قراءة نقدية لخطاب التحذير من المجازفة بالتكفير
قراءة نقدية لخطاب التحذير من المجازفة بالتكفير
سمير أحمد حسن
عندما تجد الأمة الإسلامية نفسها على مفترق طرق وتجد أن مساراتها الطبيعية بدأت تنحصر في قوالب فكرية جامدة وآراء متصلبة عصية على فهم الواقع وعدم قدرة على قراءة الأحداث قراءة صحيحة في مسار صحيح أو حتى خارج السياق التاريخي والاجتماعي الطبيعي بمقولات استباقية مغلفة بمصطلحات تشم منها روح التفرقة وتبرئة الذات وتجريم الآخرين وتسفيه الآراء المعتبرة في إشكالية أصبحت مزمنة بنظرتها الانطباعية السطحية، يأتي هنا دور العلماء والمفكرين والمثقفين، بل المصلحين لمراجعة الفكر ونقد الذات نقدا صحيحا علميا لا يلغي الآخر، بل يكمله، لأنه من المؤسف ونقولها بصراحة إن بعضنا ساهم بقصد أو بدون قصد في محاولات الإسقاط والاستبعاد برسم صور ضبابية لذواتنا من الداخل وكأن الكون لا يعرف سوانا.
فالاستبداد الفكري الذي ساد في ساحتنا الإسلامية ومشهدنا الثقافي والاجتماعي لفترة طويلة كان للأسف خداعا وسياجا هلاميا لجميع الاحتقانات الفكرية التي ساهمت في نمو ظاهرة الإرهاب من خلال الخطاب التكفيري من غلو في القول وغلظة في التعامل وتعام عن الحقائق ورمي الآخرين بالتهم، بل تجريمهم ومضايقة المصلحين ومحاربة المفكرين. هذه الأمور وغيرها جعلتنا نعيش حالة من الحنق والاختناقات مما افقدنا النظر إلى الفكر المعتدل والوسطية في الرأي والإنصاف في القول والفعل.
ولكي نتمكن من مواجهة هذه المشكلة الخطيرة ينبغي أن يكون لدينا شيء من التصور عن حجمها ونطاقها وإدراك حقيقي لأسباب انتشارها، فقد ذكر أستاذنا في العلوم السياسية وعضو مجلس الشورى الدكتور عثمان الرواف "إن هناك أربع مراحل للمشكلة وهي: 1 ـ ثقافة عدم التسامح 2 ـ التطرف 3 ـ العنف 4 ـ الإرهاب".
ثم قال: "إن ثقافة عدم التسامح تولد التطرف والتطرف يولد العنف وفي قمة العنف يأتي الإرهاب الذي يمكن التعامل معه بإجراءات أمنية صارمة ومتشددة، ولكن المشكلة في جانبها الثقافي المتطرف واللامتسامح هي مشكلة واسعة وتحتاج إلى معالجة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية".
لذلك نجد أن من أدبيات علماء الحرمين الشريفين أنهم موسومون بأنهم من أكثر الناس تسامحا وقبولا للآخر واعترافا بجهود المذاهب الفكرية المتنوعة في تنوير الفكر والعقل والعاطفة، وذلك من استشعارهم بالمسؤولية العلمية والفكرية والاجتماعية، بل والمكانية المباركة، لنأخذ احدهم وهو فضيلة المحدث العلامة الدكتور السيد محمد علوي مالكي الحسني، سنجد أن إنتاجه الفكري والعلمي والشرعي، إنتاج معتدل محارب للجهل، محذر من الغلو والمجازفة بالتكفير، بل سوف نلحظ رفضه أيضا لما يعرف بالعنف المعنوي أو فرض الرأي الواحد على المجتمع. فالعلم والمعرفة والثقافة والأدب واللغة وسعة الأفق ورحابة الصدر وتحمل المكارة والصبر على البلايا كلها تجمعت في شخصية العالم الداعية العلامة المالكي، فهو بحر من البحور التي لا ساحل لها وجبل من جبال العلم. ونحن هنا لا ندرس شخصيته، لأن دراسة الشخصيات من أصعب الدراسات الإنسانية، لأنها تحمل في طياتها آفاق الحياة بأغوارها وملامحها ودقائقها، بقدر ما تهمنا معرفة آرائه وقراءة أفكاره التي ساهمت وما زالت في محاربة هذه الظاهرة الخطيرة.
* التحذير من المجازفة بالتكفير
يقول فضيلته: "يخطئ كثير من الناس ـ أصلحهم الله ـ في فهم حقيقة الأسباب التي تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام وتوجب عليه الحكم بالكفر، فتراهم يسارعون الى الحكم على المسلم بالكفر لمجرد المخالفة. فلا يجوز لأي إنسان الركض في هذا الميدان والتكفير بالأوهام والمظان من دون تثبت ويقين وعلم متين وإلا اختلط سيلها بالأبطح ولم يبق مسلم على وجه الأرض إلا القليل". ويقول أيضا: "فإذا دعوت مسلما يصلي ويؤدي فرائض الله ويجتنب محارمه وينشر دعوته ويشيد مساجده ويقيم معاهده الى أمر تراه حقا ويراه هو على خلافك والرأي فيه بين العلماء مختلف قديما إقرارا وإنكارا فلم يطاوعك في رأيك فرميته بالكفر لمجرد مخالفته لرأيك، فقد قارفت عظيمة نكراء واتيت أمرا إد نهاك عنه الله ودعاك إلى الأخذ فيه بالحكمة والحسنى".
* سوء الفهم يقود إلى سوء الظن
تحت هذا المفهوم انجرف كثير من الناس إلى هاوية التكفير وذلك لسوء التفسير والتأويل فارتكب البعض أخطاء تاريخية، بل وفكرية أفرزتها حالة العجز التي تعصف بنا ولا سيما في عدم مواجهتها ومحاولة رحيلها لفترات قادمة أوجدت لدينا ازمات مرحلة لتصل لحد الانفجار والإرهاب بمعناه الواسع. فليس من العيب أن نراجع حساباتنا وإنما العيب كل العيب أن نساهم في زيادة فرط إيقاع الحوار الوطني بيننا، وفي هذا السياق يقول شيخنا السيد المالكي: "إن قصر النظر وضيق الفهم وسوء الظن بالمسلمين والتصور الذهني المريض يؤدي بالمعلول أن يقول هذا شرك وهذا ضلال وهذا كفر". وينتقل فضيلته لتوضيح بعض الأمور التي تقود لسوء الظن مثل: عدم التفريق بين مقام الخالق ومقام المخلوق، وان الأمور المشتركة بين المقامين لا تنافي التنزيه فيقول: "وقد أخطأ كثير من الناس في فهم بعض الأمور المشتركة بين المقامين (مقام الخالق ومقام المخلوق) فظن أن نسبتها إلى مقام المخلوق شرك بالله تعالى كالخصائص النبوية مثلا، فهذه الأمور قد تشتبه على بعض الناس لقصر عقولهم وضعف تفكيرهم وضيق نظرهم وسوء فهمهم فيبادرون إلى الحكم بالكفر على أصحابها وإخراجهم عن دائرة الإسلام ظنا منهم أن في ذلك تخليطا بين مقام الخالق والمخلوق ورفعا لمقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الألوهية، وإننا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى عن ذلك". ثم عدد سماحته جملة من هذه الأمور مثل: "التعظيم بين العبادة والأدب" و"الواسطة الشركية" و"التفريق بين البدعة الشرعية واللغوية" و"التوسل والزيارة والآثار والذكريات والمناسبات". والأدعياء المتطفلون على بساط الحقيقة كثيرون والحقيقة بريئة منهم. ويحذر فضيلته من هؤلاء فيقول: "لقد بلينا معشر المسلمين بكثير من هؤلاء يعكرون صفو الأمة ويفرقون بين الجماعات ويورثون العداوة ويستبدلون الحكمة والموعظة الحسنة والرأفة والرحمة بالغلظة والجفوة وسوء الادب وقلة الذوق".
* أدعياء الإصلاح ودعاة الفتنة والخلاف الفكري
ويواصل فضيلته نصائحه فيقول حول أدعياء الإصلاح ودعاة السوء ما نصه: "إن هذا البلاء الشر هو الذي تعاني كثير من المجتمعات ما لا يخفى من التفرق والإرهاب والخوف، إذ تمكن دعاة السوء أدعياء الإصلاح من بث الفتنة وتشويه الصورة واغتنام فرصة الخلاف الفكري والعلمي ـ وهو أمر بديهي وواقعي ـ لتوليد المشاكل وتعقيد الأمور وخلق قضايا لا تنفع بل تضر ولا تجمع بل تفرق ولا تحمد عقباها، وكثير من الناس يذوق ألمها ويصطلي بنارها اليوم، التي تبدو أحيانا وتختفي أحيانا أخرى".
* فهم النصوص واختلاف الآراء
إن الأمة في حاجة إلى الوسطية والاعتدال والإنصاف ولا سيما في فهم النصوص، وفي هذا الخصوص يحدد أستاذنا الدكتور السيد محمد علوي مالكي الحسني وهو خريج ساحة الحرم المكي الشريف علما وفكرا وتربية وسلوكا ومن الأزهر شهادة حتى تم تكريمه بالأستاذية لغزارة فكره وسعة علمه ورأيه في اختلاف الآراء داعيا إلى جمع الكلمة ولم الشمل وتوحيد الصفوف شبابا وعلماء وطلابا قائلا:
"وهذا لا يمنع أن تكون هناك مسائل خلافية تجري بين الناس، ولكنها لا تقتضي العداوة ولا البغض ولا الإخراج عن الملة، ولا بد أن نفرق بين خلاف في الآراء نتيجة خلاف في فهم النص لعدم وجود نص قاطع من الشرع يحدد الفهم ويحكم بالنتيجة، وبين اختلاف بين أصحاب الرأي يجر إلى العداء والبغضاء والتكفير والتفسيق". ومما يميز فضيلته هو انه لا يلزم أحدا برأيه فيقول: "نحن لا نلزم الناس بفهمنا كما إننا نرفض أن يلزمنا غيرنا بفهمه إلا إذا جاء الفهم من مشكاة النبوة فنقول سمعنا واطعنا وآمنا وصدقنا".
* مقولات لها وزن: إن العالم كلما اتسع فكره وعلمه اتسع قلبه وصدره
لقد أخذ شيخنا السيد المالكي من علماء عصره مقولات وحكما ونصائح لها وزن كبير في النظر إلى حال الناس، وحري بنا أن نتعلم من هذه المدرسة المكية التي تفتقت قريحتهم على العلوم الشرعية والنقلية بحوارات علمية راقية وبأدب العلماء والمحاورة وحسن ظن كبير بالمسلمين، فقد اخذ عن والده محدث وعالم مكة سماحة السيد علوي مالكي الكلمة العظيمة التالية: وهو انه نقل لفضيلته خصاما خفيفا حدث بين بعض المراقبين في الحرم وبعض المصلين فما كان من فضيلته إلا أن قال: "لو كان هذا المراقب طالب علم عاقلا فاهما لاتسع صدره لهذه القضية ولما بادر إلى الإنكار والاعتراض وذلك لأنه يعلم أن هناك أحاديث ونصوصا متعددة في المسألة وللعلماء فيها اجتهادات واستنباطات لو درسها واستوعبها لعذر الناس والتمس لهم المخرج الحسن".
كلمة أخرى تقول: "إن طالب العلم كلما زاد فقهه ونظره في المذاهب قل إنكاره على الناس"، ومقولة ثالثة تقول: "هل تعرف ما هو مذهبه؟ هل عرفت حكم هذه المسألة في مذهبه؟ وهل علمت ما هو دليل هذه المسألة في مذهبك أنت؟ وهل علمت ما هو دليل المخالف؟ وهل علمت جوابه عن الدليل؟".
* مشكلات الأمة المتعددة ونظرة واقعية لها
بعد هذا الاستعراض السريع ولما تعانيه الأمة فكريا ينتقل فضيلته لحال أمته فيقول: "لا ينكر عاقل من أن وطننا العربي والإسلامي يعاني مشكلات متعددة من مادية وإنسانية سواء كانت داخلية أو خارجية ومشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وأخلاقية". ويرى شيخنا: "إن هذه المشكلات تتطلب الحل السريع والحاسم، لأن حياتنا اليوم أصبحت جسدا بلا روح. وأعظم ما تعانيه الأمة اليوم هو ضعف الوازع الديني وفساد الأخلاق وموت روح البحث والأصالة الفكرية، لأننا نعيش أزمة إيمان وأزمة أخلاق".
* القدوة الحسنة في منهج الدعوة إلى الله ونصائح مهمة
يقول ناصحا، وموجها نصائحه للدعاة وطلاب العلم بقوله: "أن يظهروا بالاستقامة والتجلد وعدم التقهقر عند مواجهة الشدائد والمحن والعقبات، وان لا يساور قلوبهم اليأس والوهن، وان تكون السيرة النبوية وسيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم هي القدوة الحسنة لهم والمصدر الكبير لقوتهم الإيمانية وعاطفتهم الدينية"، و"أن يفهموا معنى التطور والتجديد اللذين يرتكزان على سمات وصفات وأسس منها فتح باب الاجتهاد واعتبار المصلحة في التشريع والعناية بالقواعد الكلية الجامعة والدعوة إلى فتح باب العلم وعدم الالتزام بمذهب معين، مع عدم الشك في الدين والبعد عن الكبر والعجب والخيلاء والرياء وقلة الرحمة بالمسلمين وسوء الظن بهم وحب الدنيا والجاه والمال والشح والبخل وعليهم بالتوبة والاستغفار والرجاء والخوف والصبر على البلاء والشكر على النعماء والزهد في الدنيا والتوكل على الله والأخذ بالأسباب والحب في الله والرضا منه وحسن النية والإخلاص له والصدق والمراقبة له وحسن التفكر والاستقامة خير من ألف كرامة".
أ. سمير أحمد حسن - برقة
المصدر: قائمة راحمين راشدين