التطرف في المنهج والرؤوس لا في الضمائر

التطرف في المنهج والرؤوس لا في الضمائر

يوسف القرضاوي

* كلمة القرضاوي أمام ملتقى (اقرأ) بشرم الشيخ

جاءت كلمة الشيخ يوسف القرضاوي أمام مؤتمر إقرأ الفقهي المنعقد في شرم الشيخ في إطار المحور الأول للمؤتمر والذي يدور حول الإجابة على عدة تساؤلات يأتي في مقدمتها الجهاد والإرهاب: توافق أم تناقض؟

ويطالب الشيخ القرضاوي بضرورة تحديد هذه المفاهيم أولاً، محذراً من دوافع القوى الصهيونية والأمريكية والغربية بصفة عامة قائلاً : " قبل بيان الموقف الشرعي من هذا التساؤل يجب علينا- قبل كل شيء- تحديد هذه المفاهيم والمصطلحات التي تجرى على الألسن، وتسيل بها الأقلام، دون أن يعرف الناس لها مدلولاً محدداً، أو تعريفاً جامعاً مانعاً؛ يزيل عنها كل لبس، ويوضحها لعامة الناس توضحاً كافياً.

 

فإن القوى الصهيونية والأمريكية والغربية بصفة عامة، تجعل الدفاع عن الوطن من الإرهاب، والمدافعين عن أوطانهم من الإرهابيين.وعلى هذا الأساس، أدخلوا جماعات المقاومة للاحتلال الصهيوني في قائمة الإرهابيين، مثل: حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وجماعة (الجهاد الإسلامي) وفصائل المقاومة المختلفة في فلسطين، وكذلك (حزب الله ) في لبنان. كل هؤلاء إرهابيين!

 

وهؤلاء جميعاً يقومون بما يسميه الفقهاء ( جهاد الدفع) ويعنون به: دفع العدو الذي غزا بلدهم بكل ما يستطيعون، وقد أجمع الفقهاء من جميع المذاهب، وخارج المذاهب، على أن هذا الجهاد فرض عين، للذود عن دار الإسلام، وأرض الإسلام.

 

وفي هذا الجهاد تسقط الحقوق الفردية أمام حق الأمة العام، في تحرير أرضها، وطرد عدوها عنها، وفي هذا قالوا: تخرج المرأة لهذه المقاومة أو هذا النفير العام، ولو بغير إذن زوجها، والابن بغير إذن أبيه، والخادم بغير إذن سيده، لأن الزوج أو الأب أو السيد إذا منعهم من هذا الجهاد يمنعهم من أداء ما فرض عليهم، وهذا يعدّ أمراً محرماً، وهو معصية ظاهرة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

 

وقد دعا القرضاوي علماء الأمة إلى ضرورة الوقوف بشدة أمام هذه الدوافع الخبيثة قائلاً: " ويجب على علماء الشرع أن يقفوا بشدة ضد التوجه الصهيوني والأمريكي في تجريم المقاومة للاحتلال، واعتبار ذلك من الإرهاب الذي يجب إعلان الحرب عليه. ولا بد للعلماء أن يكون بيانهم صريحاً واضحاً لا لبس فيه ولا غبش: أن من حق من احتلت أرضه – بل من واجبه الشرعي- أن يدافع عن أرضه التي هي أرض الإسلام، بكل ما يستطيع من قوة، ولو كان ذلك عن طريق العمليات الإستشهادية، التي جعلها الله سلاح الضعفاء في مقابلة الأقوياء المستكبرين. وعلى المسلمين جميعاً أن يعاونوا هؤلاء بالمال والسلاح والرجال، على حسب حاجتهم، لأنهم أمة واحدة " يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على ما سواهم"(1) وكل جزء من أوطان المسلمين، يعتبر جزءاً من (دار الإسلام) التي يجب على المسلمين جميعاً أن يحموها ويدافعوا عنها بالأنفس والأموال.وهنا يظهر لنا تساؤل هام ألا وهو :

 

هل يجوز لجماعة من المسلمين أن تعلن الحرب على الغير دون موافقة ولي الأمر، أو مجموع المسلمين؟

 

وأجاب القراضاوي قائلاً أن الأصل في الجهاد أن يكون بإذن ولي الأمر الشرعي الذي ارتضاه المسلمون إماماً لهم يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله؛ لما يترتب على الجهاد من أعباء وأخطار في الأنفس والأموال والحرمات. فلا يجوز أن يوكل إلى إرادات الأفراد وأهوائهم ونزعاتهم الخاصة . قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) النساء:59. وقال سبحانه فيما يتعلق بشؤون الأمن والخوف، أو السلم والحرب:( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء:83. وقال رسوله عليه الصلاة والسلام:" "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" (2).

 

بل قرر العلماء: أنه يجوز الجهاد مع ولي الأمر الفاسق ما دام قوياً قادراً على الجهاد، فإن فسقه على نفسه، وقوته للمسلمين، ولهذا قالوا: يجهاد مع كل بر وفاجر، ولا سيما (جهاد الطلب) أي جهاد الأعداء في ديارهم، فهذا يتحتم فيه بالإجماع موافقة ولي الأمر. إذ قد يرخص بعض العلماء في ( جهاد الدفع) والمقاومة: أن يتم بدون إذن أولي الأمر، لأنه كما قال ابن تيمية: جهاد اضطرار لا جهاد اختيار(3). وخصوصاً إذا تقاعس ولي الأمر عن القيام بالجهاد المفروض، أو تعاون مع الغزاة ووالى أعداء الله، فله حكمهم في هذه الحالة، كما قال تعالى:(وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) المائدة:51.

 

ولكن المشكلة في (فقه جماعات العنف): أنهم يتهمون الحكومات القائمة في الدول الإسلامية بصفة عامة: أنها حكومات غير شرعية. لهذا لا يطلب إذنها، بل هم يوجبون محاربتها، والخروج عليها، فكيف يطلبون إذنها؟

 

ولهذا ينبغي مناقشتهم في هذا الفقه نفسه، والأصول التي بنوا عليها تكفير هذه الحكومات، واستباحة عصيانها والخروج عليها بالسلاح.

 

وهذا ما يناقشه الفقه الإسلامي في كتاب ( البغاة) وهم الخارجون على الإمام بتأويل، كما ناقش الفقه هذا عند بيان مسألة التكفير وضوابطه. * الإسلام يحرم ترويع الآمنين:

 

وحول تساؤله، هل من الجهاد ترويع وقتل المسلمين، وإتلاف ممتلكاتهم ؟

 

يوضح أن ترويع الآمنين أمر محرم في الإسلام. فمن حق كل إنسان أن يعيش آمناً على نفسه، وعرضه، وماله، وأهله، وسائر حرماته. ولا يجوز تخويفه وترويعه بأي صورة من الصور، ولو على سبيل المداعبة.

 

وقد روى عن النعمان بن بشير: أنهم كانوا في سفر مع النبيr، وكان رجل من الصحابة معه كنانة فيها سهام له، قد وضعها تحت رأسه، فأخذته سنة من النوم، فأراد بعض الصحابة أن ينتزع سهماً من كنانته ، فانتبه الرجل فزعاً حينما أحس بذلك، فقال r :" لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً"(4).

 

هذا مع أنه فعلها على سبيل المزاح والمداعبة.

 

وقوله "يروع مسلماً" لأن القصة حدثت بين مسلم ومسلم، ولكن هذا لا يعني أن يروع المسلم غير المسلم، فإن ذلك لا يجوز، والأصل في ذلك قوله r:" المؤمن من أمنه الناس على دماءهم وأموالهم"(5).

 

وإذا كان الترويع لا يجوز، فكيف بقتل النفس وإراقة الدماء؟ إن هذا من أكبر الكبائر وأعظم ما يوجب غضب الله تعالى ولعنته قال تعالى:( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) النساء 93.

 

وفي الحديث " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم"(6). رواه النسائي.

 

وكما حرّم الإسلام دم المسلم، حرّم ماله وعرضه " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله"(7).

 

السؤال الثالث: هل من الجهاد قتل الأجنبي ـ ولو كان من الحربيين ـ إذا دخل بأمان من الدولة، أو من آحاد المسلمين؟

 

والجواب: أن من أمنه المسلمون من الحربيين، لا يجوز قتله ولا الاعتداء عليه في نفسه أو ماله أو أهله ، ولو كان الذى أمنه فرداً عادياً من المسلمين ، رجلاً أو امرأة ، أو حتى عبداً من رقيقهم.

 

وقد ثبت فى الحديث: أن أم هانئ بنت أبى طالب أمنت رجلاً من أحمائها من المشركين ، وأراد شقيقها علي بن أبى طالب أن يقتله ، فشكت ذلك إلى رسول الله r فقال لها: ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)(8).

 

وقد أخذ العلماء من ذلك: أن إعطاء المرأة للجوار أو الأمان ، يجب أن يُراعى ولا يخترق ، وأن على الدولة المسلمة أن تحترم ذلك.

 

ولذلك، يجب حماية كل الأجانب الذين يدخلون بأمان من المسلمين، ما دامت معهم تأشيرة الدخول التي تعطيها الدولة عادةً، أو ما يقوم مقامها فى ذلك.

 

ولهذا كان الاعتداء على (السياح) الذين يدخلون ديار الإسلام مستأمنين محرماً شرعاً ، لأنهم فى ضيافة المسلمين وحمايتهم، وقد أعطاهم هذا الأمان عهداً مؤقتاً لا يجوز أن ينكث ، وفى الصحيح:" من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة"(9).

 

السؤال الرابع: هل الصحيح هو الجمع بين آيات الجهاد أم نسخ بعضها ببعض ؟

 

وهل الصحيح فى زمن قوتنا: أن ننسخ كل رحمة، وكل صفح وكل عفو؟

 

وفى زمن ضعفنا: نمحو دلالة كل آية فيها وجوب مقاومة المعتدي؟؟

 

والجواب: أن الأصل المتفق عليه بين أهل الفقه والأصول: أن لا نلجأ إلى القول بالنسخ - بل القول بالترجيح – بين النصوص، إلا بعد أن نعجز عن الجمع بينها.

 

فالجمع بين النصوص هو الأصل، لأنه يقوم على إعمال النصوص كلها، دون إلغاء بعضها بالنسخ أو الترجيح. ولا سيما النسخ الذى هو إبطال لمفعول النص ، بحيث يبقى لفظه، ويرتفع حكمه، فكأن وجوده لاغٍ أو معدوم!

 

ومن قرأ القرآن الكريم بتدبر، وجد فيه عشرات الآيات التي تدعو إلى الدعوة بالرفق واللين، والجدال بالحسنى، والصبر على الأعداء، والصفح عنهم، وعدم بدءهم بالعدوان، وقتال من يقاتل المسلمين منهم، والاعتداء عليهم بمثل ما اعتدوا على المسلمين، وكف اليد عنهم إذا كفوا عن المسلمين وألقوا السلم، وتحريم الاعتداء عليهم حينذاك، والترغيب في بر المسالمين منهم والإقساط إليهم، وإجابتهم إذا دعوا إلى السلم أو جنحوا له، واحترام عهودهم ومواثيقهم..إلى آخر الآيات الكثيرة التي تصب في هذا الاتجاه.

 

ولكننا وجدنا العلماء أمام هذه النصوص تقف مواقف متباينة، منهم من قضى على هذه النصوص بكلمة واحدة، في غاية السهولة والبساطة، وهي: أنها منسوخة.

 

وما الذى نسخها؟

 

نسختها آية واحدة، وهي التى قالوا عنها: آية السيف!

 

وما آية السيف هذه؟

 

اختلفوا فيها فقال بعضهم: هي قوله تعالى :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(التوبة:5.

 

وقال آخرون: هي قوله تعالى في نفس السورة(وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) التوبة: 36.

 

وقال فريق ثالث هي آية الجزية ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة: 29.

 

وقد ناقشنا هذه الدعوة وفندناها بالأدلة الناصعة في كتابنا (فقه الجهاد)(10).

 

وملخص ذلك: أننا لسنا في حاجة إلى القول بالنسخ الذي قال به كثير من العلماء من المفسرين والفقهاء، حتى زعم بعضهم: إن آية واحدة هي التي سموها آية السيف- نسخت 114- مائة وأربع عشرة آية، أو أكثر من ذلك.

 

والنسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال، والأصل في آيات الكتاب: الإحكام والثبوت، واليقين لا يزال بالشك.

 

كما أننا لسنا في حاجة إلى القول بالإنساء الذي قال به الزركشي وتبعه السيوطى، ومعهما بعض المعاصرين. وقد ضعفنا هذا القول من جهة النقل ومن جهة النظر.

 

والواجب أن ننظر فى الآيات نظرة مستقلة، نجمع بينها في تناسق، ونضع كل آية في موضعها بلا تعارض ولا تناقض.

 

ومن العلماء من حمل الآيات التي تدعو إلى قتال المشركين كافة، وتأمر المسلمين أن يقتلوهم حيث ثقفوهم، ويحصروهم ويقعدوا لهم كل مرصد، ونحو ذلك من الآيات التي يفهم منها مبادأة الكفار بالقتال ، وإن لم يكن منهم عدوان على المسلمين... حملوا هذه النصوص على أنها في حالة القوة والتمكين والعلو من المسلمين. أما آيات الدعوة إلى المسالمة والصفح والعفو، والكف عن المسالمين والترغيب في برهم والإقساط إليهم...إلى آخر تلك النصوص، فهذه ليست منسوخة، بل هى (منسأة) أى مؤخر العمل بها في حالات الضعف الذي تنزل بالمسلمين.

 

وعلى هذا لا نسخ بين آيات القتال بعضها وبعض، بل يعمل بآيات الهجوم في حالة قوة المسلمين، وآيات الدفاع والمسالمة في حالة ضعف المسلمين.

 

وأبرز من قال هذا: الإمام برهان الدين الزركشي في كتابه ( البرهان في علوم القرآن) في حديثه عن النسخ فقد قال بصريح العبارة:

 

الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء(11) الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء؛ كما قال تعالى (أو ننسئها) البقرة: 106، فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

 

قال الزركشي: (وبهذا التحقيق تبيَّن ضعفُ ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا.

 

وإلى هذا أشار الشافعي في (الرسالة) إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة(12)، ثم ورد الإذن فيه، فلم يجعله منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته؛ حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.

 

ومن هذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم…) المائدة:105، كان ذلك في ابتداء الأمر(13)، فلما قوى الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه. ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"(14) عاد الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك"(15).

 

وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه: ما يليق بتلك الحال، رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من طالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية – إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.

 

ويعود هذان الحكمان – أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة (استخدام السيف) عند القوة – بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته(16). انتهى.

 

وذكر ذلك الحافظ جلال الدين السيوطى في كتابه المعروف (الإتقان في علوم القرآن)وإن لم يعزها إلى (الزركشي) كما اعتاد أن يفعل.

 

وقد رضي هذا القول أوهذا التأويل بعض العلماء المعاصرين، ورتبوا عليه ما سموه: فقه التمكين، وفقه الاستضعاف، وتفاوت الأحكام بتفاوت الحال من التمكين والقوة، أو الوهن والاستضعاف. * رأيي في هذا التأويل:

 

وهذا التأويل في نظري ضعيف وغير سليم، من جهة النقل والأثر، ولا من جهة الرأي والنظر.

 

فأما من جهة النقل, فإن الناظر في النصوص القرآنية التى استدل بها دعاة القتال (الهجومي) على فكرتهم، والأخرى التى استدل بها دعاة الجهاد (الدفاعي) على فكرتهم يجد أن هذه وتلك: كلها نجدها في السورة الواحدة.

 

فنجد في سورة البقرة قوله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) لبقرة 116 الآية،التى يستدل بها الهجوميون،ونجد كذلك الآية الأخرى التى يستدل بها الدفاعيون، مثل قول الله تعالى:( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين) البقرة:119، وقوله:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ)البقرة: 193 ,194. ونجد في سورة الأنفال قوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)الآية:40, وفي نفس السورة قوله سبحانه:(وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) الآية:61.

 

وفي سورة التوبة: نجد عدة آيات اشتهرت بأنها (آية السيف)، لعلّ أشهرها قوله تعالى:( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) التوبة :4 ،ومع هذا نجد الآية التالية تقول:(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة:5.

 

وبعدها يقول تعالى:( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)الآية:6.

 

وبعدها بآيات يقول:( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) الآية:13, فدل على أن مقاتلتهم إنما طلبت بعد ما قدمت أيديهم من مظالم وإساءة للمسلمين، فقد نكثوا الأيمان، وهموا بإخراج الرسول ، وبدأوا المسلمين بالعدوان.

 

وفي سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، نجد قوله تعالى في شأن أهل الكتاب:( وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) المائدة 13.

 

ومن جهة الرأي والنظر: نرى أن هذا القول أو التفسير يظهر: أن المعايير الأخلاقية للإسلام ليس لها ثبات ولا شمول، وأنها تتغير بتغير القوة والضعف، فيجوز في حال القوة ما لا يجوز في حال الضعف. فإذا كان المسلمون أقوياء مقتدرين يجوز لهم أن يفزعوا الآخرين، ويحتلوا ديارهم، ويفرضوا عليهم الجزية وهم صاغرون كما يفعل الأمريكان اليوم, الذين يرون من حقهم الحكم في العالم لأنهم يملكون أعظم قوة عسكرية واقتصادية في العالم.

 

وإذا كان المسلمون في حالة ضعف ووهن: جاز لهم أن يتركوا الجهاد والغزو، وأن يكتفوا بالكمون داخل حدودهم؛ حتى تواتيهم القوة!!

 

وهذا أشبه بالنظرية الميكافيلة التي ترى أن ( الغاية تبرر الوسيلة) وهذا ما ترفضه الأخلاقية الإسلامية التي تقوم على ثبات القيم وشمولها، وترفض أن تصل إلى الغاية الشريفة بوسيلة غير نظيفة. الهوامش:

 

[1] رواه أبو داود (3927) والنسائي (4654) عن علي بن أبي طالب.

[2] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (1204) رواه البخاري في الجهاد (2957) ومسلم في الإمارة (38/1939) عن أبي هريرة.

[3] انظر : "السياسة الشرعية" في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (28/359،358).

[4] رواه أحمد )17941،17940) وأبو داود (5004). ورواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات كما قال المنذري في الترغيب والترهيب ( المنتقى /1689) والهيثمي في المجمع ( 6/254) . وصححه الألباني في " غاية المرام " (447)

[5] رواه أحمد في مسنده عن فضالة بن عبيد (22833)، ورواه الترمذي (2551) والنسائي (4909) عن أبي هريرة، وصححه الألباني في سلسلة الصحيحة ( 249) .

[6] رواه النسائي في كتاب تحريم الدماء من سننه (7/82 ،83) عن عبد الله بن عمر، وروى نحوه من حديث بريدة، ورواه الترمذي في الديات (1395) مرفوعا وموقوفا، ورجح الموقوف، ورواه ابن ماجه عن البراء بن عازب (2619) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون. وحسنها الحافظ ابن حجر في التلخيص، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5078).

[7] رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب (4650) وهو من أحاديث الأربعين النووية.

[8] رواه سعيد في سننه (2/234) وعبد الرزاق في المصنف (5/223-224) الأثران: 9438و9439) وأصل الحديث متفق عليه. انظر: اللؤلؤ والمرجان (193).

[9] رواه البخاري في الجزية والموادعة (3166) عن عبد الله بن عمرو.

[10] تحت الطبع, وتقوم بطبعه مكتبة وهبة

[11] إشارة إلى الآية 14 من سورة الجاثية. ونصها: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) فالآية تنفي أنهم يرجون لقاء الله. فلعل لكمة (لا) حذف من ناسخ أو طابع.

[12] في الأصل (الرأفة) وهو تحريف ناسخ أو طابع يقينا. والدافة: القوم الذين دفوا أي دخلوا على المدينة من خارجها.

[13] هذا غير مسلّم، فهذ الآية في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، فلا يعتبر

الأكثر مشاركة في الفيس بوك