التسامح الإسلامي بين الحقيقة والافتراء

التسامح الإسلامي بين الحقيقة والافتراء
محمد البشراوي
في واقع الأمر، لم أكن إلى وقت قريب أتصور أن يقف أحد منا ليدافع، وليس ليجلي حقيقة الإسلام عقيدة تميزت منذ هبوط الوحي بها، بالتسامح والعدالة ومراعاة الحقوق الإنسانية للبشرية جمعاء. نعلم أن الكثير من الأوضاع قد تبدلت، خاصة بعد أحداث سبتمبر/ أيلول المروعة، وأصبح قدرنا أن نتصدى لهجمة لا تستهدفنا فقط كمسلمين وإنما جاوزت حدود المنطق بالتطاول على الإسلام كدين سماوي أنزله الله سبحانه على خاتم النبيين والمرسلين، وأصبحنا نتلقى بشكل يومي سيلاً من المعلومات المغلوطة، ونواجه استخداماً بات شبه دائم، للكثير من المصطلحات الملتبسة.

([1])
في واقع الأمر، لم أكن إلى وقت قريب أتصور أن يقف أحد منا ليدافع، وليس ليجلي حقيقة الإسلام عقيدة تميزت منذ هبوط الوحي بها، بالتسامح والعدالة ومراعاة الحقوق الإنسانية للبشرية جمعاء. نعلم أن الكثير من الأوضاع قد تبدلت، خاصة بعد أحداث سبتمبر/ أيلول المروعة، وأصبح قدرنا أن نتصدى لهجمة لا تستهدفنا فقط كمسلمين وإنما جاوزت حدود المنطق بالتطاول على الإسلام كدين سماوي أنزله الله سبحانه على خاتم النبيين والمرسلين، وأصبحنا نتلقى بشكل يومي سيلاً من المعلومات المغلوطة، ونواجه استخداماً بات شبه دائم، للكثير من المصطلحات الملتبسة.
قد بات لزاماً علينا أن نقف الموقفين في آن واحد. موقف الدفاع وموقف التوضيح. وشتان ما بين الاثنين، حيث الأول واجب يفرضه الواقع ومقتضياته ويجعلنا نتحدث وأصابع الاتهام موجهة إلينا، مما يجعل الجهد موجهاً إلى نفي مثل هذه الاتهامات، في حين أن الثاني هو شعور بالمسؤولية يلازم كل مسلم حريص على عقيدته.
غير أني، بطبيعة الحال، لا أتحدث من أي الموقعين، حيث تتردد أصداء حديثي هذا بين أرجاء قاعة تضم نخبة من المفكرين، والقائمين على الحفاظ على العقيدة.
بداية، لا مجال للحديث فيما يخص التأكيد على أن الإسلام عقيدة سمحاء شأنه في ذلك شأن جميع العقائد السماوية التي هبطت بها الرسالات، ومنها -كعقيدة- ينبثق نظام متكامل لحياة البشر. ومن أهم دعائم هذا النظام أسلوب تعامل المرء مع الآخرين لدعوتهم. ولو تعمق بعض المتعصبين ضد الدين الإسلامي إلى أسلوبه ونهجه في تنظيم علاقات الإنسان مع المحيطين به، وإلى معالجته لروابطه الاجتماعية، لوجدوا أن كلمتي (التسامح) و(العدل) هما التعبير الدائم عن الجوهر الشامل الذي يستوعب أدق تفاصيل التشريع خاصة في مجال الدعوة إلى الإسلام.
في حقيقة الأمر، أن ما يجعل هذا الخلط الدائر حول العقيدة الإسلامية، وبشكل مبالغ فيه في السنتين الأخيرتين، يتحول إلى مظهر لا لبس فيه من مظاهر الافتراء على الإسلام كدين، يجعلنا نتساءل عن الأسباب، مع أن شيئاً من التعمق في مدلولات (التسامح) في القرآن الكريم المتمثلة في الآيات الكريمة التي تدعو إلى (العفو) و(الصفح) و(الإحسان) و(دفع السيئة بالحسنة) و(الإعراض عن الجاهلين)، كلها قادرة على قلب الموازين لدى الذين اختاروا التهجم على الإسلام والمسلمين ومناصبتهم العداء.
هذا في حالة الافتراض المسبق لحسن النوايا، ولا شك أن جانباً من هذه الحملة الشرسة التي نواجهها، سببه عدم الفهم الحقيقي لمعاني القرآن الكريم.
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ([2]﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ([3]).
ولا أظن أن كثيرين قد يختلفون في تفسير معنى هذه الآيات الكريمة، من حيث إنها تحض صراحة على تفادي التنازع والتخاصم بين البشر، وإقصاء نوازع الحقد والبغضاء والعداوة عن النفوس لتحلّ محلها روح التآلف والتعاطف والمحبة. على اعتبار أن التسامح هو الوسيلة الآمنة لسلامة المجتمعات على اختلافاتها.
أما (العدل) الذي هو السمة اللصيقة بالعقيدة الإسلامية، فنجده دائماً الخيار الأكثر صرامة الذي يدعو إليه الإسلام كأسلوب دائم للفرد في مواجهة مشاكله كبيرها وصغيرها في اتصالها بالآخرين. هذا العدل الذي يشدد عليه الإسلام لا يهدف إلا لكبح جوانب من الغريزة التي تتحكم في الكثير من الأحيان في النفس البشرية، وذلك عن طريق التمسك بقيود وموازين محددة تُلزم الأفراد بحدودٍ معينة لا يتجاوزونها.
وبديهي أن معاني التسامح والعدل، ما هما إلا وسيلة للاستقرار المجتمعي، إنهما ببساطة دعوة قرآنية تخاطب الإنسانية في مواجهتها لصراعات شتى في الحياة، وتتصل بكل علاقة من علاقات الإنسان بالإنسان في مجالات هذه الصراعات.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدين هو المعاملة».
لذا نجد الإسلام هو أول من تعامل بشكل أكثر شمولية، حيث أكد على أن (التقوى) هي الفيصل الوحيد الذي يميز المؤمن والمؤمنة. لو أجهد المشككون في الإسلام والمتهمين إياه بالحض على العنف والإرهاب أنفسهم لوجدوا أن هذه التقوى هي مركز الدائرة البيِّن الذي تدور من حوله كافة المبادئ والقيم الإسلامية.
ولأننا لسنا في دفاع عما هو حق في مواجهة الافتراءات الموجهة إلى الإسلام، فإننا لا نملك إلا أن نقدم لهؤلاء الذين يقودون الحملة الهوجاء على الإسلام والمسلمين لا لبس فيه لبعض مواقف الإسلام الثابتة.
أولاً: أخلاقيات الحرب في الإسلام
اجتهد الكثيرون ليدللوا على أن الهجوم على البرجين الشهيرين في نيويورك هما في صلب الجهاد الإسلامي، وأن هذه الهجمة التي لا يرتضيها عاقل، ما هي إلا وجه من أوجه الطعن في العقيدة الإسلامية. هذا في الوقت الذي يتأكد فيه يوميًّا مدى حرص الإسلام على الترغيب في السلام والدعوة إليه، وإن كان الإسلام هو أكثر الأديان التي وُجِّهت إليها أصابع الاتهام على أنه دين العنف وإراقة الدماء. هذا على الرغم من أنه ثابت تاريخيًّا أن الإسلام ظل ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى الله تعالى بالحسنى، وهو الذي رُفع في وجهه السيف، ولم يرفع هو سيفاً، مما اضطره إلى الدفاع عن نفسه. قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، وحينما مضت معركة دون قتال أو مواجهات دامية مثل ما حدث في غزوة الخندق قال الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ فهل يأتي نص كهذا من بين ثنايا دين أو من كتاب يتعطش للدماء؟
لقد عُرِف عن الرسول الكريم شجاعته، وأنه لم يكن محبًّا أو داعياً لحرب، بل كان يقول لأصحابه: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف".
وهذا ما شهد به المؤرخون للمسلمين في فتوحاتهم -التي كانت في حقيقتها تحريراً للشعوب من طغيان الإمبراطوريات القديمة (الفرس والروم)- وقالوا: ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب، أي المسلمين.
مما لاشك فيه أن الإسلام يعاني اليوم من إشكالية مزدوجة، ومن فهم خاطئ سواء من دول أو جماعات وأشخاص يناصبونه العداء لأسباب شتى، أو من مسلمين استقوا معارفهم ونهلوا مقدماتهم من مصادر متشددة، الدين الحق السمح منها براء، فأتوا بنتائج هي عمليًّا قد أضرت بالإسلام والمسلمين أكثر من أي عهد مضى سواء أكان هؤلاء المسلمون الآمنون مقيمين داخل الوطن أو خارجه.
على هؤلاء المسلمين، كما على غيرهم -وهذا هو دورنا أولاً وأخيراً- أن يتيقنوا من أن مفهوم الجهاد في الإسلام يستلزم أن تكون الحرب مشروعة، ومشروعية الحرب لا تتأتى بحسب أحكام الشرع الإسلامي إلا في حالات محددة، ووفق ما يجيزه الشرع من إجراءات لإعلان الحرب، وتحديد مداها وأثرها وتقييده لشرورها.
هذا هو مفهوم الجهاد في الإسلام، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الحرب بمعناها الواقعي قديماً وحديثاً، فمفهوم الجهاد يجعل السلام هو الحالة الدائمة والثابتة في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا يكون القتال إلا الاستثناء الذي يجب أن يتوافر سببه وحكمته.
ويوجب الله حتى في حالة الجهاد والحرب المشروعة، أن تكون الحرب معلنة، وليست غدراً بالآمنين والمسالمين، وأن يقلل من شرورها، لقد نهى عن قتال من لا يقاتلون من الشيوخ والعجزة والنساء والأطفال والرهبان المنقطعين للعبادة، وحرَّم الله صور القسوة والوحشية التي لا مبرر لها، مثل التخريب الشامل للعمران، وحرَّم أن تنتهك حرمة الآدمي حياً أو ميتاً، كالاعتداء على الجرحى أو الأسرى أو التمثيل بجثث الأعداء، كل ذلك شرّع الله مراعاته على المجاهدين، فكان بذلك ما نسميه «آداب القتال» أو قانون الحرب.
إن الجهاد في الإسلام وما يتبعه من قتال، لا يصح أن ينال المدنيين المسالمين، ولا يجوز أن يكون فيه دمار شامل للإنسان أو الأشياء النافعة للإنسان، وهكذا كان الحال في الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، مما لم تتوصل إلى بعضه المواثيق الدولية كمعاهدة جنيف، التي تحمي المدنيين من ويلات القتال، وتحدد حقوق الأسرى والمقاتلين والتي صدرت في عام 1949م.
ثانياً: موقف الإسلام من الإرهاب
إن المرادف الطبيعي للترويج لفكرة تأييد الإسلام للحروب وإراقة الدماء، أن يلصق بهذا الدين السمح اتهام الحض على ترويع الآمنين وأنه أحد المنابع الرئيسة في التحريض على الأعمال الإرهابية. كل هذه الافتراءات على عقيدة هي وفق مبادئها العامة تعتبر الأمن من أهم النعم على الإنسان: سواء أكان أمن الفرد على نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله، أو انتفاء الخوف من العدوان على ضروريات حياته وحاجياتها. كما نهت بشكل آمر عن العدوان على النفس الإنسانية، وجعل الله تعالى القتل العمد من أشد الجرائم إثماً وبغياً، إلى حد أن قتل فرد واحد هو بمثابة قتل للبشر أجمعين. لقد حافظ الإسلام على حرمة الجسد الإنساني، فلا يجوز العدوان عليه ولا إتلافه ولا استخدامه في غير ما شرع له، وهو العبادة والسعي في الأرض.
إن الإرهاب -وهو مرفوض في الإسلام رفضاً حاسماً- للأسف الشديد ينتسب من يمارسونه في الآونة الأخيرة إلى الإسلام، بل إنهم يتظاهرون أو يظنون بالخطأ أن هذه هي الغيرة على الدين وعلى حقوق المسلمين، حتى بلغت بهم المزايدة وسوء الفهم لجوهر العقيدة الإسلامية إلى حد اتهام المسلمين أفرادًا وجماعات بالمروق من الدين، وباتوا يستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم. هكذا وضع الإسلام الإرهاب في عداد الكبائر.
من هذه الوضعية على وجه التحديد، أرى بأن أحد أهم مهام علماء الدين والقائمين على المؤسسات الدينية داخل الوطن وخارجه، هو التصدى لهؤلاء المغيبين عن دينهم من أجل الحفاظ على هذا الدين وعلى حياة المسلمين. وهذا لن يتحقق إلا من خلال نشر الوعي الكامل بجوهر ديننا الذي يمر بمواجهات لا يستهان بها سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل القريب.
ثالثاً: حقوق الإنسان في الإسلام
لا أرغب في خوض أي نوع من المزايدات -كما يتهمنا البعض بذلك- ولن أتحدث عن أية مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في المواثيق والعهود الدولية. فقط أؤكد على أن الشريعة الإسلامية قد حرَّمت الاعتداء على حقوق غير المسلمين وكفلت للجميع حرية العقيدة في الدولة المسلمة، وأن ما يروجه أعداء الإسلام من افتراءات حول اضطهاد الإسلام لغير المسلمين سيظل دائماً مجرد افتراءات.
فكل ما يتردد في بعض وسائل الإعلام الغربية من أقاويل وتحليلات تدَّعي عدم احترام الإسلام للآخر واضطهاده الأقليات: يجيب عليه الإسلام نفسه عندما ساوى بين الناس جميعاً وضَمَنَ حقوق غير المسلمين كما ضَمَنَ حقوق المسلمين، بل جعل حقوق الأقليات في ذمة الله ورسوله، ولا يجوز بحال من الأحوال المساس بها أو الجور عليها، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. وفي هذه الآية إقرار بالمساواة الكاملة بين الناس جميعاً دون تفرقة بين أحد منهم. ويقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. ولقد أقر الإسلام تكريم الإنسان كإنسان دونما النظر لأي شيء آخر، فيقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، وهذا يؤكد أن التكريم في الإسلام شمل الإنسان منذ بدء الخليقة إلى أن تقوم الساعة. وأبلغ دليل على ذلك أن الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية عاشت في كنف الدولة الإسلامية على امتداد ولاياتها وأقاليمها عبر التاريخ، متمتعة بالحرية في العقيدة والتملك والتنقل والإبداع والترقي وتولي المناصب، كمواطنين دونما النظر إلى دياناتهم، وهذا يكشف زيف المزاعم والنوايا التي تستخدم الديانة الإسلامية كحجة لتبرير أفعالها تجاهنا.
وكما أن حرية المعتقد مكفولة بالنص القرآني، الذي هو مُلزِم للمسلم أكثر من أي نص وضعي، فإننا نجد أيضاً أن الله تعالى قد جعل المبدأ الأعظم في المجتمع الإسلامي هو «الحق»، والحرية تنطلق دائماً من هذا الحق. والحرية الوحيدة المستثناة من هذا الحيز، تلك هي حرية الفكر والاعتقاد. حيث نجد أن حرية الفكر هي الطريق إلى الحق، ومن هنا فلا يمكن بداءة تقييدها بالحق.
ولذلك فإن الإسلام استبعد أي صورة من صور القيود، ولم يوقفه عن ذلك خوف الضلال والإلحاد؛ لأن البديل عن هذا أسوأ منه؛ فعندما نفتح الباب على مصراعيه لحرية الفكر، ويضل البعض نتيجة لذلك، فإن من يؤمن فسيؤمن عن بينة واقتناع. أما إذا سمحنا بالقيود والتحكم فسيكون الإيمان على دَخَلٍ، ولا قيمة لهذا الإيمان، حتى وإن كثر عدد المؤمنين به.
والنصوص التي توجب حرية الفكر والاعتقاد عديدة، ولكن قد يكون أهم من ذلك أن التصور الإسلامي للمجتمع يفترض وجود الحرية كجزء لا يتجزأ من بنية هذا المجتمع، ليس فحسب لما قدمناه من أن الإيمان بالعقيدة لا يمكن أن يتم إلا في بيئة حرة، وبعد اقتناع كامل، ولكن أيضًا لأن الإسلام يبني الحياة الإنسانية بصفة عامة على أساس أنها اختبار واختيار بين الخير والشر، وهذا بدوره يفترض ويتطلب وجود قوى الشر والغواية، وحرية الإنسان في الانسياق أو المقاومة، وليس هناك ما هو أكثر صراحة من النصوص القرآنية في هذا، فإن إبليس ما كان يستطيع أن يفتن الناس لولا أن الله تعالى سمح له بذلك، بل ومنحه القوى والوسائل اللازمة. فقد ذكر القرآن الكريم على لسان إبليس: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ([4])، كما قال في آية أخرى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً([5]).
وهو معنى تكرر بنصه تقريبًا في سورتي «الحجر» و >ص». فافتراض عدم وجود هذه القوى وحريتها في العمل وحرية الإنسان تجاهها في الاختيار يخالف تصور الإسلام للمجتمع واستخدامه للثواب والعقاب.. الجنة والنار، بل إنه يقضي على مبرر وجود هذه الحياة الدنيا الذي يعود إلى الإغواء من ناحية، والضعف البشري من ناحية أخرى، وسمح الله تعالى لها أن تكون مسرحًا لعمل الشيطان وإغوائه حتى يوم القيامة. فإذا وجدت القيود والحمايات التي تستبعد آثار هذا الإغراء والإغواء، وإذا أقيمت «خيمة» من سد الذرائع وإغلاق الطريق أمام وسائل الإغراء والإغواء، فلن يكون هناك اختبار، ولن يكون هناك اختيار، ولا يكون هناك ثواب أو عقاب، وهذا يختلف اختلافًا جذريًّا بل هو يناقض مناقضة تامة التصور الإسلامي للمجتمع الإنساني، هذا المجتمع الذي بدأه وتسبب فيه اختيار آدم، ثم جعله الله تعالى مسرحًا للاختيار الحر طوال المدة التي أُنظِر فيها الشيطان حتى يوم القيامة، وسُمِح له فيها بالعمل، وتم تسليح المؤمنين في مواجهة هذا الإغواء بالإيمان والعقيدة، وكان يمكن لله تعالى ألا يسمح له أصلاً، وأن يهدي الناس جميعًا.
من جهة أخرى، وفي نقطة تعد اليوم من أكثر النقاط المثيرة للجدل، فإننا نقول رداً على هذه الادعاءات الكاذبة عن حقوق المرأة في الإسلام وبأنها مخلوق دون الرجل: إن المرأة في عرف الإسلام كائن إنساني، له روح إنسانية من النوع نفسه الذي منه روح الرجل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء. فهي إذاً الوحدة الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير والمساواة الكاملة في الكيان البشري تترتب عليها كل الحقوق المتصلة مباشرة بهذا الكيان.
والجزاء في الآخرة واحد للجنسين: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ.
وتحقيق الكيان البشري في الأرض متاح للجنسين: الأهلية للتملك والتصرف فيه بجميع أنواع التصرف من رهن وإجارة ووقف وبيع وشراء واستغلال... إلخ. قال تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ، ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ.
وهنا يحق للإسلام أن يفخر بما أعطى للمرأة من كيان اقتصادي مستقل، فصارت تملك وتتصرف وتنتفع بشخصها مباشرة بلا وكالة وتعامل المجتمع بلا وسيط.
ولم يكتفِ الإسلام بتحقيق كيان المرأة في مسألة الملكية بل حققه في أخطر المسائل المتعلقة بحياتها وهي مسألة الزواج؛ فلا يجوز أن تتزوج بغير إذنها، ولا يتم العقد حتى تعطي الإذن. ويصبح العقد باطلاً إذا أعلنت أنها لم توافق عليه. وقد كانت المرأة في غير الإسلام تحتاج إلى طرق ملتوية لتهرب من زواج لا تريده، لأنها لا تملك شرعاً ولا عرفاً أن ترفض، وقد أعطاها الإسلام أن تخطب لنفسها وهو آخر ما وصلت إليه أوروبا في القرن العشرين وحسبته انتصاراً هائلاً على التقاليد البالية العتيقة!!!
ويبلغ من تقدير الإسلام لمقومات الكيان البشري أن اعتبر العلم والتعلم ضرورة بشرية للجنسين معاً، وجعله ضرورة لازمة للذكر والأنثى، بل جعله فرضاً وركناً من الإيمان. وهنا يحق للإسلام أن يفخر بأنه أول نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنها كائن بشري لا يستكمل مقومات بشريته حتى يتعلم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء، فجعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعاها أن ترتفع بعقلها، كما ترتفع بجسدها وروحها. إلى هذا الحد وصل تكريم الإسلام للمرأة. ولا يستطيع أحد أن يقول إن فكرة الإسلام في كل هذه الأمور قائمة على أن المرأة مخلوق ثانوي أو تابع في وجوده لمخلوق آخر، أو إن دورها في الحياة دور ضئيل لا يؤبه له، فلو كان الأمر كذلك ما عني بتعليمها.
إن مزية الإسلام الكبرى أنه نظام واقعي يراعي الفطرة البشرية دائماً ولا يصادمها أو يحيد بها عن طبيعتها، وهو يدعو الناس لتهذيب طبائعهم والارتفاع بها، وهو يسير في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة بفطرة البشر، فيسوي بينهما حيث تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيح ويفرق بينهما كذلك حيث تكون التفرقة هي منطق الفطرة الصحيح.
الخلاصة
بعد ما سبق من عرض موجز، حيث إن هناك من الاستشهادات على النقاط السابقة ما يكفي لمجلدات وليس لورقة متواضعة في مؤتمركم الموقر، فثراء القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة المسلمين الأوائل هو ما يجعل المرء منا قادراً على تفنيد جميع الادعاءات الموجهة إلينا. لكن هذا كله يقودني أيضاً إلى مجموعة من الخلاصات:
أولها: إن الدراسات المتعلقة بالمستقبل أصبحت تشغل الدارسين ومراكز البحث في العالم أكثر من أي وقت مضى. ولم يعد القائمون على التخطيط للتنمية والاستثمار يقفون عند دراسة التاريخ الماضي والتفكر في الحاضر، ولكنهم إضافة إلى هذا يستشرفون المستقبل باحثين عن بدائل احتمالاته وإعداد العدة للتعامل معها. ونتيجة لهذا، فإنهم يحسنون استثمار الزمن أولاً، كما يحسنون استثمار الطاقات البشرية والمادية، على السواء.
ومن أهم ما يطل على الساحة العالمية، ويشغل بال الباحثين وعلماء الاقتصاد والاجتماع والتربية والسياسة في الوقت الحاضر ما يشار إليه بـ«العولمة». التي تمثل توجهاً انضمّ بالفعل إلى جملة المؤثرات المعاصرة على مستقبل العالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة.
لذلك، لا بد أن تتركز العديد من الدراسات في الوقت الراهن حول «موقف الإسلام من العولمة في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن».
وعلى المقارنات العلمية بين (الأنا) الإسلامي و(الآخر)، هذه الدراسات التي لابد وأن تقود في نهاية الأمر إلى طرح إشكالية الهوية.
ولعلّ أول إشكالية غير معروضة للحل الداخلي بين المسلمين أنفسهم هي الهوية الذاتية، فكيف يمكن إيجاد حلول نهائية أو حتى توفيقية في العلاقة مع الآخر الغربي الذي يمثل جانب العولمة ذات القدرة الفذة على إحلال الخلاف والهلع في أية بقعة إسلامية هذه الأيام، وحديثي هنا ينصب على البقعة الفكرية قبل أن يمتد المعنى إلى الحديث عن البقعة المكانية.
وفي هذا الصدد نجد أن كافة الأحاديث، سواء التي تتداول من قبل بعض أصحاب المصالح في الغرب أو من قبل المتأسلمين أنفسهم، تظهر أن تنافراً قويًّا موجود بالفعل ما بين الإسلام من جهة والعولمة من الجهة الثانية. غير أن النظرة المحايدة والمتعمقة بجوهر الدين، تعكس أن هناك اتساقاً وتوافقاً بين «عالمية» الإسلام، بوصفه ديناً مفتوحاً لجميع الأقوام (بغض النظر عن العرق واللون) وتجربة حضارية تاريخية، وبين العولمة بمعناها العام الشمولي، وليس بمعناها المتعارف عليه والذي ينطوي على فكرة نظام عالمي جديد يشكل العالم بموجب رؤية غربية شمولية تعمم هيمنتها عليه عن طريق فرض أنساق اقتصادية وسياسية وفكرية وسلوكية على العالم.
وتأسيساً على هذه الفرضية يأتي الدور الهام والفاعل للجاليات العربية والمسلمة التي تعيش في الغرب، والقادرة على التعايش الحقيقي بين ثقافتين وحضارتين، والتعامل مع كل منهما بالكفاءة نفسها وبدرجة من الوعي تحقق نوعاً من الاندماج في هذه المجتمعات مع المحافظة الكاملة على ثوابت العقيدة.
هذه الجاليات، ربما تكون، هي الأقدر على إثبات وجود عولمة إسلامية عبر التاريخ وفي جوهر عقائد الإسلام على سبيل التعرف على مسببات الاختلاف والتنافر الحقيقية التي تكمن خلف المواجهة الساخنة بين الإسلام والعولمة اليوم. إن تعبيرات الصراع بين الإسلام والعولمة عديدة ومتنوعة، وهي متاحة يومياً في «أنباء الساعة» وفي خطابات ومواعظ ومقالات المتشددين وغيرهم، زد على ذلك أعمال العنف التي تنفجر هنا وهناك في مختلف أنحاء العالم للتعبير عن «الرفض» الإسلامي لهذه الظاهرة الدولية الكاسحة. بل إن ما يزيد من «التهاب» هذه المواجهة العجز عن الوصول إلى نقطة التقاء بين الإسلام والعولمة، برغم محاولات بعض المفكرين أو «المعولمين» قطع نصف المسافة الفاصلة بينهما. علينا نحن إذن قطع بقية هذه المسافة، للوصول إلى عالم إسلامي أكثر أماناً واستقراراً.
الخلاصة الثانية: إن هناك في العالم الإسلامي البعض ممن لم يدينوا بشكل كافٍ ما فعلته قلة من إخوانهم من استخدام الدين بشكل غير شرعي لتبرير استهداف الأبرياء. لذا مطلوب من العالم الإسلامي أن يتحلى بالشجاعة الكافية للإعلان أن أعمال العنف السياسي متناقضة تماماً مع تعاليم الإسلام. ومثل هذا الموقف لا يعد إصلاحاً في الإسلام، ولكنه ينبع مباشرة من تعاليم القرآن. وفكرة الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة الإنسانية ليست نتيجة لليبرالية المعاصرة بل تنص عليها آيات صريحة من القرآن. فالآية الثالثة عشر من سورة الحجرات تقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
وبشكل عام فإن على القوى الغربية والعالم الإسلامي الالتزام بمعالجة جوانب النقص الموجودة لديهما. وللأسف هذا النقص الموجود لدينا يتم استغلاله من قبل المتشددين ليستدلوا به على بعض مواقف علماء الدين داخل الوطن، ويقومون بالمزايدة عليها مما خلق مناخاً عدائيًّا أصبح هو السمة المخيمة علينا. والطريق إلى سد الفجوات وترميم الجسور لن يتأتى عن طريق التشدد أو التقوقع، بل بالقدرة الحقيقية على مقارعة الحجة بالحجة، وهذا غير متاح في الوقت الحالي في شبه غياب تام للأئمة الدارسين وخطباء الجوامع، خاصة في الغرب، الذين يتمتعون بالفهم والوعي ودرجات من النضج التي تمكنهم من التعامل مع الأحداث الجارية بمصداقية تحمي الإسلام من الشوائب والأفكار المسمومة التي تدس عليه.
الخلاصة الثالثة: نحن القائمون على شؤون الإسلام من خلال مواقع مختلفة، نفتقر في الكثير من الأحيان إلى ما يطلق عليه «مداخلات النقد الذاتي مع النفس». وهذا يشكل نقصاً حقيقيًّا يؤخذ علينا من المعتدلين والمعنيين والمهتمين بشؤون الإسلام، وغني عن الذكر وصف أو رصد كيفية استغلاله من قبل المترصدين بالإسلام وبالمسلمين. وهذه الوضعية هي ما وصفها البعض بأن «الإسلام الآن بين فكي رحى، التطرف ومطامع الغرب». وأستشهد في هذه الجزئية بالتحديد بفقرة هي جزء من مدخل كتاب «الإسلام والغرب - خرافة المواجهة» لفريد هاليداي، والتي جاء فيها:
«إن خرافة المواجهة بين الإسلام والغرب، هي خرافة مستديمة من جهتين متناقضتين في الظاهر. من المعسكر الغربي بالدرجة الأولى ولكن ليس في الغرب حصراً. هذا المعسكر الذي يسعى لتحويل العالم الإسلامي إلى عدو آخر. ومن معسكر أولئك الذين يدعون، من داخل البلدان الإسلامية نفسها، إلى المواجهة مع العالم غير المسلم، وخصوصاً العالم الغربي. وهي تنطوي على محاجة، وهي إذ تنتقد إيديولوجيات من سعوا طويلاً إلى الهيمنة على العالم الاسلامي، فإنها تنتقد أيضاً الكثير مما يحدث بوصفه رداً «بديلاً» «محليًّا» «أصيلاً» من داخل هذه البلدان نفسها».
هذا المأزق لن يتم الفكاك منه دون العديد من اللقاءات، والمزيد من التواصل بين القائمين على شؤون الإسلام، والمحاولات الحثيثة لتوحيد وجهات النظر فيما بينهم، ودعم العمل البحثي الجاد الذي يمكِّن من رصد الأخطاء ووضع تصورات حول الحلول المثلى لجميع المشكلات التي نعاني منها الآن كأمة إسلامية، وفي مقدمتها هذا التضامن الملتبس بين التطرف والأطماع الخارجية، بغض النظر عن الغايات.
الخلاصة الرابعة: إن ما يؤجج من الأوضاع الحالية، هو تشتتنا نحن المعنيين بشؤون الإسلام ما بين المعارك الكبيرة والجانبية. نحن في مواجهة المناخ الجائر المتسيد في فلسطين والعراق وغيرهما من الدول الإسلامية، بجانب الدور الطبيعي لنا كدعاة ورموز للوجه الحضاري للإسلام. في الوقت ذاته بتنا جزءاً لا يتجزأ من معارك شبه يومية مع الغلو والتطرف وسوء الفهم والمحاولات المغرضة لتضليل الشباب المسلم، خاصة المقيم خارج الوطن. هذه الأوضاع تقتضي منا نظرة أكثر موضوعية عند تقديم الحلول أو الاقتراحات التي من شأنها تحقيق نتائج مرجوة، والعمل على إعادة ترتيب أوليات لمنهجية دورنا، مع الالتزام بها، حيث لا جدوى من الاجتماعات وإصدار التوصيات دونما تجسيدها على أرض الواقع.
المصداقية يمكنها أن تترسخ لدى الكثيرين ممن ينتظرون منا نتائج إيجابية، من هنا، ومن المنابر واللقاءات الموازية لمثل لقائنا هذا، فقط إذا ما صدقت النوايا على العمل والتنفيذ والتحرك السريع في زمن شديد التوتر، من أجل إعادة كفة الموازين لصالحنا بقدر أو بآخر، حيث لا ينتظر بطبيعة الحال أن تستقر الأمور الملتهبة بين ليلة وضحاها. الأساس هو أن نبدأ بتحرك منهجي ومتوازن وواعٍ لأدق تفاصيل ما يجري من حولنا.
التوصيات
1- لأن العقيدة الإسلامية هي جوهر الدين الحنيف التي جاءت رحمة للناس، فإن الأمر يوجب مسؤولية كبرى على المسلمين بأن يمتدوا إلى أي نقطة في العالم. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن يكون هناك تدخل في الشؤون الداخلية للبلدان التي يعيشون فيها، ولا يعني بحال من الأحوال أن يحدث صراع في هذه المجتمعات. هؤلاء المسلمون يحتاجون المسجد، يحتاجون أن يُعلِّموا أبناءهم، يلزمهم أن يكونوا على صلة بالأمة الإسلامية. هم غير قادرين لأن ليست لديهم الإمكانات، نحن ندعو ونتطلع إلى أن تكون لدى هذه الجاليات المسلمة إمكانات بيئية خاصة، حتى يتمكنوا من أن يكونوا في مستوى يؤهلهم لأن يقفوا موقفاً متكافئاً مع الآخرين في الحصول على المزايا، في الحصول على ما تتيح لهم القوانين والأنظمة. نحن ندعو إلى رفع مستوى هذا الجاليات المسلمة حتى لا تتقوقع، وأن تكون كل جالية منغلقة على نفسها. ونعتقد أن هذا (التقوقع) فيه ضرر على الجالية المسلمة وعلى الإسلام والمسلمين، الإسلام دين منفتح ولذلك فإن أسس الدين لابد من الحفاظ عليها وصونها، المساجد لابد منها، المراكز ضرورة، الدعوة الإسلامية لا يجب أن تنحسر، وفي الوقت نفسه يكون هناك انفتاح سياسي، انفتاح اجتماعي، انفتاح اقتصادي، يمكِّن من التعامل مع الآخرين بروح واثقة ومطمئنة إلى أن الإسلام لا يعمل حواجز وفواصل بين الناس تؤدي إلى الصراعات والاحتقانات.
2- الواقع الذي بدأ يتهددنا جميعاً، مثلما في مصر والمملكة العربية والسعودية والمغرب، بالمنطق نفسه الذي طالت به نيويورك وواشنطن ومدريد، بهجمات إرهابية أساءت لنا جميعاً دون استثناء، وانعكست ردود فعلها على المسلمين أمة ودولاً وجماعات وجاليات مهاجرة. كانت له دعوات تحث عليه وأخرى تؤيده وتلقى صداها في خضم الانتهاكات التي تقع يوميًّا على الشعب الفلسطيني والآن على العراقي أيضاً. هذه الدعوات لم تعد منذ فترة تقتصر على صب عدائها على الآخر، بل امتدت إلى كل من يخالفها أو يحاول مقاومتها بما في ذلك المسلمين أنفسهم شعوباً وحكومات. عن أي شيء يكشف هذا الواقع؟
عن غياب كامل للوعي، وعن الفهم الملتبس الذي بدأ يتسرب إلى الكثيرين، وعن تأجج العواطف والتهابها نتيجة الانتهاكات التي تقع يوميًّا على المسلمين في مكان أو آخر. كيف يمكن احتواء بعض الأفعال والأهم منها ردود الأفعال التي يتم اجتذابها والتلاعب على مشاعرها؟
قد أصبح تدريب الأئمة والخطباء حاجة ملحة وعاجلة، حتى لا يترك المكان خالياً لكل من يتطوع لهذه المهمة، مدعياً أن ما يفعله ويردده هو لصالح الإسلام والمسلمين وبدافع الغيرة عليهما. إن في بناء معاهد متخصصة لتخريج أجيال من الأئمة الدارسين، والمستوعبين لجوهر العقيدة الإسلامية بجانب امتلاكهم للغة وثقافة البلد التي يعيشون فيها هو السبيل الأمثل لتجنب الكثير من الشرور والعواقب التي تحيق بنا في المستقبل القريب.

([1]) رئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا وأمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي.
([2]) سورة الرعد، الآية 22.
([3]) سورة المؤمنون، الآية 96.
([4]) سورة الأعراف، الآية: 14 - 17
([5]) سورة الإسراء، الآية: 62 - 65.

 

المصدر: http://aafaqcenter.com/post/1075

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك