العدل وأثره في الدعوة إلى الله
العدل وأثره في الدعوة إلى الله
إعداد: الدكتور حمزة بن سليمان بن راشد الطيار *
إن من الأخلاق التي تدل على سماحة الإسلام العدل، قال الراغب في المفردات: (والعدل: العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، والعدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخاً ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك، وكف الأذية عمّن كف أذاه عنك، وعدل يعرف كونه عدلاً بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخاً في بعض الأزمنة كالقصاص وأروش الجنايات، وأصل مال المرتد، والعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر).
وقال ابن حزم: (العدل هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، والعدل حصن يلجأ إليه كل خائف، وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم، إذا رأى من يريد ظلمه دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه ولا ترى أحداً يذم العدل فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين).
وقال الجرجاني: (العدل: الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط، والعدالة في الشريعة عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب مما هو محظور ديناً).
وقد دلت نصوص القرآن الكريم على أهمية العدل وفضله، وعلى ضرورة وجوده بين الناس ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 99].
قال الإمام القاسمي: (والعدل هو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم، وترك الظلم وإيصال كل ذي حق إلى حقه، وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية، ولما تليت هذه الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً، والآية لما فيها من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى صارت أجمع آية لاندراج ما ذكر فيها).
وقال الطاهر بن عاشور: (والعدل إعطاء الحق إلى صاحبه وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته، ومأمور بالعدل في المعاملة وهي معاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه، ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية، والمخالطة الاجتماعية، وذلك في الأقوال والأفعال ومن هذا تفرعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب وحقوق وأقضية وشهادات ومعاملة مع الأمم، ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة، فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة وهي بإجمالها مناسبة لأحوال المسلمين حين كانوا بمكة فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع، وما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية).
ومن آيات القرآن الكريم التي تحث على خلق العدل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } [النساء: 58]. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ “} [الأنعام: 152]. وقوله تعالى: {$(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9]. وفي الأمر بالعدل قال سبحانه وتعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) } [النساء: 135]. إلى غير ذلك من نصوص القرآن الكريم التي تأمر بالعدل وتحث عليه، أما في السنَّة النبوية المطهرة فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم بأنه: “كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة”.
وربط عدل الإنسان في الدنيا بمصيره في الآخرة، حيث يوضع الميزان ويحاسب الناس بالقسطاس المستقيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله قد خص أهل العدل في الدنيا بإعلاء شأنهم في الآخرة، وتقريبهم منه سبحانه كما في الحديث: “إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عزَّ وجلَّ، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”.
والأمة المسلمة لا يشفع لها إسلامها في استحقاق التأييد من الله إذا كانت ظالمة، فمن أسباب التمكين في الأرض والتأييد من الله أن يحال دون تفشي المظالم وأن يعم العدل حياة المسلمين.
ولذلك قال ابن تيمية: “إن الله يقيم الدولة العادلة وأن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام”.
وقد بيَّن الإسلام أن الجميع متساوون أمام قانون الكتاب والسنَّة، ولا بد من تنفيذه فيهم بدرجة واحدة من أدنى فرد في الدولة إلى القادة والحكام، وليس فيه موضع لمعاملة شخص ما معاملة مختلفة عن غيره وكما جاء في القرآن أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم لأن يعلن {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [الشورى: 15].
يعني إنني مأمور بالإنصاف دون عداوة فليس من شأني أن أتعصب لأحد أو ضد أحد، وعلاقتي بالناس كلهم سواء، وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصير من كان الحق ضده، وليس في ديني أي امتيازات لأي فرد كائناً من كان، وليس لأقاربي حقوق وللغرباء عندي حقوق أخرى ولا للاكابر عندي مميزات لا يحصل عليها الأصاغر، والشرفاء والوضعاء عندي سواء، فالحق حق للجميع، والذنب والجرم ذنب للجميع، والحرام حرام على الكل، والحلال حلال للكل والفرض فرض على الكل.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه”.
فالإسلام يدعو إلى العدل وذلك لأن العدل إذا وجد في المجتمع وجدت السماحة في الأخلاق والحرص على أن يأخذ الإنسان حقه ويعطي غيره حقه كاملاً، ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اشترى رجل من رجل عقاراً له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض، ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها قال: فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدقا”.
وفي الوقت الذي يأمرنا فيه الإسلام بالتسامح والاعتدال، ينهانا عن التشدد والغلو، والنصوص الإسلامية التي تدعو إلى الاعتدال كثيرة، والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من هذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير، إن إشاعة العدل بين الناس والعمل على ترسيخه في التعاملات الاجتماعية مما يؤكد على سماحة الإسلام وتأكيده على تحري العدل في سائر الأمور وبين الناس كافة، فالعدل في الإسلام ليس مقصوراً على المسلمين فحسب، بل إن الإسلام ليؤكد على أهمية العدل بين الناس جميعاً، وعلى عدم ظلم غير المسلمين، وتوخي العدل معهم، ولعل التاريخ قد سجل بأحرف من ذهب عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى مع غير المسلمين مما كان له الأثر الكبير في نشر الإسلام في أصقاع الأرض، حيث كان عمر رضي الله عنه لا يتردد في العدل والإنصاف للناس وإن كانوا غير مسلمين، فقد أنصف القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص، وأمر القبطي أن يضرب ابن عمرو بن العاص، وقال له اضرب ابن الأكرمين ثم قال قولته المشهورة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.
إن العدل بمفهومه الشامل الواسع من الأخلاق المهمة في الدعوة إلى الله تعالى لأنه يدل على سماحة الإسلام وبره وقسطه، وبالعدل ينطلق الدعاة إلى الله يبشرون الناس بدين الله، قال الإمام الماوردي: إن مما تصلح به حال الدنيا قاعدة العدل الشامل الذي يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال ويكبر معه النسل ويأمن به السلطان. وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور، لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل، والعدل أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم والأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل”.
وبالعدل ينتشر الإسلام بين الناس فقد قال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس لما سأله ما جاء بكم؟ قال: “ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى موعود الله قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي”.
والعدل من أركان الشريعة، ويستطيع الدعاة إلى الله من خلاله إبراز مقاصد الإسلام ومحاسن شريعته، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – “ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل، الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظلم الفاجر، فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها”.
وفي أهمية العدل يقول الشيخ الميداني: “إن ميزان العدل يزن قيم الأشياء وقيم الأعمال بالاستناد إلى قواعد الحق فمتى تساوت كفتا الميزان استقامت إشارة العدل، إن العدل عمل شديد الدقة يحتاج إلى بصر نافذ ومهارة فائقة وخبرة بالأشياء والأعمال، ومعرفة بقيمها الذاتية، وإلا اختل ميزان العدل وجار، وجنح صاحبه إلى ظلم كبير شنيع وقد نبهت نصوص الشريعة الإسلامية على ارتباط ميزان العدل بمقاييس الحق ولما كان العدل أحد فروع خلق حب الحق وإيثاره، وأثراً تطبيقياً من آثاره كان لا بد أن نجد الذين يحبون الحق ويؤثرونه قوماً متصفين بخلق العدل فأهل الإيمان الصادقين أهل عدل فإيمانهم به يدفعهم إلى إقامة العدل والحكم بالعدل والشهادة بالعدل ومعاملة الناس بالعدل والقول بالعدل والكتابة بالعدل إلى غير ذلك مما يدخل فيه العدل والجور”.
وإذا كان من سماحة الأخلاق في الإسلام العدل بين الناس، وإشاعة هذا الخلق العظيم، فإن الإسلام ينهى عن الغلو والتجاوز في الأمور، لا سيما في أمور الدين لأن الغلو يؤدي إلى عواقب وخيمة تؤدي إلى النفور من الدين، ويؤدي إلى عقبات كبيرة في طريق الدعوة إلى الله تعالى.
وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث الكريمة لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو ويخوف من مغبته، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلك المتنطعون”، قالها ثلاثاً، والمتنطعون هم المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، المتعصبون غير المتسامحين.
ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفصله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة التي خلق لها الإنسان.
* الأستاذ المشارك في قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
المصدر: http://www.aldaawah.com/?p=4722