بين الرشيد وسفيان الثوري!
بين الرشيد وسفيان الثوري!
ذكر الإمام ابن بلبان والغزالي وغيرهما : أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم إلا سفيان الثوري ، فإنه لم يأته ، وكان بينه وبينه صحبة ، فشق عليه ذلك ، فكتب إليه الرشيد كتاباً يقول فيه : (( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون أمير المؤمنين ، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري : أما بعد يا أخي :
فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين ، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك ، ولم أقطع منها ودك ، وإني منطو لك على أفضل المحبة وأتم الإرادة ، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى ، لأتيتك ولو حبواً ، لما أجد لك في قلبي من المحبة ، وإنه لم يبقى أحدٌ من إخواني وإخوانك إلا زارني وهنأني بما صرت إليه ، وقد فتحت بيوت الأموال ، وأعطيتهم المواهب السنية ، ما فرحت به نفسي وقرت به عيني ، وقد استبطأتك ، وقد كتبت كتاباً مني إليك أُعلمك بالشوق الشديد إليك ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل )) .
ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني ، وأمره بإيصاله إليه، وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله ليخبره قال عباد : فانطلقت إلى الكوفة فوجدت سفيان في مسجده ، فلما رآني على بعد قام ، وقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير . قال : فنزلت عن فرسي بباب المسجد ، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة ، فدخلت وسلمت ، فما رفع أحدٌ من جلسائه رأسه . إلى أن قال : فبقيت واقفاً ، وما منهم أحد يعرض علي الجلوس ، وقد علتني من هيبتهم الرعدة ، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ، ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه ، فركع وسجد ، وسلم ، وأدخل يده في كمه وأخذه وقلبه بيده ، قال عباد: فمد بعضهم يده وهو يرتعد كأنه حية تنهشه ، ثم قرأه ، فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب ، فلما فرغ من قراءته ، قال : اقلبوه ، واكتبوا للظالم على ظهره . فقيل له :يا أبا عبد الله ، إنه خليفة ، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن . قال : اكتبوا للظالم في ظهر كتابه ، فإن اكتسبه من حلال فسوف يجزى به ، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلي به ، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا . فقيل له : ما نكتب إليه : قال : اكتبوا له :
(( بســــــم الله الرحمن لرحيم .. من العبد الميت سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ولذة قراءة القرآن . أما بعد : فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودك ، وإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين ، فأنفقته في غير حقه ، وأنفذته بغير حكمه ، ولم ترض بما فعلته وأنت ناءٍ عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وستؤدى الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل . يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم ، هل رضي بفعلك ، والعاملون عليها في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل ؟! أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم ، يعني العاملين ؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل ؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك ؟! فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جواباً ، وللبلاء جلباباً ، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل ، فاتق الله في نفسك ، إذا سُلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة القرآن ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً . يا هارون قعدت على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستوراً دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب العالمين ، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك ، وتركتهم يظلمون الناس ولا ينصفون ، ويشربون الخمر ويحدون الشارب ، ويزنون ويحدون الزاني ، ويسرقون ويقطعون السارق ، ويقتلون ويقتلون القاتل ، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها على الناس ؟! فكيف يا هارون غداً ، إذا نادى المنادي من قبل الله : احشروا الظلمة وأعوانهم . فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك ، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار ؟! وكأني بك – يا هارون – وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ، فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته ، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ، فمنهم من تزود زاداً نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإياك إياك أن تكتب إلي بعد هذا ، فإني لا أجيبك . والسلام )) .
وألقى الكتاب منشوراً من غير طي ولا ختم ، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت : يا أهل الكوفة من يشتري رجلاً هرب إلى الله ؟ فأقبلوا إلي بالدراهم والدنانير ، فقلت : لا حاجة لي بالمال ، ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية ، فأتيت بذلك ، فنزعت ما كان علي من الثياب ، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين ، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي ، إلى أن أتيت باب الرشيد حافياً راجلاً ، فهزأ بي من كان على الباب ثم استؤذن لي ، فلما رآني على تلك الحالة ، قام وقعد ، وجعل يلطم رأسه ووجهه ، ويدعو بالويل والخراب ، ويقول : انتفع الرسول وخاب المرسل ، ما لي وللدنيا ، والملك يزول عني سريعاً . فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي ، فأقبل يقرؤه ودموعه تنحدر على وجهه ، وهو يشهق فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، قد اجترأ عليك سفيان ، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد ، وضيقت عليه السجن ، فجعلته عبرةً لغيره . فقال هارون : اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا ، المغرور من غررتموه والشقي والله – حقاً – من جالستموه ، وإن سفيان أمَّة وحده . ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه ويبكي ، حتى توفي - رحمه الله تعالى - .
أين لنا اليوم بسفيان ؟؟؟
أين لنا بهارون ؟؟
أسألكم بالله من استطاع إيصال هذه القصة إلى أي حاكم أو مسئول فليفعل على الأقل ليبرئ ذمته أمام الله تعالى يوم القيامة .. !!
اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً ..
المصدر: http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=389