسائل السياسية، ثم تطور الأمر في مرحلة من المراحل فصارت الخلافات الفقهية من عوامل التفرقة خصوصاً عندما يقترن الخلاف الفقهي بالخلاف السياسي أو الكلامي.

 

إن الدول والقوى الطامعة بالعالم الإسلامي وبخيراته والساعية إلى استلحاقه وأهمها بل وأولها الولايات المتحدة الأمريكية تستفيد في بث الفرقة والتنازع بين العرب والمسلمين وتعمل على تأجيجها لتتحول إلى أعمال عنف وتقاتل وتدابر. * آثار المنهج التكفيري‏:

 

لقد ترك المنهج التكفيري أثراً سيئاً في الواقع الإسلامي في معظم البلدان لا سيما التي يوجد فيها تعدد مذهبي فلقد شهدت باكستان على مدى السنوات الماضية أحداث عنف وقتل وتفجير تستند إلى المنهج التكفيري حيث قامت جماعات معروفة بتبادل أعمال القتل وسفك الدماء فوقعت هجمات على مساجد وحسينيات لكل من السنّة والشيعة ذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى، واللافت في هذه العمليات أو في بعضها التي تتم في المساجد أنها تنفذ بواسطة أشخاص انتحاريين.

 

وكذلك في العراق حيث ينشط التكفيريون في هذه الأيام بشكل واسع، وتراهم يستهدفون المساجد والمصليات والحسينيات والمقامات الدينية، ويقتلون الزوار والمصلين، وما حصل يوم الاحتفال بعاشوراء هذا العام كان لافتاً حيث ظهر من خلال ما حصل من اعتداءات على المشاركين في مراسم عاشوراء أن التكفيريين مصممون على الحاق الأذى والضرر بمن يعتبرونهم كفاراً وخارجين على الملة.

 

إن عمليات التفجير والقتل التي يقوم بها انتحاريون، تدل على وجود قناعة راسخة واعتقاد جازم بكفر هؤلاء المستهدفين، وأن في قتلهم تقرباً إلى اللَّه تعالى، وهذا منتهى الخطر الاعتقادي.

 

إن هؤلاء التكفيريين ليسوا سوى قلة قليلة على صعيد الأمة ولكن أفعالهم كفيلة بدق أسفين الشقاق والنزاع بين أبناء الإسلام الواحد وهم يعرفون ذلك ويذهبون إليه بوعي تام، وهذا ما أشار إليه أبو مصعب الزرقاوي في رسالته الشهيرة التي تحدثت عنها ونقلتها وسائل الإعلام.

 

 

إن هذا المنهج التكفيري سيترك آثاراً من الصعب إزالتها إذا لم يتم تدارك الأمر من قبل العقلاء من العلماء والمفكرين وأهل الرأي، عبر مواجهة هؤلاء بالحجة الدامغة والبرهان على بطلان صحة المنهج التكفيري، وبطلان مستنداته وأثاره لن تقتصر على المختلفين مذهبياً، بل ستطال المسلمين داخل المذهب الواحد.

 

ولا ينبغي إغفال ما يحصل من أحداث في العربية السعودية وغيرها من دول الخليج أو في بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا فمعظم تلك الصراعات تستند إلى المنهج التكفيري.

 

ولا ننسى أن نقول أن أهم أثار هذا المنهج هو دفع الناس إلى الابتعاد عن الإسلام وإلى التشكيك بكل المسلمين. * التطرف الديني وأسبابه‏:

 

إننا نسلم دون تردد بوجود ظاهرة تطرف ديني، لدى بعض الفئات أو الجماعات في بعض البلدان الإسلامية، ولقد قلنا سابقاً أن هناك ظاهرة تدين متّسعة جداً، ولكن هذه الظاهرة أكبر من قدرة العلماء والمفكرين الواعين على احتضانها ومواكبتها بالعلم والإرشاد والتوجيه السليم، إذ أن الأمر يحتاج إلى متابعة دقيقة وعن قرب وتواصل وهذا ما هو متعذّر حصوله بالقدر الكافي.

 

أضف إلى ذلك أن العالم الإسلامي يشهد منذ فترة زمنية طويلة، تلك الهجمة التي تحدثنا عنها والتي تستهدف في جملة ما تستهدف إلغاء مرجعية الإسلام كدين يخضع المسلمون لأوامره. وهذا ما يستشعره المسلمون بجلاء. ولما كانت الأنظمة السياسية الحاكمة في بلداننا مسؤولةً عن حماية المجتمع في قيمه وعقائده ومصالحه، ولكنها لا تقوم بهذا الدور أبداً، وإنما تستخف به، وفي معظم الأحيان تنقلب عليه وتتولى عملية قمع الإرادة الشعبية والوقوف بوجهها، وذلك عبر منع القوى والمجموعات التغيرية من المشاركة في الحياة السياسية، أما عن طريق منعها من المشاركة في الانتخابات أو عن طريق تزوير وإبطال الانتخابات كما حصل في الجزائر عقب فوز الإسلاميين الكبير الذي تبعه تدخل الجيش لمنع وصول جبهة الانقاذ الإسلامية إلى السلطة في نهاية عام 1991.

 

إن الأفكار المتطرفة كانت دائماً موجودة، وليست المشكلة في وجود هذه الأفكار ولكن المشكلة تكمن في إيجاد الأجواء التي تؤمّن المناخ المؤاتي لانتشارها وليس كالخوف والقلق على المصير والشعور بالاستهداف من عوامل تساهم في تأمين أجواء نمو وانتشار الأفكار المتطرفة، أضف إلى ذلك الشعور بأن الطرف أو الأطراف الآخرى تجنح نحو التطرف. وهذا هو بالضبط ما يعيشه العالمان العربي والإسلامي، حيث الأنظمة السياسية المغلقة في وجه الانفتاح الداخلي والتغيير، وحيث يتم توارث السلطة جيلاً بعد جيل، وحيث تمنع الشرائح الاجتماعية والسياسية عن التعبير عن ذاتها تحت طائلة التخوين والملاحقة أو التسفيه والتضليل ووصف كل معارض بأنه من الخوارج.

 

وعلى الرغم من أن الاعتدال هو المنهج الطبيعي الإنساني الذي من صفاته المرونة والتفهم وقبول الآخر إن لم نقل الشعور بأهمية الآخر وضرورة وجوده إلا أن طبيعة التهديدات التي تواجه أمتنا تجعل من مسلك الاعتدال منهجاً استسلامياً وتنازلياً بل وتفريطاً في نظر الكثيرين من الناس، لا سيما لدى الشرائح الاجتماعية أو الفكرية التي لا تتمتع بمستويات وعي جيدة وما يدفع بالبعض إلى توهم أن الخطر الخارجي يستمد قوته وفعاليته من تهاون المتهاونين وتراضي المستسلمين في الداخل، وتتضخم لديه هذه الصورة الذهنية فينقلب في عداوته وحربه إلى هذا الداخل باعتباره النقطة الأقرب والأخطر بحسب تصوره، وهكذا ينخرط الناس في الفتن والحروب الداخلية ما يعطي الأعداء الخارجيين نقاط قوة مهمة في الصراع.

 

ولعل الكثير من الفتن تنشأ من هذا المنطلق، وهذا ما هو واقع في العراق حيث ترى القوى المتطرفة أن اخراج الأمريكي المحتل من العراق لا يتم إلا بالقضاء على من يعتقدون أنهم متعاونون مع المحتل بشكل أو باخر. وهي نظرية عقيمة جداً إذ أنها ستؤدي حتماً إلى أن يبيد العراقيون بعضهم البعض وتبقى الأرض؛ أرض العراق للأمريكيين والمحتلين وهذا ما تنبّه له الفلسطينيون في فلسطين المحتلة ما دفعهم إلى تحريم التقاتل الفلسطيني الفلسطيني مهما كانت الأسباب، وهذا ما حصن الداخل الفلسطيني في وجه الاحتلال الصهيوني ودفع العدو لمراجعة حساباته خصوصاً وأنه كان يركز دائماً على عامل الاختلاف المؤدي إلى التقاتل وإلى التخوين والتشكيك وزرع عوامل فقدان الثقة بين الفلسطينيين أنفسهم للوصول إلى غرضه في اضعافهم والتمكن منهم.

 

إن إضعاف ظاهرة التطرف الفكري والديني هي مسؤولية تقع على عاتق المخلصين من أبناء الأمة وعلمائها ومن الدعاة الذين يهتمون لأمرها ويسعون من أجل صيانة وحدتها، وحفظ مستقبلها، وهو أمر يحتاج إلى إعمال عقل وتخطيط، وليست إلى ارتجال وعشوائية والمطلوب هو توحيد الجهود على تنوعها باتجاه واحد صحيح، ألا وهو رد الهجمة ومواجهة مخطط الفصل بين الأمة ومرجعيتها الأساسية وهو الإسلام، ليس باعتباره عقيدة دينية وشريعة إلهية فقط، وإنما باعتباره ضمانة الاصلاح الوحيدة لهذه الأمة بما يحتويه من قيم توحيدية ومبادئ أخلاقية، وبما فيه من رقي إنساني يساوي بين الحرية والحياة وبين العدالة والوجود، ويجعل أسمى أهداف الإنسانية منع الظلم والجور والطغيان.

 

أما مسؤولية الآخرين عن ظاهرة التطرف المؤدي إلى التنازع والاختلاف والتكفير والتقاتل، فإنه لا يمكن مطالبتهم بشي‏ء وأعني بالآخرين هنا هم أصحاب مخطط فصل الأمة عن مرجعيتها، إذ أن من مصلحة هؤلاء ومما يخدم مخططهم وجود ظاهرة التطرف في الأمة، لما تحدثه من اثار تزيد في عوامل إضعافها، ولقد لاحظنا كيف أن وسائل اعلامهم عملت على إبراز ظاهرة التطرف عبر الحديث عنها كثيراً وعبر إبراز رموزها وتهيئة المنابر الاعلامية لهم، كل ذلك يفرض اعطاء صورة قبيحة ومشوهة للعالم الخارجي عن الإسلام، وكذلك للمسلمين أنفسهم ما يدفعهم للوقوف في صفوف أعداء الإسلام، إذ أن الإنسان بفطرته السليمة يأنف ويرفض الصور القبيحة والمشوهة أضف إلى ذلك أن بروز ظاهرة التطرف في أمتنا تغذي ظاهرة العداء لدى الأمم الأخرى ضد أمتنا عندما يقوم أعداء هذه الأمة بالتركيز على هذه الظاهرة، وتظهيرها على أنها الحالة العامة والسائدة لدى المسلمين، ولا ننسى هنا السؤال الذي تم اطلاقه وترديده على ألسنة المسؤولين الأمريكيين وفي مراكز الأبحاث والدراسات الغربية والأمريكية «لماذا يكرهوننا». * العنف والتطرف‏:

 

هل كل عنف يمكن أن يكون مرتبطاً بالتطرف؟ ربما يتطوع البعض بإعطاء الجواب بنعم، ولكن الحقيقة غير ذلك فالعنف سلوك إنساني معروف منذ قديم الزمن، ولكنه قد يكون مذموماً وقد يكون محموداً بحسب الظروف التي يستخدم أو يتم اللجوء إليه فيه. ولتحديد ما إذا كان مذموماً أو محموداً فإنه ينبغي النظر إلى دوافعه وإلى مرتكزاته الفكرية أو النظرية.

 

فإذا تم اللجوء إلى العنف في معرض الدفاع عن النفس أو ردّ العدوان فلا يمكن وصفه حينئذٍ بأنه عنف مذموم، بل هو عنف محمود وسلوك طريقه يغدو واجباً لأن الدفاع عن النفس ورد العدوان من الأمور التي تدعو إليها الفطرة الإنسانية، وتحث عليها الشرائع السماوية وتقرها الأعراف الإنسانية، ومن ذلك أعمال مقاومة المحتلين الذين يعتدون على الشعوب ويحتلون أرضهم كما هو الحال في فلسطين وفي العراق فإن أعمال المقاومة التي تستهدف قوات الاحتلال سواء بعناصرها العسكرية أو اللوجستية أو المخابراتية هي أعمال مشروعة. أما العنف المذموم فهو كل عنف يرتكب ولا يستند إلى قيم أخلاقية أو مبادئ شرعية، كالعنف الذي يتم اللجوء إليه لاحتلال أرض الآخرين أو الاستيلاء على ثرواتهم أو فرض الاستعباد عليهم عبر مصادرة قراراتهم وتحويلهم إلى مجرد تابعين لمصالح المحتلين أو المعتدين كما هو حاصل في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وفي كثير من بلاد المسلمين. وهذا هو نوع من أنواع التطرف بل هو أشدها فظاعةً، كذلك يمكن وصف قيام السلطات المحلية باستعمال العنف في مواجهة إرادة الشعوب أو لإرهاب الخصوم السياسيين أو تصفيتهم جسدياً، لمنعهم من تحقيق غاياتهم المشروعة التي تبيحها الشرائع الإنسانية فهو تطرف وسلوك مذموم، ويؤدي بالتالي إلى ازدياد فرض نشوء حالات تطرّف مقابل.

 

ويأتي في ذات السياق قيام الجماعات المختلفة في ما بينها سواء حول المبادئ والأفكار والقيم أو حول المصالح أو حتى العقائد الدينية باللجوء إلى العنف من أجل حل خلافاتها.

 

وغالباً ما يستتبع التطرف في الفكر تطرفاً في السلوك إلا ما ندر وهذا العنف الذي يشهده العالم اليوم مرده الأول والأساسي هو وصول جماعات ذات أفكار متطرفة إلى مراكز القرار في عدد من دول العالم، سواء عن طريق الاستسلام المباشر للسلطة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وقعت السلطة في قبضة ما يسمى باليمين المسيحي المتشدد أو الصهيو مسيحية والذين يطلق عليهم «تلطيفاً» اسم المحافظين الجدد. وهم الذين يحملون أفكاراً وخرافات دينية تقول بوجوب حصول صراع مع المسلمين في فلسطين وبلاد الشام والعراق ما يمهد لظهور السيد المسيح ويتحدثون عن معركة فاصلة لذلك في موقعة تسمى «هرمجدون».

 

قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» إن هذا التوجيه الرباني رسالة إلى كل إنسان إلى كل صاحب فكر أو قضية ترشده إلى سواء الصراط والسبيل الأوحد للحفاظ على الإسلام كمرجعية لهذه الأمة. * الشيخ مصطفى ملص : عضو تجمع علماء لبنان

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية العدد 40 - مارس 2005

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك