الحقوق والواجبات أساس تطور الحضارات

الحقوق والواجبات أساس تطور الحضارات

الکاتب : د. حسن حنفي

التوازن بين الحقوق والواجبات هو أساس كل حضارة. الحق في مقابل الواجب، والواجب في مقابل الحق. الحق أخذ، والواجب عطاء. ولا أخذ بلا عطاء، ولا عطاء بلا أخذ.
ارتبط الحق إذن بالقانون وارتبط القانون بالحق أكثر من ارتباطه بالواجبات، فالحقوق في حاجة إلى دفاع. والواجبات إلزام خلقي فردي. الحق ينتزعه الانسان من المجتمع، والواجب يلتزم به الانسان من تلقاء نفسه. لذلك أنشئت كليات الحقوق للدفاع عن حقوق الانسان والمواطن في حين أن الواجبات جزء من علم الأخلاق.
لذلك نشأت مدرسة الحق الطبيعي من أجل تأسيس القانون عليه. فالحق في الطبيعة البشرية، حق الحياة والبقاء والمعرفة والحرية في القول والعمل والاعتقاد والحركة. فالحق مغروز في طبيعة البشر، وليس منحة أو منة من أحد. والواجب التزام أخلاقي ينبع أيضا من طبيعة الفرد وليس مفروضا عليه من الله، الواجبات الدينية مثل الحدود والكفارات، أو من الحاكم، الواجبات السياسية مثل الطاعة والالتزام بالقانون.
ومع ذلك فقد قيل عن الحضارة الاسلامية أنها عرفت الواجبات ولم تعرف الحقوق، وأن الحضارة الغربية ربما عرفت الحقوق ولم تعرف الواجبات. وبالرغم مما في كل تعميم من جور إلا أن الأفكار الشائعة المتداولة في الثقافة العامة قد يكون لها أبلغ الأثر في توجيه الرأي العام من الأحكام العلمية الدقيقة.
والحقيقة أن هذا حكم ظالم. فلا توجد حضارة إلا وعرفت الحقوق والواجبات. ولكن القضية هي إيجاد التوازن بينهما. وهذا التوازن لا يحدث تلقائيا بل يقع في سباق تاريخ وبجهد بشري. أحيانا تكون الحقوق موجودة بالقوة والواجبات موجودة بالفعل كما هو الحال في الحضارة الاسلامية. وأحيانا تكون الحقوق موجود بالفعل والواجبات موجودة بالقوة كما هو الحال في الحضارة الغربية. ويستعمل أنصار الحكم الأول أن الحضارة الاسلامية عرفت الواجبات دون الحقوق بحجة أن الله هو صاحب الحق وأن الانسان هو خلقه وأداته لتنفيذ الواجب. وقد وضح ذلك من عنوان كتاب محمد بن عبد الوهاب الشهير "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد". كما تستعمل بعض الحجج المعاصرة من طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ثقافتنا وممارساتنا السياسية، أن الحاكم له حقوق أكثر مما عليه من واجبات في حين أن المحكوم عليه واجبات أكثر مما له من حقوق، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم مثل العلاقة بين الله والانسان في التوازن بين الحقوق والواجبات.
كما يبرز في السلوك اليومي حق المواطن على غيره أكثر مما يبرز واجبه نحوه، يأخذ المواطن حقه من غيره وربما أكثر منه ولا يقوم بواجباته نحوه كرد فعل على سلب حقوقه وتكبيله بالواجبات على المستويين الديني والسياسي. فتنازع الأفراد في الحقوق مع بعضهم البعض وتركوا الواجبات تجاه بعضهم البعض.
وقد صاغ الأصوليون في مقاصد الشريعة الكلية حقوق الانسان، وهي الضروريات الخمس التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء. وهي مقاصد الشارع ذاتها وموجودة في الطبيعة الانسانية وفي واقع الناس وحياتهم. فهي حقوق طبيعية أتت الشريعة لتأكيدها. فالشريعة بهذا المعنى شريعة وضعية.
أولا: الدفاع عن الحياة والبقاء ضد الموت والاستئصال والذبح والتدمير. فحق الحياة حق طبيعي. وتتمثل الحياة في حياة النفس البشرية وحياة النبات والحيوان.
ثانياً: الدفاع عن العقل، فالحياة هي الحياة العاقلة. والعقل هو أساس التكليف. لذلك لا تكليف للصبي أو المجنون. والعقل هو الفهم والعلم والمعرفة. لذلك حق العلم حق طبيعي، والجهل ضد حق العلم. لذلك لزمت مجانية التعليم. فالعلم حق طبيعي، لا فرق فيه بين الأغنياء والفقراء.
ثالثاً: الدفاع عن الحقيقة الموضوعية العامة الثابتة التي سماها القدماء الدين أي الحقائق الانسانية العامة مثل عدم العدوان، والمساواة بين البشر، وحرية العبادة.
رابعا: الدفاع عن العرض والكرامة والأرض. فالعرض في الثقافة الشعبية هو الأرض أيضا. فالحياة ليست فقط قيمة في حد ذاتها أو حياة عاقلة قادرة على الدفاع عن الحق بل هي الحياة الكريمة. وتشمل الكرامة الأفراد والمجتمعات والأوطان بل وكرامة التاريخ حماية له من التشويش والتشويه المقصود.
خامسا: الدفاع عن الثروة والموارد الطبيعية ضد الاستغلال والاحتكار والنهب والتبذير والفقد والضياع والتدمير. وهو ما سماه القدماء المال بلغة المجتمع التجاري الأول. فالثروات الطبيعية في الأرض إنما هي قوام الحياة سخرها الله للبشر للانتفاع بها واستثمارها.
وفي القرآن الكريم لم يُذكر لفظ واجب إلا مرة واحدة في صيغة فعلية للحيوان (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها) (الحج/36) في حين ذكر لفظ الحق 287 مرة، منها وصف الله بأنه هو الحق 227 مرة. ويعني الحق الوجوب والضرورة. إذ يحق التدمير والعقاب على من تخلى عن واجباته. وكلمة الله حق بمعنى أنها واجبة (وكذلك حقت كلمة ربك) (غافر/ 66). والحق قانون طبيعي للكون ومظاهر الطبيعة (وأذنت لربها وحقت) (الإنشقاق/2).
فكيف بعد هذا كله يقال إن الحضارة الاسلامية عرفت الواجبات في شكل الحدود والكفارات وتطبيق الشريعة والحاكمية والايمان ولم تعرف الحقوق؟ الواجبات في الاسلام مستنبطة من الحقوق. والحقوق هي أساس الواجبات. ولا حرج في الدين، ولا ضررولا ضرار، وتُدرأ الحدود بالشبهات، ولا تكليف بما لا يطاق.
أما ما يقال عن الحضارة الغربية بأنها أعطت الحقوق ووازنت بين الحقوق والواجبات فإنه أقرب إلى الدعاية منه إلى الحقيقة. ويكشف عن إعجاب بالغرب وانبهار به أكثر مما يحلل وينقد، يبين ويكشف. صحيح أنه في الغرب، أثناء الثورة الفرنسية وبعد الحرب العالمية الأوربية الثانية صدر الإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن، وأصبح وثيقة للبشر جميعاً. وازدهرت الكتابات عند فلاسفة الغرب عن فلسفة الحق، وأصول الحق، ومبادىء الحق، والحق الطبيعي، والحق المدني، والحق الاجتماعي، والحق السياسي. ومع ذلك فهي حقوق فردية.
وما دامت الحقوق مرتبطة بالعرق والمركزية الأوربية فقد يخرج الشعب أوربي يدعى أنه مركز المركز، وجنس الأجناس، وعرق الأعراق، كما حدث أيام النازية عندما أصبحت المانيا فوق جميع الأجناس، الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين، وأصبحت كلمة العالمي تخفى أبشع أنواع المحلية والعرقية.
ضاع التوازن بين الحقوق والواجبات في الغرب، حقوق الأنا الغربي وواجبات تجاه الغير، وواجبات الغير ولا حقوق لهم تجاه الأنا الغربي، حقوق المركز تجاه المحيط دون واجبات عليه، وواجبات المحيط تجاه المركز ولا حقوق لهم.
المصدر : الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك