التربية الدينية والنظام الغربي
التربية الدينية والنظام الغربي
د. بليغ حمدي إسماعيل
يهدف علماء التربية من هذا العلم التربوي والنفسي العميق أن يصلوا عن طريقه الى تحريك أحاسيس ومشاعر ووجدان الفرد تحريكًا مباشرًا يعكس في عالم الواقع سلوكًا إيجابيًا أو سلبيًا.
لكنهم حين استبعدوا الدين ابتداء كعامل مؤثر في هذه الجوانب، باءت محاولاتهم التربوية الكثيرة بالفشل ولم تصب الهدف.
و لعلماء التربية اليوم بما لا يدع مجالا لشك، أن العلم والنظريات والتحاليل النفسية وغيرها لا توصل إلى تحريك مباشر للوجدان أو الضمير، بقدر ما يكون الدين الأسلوب المباشر الناجح في تحريك تلك المشاعر لتنعكس على الواقع في شكل سلوك معين.
وهذه النتيجة التي توصلوا لها أو ينبغي أن يتوصل إليها كل التربويين ترجع إلى مسلمة وبديهية في التربية الإسلامية، ذلك أن الدين الصحيح يخاطب فطرة الإنسان بينما العلم والنظريات تخاطب العقل،
وفرق بين الخطابين كبير كبير، ولو قدر لعلماء التربية وصائغي ومخططي المناهج عندنا أن يفهموا هذه الجزئية، ويأخذوا بعد ذلك الدين كأسلوب تربوي سلوكي مباشر لتحقق نصر كبير بل لتحققت ثورة تربوية هادفة كتلك التي بدأها الإسلام من أول يوم واجه فيه الناس والواقع.
ولقد حان الوقت ليتخلص واضعو ومخططو المناهج التربوية وغيرهما عندنا من عقدة النقص تجاه كل ما هو وافد غربي من صالح الرأي أو فاسده، فينبغي أن نفهم قضيتنا التربوية الفهم السليم..
نفهم أن مادة التربية الدينية ليست مادة تخصصية لا تعني غير المهتمين بها.. ونفهم أن التربية الدينية تدخل كل مادة تعليمية، ونفهم أخيرًا أنها الأسلوب الوحيد المؤثر تأثيرًا مباشرًا في الوجدان والضمير والأحاسيس التأثير الذي ينعكس حركة إيجابية صالحة تبذر الخير وتجني السعادة والطمأنينة.
> وإذا لم نستطع التخلص من هذا الشعور بالنقص.. وكانت قناعة بني قومنا وجلدتنا وديننا أنهم لا يؤمنون برأي صواب إلا إذا كان وافدًا غربيًا..
فها هي آراء الغربيين تتفق وما نريد.. فالعالم التربوي الحجة في هذا التخصص «جيمس دوس» يدلي برأيه في هذه القضية فيقول «إن الدين شيء يؤثر قبل كل شيء في الشعور والإرادة وفي الوجدان والنزوع».
ويبين كيف أن مادة التربية الدينية ينبغي أن تكون صبغة المواد التعليمية كلها فيقول: «إن من السخرية حقًا أن نضع في الجدول المدرسي مادة اسمها الدين، ثم نغمض أعيننا في اطمئنان ونروح في سبات عميق، كأننا قد أدينا مهمتنا،
لا ينبغي أن نقنع بأن يكون الدين مادة الى جانب المواد الأخرى بل أن يكون روحًا فياضة في قوة وتوثب يطبع المنهج كله والحياة المدرسية والعمل المدرسي بجميع جوانبه ومجالاته بحيث تتهيأ الفرص الطبيعية المواتية لتلاميذنا حتى يشبوا وهم يقدمون خضوعهم وولاءهم لله من تلقاء أنفسهم وعن طيب خاطر».
وها هي لجنة السياسات التعليمية في الولايات المتحدة الأميركية تقرر وجوب تخلل القيم الخلقية والدينية جميع جوانب المنهج، وإدخالها في الحياة الكلية للمدرسة كجزء حيوي من أجزاء البرنامج المدرسي كله(1).
ومع أن أولئك القوم توصلوا إلى تشخيص دائهم التربوي إلا أنهم لم يستطيعوا حل قضيتهم ومازالت تلك القضية معلقة.. ولو أننا أخذنا تشخصيهم للمشكلة فلن نحار في حلها وبمنتهى السهولة والحيوية.
والسبب في هذا الاختلاف بسيط، ذلك أن الدين الذي يرونه قادرًا على تحريك الوجدان والأحاسيس لتغيير الواقع النفسي والحياتي غير موجود في دينهم المحرف كمنهج للحياة شامل متكامل يخاطب الفطرة الإنسانية مباشرة.
أما نحن فنملك ذلك المنهج المتكامل، نملك الإسلام، إسلام التربية، إسلام التوجيه، إسلام المنهج المتكامل، الإسلام الذي يحمل المؤهل الوحيد القادر على قيادة الناس وتربيتهم كما قاد حضارة الناس قرونًا متطاولة حقق فيها ما لم يتحقق من قبله ولا من بعده، وها هو...
مازال شامخًا يعرض نفسه كمخلص للناس مما هم فيه من هموم التربية وغيرها. فما علينا إلا أن نتناوله بعزة إيمانية كمنهج تربوي متكامل، يخاطب النفس والفطرة فيعدل السلوك.
ثم إن تبني النظام التربوي الغربي أو الشرقي يعكس شخصية مستقلة لها إطارها الفكري والعقائدي والتاريخي المستقل الذي يميزها عن سواها.
وشخصيتنا المسلمة لا يمكن أن تنمو وتتبلور في إطار من تلك الأطر، لأن لها فكرها وعقيدتها وتاريخها، وإذا لم نرد إلا الانتساب لتلك النظم التربوية فلن نكون إلا واحدًا من اثنين. اما مقلدين تقليدًا محضًا وحينئذ يذوب ما لنا من فكر وعقيدة وتاريخ.
وإما أن نكون بين بين، نأخذ من زادهم جزءًا ومن زادنا جزءًا آخر، فنكون شخصية مزدوجة منفصمة إلى اتجاهين، وليست مدركة ولا مستفيدة من أحدهما.
وفي ظني أننا الى الصنف الثاني أقرب من الأول، وما يعايشه ويعانيه شبابنا اليوم من التذبذب واللاانتماء، مرجعه هذا الخلط المتنافر في تركيبتنا التربوية.
فالأقسام الأدبية في مدارسنا وجامعاتنا محشوة بكثير من الأفكار الغثة والشاذة والفلسفات المادية الهابطة، وتقدم هذه البضاعة على أنها بضاعة المجتمع المتقدم الراقي الذي يتصدر حضارة هذه الأرض اليوم، وواقع الناس كلهم يشهد له بذلك.
والى جانب هذا الزخم كله تعرض بضاعة الاسلام في أطر خانقة تجعل وجودها وعدمها سواء- إلى حد ما - فلا المساحة التي أعطيت لها كافية لاستعراض ما تحمله من عقيدة وفكر وتاريخ، ولم ينتصب لتدريسها القدوة المؤثرة، ولم تجد لها في واقع المجتمع حيزًا من التطبيق يساندها ويؤازرها.
هذا كله كفيل بإسدال الستار على فاعلية المنهج التربوي الإسلامي، ومع هذا كله نجد نفوس الشباب تواقة وبحماس حار لأن تسمع هذا الإسلام... تسمع هذا الغريب... لا لشيء إلا لأنه يخاطب فطرهم وأحاسيسهم خطاب العليم الخبير.
والأقسام العلمية أيضًا محتاجة منا الى نظرة، فهي ليست محشوة بباطل من الأفكار والتصورات، ولكنها وضعت في اطار تجريدي خالص، يجعل منها دائرة منفصلة عن أي رابطة أو صلة إيمانية تربوية، وإذا كان هذا مستساغًا عند الغرب فبحجة الفصل بين العلم والدين ونتيجة الحرب بين رواد الحضارة الحديثة والكنيسة.
أما نحن المسلمين فالحجة علينا لا لنا.
فالدراسات العلمية التقنية أقرب طريق وأعمقه للإيمان، لأن الشاب يعاين القدرة الإلهية ويلمسها حية فيما يراه بعينه ويقلبه بيده، ويسجل مقاماتها ونتائجها، ولا تحتاج القضية سوى من يربط بين هذا العلم المشاهد وبين الإيمان بالخالق المبدع الذي يرجع اليه الأمر كله، هذا الربط هو أخطر وأهم ما في القضية، فهو كفيل بصياغة إيمانية عميقة لهذا الشباب، إنه كفيل بجعل المعمل أو المصنع معملا ومصنعًا للمواد والرجال والنساء، الذين يحملون هذه العلوم ونتائجها بعزة إيمانية خلاقة مبدعة مبتكرة.
ولا يكفينا هنا الأستاذ المؤمن فحسب، فإننا نريده قادرا على هذا الربط والبرهنة، وهذا باب من الثقافة التربوية عميق الأثر، يطل على كنوز إيمانية علمية زاخرة مستمرة لا تنفد، بل لا نبالغ إن قلنا ان هذا الربط بمثابة تحويل دفة الحضارة اليوم من مادية جافة إلى إيمانية حية.
ولذلك نرى القرآن الكريم يطلب هذا العلم ويلح في طلبه، ويطلب معه هذا الربط ويلح في طلبه: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض...} (يونس: 101). {فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا الماء صبًا...} (عبس: 24 -25). {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها...}(ق: 6).
وغير ذلك من الآيات لا يحصر، تلاحظ فيه هذا العلم المطلوب وذلك الربط بمصدر العلوم والحياة.
فمطلوب النظر الى الطعام وما فيه من عجائب ودقائق في تركيبه ومع ذلك لا ننسى مصدر ذلك «أنا صببنا...» ومطلوب النظر والتفكر في السماء وما فيها ومحاولة معرفة كل ما يتصل بها من مدارك وعلوم، وفي نفس الوقت لا ننسى من أوجدها على هذه الشاكلة «كيف بنيناها وزيناها...» وهكذا منهج القرآن من أوله إلى آخره.
وكم هو جميل أن نستفيد من نماذج هذا الربط من مثل كتاب «الإنسان ذلك المجهول» للدكتور ألكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل عام 1912، وكتاب «العلم يدعو للإيمان» للأستاذ كريس موريسون، وكتاب «الله يتجلى في عصر العلم» لنخبة من العلماء وكتاب «مع الله في السماء» للدكتور أحمد زكي، وغير ذلك كثير...
إن قضيتنا في هذا الصدد - باختصار - تكمن في أننا ربطنا باطل الغرب بتقدمه وحضارته، والأولى أن نربط علم الغرب بتقدمه وحضارته، فنقلدهم في علمهم وندع باطلهم.
حان الوقت ليتخلص واضعو المناهج عندنا من عقدة النقص تجاه كل ما هو وافد غربي
المصدر: http://almisk.net/ar/article.php?id=5833