حوار في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد

حوار في العلاقة بين الكلام القديم والكلام الجديد

أبو يعرب المرزوقي

تتفرع مسألة العلاقة بين علم الكلام في شكله الوسيط وما يسمى بعلم الكلام الجديد في أدبيات الفكر الديني الاسلامي الحالي من منظور فلسفة الدين إلى مسألتين أهميتهما أنهما لا تقتصران على علاج أدواء الحضارة العربية الاسلامية فحسب بل هما تدوران حول أهم قضية في الثيولوجيا المسيحية التي تسيطر على فلسفة الدين المعاصرة والتي توالى الدخول إليها من الثيولوجيا إلى الانثروبولوجيا. والمعلوم أن أهم مميز بين المنظورين المسيحي والاسلامي أن الاول يقبل التوحيد بينهما والثاني يحظره. فمنزلة الإنسان الوجودية وكلمة الله مسألتان متمايزتان في الكلام الاسلامي. لكنهما تعتبران مسألة واحدة في الثيولوجيا المسيحية.

 

وسنحاول تجنب متاهات تأويل كل الفلسفة الحديثة بمجرد ترجمة خطاب الثويولوجيا بمفردات خطاب الأنثروبولوجيا كما هو شأن الفكر الديني المسيحي وفكر ما يسمى بالكلام الجديد عند المفكرين الذين لا يميزون بين تحديث منظور الاسلام وتمسيحه. فكلا الموقفين يكتفيان بتكرار نفس المسائل والحلول في الكلامين بمجرد وضع الانسان في الخانة التي كان يشغلها اللهز سنعالج المسألة من منظور آخر. لذلك فسنعالج هاتين المسألتين من فلسفة الدين متحررين من الحكم المسبق الساعي إلى التنكر لقضايا ما يسمى بعلم الكلام القديم ورافضين استبدالها بما يسمى بعلم الكلام الجديد الذي لا نعتبره جديدا فضلا عن أن التجديد لا يقع من دون الشرطين التاليين:

 

الأول هو أن عملية تجاوز الكلام الثاني للكلام الاول لا تكون بمجرد القطع والتناسي بل لا بد من بيان كيفة الانتقال ببيان اسلوب العلاج الجديد لما اعتبر الكلام القديم قد فشل في علاجه.

 

والثاني أنه لا بد من النقلة المفهومة من حال كان عليها الفكر إلى حال أخرى آل إليها بمقتضى ما أدرك من الحال السابقة وما اكتشف فيها من موجهات موجبة أو سالبة توصل إليها.

 

ذلك أن جل قضايا الكلام الاسلامية يمكن إرجاع ما استعصى منها إلى سوء تأويل الرموز القرآنية سوءه الناتج عن العجلة في تحليل خصائص اللسان العربي عامة والأسلوب القرآني خاصة. كما أن جل قضايا الكلام المسمى جديدا مصدرها سوء فهم تمثيل الأزمة الاسلامية لأعماق الأزمة البشرية في عصرنا بحيث إن مصير العالم كله رهين علاج بؤرتي الثورة الاسلامية:

 

- بؤرة تحرير البشرية من التحريف وأهم عناصرها نظرية الله الذي حل في الانسان

 

- وبؤرة تحريرها من الطاغوت وأهم عناصرها نظرية تعين هذا الحلول في التاريخ من حيث هو تاريخ الروح.

 

لذلك فنحن نرى أن ما تصوره هيجل نجاحا في عملية الإصلاح المسيحي ليس إلا إطلاقا للتحريف والطاغوت اللذين هما وجها العولمة الحالية وجهاها الأساسيان. وما يعتبره فشلا في عملية الإصلاح الاسلامي هو الذي سيستأنف التاريخ الكوني ليحرره فعلا وليس فقط قولا من التحريف والطاغوت. وتلك هي مهمة ما يمكن أن يسمى كلاما جديدا بحق رغم كونه عين الكلام القرآني. ولكي نثبت فرضيتنا هذه سنكتفي بعلاج قضيتين عويصتين في ما يسمى بالكلام الجديد نقدم عليهما قضيتين أكثر منهما عواصة في ما يسمى بالكلام القديم:

 

1- كانت ثانيتهما سبب المحنة الثانية في تاريخ حضارتنا محنة احكام الاستبداد بالسلطتين باسم العقل في الجدل الكلامي للمفاضلة بين التأويلات قصدت: قضية خلق القرآن أو قدمه.

 

2- وكانت أولاهما سبب المحنة الأولى التي أوجدت الاستبدادين عند المسلمين باسم النقل الذي نفي باسمه دور الانسان في التاريخ من خلال سلبه حقه في التشريع والتنفيذ السياسيين وهما عين نقل القيم الدينية من ما بعد التاريخ إلى التاريخ قصدت: قضية القضاء والقدر لتبرير توريث الخلافة.

 

فأصبحت الدولة باسم النقل "أو-و" باسم العقل ثانيا ثم باسمهما معا جهازا جهنميا يواصل الدولة الساسانية والبيزنطية اللتين ثار عليهما الاسلام جمعا بين سلطة روحية تتحكم في حرية الفكر والاجتهاد وسلطة زمانية تتحكم في حرية الارادة والجهاد.

 

فأما مسألتا الكلام الجديد اللتان نؤخرهما فهما:

 

1- أثر منزلة الاسلام من تاريخ الأديان في منظورنا الديني الحالي

 

2- وأثر منزلة الحضارة الاسلامية من التاريخ الحضاري البشري في منظورنا التاريخي الحالي.

 

وبين لكل من يحسن تحليل المعاني أن مسألتي الكلام القديم (قضية خلق القرآن وقضية الجبر والاختيار) هما أصل مسألتي الكلام الجديد رغم ما يبدو من تباعد بين الأمرين تباعد يجعل ادراك الأواصر العميقة بينهما من الحدوس التي يوفق الله بعض خلقه هبة من رب رحيم. فمنزلة الإنسان الوجودية فاعلا حرأ او منفعلا مضطرا و طبيعة كلام الله قديما أو مخلوقا هما اللتان بمناسبتهما في تاريخنا الفكري والسياسي وقعت المحنتان: محنة تأسيس الاستبداد نقلا من منطلق علاج مسألة القضاء والقدر أي مسألة اختيارية الانسان أو جبريته ومحنة تأسيسه عقلا من منطلق علاج مسألة قدم القرآن أو خلقه.

 

لكن مسألة منزلة الانسان في صلتها بالقضاء والقدر (قضية كلام قديم) ليست مقصورة على الوجه الذي يبدو خاصا بتاريخ المسلمين بل هي تحدد منظور الإسلام الديني باطلاق في علاقته بالأديان الاخرى جميعا وخاصة بالمسيحية لانها سلبا تحدد تنافيه مع تحريف العقيدة أو مع سلطان الباطل الوجودي بتأليه الانسان كيانا تأليها تكون الحقيقة بمقتضاه نسبية إليه من خلال التجسد الخَلقي أو الكوني (كلام جديد). ومسألة كلام الله (كلام قديم) ليست مقصورة على الوجه الذي يبدو خاصا بتاريخ المسلمين بل هي تحدد منظور الاسلام لعلاقة الحق بالتاريخ وتحدد بالتالي تنافيه مع تحريف الشريعة أو مع سلطان الباطل القيمي بتأليه الانسان معيارا تأليها يكون الحق بمقتضاه نسبيا إليه من خلال التجسد الخُلقي أو الأمري (سلطان الظلم: قضيةكلام جديد) (1).

 

فيكون الرابط بين الكلامين القديم والجديد هو ما يمكن أن نطلق عليه مناط التحريف الوجودي أو تأليه الانسان بنفي ما يتعالى عليه من حيث المنزلة الوجودية والتحريف الخلقي بنفي ما يتعالى عليه قيما. والمعلوم أن الامرين (كلمة الله ومنزلة الانسان) موضوع واحد في الفكر المسيحي لكنهما أمران مختلفان في الفكر الاسلامي (2). فعلاج أولاهما مرتبط بعلاج الاستبداد الزماني أو اغتصاب السلطة التنفيدية في مجال كل القيم الذوقية والرزقية والنظرية والعملية والوجودية. وعلاج ثانيتهما مرتبط بعلاج الاستبداد الروحاني أو اغتصاب السلطة التشريعية في مجال نفس القيم.

 

فتكون المسائل الفرعية أربعا الأوليان من الكلام القديم والأخيرتان من الكلام الجديد: 1- منزلة الانسان الوجودية 2- ثم كلام الله 3- ثم التحريف أو سلطان الباطل الوجودي 4- ثم الطاغوت أو سلطان الباطل الخلقي. وكلاهما ضديد الحق بمعنى الحقيقة وبمعنى الحقوق 5- وتتحد هذه المسائل الفرعية جميعا في مسألة أصلية هي طبيعة العلاقة البينة بين الآية 255 و256 من سورة البقرة. فآية الكرسي تعالج مسألتي الكلام القديم من المنظور الاسلامي وهي مسألة واحدة من المنظور المسيحي. وآية تبين الرشد من الغي تعالج مسألتي الكلام الجديد أو التحريف والطاغوت. لكن مسألتي الكلام الموسوم بالكلام الجديد (مسألة التحريف الخَلقي أو الوجودي ومسألة التحريف الأمري أو القيمي ) غير قابلتين للفصل عن مسألتي الكلام الموسوم بالكلام القديم (مسألة خلق آدم واستخلافة رمزا لمنزلة الانسان الوجودية ومسألة كلام الله حدوثا وقدم) . لذلك فنعالج الكلامين معا: في مسألتين بدايتهما قديمة وغايتهما جديدة. * المسألة الاولى:

 

ويرمز إليها رمز خلق آدم واستخلافه منزلة للانسان. ونتيجتها الأساسية هي قضية شروط تعالي الحقيقة على علم الانسان. ويهدف علاجها إلى تحرير البشرية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي إلى التحريف الوجودي أو الخَلقي بلغة الكلام: تأليه الانسان بديلا من منزلة الاستخلاف (3). ولنشرح هنا دلالات رمز خلق آدم كما يصوغه القرآن الكريم. فكل من يقول إن الانسان مؤلف من جوهرين ينبغي أن يعتبر النفخ الإلهي جزءا من جوهر الإله حل في الانسان وليس رمزا لفعل الخلق الذي ليس فيه تواصل جوهري بين الفاعل وحصيلة فعله. فيكون صاحب هذا التصور قائلا بحلول بعض الله في آدم. وينتج عن ذلك ضرورة القول بأن جوهر العبادة ينبغي أن يهدف إلى تحقيق الفصل بين الجزء الرفيع من الذات البشرية (نفخ الله أو الروح) والجزء الوضيع منها (التراب المنفوخ فيه أو الجسد).وتصبح المسألة عند النقلة من الكلام القديم إلى الكلام الحديث هي كيف تنازل الله فصار انسانا ليرفع الانسان الذي تأله بفضل ذلك؟

 

وبالتصور الأول يفهم مقصود كلام المتصوفة الذين يتكلمون عن قتل الجسد وعن فتوة ابليس الذي لم يرفض السجود حسب رأيهم عصيانا بل تمحيضا للسجود لله وحده وبصورة أدق رفضا للسجود لما في الانسان من جزء وضيع ذكره عند المقابلة بين النار والتراب. وبالتصور الثاني يفهم كل التخريف عن تقديس الانسان في الثقافة الغربية دون ملاحظة أن هذا التقديس مشروط بأن يكون الانسان غربيا ! كما يفهم طغيانه لافساد العالم كله من أجل سد حاجاته بل وكمالياته فينتقل من راعي العالم في القرآن إلى مفسده في هذه الايديولوجية التي آل إليها التصور المسيحي وخاصة في فلسفة التاريخ الهيجلية التي هي عين فلسفة الرأسمالية وخاصة ذروتها الهدامة أو العولمة.

 

وطبعا فهذا كله من سوء التأويل. فالنفخ من الروح ليس نقلا لجزء من جوهر الله واحلاله في التراب بحيث يبقى التراب ترابا ويبقى الألهي إلاهيا وكأنه سجين التراب فيستدعي التخليص بالرياضة الصوفية (وللمسيح المنجي) بل هو رمز لفعل بث الحياة المبينة التي اختص بها آدم في التراب: وإلا لكان خلق الله عيسى من جنس تناسل الطيور الداجنة إذ ينفخ الديك في فرج الدجاجة فساءً ! لكن القرآن يعتبر ما حصل من فعل النفخ تحويلا جوهريا للتراب الآدمي الذي لم يبق ترابا بل أصبح جوهرا ثانيا تماما كما يحصل من عملية تحويل احد العناصر الطبيعية إلى عنصر آخر في ما نقوم به صناعيا عند التدخل في البنية الذرية للمادة. كما أن تكريم آدم لا يعني أنه صار ربا للكون يفعل فيه ما يريد.

 

فخلقه ليس متميزا عن خلق غيره من الموجودات. ومعنى ذلك أن رمز النفخ يصح على كل الموجودات على مقدار ما تحتاج إليه من ملكات. وعند الله لا فرق بين البشر والحجر إلا بقدر ما يطابق كلا المخلوقين ما اعد له. فيكون المتأله من البشر ما ينحط على ما اعد له وتكون الحرية مشروطة بالشر كما يتصور شيلنج. وعندئذ يكون مكرم آدم جزءه الشيطاني الذي هو مصدر العصيان رمز الحرية لا الرحمن الذي هو مصدر الايمان رمز التقوى (4).

 

لكن القرآن يعتبر هذا التميز بالشر علة مآله إلى حطب جهنم لأن كل الموجودات تأتي الله طوعا أو كرها. فلا يمكن لأي موجود أن يخرج عما أعد له دون أن يعني ذلك أنه ليس حرا في حدود ما يحول دونه وتخطي مفطوريته. فلايكون الانسان حتى بالانحراف عن فطرته اي بالسقوط فضلا عن السمو ! لذلك ربط الله التكريم بالتقوى. فهي شرط الكسب أو جهد التوجه إلى القيم ( لها ما كسبت ) وعكسها الاكتساب أو ارتخاء الاخلاد إلى الدنيا (وعليها ما اكتسبت).

 

ليس الخلق كما آل إليه أمر تصوره الذي نتجت عنه هاتان القراءتان المحرفتان بتأثير من الهيولومورفية (=تصوير المواد في النظرة الصناعوية نموذجا تفسيريا لتكون الظاهرات الطبيعية) حيت تكون الصورة من جنس صورة الصناعة تضاف إلى مادة من جنس مادتها بل هو تصوير وجودي إن صحت هذه التسمية ينتح عنه تحول جوهري في المخلوق فيكون الحاصل بعدها جوهرا موحدا لا يمكن أن نميز فيه بين مادة وصورة: لذلك كان البعث الاسلامي للكائن كله بجسده وروحه. ومعنى ذلك أن فعل النفخ- ونحن نؤول رموزا ولا نقول حقائق إذ إن طبيعة الخلق من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله - ليس اضافة صورة إلى مادة أو جوهر إلى جوهر بل هو تحريك إيجادي لتفاعل ذاتي لمادة لا تنفصل فيها الهيئة عن الطينة لانها هي بدورها مخلوقة بنفس الفعل التحريكي في طور سابق. وفعل التحريك يحولها من تراب إلى آدم مثل ما نفعل عند تحويل أي مادة إلى طاقة. وطبعا فالصلصال الذي نفخ فيه هو بدوره سابق الخلق بعملية اخرى جعلته صلصالا وهكذا دواليك عودة إلى الشي العدم الذي أمره الله بكن فكان.

 

لذلك فالإنسان جوهر واحد يحيا بجسده ونفسه اللذين يشتركان في الترابية والنفخية ولا يبعث إلا بهما حتى وإن كانا يمران بفترات انفصال مؤقتة كما ينص على ذلك القرآن الكريم نصا صريحا يغني عن كل تأويل: ثم إن النفس نفسها جزء مادي ترابي ونفخي وهي ضرب وجود للذات البشرية الواحدة وليست جزءا منها كما أنها ليست كما يتصور صاحب الورقاء جزءا من الذات الالهية هبطت من المحل الارفع لتحل في الأجساد. أما التمنع والتدلل فهو بقايا من وسواس ابليس رفضا للسجود أمام من صور من تراب!

 

والاعتراض الممكن الذي هو في نفس الوقت عين علاقة المسألة الاولى (منزلة الانسان رمزا إليها بآدم) بالمسألة الثانية (مسألة كلام الله) هو: كيف يخاطب المعدوم فيؤمر بـ(كن) ؟ فلننس-قبل الجواب- المسألة اللاهوتية ولننظر في أفعالنا نحن المتناهين. ألسنا نميز بين الصانع والمبدع سواء كان المجال ماديا أو رمزيا وخاصة في الفنون حيث نميز بين صاحب العمل الفني اليتيم والمقلد في نسخ قابلة للتعدد إلى غير غاية ؟ فبم نميز بينهما؟ أليس الصانع يصور مادة بصورة والصورة والمادة كلتاهما عنده متقدمتان على صناعته وعلى مصنوعه فيكون علمه الجمع بين الامرين ؟ أما المبدع فهو الذي يتقدم على الصانع فيبدع له الصورة تسليما جدليا بأن المادة لا يبدعها أحد؟ إذا نفينا ذلك سنكون كمن يقول إن الحضارة كلها مثل الطبيعة-تسليما جدليا بأن الطبيعة متكررة ولا تتجدد-ليست قد كانت بعد أن لم تكن بل هي دائمة الوجود على الحال التي هي عليها فلم تتجدد. فلننف كل تطور حضاري إذن ما دمنا ننفي التجدد!

 

ولنعد الآن إلى الخلق عن عدم. ما نتصور بعضه ممكنا للانسان المبدع لم لا يكون كله ممكنا للخالق وكل العلوم الآن باتت تهزأ بالنظرية القائلة بقدم العالم (بالعدد وبالنوع) وتسخر من ثبات الجواهر ؟ العدم المأمور هو عدم الوجود وهو ليس مادة أولى مستعدة لان تكون كل شيء لكونها حبلى به بل هو عدم محض. ومثله ممكن وقابل للخطاب حتى عند البشر. فلما ينظر المرء في بيته فيرى ما فيها يرى ما ليس فيها من منظور ما يزيدها كمالا دون تحديد: مثال الكمال يقتضي ضرورة العدم الذي يمكن أن يكتمل بالاشرئباب إليه فيكون المشرئب ليس مشرئبا لما يكمل به ذاته بل لما يكمل به ما يماثل ذاته التي تحقق كمالها بخلق نسخة من ذاتها ليس لها قيام إلا بكونها نسخة من الذات. وإذن فالله يرى عدم الموجود دون تعيين فيخلق العالم لتتحلى فيه كمالاته آثارا لصفاته الفعلية أي إنه يرى الوظيفة التي ينبغي أن يوجد لها ما يحققها فيكون الأمر كن موجها للعدم ليصبح موجودا معينا يقوم بتلك الوظيفة.

 

ثم أليس الشيء في العربية هو ما يٌشاء (بضم الياء) ومن ثم فهو ليس تعبيرا عن موجود خارج المشيئة قبل هو تشيئته, خاصة إذا فهمنا الكلمة كما هي في الأصل أي مصدر فعل شاء ؟ ولما كانت الوظائف تتحدد بالقياس إلى المتعاليات وكانت المتعاليات الأعلى هي صفات الله كان علم الله بذاته ونظره إلى صفاته علة خلقة العالم من العدم حتى يقوم بالوظائف التي تحقق الكمالات الناتجة عن اسقاط الصفات على العدم المأمور بكن (بالمعنى الهندسي للاسقاط). إذا كان نظير ذلك كذلك بالنسبة إلى الانسان فما بالك بالنسبة إلى الخالق؟

 

وفي كل الاحوال فلسنا نقول إن الامر في حقيقته-لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه الا الله- هو كما نصف بل نقول إن ما يماثله ليس مستحيلا عقلا وإذن فهو يمكن أن يكون هكذا أو نحوه إذا حاولنا أن نفهم مدلول فعل الخلق. وليس هذا من الكلام القديم لأننا سنرى أن الكلام المزعوم جديدا لايزال دائرا حول نفس القضية في ترجمة انثروبولوجية عندما يحاول أن يفهم الابداع الانساني والتجدد في الكون الطبيعي عامة وفي التاريخ خاصة. والفرق الوحيد هو أن هذه النسخة أقرب إلى الذهن العامي من ذلك الأصل الذي لا ينفذ إليه الجمهور. فلو نفينا في الترجمة الانثروبولوجية خلق الجديد لنفينا التجديد ولو قلنا بالاصل القديم المطلق لادعينا ما ينفيه العلم كله: العالم محدث بحسب كل النظريات الكوسمولوجية لانه ذون سن قابلة للتحديد. * المسألة الثانية:

 

أما المسألة القديمة الثانية فهي مسألة كلام الله والخلق بكن. وأما المسألة الجديدة فهي نتيجتها القيمية: كيف نحرر الانسانية كلها وليس المسلمين وحدهم من التحريف القيمي او بلغة الكلام الاسلامي من التحريف الأمري؟ بكلمة واحدة كيف يكون الحق متعاليا فلا يكون مجرد تحكم إرادة الانسان؟ لكن مسألة خلق القرآن أو قدمه مسألة مضاعفة. فهل القرآن كلام الله ؟ ثم هل كلام الله مخلوق أم هو قديم؟ والغريب أن القائلين بخلق القرآن (كل الباطنية وجل المعتزلة) لم يستنكفوا من القول بقدم مثل العالم أو بشيئية المعدوم والقائلين بقدم القرآن (كل الظاهرية وجل الاشاعرة ) يعتبرون القول بقدم العالم كفرا. ومن ثم فكلا الفريقين لم ينتبه للتناقض البين بين قوليه في العالم والقرآن.

 

فكلا الفريقين يغالط بالتلاعب على معنيي المصدر. فالتناقض ناتح عن الخلط بين معنيي المصدر في الصرف العربي: فمثلما أن "الخلق" يفيد فعل الخلق ومفعول الخلق فكذلك يفيد الكلام فعل الكلام ومفعول الكلام (5). ومثلما أنه لا يمكن لعاقل أن يزعم أن العالم من حيث هو مفعول الخلق قديم من دون أن يسلم بتعدد القدماء لا يمكن لعاقل أن يقول إن القرآن من حيث هو مفعول الكلام قديم من دون أن يقول بتعدد القدماء. ومثلما أن اعتبار العالم من حيث هو مفعول فعل الخلق مخلوقا لا يعني أنه من خلق كائن آخر غير الله (كأن ينسب إلى كائن وسيط بين الله والعالم مثل الطبيعة بل الخالق هو الله) فكذلك اعتبار كلام الله من حيث هو مفعول فعل الكلام مخلوقا لا يعني أنه من خلق كائن آخر غير الله (كأن ينسب إلى الرسول محمد صلعم أو إلى جبريل بل المتكلم هو الله).

 

ويعني نفي تعدد القدماء أن كل ما عدا الله من الموجودات مجعولات ومن ثم فهي مخلوقات: لا يمكن استثناء كلام الله من حيث هو مفعول لا من حيث هو فعل من هذه الحكم. ولما كان القرآن من حيث هو مفعول فعل الكلام (لا من حيث هو فعل الكلام) لا يمكن أن يكون صفة لله فضلا عن يكون عين الله فإنه مخلوق ضرورة لكن كلام الله من حيث هو فعل صفة لله نفسه لا يمكن أن يكون مخلوقا.

 

وكان على كلا الفريقين أن يقول بأن فعل الخلق وفعل الكلام من الصفات الملازمة للذات الالهية وأن مفعوليهما مخلوقان مثل كل المخلوقات التي هي غير الله وجملتها هي العالم. ومن ثم فالأولان لا يفارقان الذات التي هي ذات صفاتها: الكلام والخلق من حيث هما فعلان. في حين أن الثانيين ينتسبان إلى العالم وهما مثل كل ما فيه مخلوقان: الكلام والخلق من حيث هما مفعولان. والذات الالهية هي ذات الوجود المطلق. وهي ذات فعل الحياة المطلقة. وهي ذات فعل العلم المطلق. وهي ذات فعل القدرة المطلقة. وهي ذات فعل الارادة المطلقة. ولا يعني ذلك أنها متعددة لان وحدة الذات في القرآن ليست وحدة مجردة كما يزعم هيجل بل هي تنوع الفعل المطلق الذي وصفناه بكونه حياة وعلما وقدرة وارادة وكلاما وخلقا إلخ... من الصفات التي وصف الله نفسه بها في قرآنه الكريم (6).

 

وحدة الذات الالهية ليست مثل وحدة العدد. إنها لا تقتضي نفي صفاتها لئلا تكون متعددة. ذلك أن علاقة الذات بالصفات ليست علاقة ظرف بمظروف حتى تفيد التعدد بل الذات وصفاتها نحوان للوحدة العضوية ذاتها. وذلك هو مفهوم ذات (مؤنث "ذو" من الاسماء الخمسة) أي "صاحبة" الصفات التي هي وجوهها ووظائفها التي تتعين في أفعالها قياما وجوديا وحياة وعلما وقدرة وإرادة: وتلك هي الكمالات التي بالقياس إليها يلاحظ العدم المأمور بكن. أما مفعولات هذه الذات فإنها غير الذات وغير الافعال ومن ثم فهي مخلوقة لأنها ما حصل عن أمر كن للعدم في ضوء الكمالات التي تجعله ملحوظا فيؤمر.

 

وكلمة كن ذات قيامين: 1- قيام فعل التلفط بها في المتلفظ بها صفة فعلية له 2- ثم قيام اللفظة "كن" بذاها بعد أن يكون فعل التلفظ قد أحدثها فصارت ذات قيام ذاتي يخصها. وذلك قياسا على أي متكلم منا لاننا لا نستطيع تصور الكلام من حيث هو فعل المتكلم إذ يتكلم فيحصل عن كلامه كلمات تقوم بذاتها بعد التلفظ بها لا نستطيع تصوره إلا بهذه الطريقة. فعندما أقول أي كلمة يحصل أمران: فعل تكلمي والكلمة الحاصلة من فعل تكلمي. وكلاهما عندي حادث لاني أنا نفسي حادث فتكون صفاتي مثلي بالاولى. أما بالنسبة إلى الله فإن فعل التلفظ بكن قديم وهو كلام الله الخالق. لكن اللفظة "كن" محدثة في كل تلفظ. وهي مصاحبة للمخلوق المأمور بها عدمه. لذلك سمى القرآن كل المخلوقات كلمات الله التي لا يكفي لكتابتها مدادا كل بحار العالم. ولا معنى لوجود لفظة كن بمفردها. فالكلام عند الانسان يمكن أن يقوم منفصلا عن معناه المفاد به لمحدودية قدرته فيحتاج الكلام إلى فعل ينقله من القول إلى العمل.

 

لكن الله ليس لقدرته حد. لذلك فإن مجرد كلامه عمل فلا يتراخي المأمور بكن عن الأمر بكن. وكان يكون غنيا عن الكلام فيكون مجرد علمه عملا لو كانت الكائنات تنفذ إلى المعاني بغير المدارك. والله غني عن خلق وسيط يخلق ما عدا صفاته قياسا على كلام الانسان في علاقته بفعله (7). وهذا هو الفهم السيء للكلمة في الافلاطونية المحدثة الفهم الذي عم بعد ذلك على الكلام المسيحي الشرقي ثم انتقل إلى الكلام المسيحي الغربي وتدفق بتوسط التصوف إلى الفكر الاسلامي فأصبح حقيقة محمدية عند ابن عربي ثم انتقل إلى المثالية الالمانية فأصبحت الفلسفة منذئذ كلاما مسيحيا متنكرا في اسلوب فلسفي بعد كساد سوق الثيولوجيا.

 

ومن ثم فالقرآن وكلام الله عامة من حيث هو صفة فعل التكلم قديم قدم الذات. ومن حيث هو مفعول صفة فعل التكلم فهو محدث مثل كل المفعولات في صلتها بفعلها الذي هو غيرها. وما يصح على فعل الخلق يصج على فعل التكلم. فالعالم أي كل ما عدى الله مخلوق. لكن فعل خلقه ليس مخلوقا لانه صفة فعل إلهي. وقياسا على ذلك فإن فعل النفخ الموجد للكائنات العاقلة قديم. لكن الكائنات التي حصلت عن فعل النفخ كلها محدثة. ولا بقاء لها إلا بالحد والقدر الذي وضعه فيها فعل النفخ لكأن ما وضع فيها شحنة خزان طاقة في جهاز صناعي بشرط أن نتصور كل الجهاز لا قيام له إلا بقيام هذه الشحنة وليس هو وعاء لها يقوم من دونها كما في الاجهزة الصناعية. ولهذه الشحنة بقاءان: بقاء دنيوي زائل يتقدم فيه فرعه الكلي الذي هو الشحنة النوعية التي نفخت في آدم بالنسبة إلى النوع البشري يليه فرعه الجزئي الذي هو الشحنة العددية (خلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء) ثم بقاء اخروي ينحصر في الشحن العددية الخالدة. * المسألة الجامعة:

 

لن نطيل البحث في هذه المسألة الجامعة. فهي أشبه بالخاتمة للمحاولة. فسورة آل عمران تفسر نشوئية التحريفين بفساد رجال الدين الذين يحرفون الكتاب من أجل المصالح الدنيوية فيؤلهون انفسهم أو أحدهم وسورة البقرة تحدد طبيعة التحريفين في آيتي الكرسي وتبين الرشد: التحريف الوجودي ( التوحيد بين ذات الله وذات الانسان) والتحريف القيمي ( التوحيد بين ارادة الله أو شرعه وارادة الانسان أو شرعه). والخلاصة أن وحدة المسألتين السابقتين في الفكر المسيحي هي وحدة التحريف الوجودي ووحدة التحريف القيمي اللذين ترجع سورة آل عمران نشأتهما في الواقع إلى فساد رجال الدين الذين يؤسسون للطاغوت الروحي والزماني وترجع سورة البقرة نشأتهما في الفكر الديني إلى تحريف مفهوم الله ومفهوم الانسان وجوديا (طبيعتهما) وقيميا ( تشريعهما).

 

وبذلك يتبين أن التحريف الوجودي يوحد مسألتي الكلام القديم ومسألتي الكلام الحديث في مستوى الحقيقة التي تصبح نسبية إلى عقل الانسان: قضية شروط تعالي الحقيقة على علم الانسان. وعلاجها يهدف إلى تحرير البشرية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي للتحريف الوجودي أو بلغة الكلام كيف تكون الحقيقة متعالية على على علم الانسان فلا تكون تحكم عقله.

 

كما يتبين أن التحريف القيمي يوحد نفس المسائل في مستوى الحق الذي يصبح نسبيا إلى ارادة الانسان: قضية شروط تعالي الحق على عمل الانسان وعلاجها يهدف إلى تحرير الانسانية كلها وليس المسلمين وحدهم بالتصدي للتحريف القيمي او بلغة الكلام كيف يكون الحق متعاليا على عمل الانسان فلا يكون تحكم إرادته.

 

وتأليه الإنسان هو جوهر الطاغوت الناتج عن جوهر التحريف. فالحقيقة والحق صارا ما يحدده عقل الانسان وإرادته مقصورين عليه في حين أن الحقيقة والحق حتى في أذهان العامة هما ما يتعالى على ما يدركه الانسان ويعمله لان الادراك والعلم نفسيهما ومن حيث هما ادراك وعمل هما ادراك وعمل لموضوعهما وادراك وعمل لقصور الادراك والعلم على استغراق الموضوع مهما كان حقيرا. فإذا قلنا بالاستغراق في العلم والعمل كان ذلك جحودا لتعالي الحقيقة والحق وإذا نفيناه كان ذلك شهودا للتعالي وإيمانا بالغيب دون نفي قيمة العلم والعمل بالشاهد في حدود الاجتهاد والحهاد الانسانيين. وهذا غير النسبية: فهو من آداب العلم والعمل وليس من نفي الحقيقة. والنسبي فيه هو قدر علم الانسان وعمله وليس موضوع علم الانسان وعمله موضوعها المتعالي عليهما دائما تعاليا هو عين الغيب النظري والعملي.

 

وحتى نوضح الامر بأكثر ما يكون الوضوح ممكنا. فلنبين سوء التقدير في مجال الحقائق الوجودية من المنظور الجحودي. فلو قال قائل إن الطبيعة هي جملة النظريات حولها لاستسخفه الجميع ولاعتبروه مهلوسا. فقالوا له أنت لا تميز بين اجتهادات البشر لعلم الطبيعة والطبيعة التي هي موضوع محاولاتهم العلمية. وقل ألا يحصل اجماع في هذه المسألة إذا ما استثنينا القائلين بالانطوائية المطلقة الذين يقصرون وجود الطبيعة على ظاهرات الوعي بها. لكن هذا الاجماع يبدو بسرعة قابلا للانقلاب إلى عكسه عندما نتكلم عن الظاهرات الوجودية من منظور ديني. يتصور غالب المتفلسفين أن الحقائق التي يتكلم فيها الدين لا قيام لها وراء كلام الفكر الديني فيها: الحقائق الدينية لا تتعدى ظاهرات الوعي الوعي بها.

 

وهبنا ذهبنا إلى أكثر من ذلك تجريدا حتى يكون القياس أوضح. فلو قال قائل إن قوانين الطبعية لا ظاهراتها ترد إلى علمنا بها لضحك منه كل البشر فضلا عن العلماء منهم. فهذه حقائق لا يمكن التذرع فيها بحجة اشتراك الجميع في ادراكها. فلا يدرك قوانين الطبيعة إلا كبار العلماء خاصة عندما يتعلق الامر بالمعقد منها والذي لا يدرك إلا بعلم رياضي معقد. لا شك أنه يوجد من يقول إن قوانين الطبيعة ليست إلا ما اخترعه العقل الانساني من عبارات رياضية عنها. لكن أغلب العلماء يعتبرون ما اخترعه العقل الانساني للتعبير عن قوانين الطبيعة محاولات للتعبير عن أمر ذي وجود حقيقي مستقل عن تلك المحاولات التعبيرية. والحجة على ذلك مضاعفة. فالمحاولات أولا تتطور لصوغ قوانين نفس الظاهرات وهذا التطور ثانيا ليس مجرد تجويد للادراك فحسب بل هو اكتشاف لامرين أساسيين في المعرفة البشرية: الخطأ العلمي (ولا معنى لذلك من دون مقايسة العبارة مع المعبر عنه ) والتعالي الموضوعي (ولا معنى لذلك من دون التسليم بلاتناهي الموضوع قبالة تناهي محاولات التعبير عنه).

 

ثم هبنا قبلنا بالقياس على علاقة الابداع الادبي بما يعالجه من ظاهرات وقبلنا بأن الظاهرات التي يعالجها الابداع الادبي ليس لها قيام خارج الابداع الادبي. ألا تكون الظاهرات الادبية من ابداع شيء في الانسان هو غير وجوده التاريخي المادي المشترك بين كل البشر الذين لا يد لهم في الابداع الادبي؟ ألا يكون ذلك دالا على أن ظاهرات الابداع الأدبي بحاجة إما إلى النسبة إلى حياة البشر العادية موضوعا ينظر إليه بعين المبدعين الذين يرون فيه ما لايراه غيرهم أو إلى عالم متعال لا يراه غيرهم؟

 

ولنعد الآن إلى علاقة العلم بالطبيعة. أليس العلماء هم الذين يرون القوانين عالما يتوسط بين مداركهم الذاتية والظاهرات الطبيعية بحيث لا تكون القوانين في مداركهم ولا في الظاهرات الطبيعية بل هي في محل ثالث أو في منزلة وجودية ثالثة تختلف عن المنزلتين المتقابلتين: بين منزلة المدركات في المدارك ومنزلة المدركات في موضوعاتها؟ فإذا لم يكن الناس يعيشون داخل أوعائهم بحيث تكون أوعاؤهم في أوعائهم فيكون العالم مقصورا على الوعي فحسب فإنه من الضروري أن توجد هذه المستويات الثلاثة مع جسرين رابطين بين الحدين والوسط: بين مدركاتي في مداركي والقوانين العلمية وبين مدركاتي في موضوعاتها والقوانين العلمية. وبذلك تصبح المستويات خمسة: مداركي وموضوعها ومدركاتي ووصلة بين المدركات والمدارك وصلة بين المدركات والموضوع.

 

فإذا افترضت نفسي صاحب المستويات الاربعة التي هي غيري والتي يمكنني أن أزعم أنها مضمونات وعيي بقيت أنا. فهل أنا مضمون من مضمونات وعيي فأكون من صنع ذاتي بخيالي كما أتصور المستويات الأربعة الاخرى من المنظور الانطوائي: ألست عندئذ أطبق على نفسي بالضبط وبكامل الدقة كل ما كان علم الكلام يطبقه على مفهوم الله فلا أكون بهذه الأوهام إلا مؤلها نفسي ؟ أأكون أصلا لا يدرك تعليلا لوجوده فضلا عن كونه أصلا؟

 

طلب الجواب عن هذه الاسئلة هو الذي فرض المسألة الدينية على العقل البشري: فلا يمكن لي أن أخرج من ذاتي فضلا عن فهم واقعة خروجي من ذاتي من دون أن أعلل خروجي من ذاتي بغير واقعة خروجي من ذاتي التي هي من جوهر الادراك والعيش مع الجماعة. ولما كان الجواب الديني أو الفلسفي (الذي هو دين طبيعي) شرط التسليم بوجود العالم الطبيعي نفسه من حيث هو حقيقة موضوعيه فإن العالم الخلقي أو الروحي بات متقدم الوجود على العالم الطبيعي أو المادي على الأقل في المعرفة البشرية ومن ثم فلا يمكن أن يكون ما هو شرط كل موضوعية علمية كانت أو فنية غير موضوعي بمعنى أسمى من الموضوعيتين العلمية والأدبية.

 

لذلك فادراك حدود الجحود أو الكفران بالطاغوت ينبغي أن يكون متقدما فينومينولوجيا (في الادراك والوعي به) على ادراك الشهود أو الايمان باللاهوت. لكن التقدم الانطولوجي هو العكس تماما. فيقتضي ذلك أن يكون متقدما انطولوجيا كذلك (في القيام الذاتي بصرف النظر عن الادراك والوعي). لو لم يكن الانسان شاهدا في الأصل لامتنع عليه أن يدرك حدود حصر الوجود في الادراك أو الجحود الذي هو أصل كل طاغوت. فيكون التحريف مرضا يصيب النفس البشرية فتجحد الشهود المتقدم لتطغي طغيانا يحول الشهود إلى مجرد ظاهرات وعي فتصبح الأديان معتبرة من أوهام البشرية الميثولوجية. لذلك فسنختم هذا الفصل بشهادتين من نص القرآن الكريم دون مزيد تعليق:

 

الأول هو تفسير القرآن الكريم نشأة الحجود وعلله منزها عيسى عليه السلام من هذا المرض حيث قال جل وعلا:"ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك.ومنهم من إن تؤمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (8)* إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (9)* وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (10)* ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونا عبادا لي من دون الله و لكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (11)* ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون" (12).

 

الثاني هو تحديد القرآن لاصل التحريفين الموجب قبل السالب بدءا بتعريف الذات الالهية وعلاقة علم الانسان بها من منظور محدودية علمه وعمله وختما بتعريف الايمان الحر الناتج عن تبين الرشد من الغي والمشروط من ثم بهذا التبين الذي هو الكفر بالطاعوت. قال جل وعلا: "الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولانوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم (13)* لا اكراه في الدين قد تبن الرشد من الغي فمن يكفر الطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (14).

 

وذلك ما كان علينا بيانه C.Q.F.D. فهذه الايات غنية عن التفسير والشرح. ومن عميت بصيرته لا فائدة من محاولة تفهيمه. والله اعلم وهو الموفق إلى ما فيه الخير والصواب. * د. أبو يعرب المرزوقي: الجامعة العالمية الاسلامية ماليزيا

 

الهوامش:

 

1- الكلام المسيحي لا يميز بين المسألتين المتميزتين في الكلام الاسلامي لانهما تعودان إلى مسألة واحدة هي مسألة التثليث. لذلك فهم لا يرون نوعي التحريف العقدي والشرعي أو التأليه الوجودي (طبيعة الانسان وينتج عنه نسبة معايير العلم إليه) والتأليه القيمي (تشريع الانسان وينتج عنه نسبة معايير العمل إليه). ونحن نعتذر للقارئ غير المختص لاسعتمالنا مصطلحات خرجت من التداول العادي لموت التقاليد التعليمية الفنية في مؤسساتنا الجامعية ذات التحديث الطلائي. وكان يمكن أن يشفع لهذا الجهل بالقديم التمكن من الحديث. لكن العلم بالحديث لا يقل ضحالة عن العلم بالقديم !

2- وهذا هو أصل الصراع العقدي بفروعه الخمسة بين الاسلام والمسيحية. والغربيون فيها جميعا مسيحيون إلى الأذقان وخاصة من كان منهم علمانيا كما نبين وكما يمكن أن ندعم ذلك بشهادة هيدجر الذي يفهم حضارة الغرب أفضل من أي مسلم مهما كان متشربا للحضارة الغربية (انظر هذه الشهادة في كتابنا الشعر المطلق): 1- منزلة كلام الله 2- ومنزلة الانسان 3- وأثر المنزلة الأولى في المنزلة الثاني أو منزلة المتعاليات في التاريخ 4- وأثر المنزلة الثانية في المنزلة الأولى أو أثر التاريخ في المتعاليات 5- وأخيرا أصل كل هذه المسائل هو الصراع بين التوحيد المسيحي بين كلمة الله والانسان ( وهو جوهر التحريف كما هو بين من سورة آل عمران) والتمييز الاسلامي بينهما. فالانسان ليس كلمة الله بل بعض المخاطب بها خلال توجهها إلى كل الكائنات.

3- وفيه احالة إلى خلق عيسى بأسلوب داحض لان القرآن اعتبر خلق عيسى من جنس خلق آدم ودونه اعجازا لانعدام الجنسين في آدم ووجود أحدهما في عيسى. فلا بد أن يكون النفخ في التراب لخلق آدم أكبر أثرا من النفخ في فرج مريم لخلق عيسى. ومعنى ذلك أن الله لو كان أبا لأحد لكان الأولى أن يكون أبا لآدم. ثم إن الحاجة إلى الشفيع من الخطيئة منعدمة من منظور الاسلام لأن الخطيئة جبت بعد أن تاب آدم وعفى الله عنه ثم اجتباه. لذلك فرسالة عيسى جعلوها تحريفا لرسالة آدم: آدم برأ الجنس وأغنى الناس عن الشفيع وعيسى صيروه محرما الجنس على حوارييه ومعيد الحاجة إلى الشفيع.

4- انظر شيلنج F.W.J. Schelling, Ueber das Wesen der menschlichen Freiheit, Saemmlichen Werke, hg. v. K.F. A. Schelling, Bd. VII, Stuttgart/Augsburg 1960 s. 331-416.

5- وهذا التمييز الصرفي بمجرده يغني عن الحل الزائف الذي لجأ إليه الفكر الاشعري مع الدحض المفحم لنفاة الخلق والقدم ومثبتيهما في نفس الوقت لتحيل أدلتهما التي تتكلم عن شيئين مختلقين تمام الاختلاف وكأنهما شيء واحد. فلا حاجة للتمييز بين الكلام النفسي والكلام اللفظي لان القرآن مثلا كله من أفعال الله بمعناه ولفظه. فلا يمكن نسبة بعده المعنوي إلى الله وبعده اللفظي إلى البشر من حيث هو فعل فيكون الله متكلما بالمعاني من دون الالفاظ. فذلك يضاهي قولنا بأنه خالق لمثل العالم دون أعيانها المادية التي هي العالم الطبيعي الذي ندركه بمداركنا. لكن كلام الله مثل خلق الله وكل صفات الافعال لها مفعولات تعد أثرا لفعلها. فهل آثار افعال الله مثل أفعاله ؟ أفعاله غير مخلوقة بل هي صفات فعلية ومفعولاته مخلوفة لانها كائنات محدثه تنتج عن أفعاله تماما كما هو شأن كل الموجودات في العالم. وهذا الحل يحررنا من تشقيقات علم الكلام القديم ويغنينا عن كل محاولات الرد عليها دون التطرق إلى ما يفرض حلولها للتسليم مثلا بدوران الاشكال حول نفس الامر في حالتي فعل الكلام ومفعول الكلام أو فعل الخلق ومفعول الخلق وكلاهما يقصد بالمصدر كلام أو الخلق. وإذن فالاشكال كله اشكال صرفي علته أن العربية تستعمل المصدر للدلالة على الامرين. فيكون فكر المجادل في المسالة منزلقا من أحد المعنيين إلى الآخر من حيث لا يدري: وتلك هي أغاليط مثبتي المخلوقية والقدم ونفاتها في الحالتين.

6- حللنا بعض مزاعم هيجل لكننا نعجب من أنه يتجاهل أن أصل الخلاف بين المعتزلة والفرق السنية يدور حول التعطيل. ولو صح ما يقوله هيجل عن الاسلام لكان الاسلام مقصورا على التصور الاعتزالي والباطني.

7- وتراخي الفعل عن الكلام من أشد الاشياء مذمومية في القرآن الكريم. فهو العلامة الفارقة بين الايمان الصادق والنفاق وبين الفن المبدع والغواية (الشعراء).

8- التعليل العام بنظرية الجوهيم مع استثناء البعض برمز رد الأمانة.

9- العلامة المميزة للتحريف وهي النفاق العام رمزا إليه بالايمان الكاذب أو بما نسميه اليوم ازدواج المعايير حيث تتوقف القيم في الحدود التي أشرنا إليها في التحليل السابق.

10- تحريف كتاب الله تحريفا ماديا بالزيادة والنقصان.

11- تبرئة عيسى عليه السلام من التحريف وبيان طبيعة التحريف الوجودي والقيمي برمزي تعليم الكتاب ودراسة الوجود.

12- وظيفة الاسلام الإصلاحية أو إن شئنا جمعه بين العرض الفينومنولوجي لعلاقة الانسان بالوجود ثم اعادته للعلاقة الانطولوجية التي تجعل الشهود أصلا والجحود نسيانا للاصل ما يجعل الرسالة الخاتمة بالضرورة اصلاحا وتصحيحا للتحريفات السابقة. والايات من آل عمران 75-80

13- تعريف الذات الالهية وصفاتها الذاتية والاضافية وتحديد الذات البشرية علما (ولا يحيطون ) وعملا (يشفع) من المنظور الالهي ومن المنظور الانساني للحاجة إلى رموز قابلة للفهم تسمح برؤية المعنى جيئة وذهابا بين المنظور الأول والمنظور الثاني.

14- البداية هي تبين الرشد من الغي تبينا يجعل الايمان حرا بلا اكراه خبرا (هو لا يكون إلا كذلك بذاته) وانشاء (نهي المسلمين عن محاولة الاكراه ) وتلك هي وظيفة الرسالة الخاتمة. والنهاية هي الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الرسالة الخاتمة أو القرآن الكريم. والنقلة في مستواها الفنيومينولوجي هي التحرر من الطاغوت أو الكفر به للوصول إلى اللاهوت أو الايمان بالله. أما في مستواها الانطولوجي فأصل التحرر هو تبين الرشد من الغي أي تقدم فطرة الشهود على نسيانها أو الجحود. والآيتان من سورة البقرة 255-256.

 

المصدر: خاص-الوحدة الإسلامية

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك