دعوة لإحباط مساعي الفتنة بين السنة والشيعة
دعوة لإحباط مساعي الفتنة بين السنة والشيعة
فهمي هويدي
أرى في الأفق بوادر فتنة تحاول احياء الشقاق بين السنة والشيعة، من خلال ممارسات ربما كانت حسنة النية وسليمة القصد في بداياتها، لكنها محفوفة بالمخاطر في مآلاتها. اتحدث عن التباين في مواقف السنة والشيعة في صدد الانتخابات العراقية، وعن سحب الشقاق بين الطرفين التي تتجمع في سماء بعض دول الخليج، وعن محاولات استعادة توترات علاقة الزيدية والشوافع في اليمن، اثر الزوبعة التي أثارها العلامة حسين الحوثي وانتهت بمقتله، وعن تطاول بعض الذين ينسبون أنفسهم الي الشيعة في مصر على بعض الصحابة ( عمرو بن العاص بوجه أخص ) ، اثر تورط أحد الكتاب في سبه والتحقير من شأنه.
لا أستطيع أن ادعي بأن يدا واحدة وراء كل هذه المشاهد، لكن بوسعي أن أقطع بأمرين، أولهما ان احياء الشقاق بمثابة لعب بالنار، ولا يخدم في النهاية سوى كل الذين لا يرجون خيرا للأمة ويتمنون لها كل مكروه، وثانيهما ان تلك المؤشرات موحية بأن الجسم العربي والاسلامي تراجعت مناعته وحصانته وعراه الوثقى، حتى أصبح يعاني بشدة من حالة القابلية للتفكيك التي هي من مقدمات السقوط.
ادري ان بعض وسائل الاعلام الساعية الى الاثارة لعبت حثيثا على مسألة الشيعة والسنة، واستدعت مرارات وأوجاعا طويت صفحتها، لتحقيق مرادها ذاك، ولم تحدث اللعبة أثرها نظرا لمحدودية الذين تلقوا الرسالة، خصوصا ان ذلك تم من خلال بث تلفزيوني صدر من لندن، لكنني لم أسترح كثيرا ولم أطمئن، حين قرأت ان قناة الحرة أعدت برنامجا عن مطالب الشيعة في منطقة الخليج، اشترك فيه ممثلون للشيعة في ثلاث دول هي : البحرين والسعودية والكويت.
لم أشاهد البرنامج الذي جرى بثه يوم الاثنين الماضي، ليس فقط لأنني معرض عن مشاهدة الحرة بسبب توجهاتها الاميركية الفجة، التي تفتقد الي الذكاء في العرض ، ( لاحظ كيف تدنت معاييرنا وهبطت سقوفنا وأصبحنا مستعدين للتعامل مع منبر اميركي شريطة ان يكون ذكيا، وكيف ان مأخذنا لم يعد منصبا على الأمركة، ولكن على الغباء في التعبير عنها !)، ولكن لان موعد بث البرنامج كان مساء الاثنين، في حين ان موعد تسليم هذه المقالة هو ظهر اليوم ذاته.
قلت انني لم استرح لتخصيص برنامج لمطالب الشيعة، لانه يقدمهم باعتبارهم كيانا خاصا مختلفا أو متميزا عن المجتمعات التي يعيشون فيها، وهم أهل السنة بطبيعة الحال. أما كوني لم أطمئن، فذلك راجع الى طبيعة المحطة التي بثت البرنامج، لأن أول سؤال يخطر على بال المرء حين يقع على الخبر هو : لماذا تعنى محطة اميركية المنشأ والتمويل والهوى، بملف الشيعة في هذه الظروف؟ ولست أتردد في القول إن الارتياب مشروع في هذه الحالة، باعتبار ان الأصل هو عدم البراءة في المبادرات الاميركية التي تخصنا، لأنها لن تخرج عن أحد احتمالين : خدمة المصالح الاميركية، أو خدمة الأطماع الاسرائيلية.
لا أستطيع وأنا أتابع مشاهد احياء التوترات الشيعية السنية ان أتجاهل الموقف الاسرائيلي من التمايزات الطائفية والعرقية الموجودة في العالم العربي، وهو موقف عبرت عنه شهادة أشرت إليها من قبل، أوردها أحد ضباط الاستخبارات السابقين، موشي قرحي، في كتاب عن اسرائيل وجنوب السودان، أصدره مركز ديان للأبحاث التابع لجامعة تل أبيب، وهو يشرح خلفيات مساندة اسرائيل للحركة الانفصالية في السودان، ذكر صاحبنا صراحة ان الاستراتيجية الاسرائيلية إزاء المنطقة تقوم على تشجيع وحث الاقليات في المنطقة للتعبير عن ذاتها، للحصول على حق تقرير المصير والانفصال عن الدولة الأم، والفكرة الكامنة وراء ذلك، هي التأكيد على ان المنطقة ليست كما يؤكد العرب وحدة ثقافية وحضارية واحدة، وإنما هي في حقيقة الأمر خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني، هي فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من اشكال التعدد اللغوي والديني والقومي، ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن واسرائيليين وأكراد وبهائيين، ودروز وبروتستانت وكاثوليك، وعلويين وشيعة وسنة وتركمان وصابئة... إلخ.
بالتالي ، والكلام لا يزال لضابط الاستخبارات الاسرائيلي ، فان المنطقة تعد رقعة واسعة تعيش فوقها أقليات عدة، لا يوجد تاريخ موحد بينها، ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة، والغاية من ذلك تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما : رفض مفهوم القومية العربية، والقضاء على فكرة الوحدة العربية، وثانيهما تبرير شرعية الوجود الاسرائيلي في المنطقة، إذ طالما انها تضم خليطا من القوميات، وثمة استحالة في اقامة وحدة بينها، فلماذا لا تكون لكل قومية دولتها الخاصة؟ وهو الاطار الذي يكسب اسرائيل شرعيتها، باعتبارها واحدة من تلك الدول القومية. أكرر انني لست بصدد الربط بين ما يثار بصدد وضع الشيعة في العالم العربي، ومثل هذه المخططات والتدابير، لكنني فقط أردت أن أنبه الى الاطراف التي يمكن أن تستفيد من التعامل غير الصحي وغير الرشيد مع الملف.
من حق أي أحد أن يسأل : هل يعني وجود مثل هذه المحاذير ان يغلق باب الحديث في موضوع، ويغلق الملف على ما فيه من جروح ومثالب؟ ردي الفوري هو النفي، لان تجاهل أي مشكلة ليس سبيلا الى حلها، وإنما هو مؤد الي تفاقمها لا ريب، ولكن اذا ما أردنا أن نتعامل بمسؤولية مع الملف الشيعي، فيتعين أن نتفق على أمرين، أولهما أن يكون الحديث في الأمر مع العقلاء والمعتدلين، وليس الغلاة والمتطرفين، وثانيهما ان تعالج القضايا العالقة من منظور اجتماعي وسياسي وليس طائفيا بحال.
قرأت كلاما طيبا في هذا الصدد للشيخ حسن الصفار، وهو من عقلاء علماء الشيعة، نشرته صحيفة «الوطن» الكويتية في 31 أكتوبر الماضي تحت عنوان دال هو : هموم الطائفة وهموم الأمة، كان التركيز الاساسي فيه على الدعوة الى اعطاء الأولوية لهموم الأمة وقضاياها الكبرى، والتحذير من الانشغال بالمشاكل الطائفية والفرعية، حتى لا تسعى الأطراف المختلفة الى احراز الانتصارات الداخلية على بعضها البعض، بينما تتنزل الأمة كلها الى هاوية الهزيمة النكراء في معركتها المصيرية.
قال الشيخ الصفار ان ذلك الموقف المبدئي الواعي هو نهج آل البيت، الذين كانوا ينطلقون من الحرص على وحدة الأمة، وإعلاء شأن الدين، وتفويت الفرصة على الاعداء الطامعين متجاوزين معاناتهم وآلامهم رغم قساوتها وفظاعتها، يقول الامام علي بن ابي طالب في ما روي عنه، متحدثا عن موقفه من الخلافة بعد رسول الله ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون الى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت ان لم انصر الاسلام وأهله، أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به على من فوت ولايتكم ، التي انما هي متاع ايام قلائل.
وهو يعلق على هذا الموقف قال : انطلاقا من هذه الرؤية المبدئية الرسالية، وقف الامام علي الى جانب الخلفاء الثلاثة، مشيرا وناصحا وداعما ومؤيدا لكل ما يخدم مصلحة الدين والأمة، وعلى ذات النهج كان قبول الامام الحسن للصلح مع معاوية، وكانت توجيهات الأئمة لشيعتهم وأتباعهم بأن ينتظموا في جماعة المسلمين، وان يحافظوا على مظاهر وحدة الأمة.
تحدث الشيخ الصفار عن خطاب جمال الدين الافغاني، باعث النهضة الاسلامية، الذي انطلق دائما من الغيرة على مصالح الامة بأسرها، من دون أن يشوبه أي لون مذهبي أو طائفي، وعن موقف شيعة العراق الذين عانوا من الاضطهاد في ظل الدولة العثمانية، لكنهم استعلوا فوق جراحهم ووقفوا الى جانبها ضد الاحتلال البريطاني، دفاعا عن الوطن، كما اشار الى موقف المقاومة الاسلامية في لبنان ووقوفها ضد الاحتلال الاسرائيلي، ثم قال : هذا هو المطلوب والمأمول من شيعة أهل البيت في كل أوطانهم، ان يتمثلوا نهج أئمتهم الهداة في حمل هموم الأمة وخدمة مصالحها العامة والعليا.
مثل هذا الخطاب ينبغي ان يكون محل حفاوة وترحيب، لانه يمد جسرا قويا يتيح لكل الاطراف الغيورة على مستقبل الوطن ان تلتقي عليه، وهو من هذه الزاوية يعد نموذجا لخطاب الاعتدال الذي ننشده، في التعامل مع الملف الشيعي أو غيره من الملفات.
اذا ما تنادي العقلاء للتعاطي مع الموضوع الذي نحن بصدده، وأتيح لهم ان يتحاوروا في شأنه بهدوء وروية، فسوف تتضح لهم ثلاثة أمور، الأول ان ثمة مشاكل للشيعة في العالم العربي لا سبيل الي انكارها، والثاني انهم ليسوا وحيدين في ذلك، وإنما لكل فئة مشاكلها، فالمسيحيون لهم مشاكلهم، والجماعات السياسية المعارضة بوجه أخص تعاني بدورها من المشاكل، وكذلك الجماعات العرقية المنتشرة في بعض الاقطار العربية. والأمر الثالث المهم هو ان مدخل المشاركة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وكرامته، هو الاساس في حل كل تلك المشاكل، إذ بالمشاركة الديمقراطية يدرك الجميع انهم ينتمون الى وطن واحد وينخرطون في نسيج واحد، وأنهم جميعا مسؤولون عن مصير الوطن وهمه العام، ذلك ان خبرة السنين علمتنا انه في غياب الديمقراطية والمشاركة تضيق مظلة الوطن، بحيث يتظلل بها المحتكرون والمنتفعون، وحين تضيق مظلة الوطن فان الناس يبحثون عن شيء آخر يستظلون به، قد يكون الطائفة أو العشيرة أو الحزب، من ثم فان الحل الناجع يكون باستعادة المظلة الكبيرة والواسعة التي تنتظم المواطنين جميعا، متجلية في المشاركة الديمقراطية.
الركيزة الثانية التي أشرت اليها متمثلة في احترام حقوق الانسان وكرامته، فمن شأنها تحقيق المساواة بين الجميع، بحيث يكون التفاضل بين المواطنين بقدر اخلاصهم للوطن وغيرتهم عليه واسهامهم في البناء وانجازهم فيه.
ان كثيرا من المشكلات الفئوية والطائفية ليس مصدرها في حقيقة الأمر اضطهادا لفئة أو أخرى، وإنما هي ناشئة عن تغييب دور المواطن العادي، بمعنى انها مشكلات يعاني منها المجتمع بأسره، ولكن كل فئة فيه تقرؤها من زاويتها الخاصة، بمعزل عن المنظور الكلي، فتسميها اضطهادا في حين انها أزمة مجتمعات بكاملها. ومن هنا فالعقلاء وحدهم هم الذين يستطيعون ادراك هذه الحقيقة، ليتهم يتنادون قبل أن يسبقهم المتطرفون والغلاة، ومن أسف، أنهم الأعلى صوتا والأسرع حركة. * فهمي هويدي : كاتب مصري
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط - 03/11/2004