دار الإسلام ودار الكفر بين الأمس واليوم
دار الإسلام ودار الكفر بين الأمس واليوم
أحمد الريسوني
للفقهاء القدماء تصنيفات واصطلاحات يقسمون على أساسها البلدان والدول إلى عدة أصناف، لكل صنف حكمه من حيث مسالمته ومحاربته، ومن حيث التعامل معه، ومن حيث الإقامة فيه ... فهناك دار الإسلام، وهي البلاد التي تدين بالإسلام وتقام فيها أحكام الشريعة الإسلامية. وهناك دار الكفر، وهي نقيض دار الإسلام، وهذه قد تكون:
- دار حرب، إذا لم يكن بينها وبين المسلمين عهد سلام وهدنة.
- دار العهد، إذا كان بينها وبين المسلمين اتفاق صلح أو هدنة على الشروط المتفق عليها.
- وهناك دار البغي، وهي كل قطر أو إقليم أو جزء من دار الإسلام، لكنه دخل في حالة تمرد وانفصال عن دار الإسلام وإمامها.
ودونما حاجة إلى الدخول في مضامين هذه التعريفات وتوابعها الفقهية، في حق الأفراد والدول والجماعات، أبادر إلى القول: إن تفاصيل هذه التصنيفات وأحكامها إنما هي في الغالب اجتهادات وإجابات مبنية على ظروفها وزمانها، أو هي صيغ تطبيقية تاريخية لبعض النصوص الشرعية، تبعا لما فيه مصلحة أو مفسدة، وتبعا لما عليه العرف والسلوك الجاري به العمل بين مختلف الدول والشعوب والجماعات...
ولذلك فإن ما يجب التركيز عليه في مثل هذه القضايا أمران:
- المبادئ والقواعد العامة.
- الاجتهاد التطبيقي الآني لهذه القواعد والذي يتم إنتاجه في ضوء زماننا وظروفنا مثلما كان للأزمنة السابقة اجتهاداتها بناء على ظروفها وأحوالها. * المبادئ والقواعد المعتمدة في التقسيم:
لا يمكن في هذه النبذة المقتضبة الاستقصاء والتفصيل في هذه المبادئ والقواعد، ولذلك أذكر أهمها وألصقها بموضوعنا:
1. مراعاة مصلحة الإسلام والمسلمين:
إن أحكام السلم والحرب والصلح والهدنة، وإقامة المسلم في دار الحرب أو دار الكفر أو دار البغي، وكذلك التعامل بالزواج والاتجار ونحوهما مع هذه الدار أو تلك، كل هذا في الحقيقة ينظر فيه الفقهاء إلى مصالحه ومفاسده، الدينية والدنيوية، للفرد ولأهله وللأمة الإسلامية أو جزء من أجزائها؛ فمثلا المسلم إذا كان في دار كفر أو دار حرب، فهل يجوز له الإقامة فيها؟ هل تجب عليه الهجرة منها إلى دار الإسلام؟ الحكم هنا يدور على احتمالات أن يتعرض المسلم في هذه الحالة إلى الفتنة في دينه وربما إكراهه –بشتى الوسائل- على الخروج منه، هو أو أهله أو أحد من ذريته، أو أن ينغمس في المحرمات والمنكرات أو ما إلى ذلك من المفاسد والمخاطر، فوجودها أو عدم وجودها ودرجتها ومدى خطورتها، هو ما يحتم الهجرة أو يجيز الإقامة، وهو المرجح بين بلد وآخر، كما نرى في هذا النموذج الفقهي من كلام أبي بكر بن العربي: "أما الهجرة من أرض الكفر فهي فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة .. فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك: قلنا يختار المرء أقلهما إثما.." .
2. مدار الأحكام على مناطاتها ومقاصدها:
الأحكام والاجتهادات التي توضع لحالة معينة بمواصفات معينة، تكون منوطة -في الحقيقة- بماهية تلك الحالة ومواصفاتها. فإذا وجب على المسلم أن يهاجر من بلاد كفر لا تسمح للمسلم أن يكون مسلما، وتكرهه على الكفر، أو تفتنه حتى يصبح معرضا للكفر أو للانسلاخ العملي من دينه .. فوجوب الهجرة وتحريم الإقامة منوطان بهذه الأوصاف وهذه المآلات.
أما إذا كان المسلم مقيمًا بين أظهر قوم كافرين، لكنه آمن على دينه حر في تدينه، فلا شك أن الحكم السابق لا يتعلق به، وهنا نستحضر إقامة المسلمين ببلاد الحبشة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين وجههم إليها :"إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد...".
3. مبدأ المعاملة بالمثل:
العلاقة بين الدول والشعوب -وفي كثير من الأحيان حتى بين الأفراد- تقوم على مبدأ المعاملة بالمثل، ولو باللجوء -عند الضرورة- إلى ما ليس محمودا وليس مقبولا في الأصل، ولذلك جاء في المأثور: "يأتي على الناس زمان هم الذئاب، من لم يكن ذئبا أكلته الذئاب".
من هنا نجد في القرآن الكريم: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" "فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ"، "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا".
وحتى العداوة، فإنما يعادي المسلمون من بادروهم بالعداوة، كما قال تعالى: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا"، و" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً..." الآية. " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا". ومقابل هذا نجد – ووفق نفس القاعدة - قول الله تعالى: "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا"، "وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا".
ومشروعية المعاملة بالمثل لا تنفي إمكانية اعتماد صيغ أفضل، ومنها العفو ودفع السيئة بالحسنة إذا لم يكن في ذلك إذلال للمسلمين أو إضرار بليغ عليهم.
4. الأعراف المرعية والعهود المعتمدة:
وهذا مرجع كبير في تنظيم العلاقات بين الأمم والشعوب وبين الدول والحكومات فالأعراف والمواثيق إذا كانت عادلة وكانت محترمة من الطرفين أو الأطراف المعنية، فيجب الالتزام بها والرجوع إليها عند التنازع، وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الموضوع.
وفي عصرنا هذا توجد مئات العهود والمواثيق والاتفاقات التي تنظم العلاقات بين الدول، والأصل فيها أن يلتزم بها المسلمون وغير المسلمين إلا ما فرض منها بالقهر والغلبة وكما قال الإمام مالك: "طلاق المكره لا يجوز". * د. أحمد الريسوني: أستاذ أصول الفقه بجامعة محمد الخامس - الرباط
المصدر: إسلام أون لاين