أسس الإيمان وآفة التكفير والدعوة للوحدة الإسلامية

أسس الإيمان وآفة التكفير والدعوة للوحدة الإسلامية

محسن رمال

 

في ندوة أقامها تجمع العلماء المسلمين بمناسبة أسبوع الوحدة الإسلامية قبل بضعة أشهر ركز بعض المنتدين من العلماء الأفاضل على نقطة خطيرة لطالما ابتلي بها الشرفاء والمخلصين في درب الوحدة الإسلامية ألا وهي تكفير المسلمين لبعضهم البعض. ولأن الوقت لم يتسنَّ له أن يشبع هذه النقطة بحثاً أو إضاءة على المفاصل الأساسية التي أوهمت البعض إن أحسنا الظن بهم بالحكم على الآخرين بالكفر أو التي استغلها الحاقدين للتعمية على الحقائق تنفيساً لعقدهم أو تلبية لغرائزهم الشيطانية، لذلك كان لا بد من إشباع هذه النقطة بحثاً ودراسة علّنا نرفع حجراً أو حاجزاً من أمام الطريق المقدس الذي اعتبره الشارع المقدس قدراً للمسلمين عليهم أن يعيشوا ويتمسكوا ويعتصموا به وإلا فالنتيجة إن تخلفنا عنه ماثلة أمام ناظرينا من التخلف والضياع والتفكك والهزيمة أمام الأعداء. ولا يخفى على العقلاء أن المسلمون كانوا وما زالوا غرضاً لأهداف الأعداء وهم يبذلون جهدهم في تفريقهم وتشتيتهم إلى فرق متباعدة عملاً بمقولة «فرّق تسد» ليكونوا فريسة سائغة لهم يسهل عليهم حكمهم ونهب ثرواتهم.

 

فالمسلمون في هذه الظروف الحرجة التي يعيشونها هذه الأيام مدعوون أكثر ليعودوا إلى الأصالة التي ثبتها اللّه تعالى في أذهان الأمة منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية «واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا» ولا يكون هناك اعتصام بحبل اللّه إذا لم نوحد كلمتنا.

 

وإذا كنا ننطلق في هذه الظروف لنناشد الغيارى على الدين ليعيشوا الوحدة ويعملوا على إحيائها فإننا لا ينبغي أن نفكر بها على أساس رد الفعل الذي نعيشه في الواقع الأليم من التمزق وسيطرة الأعداء علينا، بل يجب أن نعيش الوحدة على أساس أنها قدر لنا وفعل في مقابل رد الفعل، لأننا لو عشناها ردة فعل فإنه إذا زالت الأسباب الموجبة لهذه الوحدة يمكن لنا أن نعود إلى تخلفنا وتشققنا، أما إذا عشناها فعلاً أوجبه اللّه علينا وقدراً لا بد أن نعيشه فلا يمكن أن نعود إلى الوراء ولا يمكن أن يهيمن علينا أحد، وهذا أكثر من ضروري وبديهي.

 

وحتى لا يبقى من يلقي التهم جزافاً بالكفر تارة لفريق والإيمان لفريق آخر لا بد أن نلقي الضوء على حقيقة الإيمان والكفر حتى يكون الإنسان على بينة من أمره ليتضح خطأ هؤلاء الذين يكفرون المسلمين، علّهم بذلك يعودون إلى رشدهم فتتآلف القلوب ونسحب فتيل الفتنة، وقد اعتمدنا على بحث للعلامة الشيخ السبحاني في هذا المجال وعلى اللّه التوفيق.

 

الإيمان لغة:

 

قال الخليل: الأمن: ضد الخوف والفعل منه أمن يأمن أمناً، والإيمان التصديق نفسه، وقوله تعالى: «وما أنت بمؤمن لنا» أي بمصدق لنا(1).

 

وقال ابن فارس: «أمن» له أصلان أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة والآخر التصديق والمعنيان متدانيان(2).

 

وقال ابن الأثير: في أسماء اللّه تعالى: المؤمن هو الذي يصدق عباده ووعده فهو من الإيمان: التصديق أو يؤمنهم في القيامة من عذابه، فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف(3).

 

ويظهر من ابن منظور أن له استعمالات مختلفة: أ: الأمن ضد الخوف ، ب: الأمانة ضد الخيانة، ج: الإيمان ضد الكفر، د الإيمان: التصديق. وضده التكذيب، يقال آمن به قوم وكذب به قوم، فأما آمنته المتعدي فهو ضد أخفته، وفي التنزيل العزيز «آمنهم من خوف»(4).

 

والمحصل من كلامهم أن الثلاثي المجرد من مادة «أمن» يستعمل في ضد الخوف كما قال سبحانه «وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركوا بي شيئاً». وأما المزيد منه فالمقرون بالباء أو اللام يأتي بمعنى التصديق كقوله تعالى: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه» وقوله تعالى: «ما أنت بمؤمن لنا».

 

وعلى ذلك درج المتكلمون في تعريف الإيمان حيث فسروه بالتصديق.

 

قال عضد الدين الإيجي: الإيمان التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً وإجمالاً فيما علم إجمالاً(5).

 

وقال التفتازاني: الإيمان اسم للتصديق عند الأكثرين أي تصديق النبي فيما علم مجيئه بالضرورة.

 

وأما أكثر أعلام الشيعة ففسروه بالتصديق.

 

قال المرتضى: إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي، ولا اعتبار بما يجري على اللسان، فمن كان عارفاً باللّه تعالى، وبكل ما أوجب معرفته مقراً بذلك ومصدقاً فهو مؤمن.

 

وقال ابن ميثم: إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي باللّه تعالى، وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره، سائر الطاعات ثمرات مؤكدة له(8).

 

الإيمان اصطلاحاً:

 

فإذا كان الإيمان بمعنى التصديق، فيقع الكلام في كفاية أي قسم منه، فإن للتصديق مظاهر مختلفة، فالمحتملات أربعة:

 

1) الإيمان: هو إقرار باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه، وهو قول محمد ابن كرام السجستاني.

 

ويرد عليه بأنه لو عرفنا أن قلبه غير مطابق لما في لسانه فإننا نحكم عليه بعدم الإيمان بل بالنفاق «ومن الناس من يقول آمنا باللّه واليوم الآخر وما هم بمؤمنين».

 

2) الإيمان: التصديق القلبي وإن أظهر الكفر بلسانه وهذا هو المنسوب إلى جهم بن صفوان.

 

ويلاحظ على هذا القول أن من جحد لساناً أو عملاً وإن استيقن قلباً فهو ليس بمؤمن بل هو من الكافرين يقول سبحانه: «وجحدوا بها واستيقتنها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسرين».

 

3 الإيمان: هو التصديق القلبي منضماً إلى التصديق باللسان. وأما العمل فهو من ثمراته غير داخل في صميم الإيمان، وهو المنسوب إلى مشاهير المتكلمين والفقهاء.

 

4 الإيمان: هو التصديق القلبي منضماً إلى الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. وهو قول المعتزلة وجمع من القدامى.

 

فأما القول الثالث والرابع فمتقاربان، غير أن الرابع جعل العمل جزءاً من الإيمان، والثالث جعله من ثمراته لا جزءاً من حقيقته. وهذا هو الذي فرّق المسلمين إلى فرق ثلاثة:

 

أ الخوارج: الذين كفرّوا مرتكب الكبيرة ومنعوا من إطلاق المؤمن عليه، وبلغوا الغاية في التشديد وجعلوه مخلداً في النار لخروجه من ربقة الإيمان.

 

ب المعتزلة: وهم الذين جعلوا مرتكب الكبيرة منزلة بين منزلتين، فلا هو بمؤمن ولا كافر، ولكنهم صفقوا مع الخوارج في جعل مرتكب الكبيرة مخلداً في النار إذا مات بلا توبة.

 

ج جمهرة من الفقهاء والمتكلمين من السنة والشيعة: وهم الذين جعلوا الإيمان نفس التصديق مع الإقرار باللسان، وجعلوا العمل كمال الدين. وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالعمل، بل أن محول الإنسان من الكفر إلى الإيمان، والحكم بحرمة دمه وماله هو التصديق القلبي إذا اقترن بالإقرار باللسان إن أمكن أو بالإشارة للأبكم. وأما المنقذ من النار والمدخل إلى الجنة، فلا يكفيه ذلك ما لم يقترن بالعمل.

 

فأما ما قاله الخوارج والمعتزلة فيرد عليه إشكالات من الكتاب والسنة.

 

أما من الكتاب: فال سبحانه: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات...» فمقتضى العطف هو المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فلو كان العمل داخلاً فيه للزم التكرار. وقال سبحانه: «ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن...» فقوله تعالى «وهو مؤمن» جملة حالية والمقصود يعمل صالحاً حال كونه مؤمناً وهذا يقتضي المغايرة بين الإيمان والعمل.

 

وقال سبحانه: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي‏ء إلى أمر الله» فترى سبحانه أطلق المؤمن على الطائفة العاصية.

 

وأما السنة فهي تعاضد هذه النظرية أيضاً:

 

فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان ومسلم في باب فضائل علي(ع) أنه قال رسول اللّه (ص) يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله يفتح اللّه على يديه. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال فتساورت لها رجاء أن أدعى إليها، قال: فدعا رسول اللّه علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: امشِ ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك، فسار عليّ شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول اللّه: على ماذا أقاتل الناس، قال(ص): قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه(9).

 

وروى الشافعي في كتاب الأم عن أبي هريرة أن رسول اللّه قال: لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه فإذا قالوا لا إله إلا اللّه فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه.

 

قال الشافعي: ... رسول اللّه: أن فرض اللّه أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلا اللّه فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها يعني بما يحكم اللّه عليهم فيها، وحسابهم على اللّه بصدقهم وكذبهم وسرائرهم، اللّه أعلم بسرائرهم وهو المتولي الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه(10).

 

وروى الصدوق بسند صحيح قال: قلت لأبي عبد اللّه: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، ويقر بالطاعة ويعرف إمام زمانه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن(11).

 

وقد استدل الإمام علي(ع) على خطأ الخوارج في رمي مرتكب الكبيرة بالكفر بفعل رسول الّه (ص) وأنه كان يتعامل معهم معاملة المؤمن: فقال: وقد علمتم أن رسول اللّه رجم الزاني ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث تراثه أهله، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهم من الفى‏ء، فأخذهم رسول اللّه (ص) بذنبهم وأقام حق اللّه فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله(12).

 

وبالجملة إن البحث في أن العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا، وإن كان مهماً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنة كما ذكرناه حتى الآن، إلا أن للبحث وجهاً آخر لا تقل أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار: فإذا دل الدليل على أن الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم أو هو مع العمل يجب علينا أن نتبعه سواء كان العمل عنصراً مقوماً أم لا.

 

مثلاً: إن حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتب على الإقرار باللسان سواء كان مذعناً في القلب أم لا ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان، ولأجل ذلك نرى أن كل عربي وعجمي أقر بالشهادتين عند الرسول الأكرم(ص) حكم عليه بحقن دمه واحترام ماله، فهذه الآثار لا تترتب أزيد من الإقرار باللسان. وأما غير هذه من الآثار التي نعبر عنها بالسعادة الأخروية فلا شك أنها رهن العمل وأن مجرد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنة قال سبحانه وتعالى: «إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهذوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصادقون». فإننا نرى أن اللّه ينفي الإيمان عن غير العامل، وما هذا إلا لأن المراد منه الإيمان المؤثّر في السعادة الأخروية.

 

وقال أمير المؤمنين(ع): «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل».

 

فيما يجب الإيمان به:

 

إذا كان النبي الأكرم مبعوثاً من قبل اللّه سبحانه وموحى إليه، فيجب الإيمان بكل ما جاء به ولا يصح التبعيض بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فإن ذلك تكذيب للوحي غير أن ما جاء به النبي في مجال المعارف والأحكام لمّا كان واسعاً مترامي الأطراف لا يمكن استحضاره في الضمير ثم التصديق به، فلذلك ينقسم ما جاء به النبي إلى قسمين: قسم منه معلوم بالتفصيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد والصلاة والزكاة، وقسم آخر معلوم بالإجمال وهو موجود بين ثنايا الكتاب وسنة النبي الأكرم (ص)، فلا محيص من الإيمان بما علم تفصيلاً بالتفصيل، وبما علم إجمالاً بالإجمال.

 

ما يجب الإيمان به تفصيلاً:

 

1 وجوده تعالى: وتوحيده وأنه واحد لا ندَّ له ولا مثل، وقد تمثل هذا النوع من التوحيد في سورة الإخلاص. قال سبحانه: «قل هو اللّه أحد، اللّه الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد».

 

2 أنه متفرد بالخالقية: ولا خالق للعالم وما فيه إلا اللّه سبحانه وقد أكد القرآن على ذلك أشد تأكيد، قال سبحانه: «قل اللّه خالق كل شي‏ء وهو الواحد القهار».

 

3 أنه سبحانه متفرد في الربوبية: والتدبير وأنه لا مدبر للعالم وما فيه سواه وهذا يركز القرآن عليه في مسير دعوته الاعتقادية ويقول:

 

«إن ربكم اللّه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم اللّه ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون».

 

4 كونه مستحقاً للعبادة: فقط ولا معبود بحق سواه، وهذا هو الهدف المهم من بعث الأنبياء، لأن سلامة الفطرة تسوق الإنسان إلى التوحيد في الذات، وإنما تحيط به الوساوس في توحيد العبادة ولأجله ركز الأنبياء على ذلك أكثر مما سواه قال سبحانه:

 

«ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت».

 

5 نبوة الرسول الأكرم ورسالته العالمية: قال سبحانه: «وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا قأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين».

 

6 المعاد ويوم الجزاء والاعتراف به من أركان الإيمان.

 

إن الاعتراف بهذه الأمور الستة قد أخذ في موضوع تحقق الإسلام بمعنى أن إنكارها أو الجهل بها يقضي الحكم بكفر جاهلها أو منكرها، وإن كان ربما لا يستحق العقاب لكونه جاهلاً أو قاصراً، مع ذلك يعد كافراً ويترتب عليه أحكامه. وحصيلة الكلام أن الإيمان يتمثل بالتصديق بهذه الأمور، وإنكار واحد منها عناداً أو شبهة يخرج عن حظيرة الإسلام ويقع في عداد الكافرين. وكان الإقرار بالشهادتين في عصر الرسالة متضمناً لهذه الشهادات الست، لأجل قرائن حالية موجودة حولهما، وبذلك يظهر سر لفيف من الروايات الدالة على كفاية الشهادتين في الدخول في حظيرة الإيمان والتي هي على صنفين:

 

الصنف الأول: ما يدل على كفاية الإقرار بالشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أن علياً صرخ: «يا رسول اللّه على ماذا أقاتل الناس؟ قال (ص): قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه»(14).

 

وقال الإمام الصادق(ع): «الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه والتصديق برسول اللّه به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث»(15).

 

أما الصنف الثاني: ما يضيف إلى الشهادتين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.

 

روى البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه (ص): «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم شهر رمضان»(16).

 

روى أنس بن مالك عن رسول اللّه قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها»(17).

 

في حد الكفر وأسبابه:

 

الكفر لغة هو الستر والتغطية وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحبة بالتراب قال سبحانه: «كمثل غيث أعجب الكفار نباته».

 

وأما اصطلاحاً فهو عدم الإيمان بما من شأنه الإيمان به، فيدخل ما من شأنه الإيمان به تفصيلاً كتوحيده سبجانه وتعالى ورسالة نبيه ويوم قيامته أو من شأنه الإيمان به إجمالاً كالإيمان بالضروريات أي ما لا يجتمع الإنكار بها مع التسليم للرسالة، ويعد الفصل بينهما أمراً محالاً في مقام التصديق، فلو كفر بوجوب الصلاة والزكاة فقد كفر بهما بما من شأنه الإيمان به، فالإيمان بالرسالة إيمان بهما ويعد إنكارهما إنكاراً لها، بل الإيمان بكل ما جاء به ضرورياً كان أو غير ضروري.

 

قال الإيجي: الكفر وهو خلاف الإيمان فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة(18).

 

وقال الفاضل المقداد: «الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما علم ضرورة مجي‏ء الرسول به»(19).

 

أسباب الكفر: وأسبابه ثلاثة:

 

الأول: إنكار ما وجب الإيمان به تفصيلاً كإنكار الصانع، أو توحيده ذاتاً وفعلاً وعبادة... وإنكار رسالة النبي الأكرم بالمباشرة أو يوم المعاد والجزاء.

 

الثاني: جهد ما علم الجاهد أنه من الإسلام سواء كان ضرورياً أم غير ضروري سواء كان أصلاً عقيدياً أو حكماً شرعياً لأن مرجعه إلى إنكار رسالته في بعض النواحي.

 

وقد وردت روايات عن أهل البيت(ع) تركز على جحد ما علم أنه من الدين من غير تخصيص المجحود بما علم أنه من الإسلام بالضرورة.

 

روى عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام وأن عذب. كان عذابه به كعذاب المشركين، أم له مدة انقطاع؟.

 

فقال (ع): من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرحه ذلك من الإسلام وعذّب أشد العذاب، وإن كان معترفاً أنه أذنب، ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام، وكان عذابه أهون من عذاب الأول»(20).

 

وحاصله أن ارتكاب الكبيرة مع الاعتقاد بأنها حلال يوجب الكفر، وأما ارتكابها مع الاعتراف بكونها ذنباً فيخرج عن الإيمان دون الإسلام.

 

الثالث: إنكار ما علم أنه من ضروريات الإسلام.

 

تكفير أهل القبلة:

 

إذا تعرفت على ما يخرج الإنسان من الإيمان ويدخله في الكفر يعلم أنه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الإسلامية ما دامت تعترف بالشهادتين ولا تنكر ما يعد من ضروريات الدين التي يعرفها كل من له أدنى إلمام بالشريعة، وإن لم تكن له مخالطة كثيرة مع المسلمين. وعلى ذلك فالبلاء الذي حاق بالمسلمين في القرون الماضية وامتد إلى عصرنا الحاضر بلاء مبدد لشمل المسلمين أولاً، ومحرم في نفس الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ثانياً، ومن الأسف أن التعصبات المذهبية الكلامية صارت أساساً لتكفير المعتزلة وأصحاب الحديث والأشاعرة وبالعكس، وعم البلاء الشيعة، فترى أن بعض المتعصبين أخذوا يكفرون الشيعة بأمور لو ثبتت لا تكون سبباً للتكفير فضلاً عن كون أكثرها تهماً باطلة. وهذا يحتاج فيه إلى بحث مستقل.

 

ولأجل أن يقف القارى‏ء على أن جمهور العلماء لا يجوز تكفير أهل القبلة نورد كلمات للعلماء في ذلك ثم نذكر مصادر آرائهم في الروايات:

 

1 قال ابن حزم عندما تكلم فيمن يكّفر ولا يكّفر: وذهبت طائفة إلى أنه لايكفر ولا يفسق مسلم بقول قال في اعتقاد، أو فتيا، وإن كل من اجتهد في شي‏ء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد(21).

 

2 وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إن الأقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً، وكل من كان في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، فإن التكفير أمر هائل عظيم الخطر(22).

 

3 وكان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري يقول: لما حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له فقال: اشهدوا على أنني لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم(23).

 

4 وقال القاضي الإيجي: جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة واستدل على مختاره بقوله: إن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللّه تعالى عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد أو غير متحيز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أن الخطأ فيها ليس فادحاً في حقيقة الإسلام(24).

 

5 وفي المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر واحداً من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء...(25).

 

6 وقال ابن عابدين: نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس في كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا(26).

 

السنة النبوية وتكفير المسلم:

 

وقد وردت أحاديث كثيرة تنهي عن تكفير المسلم الذي أقر بالشهادتين فضلاً عمن يمارس الفرائض الدينية.

 

1 بني الإسلام على خصال: شهادة أن لا إله إلا اللُّه وأن محمداً رسول اللّه والإقرار بما جاء من عند اللّه والجهاد ماضي منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين... فلا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك».

 

2 «لا تكفروا أهل ملتكم وإن عملوا الكبائر».

 

3 عن أبي ذر أنه سمع رسول اللّه (ص) يقول: لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».

 

4 عن ابن عمر: أن رسول اللّه(ص) قال: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما».

 

5 «أيما رجل مسلم كفرّ رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر».

 

6 «كفوا عن أهل لا إله إلا اللّه لا تكفروهم بذنب، فمن كفّر أهل لا إله إلا اللّه فهو إلى الكفر أقرب»(27).

 

7 حدثنا أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه (ص) سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فادركنا رجلاً فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللّه فضربناه حتى قتلناه، فعرض في نفسي من ذلك شي‏ء فذكرته لرسول اللّه (ص) فقال: من لك بلا إله إلا اللّه يوم القيامة؟ قال: قلت يا رسول اللّه، إنما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: «ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا؟ من لك بلا إله إلا اللّه يوم القيامة؟ قال: فما زال يقول ذلك حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ(28).

 

الدعوة إلى الوحدة:

 

إن الإسلام يؤكد على وحدة المسلمين والتمسك بالعروة الوثقى وبذلك ما يهدم هذه الوحدة من التهم والظنون أو التكفير والتفسيق، ويراها أمراً ضرورياً للمسلمين. قال تعالى:

 

«إنما المؤمنون أخوة».

 

«والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض».

 

«واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا»

 

«ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم».

 

«إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شي‏ء إنما أمرهم إلى اللّه ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون».

 

وهكذا فإن السنة النبوية تؤكد على هذا الأمر أيضاً:

 

قال رسول اللّه(ص): «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا أو لا أدلكم على شي‏ء إذا فعلتموه تحاببتم: افشوا السلام بينكم»(29).

 

وقال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد اللّه إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»(30).

 

هذه هي الآيات الكريمة والسنة النبوية تدعو إلى الوئام، بينما نحن على العكس ندعو بأفعالنا وأقلامنا إلى الفرقة فيتهم ويسب ويكفر بعضنا بعضاً وكأن الجميع قد نسوا أن العدو يتحين الفرص ليكمل القضاء على هذه الأمة التي ذاقت الويلات يوم نسيت أمر نبيها.

 

إن وحدة الكلمة كانت أمنية النبي العليا، فقد كان رسول اللّه(ص) يهدف دائماً إلى توحيد المسلمين ويحافظ أبداً على وحدة صفوفهم ويسعى إلى إطفاء أية ثائرة أو نائرة تهدد هذه الوحدة. فيوم دخل شاب يهودي مجتمع الأوس والخزرج الذي جمعهما الإسلام بعد طول نزاع وتشاجر وتقاتل وأخذ يذكرهم بماوقع بينهم في عهد الجاهلية، من قتال فأحيا فيهم الحمية الجاهلية حتى استعدوا للقتال، وتواثب رجلان من القبيلتين وتقاولا، وبلغ ذلك رسول اللّه(ص) فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال:

 

«يا معشر المسلمين! اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه بالإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف بين قلوبكم»(31).

 

فإذا كانت هذه هي أهمية الوحدة في الأمة الإسلامية فما جزاء من يرفع عقيرته يريد تفريق صفوف المسلمين بفتوى ظالمة مخالفة لنصوص الكتاب العزيز والسنة النبوي، وهو بذلك لا يخدم إلا القوى الاستعمارية الكافرة المعادية للإسلام والمسلمين. هذا هو نداء الرسول لنا فهل نقلع عن كل هذه الأباطيل. الهوامش :

 

(1) ترتيب العين: 56.

(2) المقاييس: 1ر133.

(3) النهاية: 1ر69.

(4) لسان العرب: 13ر21

(5) شرح المواقف: 8ر323.

(6) شرح المقاصد: 5ر176.

(7) الذخيرة في علم الكلام 536 537.

(8) قواعد المرام: 170.

(9) البخاري: 1ر10 كتاب الإيمان، وصحيح مسلم 7ر17، باب فضائل علي.

(10) الأم: 1ر158 159.

(11) البحار: 66ر16.

(12) نهج البلاغة، خطبة 125.

(13) البخاري الصحيح، 1ر10.

(14) البحار، 68ر243.

(15) صحيح البخاري، 1ر16 كتاب الإيمان.

(16) جامع الأصول لابن الأثير، 1ر158 159.

(17) الإيجي: المواقف 388.

(18) قواعد المرام، 171.

(19) إرشاد الطالبين، 443.

(20) الكافي: 2ر285.

(21) الفصل 3ر247.

(22) اليواقيت والجواهر، 58.

(23) اليواقيت والجواهر، 58.

(24) المواقف، 392 394.

(25) شرح المقاصد 5ر227.

(26) رد المختار 4ر237.

(27) جامع الأصول 1 و10 11.

(28) مسند أحمد 187 188.

(29) كنز العمال 12ر892.

(30) كنز العمال 16ر86.

(31) السيرة النبوية، 2ر250.

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية العدد 25 (ديسمبر 2003)

الأكثر مشاركة في الفيس بوك