مدخل إلى إصلاح الخطاب الديني

مدخل إلى إصلاح الخطاب الديني
الزبير مهداد
* مقدمة في العلم:
ينتقل العلم عبر القنوات الاتصالية من تعليم وخطاب وتأليف وغيره، وهناك فرق بين العالم المعلم والعالم لذاته، والأول خير من الثاني لأنه وصي على نقل العلم ونشره، إيمانا منه أن بذله للعلم يقربه من الله، وإدراكا منه لأهميته في بناء المجتمع المسلم وتطويره وترشيد صحوته. يقابل هذا الإيمان والإدراك طلب اجتماعي قوي على المعرفة ظل قائما منذ قديم بمجتمعاتنا، ويدل على ذلك وجود المجالس العلمية والمدارس والمساجد وحلقات الدرس والكراسي العلمية وغيرها في كل البلاد الإسلامية منذ قرون خلت. وقد ساهمت هذه المؤسسات بفضل رجالها على الحفاظ على الثقافة الإسلامية وضمنت نشرها واستمرارها، وكان لها الأثر البارز في مواجهة الثقافات الدخيلة والفكر الذي يهدد الاستقرار والأمن الاجتماعيين. * تعدد الخطاب الديني: كانت مؤسسة العلماء مساهمة في تزكية الفكر الوطني والإسلامي، ساهرة على عرض الإسلام وتبليغه بطريقة نقية سليمة، حريصة على حماية الوحدة الوطنية وضمان الاستقرار السياسي والسلام والأمن الاجتماعيين. وترشيد خطوات التنمية الاجتماعية والتقدم؛ فضلا عن الدور التشريعي الذي كان منوطا بها. ولم يكن الخطاب الصادر عن هذه المؤسسات واحدا متجانسا، بل كان متعددا متنوعا بتنوع المؤسسات التي صدر عنها وبحسب المستهدفين الذين يتلقون الخطاب، فهناك الخطاب الفلسفي الذي كان محصورا في بعض المجالس العلمية الخاصة وبعض المؤسسات ويخص فئة معينة من المثقفين، وهناك الخطاب الفقهي الذي كان أوسع انتشارا وفي مستويات متعددة متدرجة تلائم الناس بحسب قدراتهم المعرفية، نجد هذا الخطاب في المجالس العلمية والمساجد والمدارس وغيرها، وهناك الخطاب الوعظي الذي يختلف عن الخطابين السالفي الذكر بشروطه وغاياته وأعلامه وهو أوسع انتشارا منهما معا، ثم نجد أيضا الخطاب السياسي والخطاب الأدبي وغير ذلك، ولم يكن اختلاف أنواع الخطاب يطرح مشكلة في التواصل العلمي والاجتماعي والثقافي في المجتمع الإسلامي، فكل فرد ينهل ما يريد ومن المصدر الذي يلائم مستواه وميوله ومزاجه. ولم يكن يتحرج من النهل من مصادر متنوعة مختلفة ما دام ذلك يتيح له فرصة لمعرفة وجوه الاختلاف في الرأي وقواعد استنباط الحكم ويمنحه مصادر المتعة الفكرية والأدبية.
ورحى الخطاب الديني تدور حول ثلاثة أركان، وهي الدعوة والداعي والمدعوون، وكان فحوى الدعوة هو الدين الإسلامي، ووعاؤها الفكر والثقافة الإسلاميين، ولغة التبليغ وقواعدها وآدابها، وكان الوعاظ مطالبون بتقديم الدين وشرحه وتبسيطه، لكن بالاستعانة بالثقافة والفكر السائدين في زمنهم ومكانهم. وإذا كان الدين محددا سلفا بأصوله الكبرى، فإن الثقافة هي إضافات واجتهادات وإبداعات الناس وعاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم وطرق تفكيرهم وأمزجتهم ومواقفهم الشخصية. وفي خطابات الوعاظ والدعاة وغيرهم يتجلى ذلك، ويحيد به عن الموضوعية والنزاهة طبعا، فالخطاب الفقهي يتقاطع مع الخطاب الوعظي العاطفي، والخطاب الوعظي لم يكن متجردا أبدا من الأهواء السياسية لصاحبه، والخطاب السياسي كان يتأثر بالخطاب الصوفي أحيانا، وهكذا دواليك. * الفتور والهجمة:
ومرت بهذه الأمة فترة – ما زلنا نعيش تحت وطأتها – عرف فيها هذا الخطاب فتورا وتراجعا وتحجرا، وتعرض ما يزال لحملة شعواء من طرف الخصوم والأًصدقاء، حتى ساد الانطباع أن الفكر الإسلامي يعيش داخل حلقة مفرغة بخطاب تائه ركيك غير متسامح يدعو للتطرف والإرهاب ولا يساهم في تحقيق السلم الاجتماعي أو التقدم الاقتصادي. وهذا حكم خاطئ لأنه يتأسس على خلط بين الفكر الإسلامي والخطاب الإسلامي، والفكر الإسلامي نفسه ينبغي التميير فيه بين الفكر الأكاديمي الرصين والجاد وبين الفكر العامي الشعبي، فالفكر الرصين الذي يعبر عن نفسه من خلال الأبحاث العلمية للفقهاء والعلماء هو عموما فكر نير معتدل وسطي، مهتد بالشرع خاضع لضوابطه، يرتكز على الأصول العقدية الإسلامية والأحكام القطعية والمقاصد الكلية والقيم الإسلامية الأخلاقية، مراع لمصالح الأمة ملتزم بقضاياها، إلا أنه غالبا ما يظل محصورا في رحاب المؤسسات العلمية الأكاديمية، بينما الفكر العامي يجد منابر عديدة تبثه بسهولة بين الدهماء، نجده في الأشرطة المسموعة وفي كتيبات الرصيف، وهو الخطاب الموبوء الذي جر على الأمة هذا الزخم من المشاكل، وعرض صورة الدين للتشويه.
هناك إذن عقبات تتحدى الفكر الإسلامي وتحول بينه وبين أداء وظائفه، هناك غياب للتواصل بين مختلف الشرائح، وانعزال العلماء عن القضايا الاجتماعية والسياسية الوطنية الكبرى، وعجز عن أن يتحول الفكر الإسلامي إلى حركة لها امتدادات مجتمعية.
تتداخل الأسباب وتتقاطع عوامل هذا الوضع التي نذكر منها ما يلي:
- تخلف مناهج التكوين وتعليم العلوم الدينية، وانتشار التقليد وفشو التعصب للمذهب وقمع الحريات الأساسية في التعبير والتفكير وتلقي المعلومات، فكثير من المحسوبين على العلم لا يرون الحقيقة خارج مذهبهم الديني والسياسي، ويمنعون استعمال العقل والفكر في الدراسات الدينية والشرعية، وكل من عبر عن رأي مخالف فإن مصيره التعرض لاتهام بالفسوق والكفر والزندقة وما يترتب عن ذلك من تكفير وتفريق بين الزوجين والدعوة إلى الاستتابة.
- تدهور الوضع الاعتباري للعلماء ومؤسساتهم بتأثير الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من تخلف اجتماعي وشيوع الأمية وتردي الأحوال كلها، وما يستتبعه من جهل وجمود ومرض وتطرف فكري وثقافي.
- الجمود الفكري والتحجر الثقافي لعدد من العلماء، فمن الآفات السيئة التي تنخر الفكر الديني من الداخل اكتفاء بعض العلماء ممن تتطابق أفكارهم مع ما هو سائد من وعي زائف بواقع الحال لمجتمعاتهم بما حصلوا عليه من تعليم محدود، وعدم حرصهم على متابعة المستجدات العلمية، لاسيما المتعلقة بطبيعة عملهم وبسائر العلوم الإنسانية، مما يجمد إمكاناتهم العلمية والفكرية والمهنية عند الحد الذي بدأوا فيه، وهو بسيط جدا. كما أن التقاليد والمحاذير الرقابية والاجتماعية لا تحفز العلماء ولا تشجعهم على خوض غمار التجربة والبحث والمبادرة الذاتية في تطوير التفكير الديني.
- انخراط العلماء في النشاط السياسي الحزبي، وتأُثير ذلك على قناعاتهم وأفكارهم، وتأثرهم بمبادئ تنظيماتهم والتزامهم بها أوقع كثيرا من العلماء في الخلط بين الموضوعي والذاتي، فقد لوحظ أن كثيرا من العلماء في خضم الأحداث السياسية المناسباتية كالانتخابات يستغلون وظائفهم الدينية ويمررون خطاب تنظيماتهم السياسية وخطاباتهم الشخصية، ويحيدون عن دورهم الحقيقي، فبدل وظيفة الإرشاد والتوعية القائمة على الخطاب العقلاني والحياد الإيجابي والمشاركة المستنيرة والانخراط المندمج من أجل بناء مجتمع متضامن ومتكامل ومتجانس، بدل هذا يتبنون الخطاب المدافع عن حزب معين أو طائفة ما، أو خطاب التعبئة السياسية والتحريض السياسي الذي يلقى التجاوب والترحاب من عامة الناس.
- دون إغفال حرص السلطات السياسية على التضييق على المؤسسات العلمية وتحجيم دور العلماء للحد من نفوذهم المتعاظم داخل المجتمع، فضيق الخناق على العلم والعلماء، وسدت النوافذ التي كان يستنشق منها العلماء نسيم الحرية التي تعتبر شرطا ضروريا للنهضة العلمية وازدهار العلوم والإبداع والابتكار، حتى لم يعد العلم يعبر عن نفسه بكل حرية. وفرضت القيود على نشر المعلومات وتداولها، فحيل دون إتاحتها للباحثين وعموم الناس.
كلها عوامل ساهمت بشكل قوي في التردي الحالي للفكر والخطاب الدينيين؛ وكان من النتائج المترتبة عن هذا الوضع أن اكتسح مجال الإعلام الديني أشخاص من الدهماء وهيئات لا تمت بصلة إلى العلم ومؤسساته الرصينة الجادة، وأضحينا نجد كتابا وخائضين ومنتجي أشرطة يحدثون ويعظون بلهجات العامة أو الفصحى، يخلطون بين الخطاب السياسي والخطاب الدعوي، ولا يميزون بين مسائل الوعظ والتربية والدعوة وبين مسائل الفلسفة أو السياسة، ولا يراعون قدرات الناس على الفهم والاستيعاب واختلاف طرق تفكيرهم ومستويات تعلمهم ولا يراعون معطيات وحاجات أوساطهم ولا ظروف وطبيعة المستهدفين وثقافتهم، وكثير منهم يذكرون أحاديث ضعيفة أو موضوعة يضلون بها الناس، تسمع شريطا واحدا وتستنتج منه أن كل أفعالنا زندقة وكفر محض، وإشراك بالله، وأن جميع من يمشي على قدمين هم من أهل جهنم.
إن مظاهر الانحرافات الفكرية السائدة في حياتنا، والسلوكات غير السوية التي يبديها كثير من المثقفين تجاه بعضهم، وردود أفعال العامة نحو بعض الثقافات وأنواع العلوم والمعارف وغير ذلك مما يلاحظ في ساحتنا الثقافية من مظاهر الفرقة والتنافر وعدم التسامح، تعتبر دلالة قاطعة على قصور مؤسساتنا العلمية عن أداء وظيفتها العلمية الاجتماعية، وبث الوعي الثقافي في الجسم الاجتماعي. فأين هي الدعوة الوسطية التي كان يرفع لواءها علماؤنا الأعلام؟ أين هو خطاب التبشير والتيسير والإرشاد الديني السليم الذي يراعي أحوال الناس في المعاد والمعاش ومصالحهم في الدين والدنيا؟ تراجع العلماء عن ساحة الدعوة الوسطية فحل محلهم رجال الدعوة الفوضوية، وأبطالها مشهورون بالجهل والتنطع والتشدد والتطرف، خطاب يتصف بالتوتر والتشنج والاضمحلال. وإن الأحداث الأليمة التي عاشتها بلادنا في السنين الأخيرة أعادت الحقل الديني إلى الواجهة وألزمتنا بإعادة النظر في الإطار العام لمسألة الفكر الديني ليواكب التطورات ويواجه الثقافات المدمرة التي تهدد الأمن الاجتماعي والوحدة الوطنية والاستقرار السياسي.
ومؤسساتنا العلمية وهيئات العلماء تحاول أن تستعيد اليوم موقعها في السعي إلى إيجاد حلول للمشاكل التي تواجه مجتمعاتنا، ويتصدى للخطابات المتعددة التي تعج بها الساحة وتبث الأفكار الخاصة لأصحابها بين المسلمين، وتعتبر نفسها المهتدية الصائبة وصاحبة التوجيه السليم والنهائي الكفيل بإنقاد الأمة. وحرص المؤسسات العلمية على التصدي لهذا الأمر معقول وممكن أيضا، فهل تتوفر هذه المؤسسات على الطاقات البشرية والعقلية التي تؤهلها لذلك؟ هذه القدرات الكامنة لدى هذه المؤسسات هي التي تعظم دور العلماء في المجتمع وتزيد من مسؤولياتهم في إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية والثقافية والفكرية؛ لاشك أن ذلك ممكن بشرطين اثنين:
- تعميق تكوين العاملين في الحقل الديني في العلوم الدينية والفلسفية والاجتماعية؛
- تطوير قنوات وشبكات الاتصال بين العلماء من جهة وبينهم وبين المواطنين من جهة ثانية. * تعميق تكوين العاملين في الحقل الديني:
إن العوامل التي حالت دون أداء علمائنا لوظيفتهم التثقيفية الدينية على الوجه المطلوب كثيرة متعددة، سبقت الإشارة إليها باقتضاب. والمؤسسة العلمية التقليدية ظلت حبيسة التحجر والانغلاق والفهم الضيق للتدين، فاهتمت بقوالب الثقافة والسلوك الجاهزة، وقوالب المعرفة التقليدية التي يجب من خلالها أن تطبع الأجيال، مما حتم عليها الحرص على تكوين علماء مقلدين يقتصر عملهم على تبليغ معرفة أولية أو متوسطة ولا قدرة لهم على المبادرة فأحرى الاكتشاف.
وأنظمة التكوين لا تستهدف تكوين عاملين في الحقل الديني مبدعين مجتهدين، فالخطاب الديني التقليدي السائد يحدد دور العلماء في وقاية الناس من نار جهنم بتلقينهم الإيمان الذي يتجسد في المعرفة الدينية الأساسية المتمثلة في أركان الإسلام الخمسة وفرائضها وسننها ومستحباتها ونواقضها، وإدماجهم في مجتمع المؤمنين بفرض قواعد السلوك والآداب الإسلامية والمعايير المتوارثة خلفا عن سلف.
وتحقيق هذا لا يوجب تكوينا عاليا للعلماء، لأن شعائر التدين التقليدي متوارثة واضحة وجلية، وجميع الناس مهما اختلف تكوينهم وتراوحت مستوياته قادرون على شرح ذلك والحديث فيه؛ ومرد ذلك إلى أن العالم الديني لا يعتبر كاختصاصي من حيث امتلاك المعرفة الدينية، وإنما مجرد مبلغ لثقافة هي في متناول الجميع.
كما أن الشريعة مدونة في نصوص وكتب والجميع يستطيعون – أو هكذا يعتقدون – أن يستنطقوها بقراءة الكتب والمنظومات، لكن الفهم والاستيعاب يرتبط بمستواهم المعرفي وقدرتهم على قراءة النص، وامتلاكهم أدوات فهمه وفك عباراته، فتختلف فهومهم تبعا لهذه القدرات فينشأ الاختلاف والنزاع؛ فالقارئ ذو التكوين الضعيف يغيب لديه الحس النقدي الذي يساعده على فهم النص وتمييز الخطأ الداخلي أو المنهجي، كما أنه يستحضر خلال قراءته ذاته، مشاعره وعواطفه واتجاهاته، فيتولد لديه الموقف العاطفي الذي يجعله خاضعا لتأثير طاغ للمقروء، متعصبا له، عاجزا على تعرف واستيعاب وفهم وقبول كل فكر مخالف لمضمون مقروئه. رغم أن الدين يأمر بصراحة ووضوح لا غبار عليهما بضرورة التخصص في العلوم الشرعية كشرط ضروري لابد منه لاستنطاق الأصول والمصادر الدينية.
إن إعداد العلماء يستوجب على المؤسسات العلمية تهييء برامج تكوين تمنح المنخرطين فيها تكوينا عميقا في العلوم الدينية والإنسانية والاجتماعية، يهدف إلى:
- تكوين علماء مؤهلين للقيادة العلمية، وأكفاء، واعين بمهامهم الاجتماعية والدينية والوطنية، ممتلكين للمهارات الكفيلة بإقدارهم على المساهمة في حل المشكلات المجتمعية؛
- إعداد العلماء للمساهمة في بلورة المشروع المجتمعي الوطني والمنظور الجديد للإصلاح السياسي والديني والاجتماعي وفق ما هو محدد في المشروع المجتمعي؛
- تأهيل العلماء للمساهمة في الاستراتيجية الجديدة للتكوين الأساسي للأئمة والخطباء والوعاظ والمرشدين الدينيين بما يتناسب مع ما ذكر أعلاه من غايات وأهداف المشروع المجتمعي والمنظور الإصلاحي.
أما المهارات التي ينبغي تزويد العلماء بها، نذكر منها:
- امتلاك روح النقد والنقد الذاتي وتعلم التفكير النقدي؛ استخدام الشك المنهجي وعدم التسليم بالحقائق دون تمحيص؛
- تشرب واجتياف النسبية والإدراك الواعي بأن العلم والمعرفة أمور نسبية وليست حقائق مطلقة؛
- اعتماد الاستقلال الفكري والنظرة المسؤولة؛ وإدراك تنافذ العلوم والمعارف تضامنا مطلقا وتكاملها تكاملا تاما.
وينبغي أن يتضمن هذا البرنامج تكوينا عميقا في علوم اللغة والفقه والأصول وعلم النفس وعلم الاجتماع بفروعهما، وتاريخ الأديان وفلسفة الدين؛ حتى لا تظل لغة علماء الدين وخطابهم متخلفا عن لغة وخطاب غيرهم من علماء الاجتماع والتاريخ والفلسفة وغيرهم. فضلا عن التكوين الأساسي في مناهج وشروط الفكر العلمي.
ومهما كان هدف المنخرط في هذه الدراسات، فإنه يحتاج إلى تجديد لغته ومناهجه دوما وباستمرار، لكي يتعمق في اكتشاف معاني تراثه ويتمكن من مواكبة التطور الذي يعرفه مجتمعه. * تطوير شبكات الاتصال العلمي:
ومما يساهم في تعميق تكوين العلماء وإثراء خبرتهم وإغناء معرفتهم تطوير قنوات ووسائل الاتصال بينهم، فالتقدم العلمي يزدهر بالاتصال بين العلماء وذوي الاختصاص من كل العقائد والملل، وعلى جميع الأصعدة الإقليمية والوطنية والدولية والقارية، لمقارنة نتائج أبحاثهم ومناقشتها، والتحديات التي تواجههم، والاطلاع على ما توصل إليه أندادهم، وهذا التقدم يعاق بسبب غياب أنظمة الاتصال بين العلماء، فلا تتاح لهم فرص إثراء بحوثهم وتنميتها وتعميق الخبرة.
إن القدرة على التواصل مع الآخرين توجد ضمن ما يتصدر مؤهلات العالم في عصر الاتصال الذي دخلته البشرية ولا تزال تغوص فيه، ولا تقتصر مهارات التواصل على إتقان اللغة العربية والتمكن من اللغات الأجنبية فحسب، وإنما تمتد إلى تقنيات التعبير والتحرير والكتابة ومعالجة النص ومهارات التواصل بصفة عامة؛ فينبغي الالتفات إلى المواطنين، وإنشاء قنوات الاتصال بهم والتواصل معهم، وضمان الرفع من مستواهم بتكوين أساسي شامل يزيد من قابليتهم على التعلم ويقوي الطلب الاجتماعي على العلم والمعرفة والمعلومات، ويضمن خلق سوق لترويج العلم الأصيل الرصين والإعراض عن نشرات الرصيف، وضمان تثقيفهم وتنشئتهم على قيم التسامح والحوار واحترام الرأي، فكلما عم العلم وارتقى الوعي وساد الحوار إلا وقلت القلاقل داخل البلاد وتجاوزنا الفوضى الفكرية والتطرف المقيت.
ومما يساهم في تحقيق ذلك، تنظيم المعارض العلمية واللقاءات الدراسية المنفتحة على مكونات المجتمع وهيئاته وطبقاته، من جمعيات واتحادات ونقابات ونساء وشيوخ وغيرهم، وإحداث قنوات تلفزية تعنى ببث البرامج التربوية والثقافية، وإحداث المواقع العلمية العربية على شبكة الانترنيت، وغير ذلك كثير مما يمكن المبادرة به، وإقرار برامج ومشاريع التعاون بين هيئات العلماء ومراكز البحث العربية، وبين المؤسسات الإنتاجية وغيرها لحفز الشباب والمتعلمين على القراءة والبحث والمطالعة حتى تغدو الثقافة اهتماما مفروضا يتسم بالدوام. ونضمن النمو العلمي للناشئة وسائر الناس، دون أن نغفل قيمة وأهمية ما ينظمه العلماء فيما بينهم من المناظرات والنقاشات العلمية الجادة والرصينة والبعيدة عن التشنج والتعصب للرأي، فهذه المناظرات لها وظيفة تربوية حيث تعطي للشباب النموذج الثقافي الجاد لأن التوعية أصبحت من أولى الأولويات خاصة في وقتنا الراهن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح من العسير التفريق بين الخيط الأبيض والأسود.
فهيئات العلماء مؤسسات ثقافية لها دور تثقيفي اجتماعي، تساهم في بعث العلوم من رقادها وفي تثقيف المواطنين وتنشيطهم وحفزهم على الإبداع والتجديد والتأليف من خلال نشرها للأعمال الأدبية والعلمية، وتنظيمها للدورات التدريبية ومهرجانات الفنون والثقافة ومن خلال اتفاقيات التعاون التي قد تربطها بهيئات المجتمع المدني، وفك العزلة عنها وإدماجها في النسيج الاجتماعي يعتبر من أول الأولويات.
إلا أن الملاحظ هو أن البحث العلمي يهمل القضايا الثقافية والاجتماعية التي تشكل هاجس الناس، فالعلماء يتجنبون الحوار مع العامة والاتصال المباشر بهم، ولا يعنون بقضايا التثقيف العام للمواطنين وبث الوعي العلمي والفكري في الجسم الاجتماعي، رغم أن المآسي الاجتماعية والهزات السياسية التي تعانيها هذه البلدان لها ارتباط وثيق بتخلف الوضع الثقافي والاجتماعي وتفشي آفات الأمية والجهل والتطرف وقلة الطلب الاجتماعي على العلم.
إن عائد قوة العمل لعلمائنا محدود في الحياة الثقافية والاجتماعية. فالمشكلة تبقى في مدى الإسهام الحقيقي للعلماء في بث قيم التسامح وآداب الحوار واحترام الرأي الآخر، وما يساهمون به في حل مشكلات المواطنين، ومن المعروف في بلداننا أن السواد الأعظم من الأميين، والأميون يعيشون في عزلة وتهميش، يسهل تعبئتهم والتأثير عليهم من كل الجهات، فهم أداة طيعة ولينة قد تستغلهم جهات مختلفة كقوة ضاربة، أو مطية لتحقيق أغراض ومآرب سياسية ضيقة.
على علمائنا أن يناضلوا من أجل ربط العلم بالحياة وتقليص الشرخ القائم بين الدوائر الثقافية والعلمية والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إسهاما في ضمان الشروط الأساسية للاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي والتقدم والتنمية. * الزبير مهداد: كاتب مغربي، باحث في علوم التربية
المصدر: خاص- الوحدة الإسلامية