قراءة في تجربة التسامح والاستيعاب
قراءة في تجربة التسامح والاستيعاب
حسن سلهب
شكلت تجربة الرسول في استيعاب أصحابه، على الرغم من تردد بعضهم وأخطائهم وأحياناً نفاق البعض، مجالاً خصباً للتأمل والبحث، حيث قدَّم (ص) أطروحة مختلفة وجديدة في موضوع العلاقات الداخلية، تبدو لنا كما بدت في زمانها مستغربة بعض الشيء، خصوصاً إذا ما توقفنا عند بعض المحطات التي من شأنها إثارة المحذور الشرعي أو الأمني، وربما الفكري، كما نفهمه ونقيس عليه اليوم. وهدفنا من طرح هذه الأمور في هذه الفترة وغيرها توجيه الأنظار نحو مجالات أوسع في تحديد الداخل الإسلامي، وفق معايير مستنبطة من معطيات السيرة النبوية التي تشكل مصدراً كافياً في هذا المجال. ولعل موضوع ترسيخ الوحدة والتماسك الداخلي أول ما يسترعي الانتباه لدى مراجعة سيرته (ص) في التعاطي مع أصحابه، حتى لكأننا أمام معيارٍ لا يماثله معيار أو يتقدَّم عليه.
فقد عاش الرسول مع أصحابه في أجواء مفعمة بالود الحقيقي والصدقية الساطعة دفعت بأبي سفيان، وهو في ذروة عداوته للرسول والمسلمين، لإبداء إعجابه الشديد بذلك في قوله: «... ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حباً من أصحاب محمد بمحمد»(1).
والملفت في هذا المجال أن هذا النمط من العلاقة قد طغى على مجمل علاقاته (ص) مع سائر أصحابه، أو من اعتنق الإسلام عموماً، فلم تورد المصادر التي بين أيدينا أنه (ص) قد بادر لإخراج أحد من المسلمين أو إحراجه، فضلاً عن حرمانهم أو أذيتهم أو ما شابه ذلك، مجسداً بذلك منطوق الاية القرانية (... محمد رسول اللَّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح: 29) وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في سورة ال عمران مخاطباً رسوله:
(فبما رحمة من اللَّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك...) (ال عمران: 159).
وإذا كان الاستمرار بذلك وتطويره أمراً قائماً فالخطوات المطلوبة في هذا المجال كما نتابع الاية نفسها (... فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
وقد كان الرسول (ص) ملتزماً هذا النهج إلى أبعد الحدود، وكثيراً ما كان يردّد العبارات التي تشير إلى رفضه الشديد ازعاج أصحابه أو محاسبتهم حتى في المواقف الحرجة التي تسببوا فيها. ينقل الطبرسي في كتابه «إعلام الورى بأعلام الهدى» أنه في أعقاب عودة الرسول (ص) من تَبُوك تحسس نية مجموعة من أصحابه في قتله فلم يبادر (ص) إلى تغيير طريقه مكتفياً بالتشديد على مرافقيه (حذيفة بن اليمان، عمار بن ياسر) في وجوب متابعة الطريق. وبعد إخفاق هذه المجموعة يكشف الرسول لصاحبيه ما جرى، الأمر الذي دفعهما لسؤاله عن سبب امتناعه عن قتلهم فأجابهم على عادته الشريفة في مثل هذه المواقف «... أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه»(2) وتنتهي الرواية بأن سمَّى الرسول أفراد هذه المجموعة أمام مرافقيه طالباً منهما كتمان ذلك.
وفي موقف اخر له (ص) زاخر بالعطف النبوي العميق ينقل الواقدي في مغازيه جدالاً جرى بين صحابيين هما: عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد، في أعقاب سرية الأخيرة إلى بني جذيمة حيث كان الرسول منزعجاً مما صارت إليه هذه السرية، وقد تناهى إليه (ص) هذا الجدال فالتفت إلى ابن الوليد، الذي مضى وقت قصير على دخوله الإسلام، قائلاً: «... ذروا لي أصحابي! متى ينْك أنفُ المرء ينْك»(3) في إشارة لمكانة عبد الرحمن بن عوف وصحبته وجهاده في الإسلام ضمن الرعيل الأول. كما يظهر فقد وصف الرسول أصحابه بالمكان العزيز من الإنسان «أنف المرء» ومحل العنفوان والقوة فيه. قد يكون موقف الرسول من أصحابه المنخرطين بقوة في رسالته واضحاً ومفهوماً وهو تفاعل طبيعي في كل الأحوال، لكن ما يثير المتابع أن هذا الموقف المتسامح لم يقتصر على هذا النوع من الأصحاب بل تعدَّاه في بعض الأحيان إلى نوع اخر لم يبادل الرسول طريقته هذه بل ربما شكل عقبة فعليه أمام نمو الإسلام وانتشار دعوته.
الرسول وتجربة التسامح: نموذج عبد اللَّه بن أُبي
ولعل سيرة الرسول مع عبد اللَّه بن أُبي «رأس المنافقين»(4) تعد من أكثر تجاربه دلالة على هذا المضمون الايجابي الذي كان يحكم علاقته (ص) بأصحابه.
يظهر عبد اللَّه بن أُبي لأول مرة في السيرة النبوية ضمن وفد المدينة الذي بايع الرسول في العقبة الثانية، من دون أن يكون له دور فاعل، أو موقف واضح في هذه البيعة، بل يُستوحى من إجابته للوفد القرشي الذي جاء يتهدَّد المبايعين، أن ابن أُبي كان خارج دائرة التواصل المباشر مع الرسول (ص).
لا تفصّل الروايات حدث دخول هذا الزعيم الخزرجي في الإسلام، لكن من الواضح أنه كان في عداد الخزرج الذين اعتنقوا الإسلام بطريقة سريعة، خلال الفترة الأولى من هجرة الرسول إلى المدينة. تجدر الإشارة هنا أن دخول ابن أُبي في الإسلام كان على درجة عالية من الأهمية خصوصاً إذا ما توقفنا عند الروايات التي تشير إلى أن الأوس والخزرج كانوا على وشك إعلانه زعيماً واحداً لهم، بعد سلسلة من الحروب الدموية بينهما. لكن مجيء الرسول إلى المدينة أدخل الجميع في مرحلة جديدة وتم تجاوز هذه الزعامة بصورة نهائية، الأمر الذي سيكون له الأثر الكبير على سلوك ابن أُبي مع الرسول بعد ذلك.
بعد دخول ابن أُبي الإسلام لا تذكر المصادر شيئاً عن أخباره في غزوة بدر وهي أول غزوة شارك فيها الأنصار، علماً أن هذا الزعيم الخزرجي كان يتمتع بقوة عددية ملحوظة في ذلك الوقت.
بعد هزيمة بني قينقاع (القبيلة اليهودية في المدينة) برز عبد اللَّه بن أُبي في موقفه المعارض للرسول من محاسبة هذه القبيلة التي شكلت خطراً على المسلمين بعد بدر، وقد نقل المؤرخون هذا الاعتراض حيث قال ابن أُبي: «يا رسول اللَّه مواليَّ وخلفائي وقد منعوني من الأسود والأحمر ثلاثماية دارع وأربعماية حاسر تحصدهم في غداة واحدة أي واللَّه لا امن وأخشى الدوائر»(5) وتنتهي الرواية بإصرار ابن أُبي على العفو عنهم، وهو ما حصل عليه في النهاية. أما في غزوة بني النضير فقد حاول ابن أُبي استباق الموقف بأن شجع قادة القبيلة على الحرب ووعدهم المساعدة والدعم بألفين من قومه وغيرهم من العرب، إلا أنه لم يفِ لهم بذلك وقد تركهم يواجهون مصيرهم دون أن يتمكن من التأثير على حكم الرسول فيهم، وقد كان لهزيمة اليهود في المدينة بعد غزوة بني قريظة أثراً كبيراً على حركة زعيم الخزرج الذي فقد برحيلهم جزءاً مهمّاً من رصيده في الزعامة التي ما فتئت تبتعد عنه مع مرور الأيام.
ولم يقصر ابن أُبي معارضته للرسول على اليهود، فقد تراجع عن المشاركة في غزوة أحد في اللحظة الأخيرة مكتفياً بقناعته في ضرورة محاربة قريش من المدينة، تاركاً الرسول والمسلمين معه يواجهون تحدياً قاسياً في تلك الفترة الصعبة من الصراع مع قريش، ولم يتوقف ابن أُبي عن تهديده للجماعة الإسلامية وإضعاف موقفها عند هذا الحد، فقد أثار فتنة شديدة بين المهاجرين والأنصار في غزوة المريسيع (أو بني المصطلق) في السنة الخامسة للهجرة كادت أن تؤدّي بتماسكهم ووحدتهم لولا سرعة تدخل الرسول وبراعته في صرف الأمور باتجاه اخر، وقد خلّد القران الكريم تهديد ابن أُبي للرسول في سورة «المنافقون» حيث ذكر مقالته: «... لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزِّ منها الأذل...» (المنافقون: 8).
أثار المسلمين نزول قران في موقف ابن أُبي بهذه الطريقة، وقد شاع بينهم أن الرسول عازم على قتله، الأمر الذي دفع بابن عبد اللَّه بن أُبي للإعراب عن استعداده أمام الرسول في قتل أبيه، إلا أن الرسول منعه من ذلك بقوله: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا»(6) أو كما نقل ابن سعد: «دعه فلعمري لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا»(7) ربما كان تصرف ابن أُبي في غزوة المريسيع بمثابة المحاولة الأخيرة للتعبير عن همومه وهواجسه، حيث أننا لم نعثر في المصادر على موقف اخر له في هذا المستوى من الخطورة، أما عن عدم مشاركته في غزوة تبوك فلا يعدو كونه مؤشراً على خمود همته التي لم تكن يوماً في مستوى الظروف والتحديات القائمة. وقد توفي ابن أُبي في السنة التاسعة للهجرة وبعد قليل من عودة المسلمين من تبوك.
تنقل المصادر(8) أن الرسول كان يعود عبد اللَّه بن أُبي في أيام مرضه، وقد حضر غسله وتكفينه، كما صلى عليه، وقد أفرد الواقدي تفاصيل مثيرة بين الرسول وزعيم المنافقين في لحظات حياته الأخيرة، حيث قدم الرسول قميصه الذي يلي جلده كفناً لابن أُبي، وغير ذلك من العبارات والإجراءات التي تعكس ايجابية الرسول التي لا تتأثر بالدور السلبي الذي كان عليه ابن أُبي منذ الهجرة.
ما تقدم موجز سريع عن تجربة الرسول مع أحد «أصحابه» الذي ما أنفك أمره ملتبساً حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
من الصعب فهم ايجابية الرسول هذه المدة الطويلة، على ضوء ما يستحقه هذا المنافق بالمعيار الشرعي الخاص كذلك من غير الموضوعية الاعتقاد بأن الرسول في وارد تمرير الوقت تمهيداً للانقضاض على صاحبه المتمرد في اللحظة المناسبة.
قد يكون لمكانة ابن أُبي في قومه، وحجم القوة التي كان يمثلها مع أنصاره، الذين شكلوا ثلث مجموع أصحاب الرسول في أكثر من مناسبة، قد يكون لذلك دوره في موقف الرسول التسامحي والاستيعابي لكن من الصعب الاعتقاد بأن الرسول كان يتهيب صاحبه هذا أو يحذره إلى هذا الحد.
ثم إن الرسول قد تجاوز بإيجابيته هذه حياة ابن أُبي، وكل ما يمكن أن يكون مطلوباً بعد وفاته من غير تردد، فقد نُقِل عنه (ص) بأنه خُيِّر في الصلاة عليه فاختارها، وأنه لو يعلم أن زيادة الاستغفار لصاحبه، عن السبعين مرة، تفيده لزاد، وذلك بعد نزول الاية: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللَّه لهم» (التوبة: 80) وفي رواية أخرى أن الرسول قال: «سأزيد على السبعين»(9).
نخلص مما تقدَّم بأن الرسول لم يجد في كل هذا التمرد خروجاً فعليّاً عن الإسلام، وأن هذا الدين الجديد يتسع لمثل هؤلاء، طالما خضعوا لعنوانه العام، وأن إمكانية تطوير أوضاعهم نحو الأفضل واردة ضمن التفاعل الداخلي، على أن مردود المواجهة معهم، مهما كانت حاسمة، لن يكون متناسباً مع الكلفة المدفوعة من حساب التماسك والوحدة الداخلية راهناً أو في المستقبل، بالإضافة إلى ذلك إن التمييز بين الديني والسياسي في مواقف ابن أُبي وغيره، في مثل هذه الأمور، وفي تلك الفترة تحديداً، ليس أمراً واقعيّاً، ولا يبعد أن يكون اعتناق الإسلام لدى الكثيرين زمن الرسول على طريقة الانتماء السياسي في زمننا الحاضر، مع مسحة روحية خاصة، ولذلك ليس بعيداً أيضاً اطلاق صفة المعارضة السياسية، بمعنى من المعاني، على حركة ابن أُبي على الأقل، وفق فهمه المحدود للدين ودور الرسول فيه، كما يرى صاحب كتاب الأنصار والرسول(10).
الرسول والأنصار: تجربة الاستيعاب
مع الفارق الكبير والنوعي بين التجربتين (المنافقين، الأنصار) إلا أنهما تشتركان في صميم الرسول على تطوير الأوضاع الداخلية في المجتمع الإسلامي الأول إلى أقصى درجاتها المتاحة، إن المتابع للعلاقة بين الرسول من جهة والأوس والخزرج من جهة ثانية يمس بوضوح هذا الانسياب السريع الذي سيطر على تطور هذه العلاقة منذ البداية.
ففي لقاء العقبة الأولى عرض الرسول الإسلام على (مجموعة من الخزرج حيث تضمنت البيعة الامتناع عن أمور محدَّدة: «... على أن لا نشرك باللَّه شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف...»(11).
ثم حدث لقاء العقبة الثاني بعد عام حيث أضيف على مضمون البيعة الأولى بند جديد: «... أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم...»(12) وهو نوع من التعاهد شكل تمهيداً للهجرة بعد وقت قصير.
صحيحٌ أن قبيلتَيْ الأوس والخزرج كانتا في ظروف صعبة اضطرتا معها للتجارب مع عرض فيه أمل الاستقرار بعد صراعات دموية بينهما، وصحيحٌ أيضاً أنهما كانتا في وضعية متدنية مقارنة باليهود، كأصحاب كتاب، وهو عنصر ضعف حاولتا الخروج منه باستقبال الرسول (ص) لكن لن يكفي ذلك في تفسير هذا الاقبال السريع على الإسلام، من دون التوقف عند المهارة الاستيعابية التي تجلت في سلوك الرسول، فضلاً عن جاذبية الدين الجديد الذي يخاطب الطبيعة الإنسانية في الصميم.
كانت العلاقة بين المهاجرين والأنصار وتطويرها أول ما اهتم به الرسول فور وصوله إلى المدينة عند الهجرة حيث عقد بين الفريقين رابطة الأخوة أو ما عُرف ب«المؤاخاة» استدراكاً للتوقعات المقبلة، وتوخياً لمزيد من التماسك والاستقرار الداخلي.
وإذا ما باشر الرسول سياسة الضغط على القوافل القريشية بعد أشهر من الهجرة، فقد أُعفي الأنصار من المشاركة في السرايا والغزوات الأولى التي تمت قبل غزوة بدر، حتى إذا جاءت غزوة بدر وأراد الرسول، بأسلوب مفعم بالتقدير والاحترام، الوقوف على رأي الأنصار من المشاركة فيها. تلقى مجموعة من المواقف عبَّرت عن تطور في إنخراط هذه المجموعة تجاوز التوقعات. «فامض يا نبي اللَّه لما أردت فَوَالّذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي رجلٌ واحد»(13) وفق ما نُقل عن لسان الصحابي سعد بن معاذ. ومعروفٌ أن غزوة بدر كانت في الأصل مبادرة من المسلمين في إطار سياسة الضغط على قريش، ما يعني أنها خارج مضمون البيعة الثانية في ما يتعلق بحماية الرسول، وهو أمر إن دلّ على شيء إنما يدل على هذا التفاعل السريع لمسلمي المدينة مع الإسلام بالإضافة إلى مهارة الرسول وقدرته على التأثير فيهم، شكلت المواجهة مع اليهود اختباراً حقيقيّاً لمسلمي المدينة، الذين كانوا مرتبطين مع اليهود بنوع من التحالف لا يسهل الخروج منه عادة وإذ أدرك الرسول ذلك فقد تأنَّى في مواقفه وتمهّل ريثما يخرج أصحابه من ارتباطاتهم القديمة بغير إحراج أو انشقاق في صفوفهم، فاكتفى بجلاء بني القينقاع والنضير عن المدينة بعد هزيمتهما حتى إذا هزم بني قريظة فوَّض أحد الأنصار «سعد بن معاذ»، وزعيم الأوس، التقرير بمصير هذه القبيلة اليهودية المرتبطة مع الأوس بحلف سابق، وقد أسهم هذا التفويض فعلاً في تقبُّل الأوس مصير قريظة على قساوته، وهكذا خرجت الجماعة الإسلامية من اختبارها الصعب متضامنة ومتماسكة. على أن العلاقة بين المهاجرين والأنصار ظلَّت خاضعة لتأثيرات الظروف وحركة النفاق، كما رأينا في غزوة المريسيع، وربما كان مستقبل الصراع مع قريش من أبرز العوامل المؤثرة في نظرة الأنصار لأنفسهم وللمهاجرين وقد برز ذلك باكراً على لسان أحد الأنصار في بيعة العقبة الثانية حيث خاطب الرسول بقوله: «... فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللَّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا»(14). وبالفعل، أخذت هواجس الأنصار تنمو مع تطور الصراع مع قريش، حتى إذا ما تم فتح مكة وبالطريقة السلمية تلك شعر هؤلاء بنوعٍ من التحول في مكانتهم حتى إذا تم توزيع غنائم حنين، وقد استثنوا من ذلك، عبّروا بوضوح عن تلك الهواجس، الأمر الذي دفع الرسول إلى عقد اجتماع خاص بهم، حيث ذكَّرهم بدورهم في الإسلام مثنياً عليهم ثم خاطبهم بكلمته المشهورة: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول اللَّه إلى رحالكم...»(15)، وأرفق ذلك عبارات تقطر حبّاً لهم، ودعاء بالرحمة لهم، ولأبنائهم وأحفادهم، في مشهد أبكى الجميع حتى إخضلّت لِحَاههم، الأمر الذي دفعهم إلى أن قالوا: «رضينا برسول اللَّه قسماً وحظاً»(16).
مرة جديدة تجلَّت مهارة الرسول الاستيعابية(17)، والصدق هو ما يميِّزها ويقويّها على الدوام. مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الموقف النبوي الشهير في مصلحة الأنصار، إلا أن هواجسهم التي بدت لهم في أول الطريق، لم تكن وهمية تماماً، بل كانت على شيء من الحقيقة وهذا ما أظهرته الأيام بعد وفاة الرسول ووصول الأمويين للخلافة. في كل الأحوال لا يزال موقف الأنصار من الدين الجديد وسرعة انتشاره في صفوفهم، ومن ثم استعدادهم المميز لبذل كل ما لديهم في سبيله، بحاجة إلى البحث والتأمل.
الرسول وأصحابه: تجارب مختلفة
ما تقدَّم هو عينة من تجارب الرسول في التسامح والاستيعاب، وقد ورد في السيرة نماذج أخرى في هذا المجال لمجموعة من الصحابة نالت حظّاً وافراً من تسامح الرسول وتجاوزه، وبعضها انتقل بسرعة مثيرة من كونه غازياً على المسلمين، إلى دور قيادي في سراياهم، أمثال عيينة بن حصن الفزاري الذي شغب على الرسول والمسلمين حتى تعب، وفي مواقع عديدة، أخطرها في الخندق، حيث شكل مع اليهود وقريش خطراً حقيقيّاً على التجربة الإسلامية برمتها، لكنه وبعد وقت قصير برز في قيادة إحدى السرايا للرسول التي أُرسلت لبعض القبائل العربية في نجد، هذه القبائل التي كان عُيَيْنَة رمزاً من رموزها في تلك الفترة، ولم يكن انتماء عُيَيْنة بن حصن للإسلام كما يُرجى، فقد برزت مواقف له، فيما بعد وخصوصاً بعد فتح مكة دلت على الطابع السياسي لدخوله الإسلام، كذلك الصحابي كرز بن جابر الفهري الذي كان على رأس أول غزوة قبلية على المسلمين، حيث أصبح فيما بعد من قادة السرايا وقد استشهد مع صحابي اخر أثناء فتح مكة.
ويبقى موقف الرسول من زعماء قريش بعد فتح مكة نموذجاً رياديّاً في التسامح والاستيعاب حيث تحَّول هؤلاء، بصورة تبعث على الدهشة والاستغراب، إلى صفوف المسلمين من دون أن يفقدوا كثيراً من مكانتهم السابقة حيث أدخلهم الرسول تحت عنوان: «المؤلفة قلوبهم» لينالوا حظّاً وافراً من غنائم حُنَيْن، إلى جانب نيلهم العفو التاريخي الذي شكل سابقة في تاريخ الإنسانية ولا يزال.
أخيراً تطرح تجربة الرسول في التسامح والاستيعاب قضايا جوهرية في التعاطي الإسلامي الداخلي، ما يبعث على التساؤل حول أسباب غياب المعايير التي اعتمدها الرسول عن علاقاتنا الداخلية واستبدالها بمعايير أخرى تحت عناوين مختلفة، تجعل حدود الإسلام وفقاً لتصورات ومحاذير بعيدة عن قيم التسامح والاستيعاب، قريبة من قيم التصنيف والتمييز.
إن المجتمعات في التاريخ متنوعة، بقدر ما هي موجودة، وأنماط الناس محكومة بالتعدُّد حتى في أضيق الأطر وأشدها تجانساً، وقضية التطوُّر هي قضية تفاعل داخلي في النهاية، وليست تفاعلاً داخليّاً خارجيّاً لا سيما في إطار الأمة الإسلامية الواحدة.
إن قبول الاخر بشروط هو حرمانٌ من التعارف الذي هو دأْبُ المجتمعات في التاريخ (... وجعلناكم شعوباً وقَبائِلَ لِتَعارفوا) (الحجرات: 13) والقدرة على التسامح والاستيعاب، مع الحفاظ على الأصالة، اختبار حقيقي لقوة اليقين وحيويته». الهوامش:
(1) الواقدي، المغازي، ج1، ص362.
(2) الطبرسي، أعلام الورى بإعلام الهدى، ص131.
(3) الواقدي، المغازي، ج3، ص880.
(4) ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص59.
(5) الواقدي، المغازي، ج1، ص177 178. الطبرسي، أعلام الورى، ص89 90.
(6) ابن هشام، السيرة النبوية، ج4 ، ص256. راجع: الواقدي، المغازي، ج2، ص421.
(7) ابن سعد، غزوات الرسول، ص65.
(8) ابن هشام، السيرة النبوية، ج5، ص240. الواقدي، المغازي، ج3، ص1057.
(9) الواقدي، ج3، ص1058.
(10) بيضون، إبراهيم، الأنصار والرسول، ص70.
(11) ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص275.
(12) المصدر نفسه، ص291.
(13) ابن سعد، غزوات الرسول وسراياه، ص14.
(14) ابن هشام، السيرة، ج2، ص291.
(15) ابن هشام، السيرة النبوية، ج5، ص177.
(16) المصدر نفسه.
(17) للمزيد من التفصيل راجع بيضون، إبراهيم، الأنصار والرسول، معهد الإنماء العربي.
المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية العدد 21 - أغسطس 2003