السنة والشيعة والمرجعية الديمقراطية!
السنة والشيعة والمرجعية الديمقراطية!
عبد المنعم سعيد
أعلم أن الطريق الذي سوف أسير فيه ممتليء حتي آخره بالألغام التي تم بثها بعواطف تاريخية جامحة حتي باتت علي شفا الانفجار إذا ما مسها إصبع أو قدم. عندما تصبح قضية البشر ملتحفة بالدين والمذاهب والفرق والنحل، أو كل ما يمس المقدس في العموم فإن التهاب المشاعر يشعل معه براميل بارود سياسية.
ولكن القضية التي سنتعرض لها توا ليست منبتة الصلة عما يجري في مصر هذه الأيام حول علاقة الدين بالدولة، وتفسير المادة الثانية من الدستور وما تعنيه من "مباديء الشريعة الإسلامية" وعلاقاتها بالمواد الأخري الخاصة بأن الشعب هو مصدر السلطات وحقوق المواطنة والاعتقاد. كما أنها بالتأكيد ليست منفصلة عما يجري في منطقتنا عندما بدأت الصراعات الداخلية ــ والخارجية أيضا ـ يتم ترجمتها في إطار من الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة، وهو الأمر الظاهر في العراق، وبارز في لبنان، ولكنه خفي ومستور ومسكوت عنه في بلاد عربية وإسلامية أخري. وبشكل ما أصبح الموضوع معبرا عن منظومة من التفكير يصطف فيها ما يجري من أحداث حتي أن واقعة إعدام صدام حسين علي الطريقة غير الإنسانية التي تمت عليها باتت نوعا من الأحداث الفاصلة للعلاقات بين جماعتين من جماعات الأمة.
ومناسبة المقال كانت انعقاد مؤتمر "حوار المذاهب الإسلامية" الذي انعقد في الدوحة أخيرا بالتنسيق بين جامعة قطر والأزهر وهيئة التقريب بين المذاهب في طهران واللجنة الدائمة للمؤتمرات بوزارة الخارجية القطرية، وشارك فيه200 عالم ومفكر من44 دولة إسلامية ويمثلون السنة والإمامية والزيدية والأباضية. وقد قرأت معظم ما نشر عن المؤتمر من تفاصيل ومقالات، وكان واضحا أن المؤتمر لم يكن واحدا من تلك المؤتمرات التقليدية التي انعقدت علي مدي العقود الستة الماضية منذ أن تبني الأزهر الشريف جهود التقريب بين المذاهب. فمن ناحية غلب علي المؤتمر الواقع السياسي الحالي في المنطقة، خاصة ما هو متعلق بالشأن العراقي حيث تجري حربا أهلية بين السنة ــ العرب ــ والشيعة ــ العرب أيضا ــ وصلت إلي مستويات عليا من الدموية لم تصل إليها حروب أهلية عربية من قبل.
ومن ناحية ثانية ساد في المؤتمر منطق "المصارحة" وهو في القواميس الدبلوماسية والعربية خاصة يعني أن يقدم كل طرف لائحة اتهاماته للطرف أو الأطراف الأخري ومنها عرفنا أن كل الأطراف تشكو من "التبشير" الذي تقوم به الأطراف الأخري. كما عرفنا أن الأغلبية لدي كل طرف لا تعطي حقوقا للأقلية الموجودة والمرتبطة مذهبيا بالطرف أو الأطراف الأخري. فالقيود علي الشيعة في البلدان السنية معلومة منذ قديم الزمان، أما الجديد فقد كان الكشف عن حال السنة في إيران التي يوجد بها14 مليون سني من بين72 مليونا هم عدد سكان إيران، فإنه لا يوجد من بينهم سفير أو وزير أو محافظ أو حتي يسمح لهم ببناء مسجد في مدينة طهران العاصمة حيث يعيش مليون من أهل الجماعة.
ومن ناحية ثالثة هي أن الفكرة الأساسية المنظمة للحوار، والداعية للمؤتمر، تقوم علي أن الأمة العربية والإسلامية تواجهها تحديات هائلة قادمة من الغرب ومن الولايات المتحدة ومن إسرائيل، ومن ثم فإن الوحدة مطلوبة لأن التفرق فيه ضعف للجميع الذين سوف تتهاوي قدراتهم تحت الضربات القاسية في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وغيرها حيث تحتد محاولات الهيمنة والسيطرة. وبغض النظر عما تطرحه هذه الفكرة من أسئلة حول الواقع العالمي والأوليات في ضوء حاجات الدولة الحديثة فإن التسليم بها يقطع بأن المؤتمر لم ينجح من خلال توصياته في السير في الطريق المطلوب لتحقيقها، لا لسبب إلا لأن المؤتمر استند إلي عدد من المرجعيات غير الديمقراطية والتي تلامس الاستبداد أحيانا وكلها كانت ملتحفة برداء الدين بينما الحديث كله في السياسة.
فالمصارحة والمكاشفة لا تعني في المنطق الديمقراطي أن يقوم كل طرف بتقديم قائمة الاتهام أو الشكوي مما يقوم به الطرف الآخر، لكنها تعني أن يقوم كل طرف بنقد الذات أولا حتي يخلق الأجواء لأرضية مشتركة قادمة، ومن بعد الشكوي ثانيا فإنه يعود إلي وضع المباديء الإنسانية المشتركة ثالثا كمعيار للحركة المقبلة. وفي إطار موضوعنا فإن الماضي بدا نوعا من تحصيل الحاصل رغم انه مستمر في حاضرنا ومن المرجح أنه سوف يستمر في مستقبلنا أيضا.
وبصراحة ــ طالما أن الأمر هو المصارحة ــ فإن العالم العربي والإسلامي لم ينجح أبدا في التعامل مع الأقليات سواء كانت أقليات دينية أو مذهبية أو عرقية، وكان ذلك راجعا للتأكيد علي فكرة "الرعية" في فكر الاستبداد وليس فكرة "المواطنة" في المرجعية الديمقراطية. وحتي نوضح الفكرة فإن المؤتمر ألغي تماما الإدارة الفكرية للأفراد وحريتهم في الاعتقاد وهي الحرية التي تقول بها القوانين والدساتير، وهو لم يكن علي استعداد للمطالبة بالمساواة للجميع في كل البلدان، وهو لم يكن علي استعداد للمطالبة بحقوق المواطنة للشيعية والسنة التي تعطي كل من يعيش علي أرض الدولة حقوقا متساوية في العبادة وبناء المساجد ودور العبادة وتولي الوظائف العامة. ولكنه كان علي استعداد للمناداة، والاتفاق بين العلماء الأجلاء، علي منع التبشير من قبل كل بلد في البلد الآخر لمنع الفتنة. فالمنطق هنا يقول إن منع المعرفة، وفرض الوصاية، وتفادي التعرف علي الأطراف الإسلامية الأخري، هو الذي يمنع العنف بين الشيعة والسنة رغم أن الواقع يقول إن العكس هو الصحيح.
فالعنف الحالي في العراق وغيرها يعود لاعتقاد البعض السائرين علي مذهب الغلاة والمتطرفين أننا لسنا إزاء دين واحد ــ كما يقول كل من حضروا مؤتمر الدوحة ــ وإنما إزاء دينين مختلفين ينفي كل منهما الآخر ويخشي اللقاء بينهما في ضوء النهار. هنا فإن الحل العالمي الديمقراطي يقول إن الدين جزء أساسي من حياة كل إنسان، ولكن الدين يظل أمرا يخص كل إنسان علي حدة، وعندما قال المصريون بأن الدين لله والوطن للجميع كانوا قد وضعوا أيديهم علي لب المسألة الإنسانية.
ومن الناحية العلمية البحتة فإنه سوف يستحيل منع التبشير لأنه الآن عابر للقوميات والحدود الجغرافية وسوف ينتقل عبر شبكات الإنترنت والفضائيات التليفزيونية ولايوجد سبب يدعو إطلاقا إلي أن يؤدي ذلك إلي فتنة إذا ما علم كل المسلمين ــ شيعة وسنة وغيرهما من المذاهب ــ أنه لا إكراه في الدين، وأن الله كرم "بني آدم" بالعقل والمساواة، وفي النهاية حقه في اعتقاد مايراه مناسبا لسلامه الروحي دون وصاية وفرض من أحد.
وللحق فإن ما جرى لدينا في مؤتمر الدوحة لا يختلف كثيرا عما جرى في عام 1648 في أوروبا عندما اتفقت الدول الأوروبية في وستفاليا علي أن تصبح كل دولة صاحبة السيادة علي رعاياها بحيث يمتنع التبشير والتدخل باسم الأقليات الدينية في شئون الدول الأخري. وكان ذلك المؤتمر هو الذي وضع النهاية لحرب الثلاثين عاما التي دارت في أوروبا بين الجماعات والدول التي تبنت المذهب البروتستانتي وتلك التي ظلت علي تبنيها للمذهب الكاثوليكي.
ولكن مؤتمر وستفاليا لا ينبغي له أن يكون النقطة التي يقف عندها المسلمون المعاصرون بعد أن مر عليها قرابة خمسة قرون، فقد وجد الأوروبيون أن حل مشكلات الصراع بين الدول حول الدين لا يمنع الصراعات داخل الدول لأسباب دينية أو غير دينية ولا بينهما لأسباب تخص الدنيا أو أسباب تتعلق بالآخرة.
لقد كانت المرجعية الديمقراطية هي التي حلت مشكلة الصراع داخل الدول وما بينها لأنها من خلال المساواة والمواطنة حلت من حيث الجوهر قضية التمييز القائم علي قاعدة الأغلبية والأقلية. فتكوين الدول لايقوم علي أساس الغلبة وإنما علي أساس المشاركة بين مواطنين علي قدم المساواة.
ومن هنا فإن الحديث الأبوي لبعض كتاب وعلماء السنة في دول الغالبية السنية عن كيف عاش الشيعة في سلام في كنف الدولة،والمقابل له عن سعادة السنة في "كنف" الدولة الشيعية، ليس فقط غير مؤيد بالوقائع التاريخية وإنما أيضا لا يقدم حلا لمشاكل الواقع الذي يريد الجميع تجاهلها طالما بات كل طرف مسئولا عن رعاياه ولا ينبغي له أن ينظر عبر الحدود للمشاركين معه في المذهب.
كما لا يحل المسألة ذلك القول المتردد حول أن الظلم الذي تتعرض له الأقليات هو ظلم يتعرض له الجميع من قبل حكومات استبدادية، وهكذا ــ كما يقال ــ فإن المساواة في الظلم عدل.
ولكن المساواة في الظلم ظلم بين، والحقيقة أن الأقليات الدينية والمذهبية تتعرض للظلم ثلاث مرات، مرة بحكم الواقع السياسي، ومرة بحكم الواقع الاجتماعي، ومرة ثالثة بحكم ما يقوم به الغلاة والمتطرفون في السلطة وخارجها للحكم علي الأقلية الدينية والمذهبية باعتبارها ليست فقط خارجة عن الشرع وإنما خارجة عن الوطن أيضا. وقد اعترف مؤتمر الدوحة بظاهرة الغلو والمغالاة والتشدد ولكنها بعد الاستنكار والرفض بقيت معلقة دون حل رغم أنها هي التي أوصلتنا إلي النقطة الدامية التي وصلنا إليها.
ولم يكن هناك حل لأنه طالما كان الحديث جاريا بين المطلقات فإنه يستحيل منع بعضها من الوصول إلي أكثر درجات الجنون الذي نشاهده الآن داميا في العراق. الديمقراطية هي الحل أيها السادة! * د. عبدالمنعم سعيد: مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية فى القاهرة
المصدر: صحيفة الأهرام المصرية 05-2-2007