فضيلة الشيخ المقرئ أبو العينين شعيشع يقلّب صفحات ثمانين عاماً مع القرآن
فضيلة الشيخ المقرئ أبو العينين شعيشع يقلّب صفحات ثمانين عاماً مع القرآن
حوار/ المحرر الثقافي
حينما يكون ضيفك للحوار رجلاً ذا تجربة واسعة وحياة زاخرة وإمكانيات متميزة فإن الحوار معه يكتسب أهمية خاصة..
وحينما تكون هذه التجارب والخبرات والحياة الزاخرة بصحبة كلام الله حفظاً وقراءةً.. فإن الحوار يزداد أهمية وتشويقاً وفائدة..
إنه الشيخ المقرئ أبو العينين شعيشع أحد جيل المقرئين المتميزين، طاف الكثير من بلدان العالم، وحفظ القرآن في سن مبكرة.. وأطرى عليه الملك فيصل – رحمه الله – وكرّمته الدولة السعودية، وهو شيخ المقارئ المصرية.
استطعنا أن ننتزع منه الكثير من المعلومات القيّمة والنادرة وتستطلع المواقف الجميلة في حياة الشيخ شعيشع فلنتابعها عبر الحوار التالي:
غسيل الكعبة
* قمت بزيارات متعددة إلى المملكة العربيَّة السعوديَّة وأدَّيت فريضة الحج والعمرة فهلاَّ تقصّ علينا ذكريات هذه الرحلات؟
- أرض المملكة العربيَّة السعوديَّة من أحب بلاد الأرض إلى قلبي، وأشعر حينما أتوجه إليها بمدى حبي وعشقي لترابها، كيف لا وهي مهدُ الدَّعوة ومقرّ الحرمين الشريفين والبلد الذي أنفق الغالي والنفيس لخدمتهما، وخدمة والقرآن الكريم؟
وعلى مدى أكثر من 70 عاماً قمتُ بزيارة هذه البلاد المباركة عشرات المرات وأدَّيتُ فريضتي الحج والعمرة لسنوات كثيرة، وتشرفت بتسجيل القرآن كاملاً هناك، وقرأتُ القرآن في الحرمين لساعات طوال.
غير أنَّ الذكرى، أو بالأحرى القصة الغريبة التي لا تفارق مخيّلتي جرت أحداثها في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حينما كنتُ أسجّل القرآن في جدة وسمعتُ خبراً في الإذاعة السعوديَّة عن قيام العاهل السعودي الملك فيصل – رحمه الله – مصحوباً بعشرات من رؤساء الدول الإسلاميَّة بغسيل الكعبة، وهنا انتابتني رغبة ملحة في المشاركة في هذه المناسبة العظيمة، وأبلغتُ مرافقي بذلك غير أنَّه اعتذر بلطف بسبب الزحام وعدم وجود دعوة رسميَّة، وأبلغني بأنَّه سيجري اتصالات علّه يحصل على دعوة لي، وفجأة اختفى المرافق دون أن نعثر له على أثر.
أمل وانفراج
* هل اختفاء المرافق المفاجئ قد أحبط عزيمتك وجعلك تفقد الأمل في المشاركة في غسيل الكعبة؟
- لا، بل على العكس تماماً، فاختفاؤه المفاجئ لم يثبطْ من عزمي، حيث طلبت من السائق الخاص بي التوجُّه إلى مكة أملاً أن تتاح لي المشاركة في غسل الكعبة، وتحرَّكت السيارة إلى مكة وما إن اقتربَت من الحرم حتى فوجئت بزحامٍ شديد وإجراءات أمنية مشددة وقيود شديدة على العبور للحرم، إلا لمن يحمل دعوة ملكية، فما كان مني بعد أن تملكني اليأس إلا التوجه لأحد الفنادق القريبة من الحرم، وما إن تجاوزت الاستقبال حتى تنحَّيتُ جانباً ووعدتُ ربي أن يؤمّن لي سبيل المشاركة في غسل الكعبة، بحق ما أحفظه من القرآن، وهنا جاءت الانفراجة، فوسط بكائي الشديد على ضياع الفرصة فوجئت بشخصٍ لا أعرفه يربّت على كتفي ويخاطبني بالقول: أنت الشيخ أبو العينين شعيشع وتريد المشاركة في غسل الكعبة؟ فأجبت بالتأكيد، فما كان منه إلا أن سلَّمني دعوة لا تحمل أي اسم، وتسمح لي بدخول هذه البقعة العظيمة، وهنا لم أكذب خبراً، وتوجهت إلى المدخل الخاص بالضيوف وسمح لي بالدخول.
فرحة ودموع
* من المؤكَّد أنَّ رد فعلك على هذه الحادثة كانت على مستوى المناسبة التي كنت ترغب في المشاركة فيها؟
- دخلت الكعبة المشرفة والدموع تملأ عيني فرحاً بهذه النعمة التي أنعم الله بها علي، ولا أخفيك سرّاً أنني دخلت إلى جوف الكعبة قبل حضور الملك فيصل – رحمه الله – وأخذتُ أقبِّلُ كل ركن فيها تعبيراً عن شكري لله، بعد أن قيّض لي هذا الشخص المجهول الذي لم أتشرف بمقابلته مرة أخرى مردداً دعوات لهذا البلد المضياف أن ينعم عليه وعلى ولاة أمره بالتوفيق والسداد، وأن يبارك الله لهم على خدمتهم لعُمَّار بيته وللدعوة الإسلامية بشكلٍ عام.
* لكنك لم تُفصح بهذا السر لأحد لمدة طويلة، فما السبب؟
- بعد وصولي للقاهرة التقيت بالشيخ محمد متولي الشعراوي – رحمة الله عليه – وقصصتُ عليه ما حدث، فما كان منه إلا القول: “هذه نعمة أنعم الله بها عليك، فأرجو أن تلزم الصمت حيالها ولا تبلغ بها أحداً”، وهو ما استجبتُ إليه لسنواتٍ طوال، قبل أن أقرِّر البوح به تطبيقاً لتعاليم قرآننا الكريم {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى: 11]، وكأنني أقدّم درساً لشباب المسلمين بأهميَّة الاعتماد على الله وترك الأمور لمشيئته.
إطراء وتكريم
* هذا على مستوى غسل الكعبة، فما الخواطر والذكريات التي تحتفظ بها عن أرض المملكة؟
- لا يمكن أن أنسى حواراً كريماً دار بيني وبين الملك فيصل -رحمه الله- حينما خاطبني بالقول: أنت الشيخ أبو العينين شعيشع؟ وأسمعني إطراءً لم أسمعْه في حياتي عن إعجابه بقراءتي للقرآن حينما أكَّد لي (أنني أقرأ القرآن من قلبي) هذا سرّ تفوقي على أقراني، وهو ما اعتبرته وساماً على صدري، لدرجة أنني حينما قرأت أمام جلالته كأنني لم أقرأ القرآن من قبل، وهو ما كان مثار إعجابه لدرجة أنه أصدر قراراً عاجلاً بتكريمي ومنحني بعض الهدايا، تقديراً منه لخدمتي لكتاب الله.
* أكَّدت في أحد تصريحاتك أنك منعت مؤقتاً من قراءة القرآن في أحد مواسم الحج فهل تقص لنا هذه الواقعة؟
- في بداية الثمانينيَّات من القرن الماضي دعيت لأداء فريضة الحج من قبل الديوان الملكي السعودي وأثناء أداء الفريضة طالبني بعض الإخوة السعوديين والمصريين بقراءة ما يتيسر من القرآن، وما إن بدأت أقرأ الآية تلو الأخرى حتى بدأ الحجيج خصوصاً المصريين يصدرون أصواتاً عاليَة جدّاً وحركات قد لا تتناسب مع جلال المناسبة المباركة، وهنا طلب مني القائمون على البيت الحرام التوقُّف عن قراءة القرآن حتى يعود النظام إلى الحرم المكي، بل أخذوا تعهُّدات على الحجيج بعدم التمايل مع قراءتي للقرآن، وهو ما التزموا به نسبيّاً وانتهت الأزمة.
اعتذار مقبول
* تتلقى دعوات من الحكومة السعوديَّة سنويّاً لزيارة المملكة وأداء فريضة الحج والعمرة غير أنك تعتذر، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة؟
- هناك تقدير خاص من جانبي للمملكة العربيَّة السعوديَّة ملكاً وحكومةً وشعباً، فالمملكة من أكثر البلدان قرباً إلى قلبي، وكذلك حظيت فيها بتكريم كبير من جانب جميع ملوكها وقرأت القرآن في معظم مدنها، غير أنني ولعلك تعلم لم تعد لي القدرة على السفر وتلبية الدعوات الكريمة لتقدمي في السنّ وبلوغي أكثر من 88 عاماً، وهو ما يتفهمه الإخوة السعوديون ويقبلون اعتذاري.
* لا يمكن أن نكون بصحبة شيخ المقارئ المصريَّة دون أن نتطرَّق إلى قضيَّة مهمة تتمثَّل في ضعف أداء المقرئين الحاليين ونضوب المواهب بينهم بعكس الأجيال السابقة؟
- بالفعل هناك نضوب في المواهب وضعف عام يسود أغلب المجالات ولا يقتصر على قارئي القرآن فقط، وهذا يعود إلى حزمة من الأسباب أوَّلُها عدم حب القرآن لذاته واتخاذه وسيلة للكسب المالي فقط، ودائماً ما أنصح القراء الشباب بأن يحبوا القرآن لذاته، وهو ما سيجلب لهم الخير الوفير والرزق الكبير، لكنهم لا يستجيبون، وهو ما يبعد توفيق الله عنهم، للأسف طغى المال على كل شيء وأصبح الحصول عليه الهدف الوحيد، في حين أن هدفنا في الماضي كان حفظ القرآن وتلاوته لأنفسنا أولاً، والرسول [ يقول: “ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن”، ففي زماننا كان حب القرآن يفوق كل شيء، وكذلك لعب تراجع الصحة العامة لأغلب المقرئين الحاليين دوراً مهمّاً في هذا الهبوط، فمن نعمة الله أن أصحاب المدارس القرآنيَّة وعمداء دولة التلاوة مثل الشيخ رفعت والشعشاعي والمنشاوي كانوا يتناولون أغذية جيدة بعيدة عن أي تلوث يحدث حالياً بفعل استخدام الكيماويات بشكل مفرط في الزراعة، وكذلك خلود هؤلاء الأعلام للراحة بشكل منتظم، وهو ما وفَّر القدرة على الإجادة والإبداع والإتيان بما نطلق عليه “الجواب” بشكلٍ ميسور رغم صعوبته الشديدة، وكذلك لعبت التكنولوجيا الحديثة ومكبِّرات الصوت دوراً في إضعاف أصوات المقرئين، حيث لم يكلِّفوا أنفسهم عناء التدريب على القراءة بدون مكبرات، مما أدى لضعف أصواتهم.
الالتزام والراحة
* ما النصيحة التي تقدمها للمقرئين الجدد للحفاظ على أصواتهم لمدة طويلة؟
- هناك بعض النصائح التي يجب على المقرئين الجدد الالتزام بها إذا هم أرادوا الحفاظ على أصواتهم، منها عدم إرهاق صوتهم بالقراءة بشكل مستمر في العديد من المناسبات وإعطاء حناجرهم الفرصة كي تستريح، لا سيَّما أن استمرار القراءة لفترات طويلة يرهق الأحبال الصوتيَّة، ثانياً الاهتمام بالأكل ونوعيته المناسبة والابتعاد بشكلٍ كامل عن الأكلات الحريفة مثل الشطة والمخلّل، فضلاً عن قراءة القرآن بخشوع وتدبُّر كما كان أعلامنا مثل المنشاوي ومصطفى إسماعيل يفعلون والبعد عن الخيلاء والغرور.
* من المؤكَّد أن القارئ الجيد للقرآن الكريم لا بدَّ أن يتمتع بعدد من الصفات تؤهِّله للنجاح؟
- هناك مجموعة من الصفات يجب أن يتمتَّع بها كل مقرئ، منها الإخلاص في عمله وحب القرآن لذاته والتخلُّق بخلقه كونه يعد مثلاً أعلى وقدوة لغيره، فضلاً عن المحافظة على نفسه وصحته فضلاً عن قراءة القرآن بشكل منتظم يوميّاً وختمه في الأسبوع مرة على الأقل حتى يجنِّبه هذا أي مواقف محرِجة.
* تعرّض القرآن الكريم لمؤامرات عديدة ما النصيحة التي تقدِّمها للأمة الإسلاميَّة كي تسير في طريقها الصحيح؟
- منذ سنوات طوال وأنا لا أملّ من دعوة الدول الإسلاميَّة للعناية بكتاب الله عبر تحفيظ القرآن الكريم لأبنائها في مرحلة الطفولة، فالقرآن الكريم هو حجر الأساس في بناء النفس الإنسانيَّة، وإرساء معالم الشخصيَّة السويَّة، وأستطيع أن أجزم بأن الأمة لو استطاعت الحفاظ على كتاب ربها فسوف يحفظها الله من كل المؤامرات التي تُحاك ضدَّها.
نماذج ممتازة
* برزت خلال الأعوام الأخيرة مجموعة من القراء السعوديين للقرآن الكريم، فما تقييمك لتجربتهم؟
- تجربة القراء السعوديين للقرآن الكريم أكثر من رائعة تتمتع بنماذج ممتازة، لا سيَّما في مجال التلاوة، وهنا لا يجب أن نتجاهل الميزة التي أعطتها القراءة في الحرمين الشريفين لهم، فيكفي أن يدرك المستمع للقرآن أن مَن يستمع إليه من قراء الحرم حتى يشد انتباهه ويفضّله على من سواه، ولكنني أعتقد أن التفوق المصري ما زال مستمراً في مجال التجويد، وأن الاثنين يكملان بعضهما البعض في خدمة كتاب الله.
المصدر: http://www.aldaawah.com/?p=4918