مبنى التجربة الدينية

مبنى التجربة الدينية

مالك وهبي

أبدى المفكِّر الإيراني «عبد الكريم سروش» عناية فائقة بهذا المبنى واستغرق في شرحه، ووصفه تارة بالممر الآخر لورود التعدد والتنوع في الفكر الديني(1). ويعني بالتجربة الدينية «المواجهة مع الأمر المطلق والمتعالي»(2)، وهي في اعتقاده تتمظهر في صور مختلفة.. «إنها أحياناً إدراك للسر، وأخرى كشف للرمز، وأحياناً حزن وإحباط من التعلقات الفانية، وتحليق للقلب نحو البقاء والخلود، وأخرى تظهر عن طريق تجلي جذبة أو عطش أو فراغ أو نور أو جمال أو بهجة..»(3).

 

وكأن التجربة الدينية قائمة على مصطلحات استقاها من العرفانيين تارة، ومن أهل الكنيسة تارة أخرى، ومن المفردات التي يتناولها أهل الرياضة في مسالكهم المختلفة حتى الهندوسية مثلاً، أو البوذية. فالتجربة الدينية هي بحسب التعريف المذكور، أمر يعيشه الفرد منا بأحاسيسه المختلفة والمتنوعة، والكل يكون له نحو اتصال بالله تعالى، وعيش معه، على اختلاف مظاهرها التي أشار إليها. إلا أن هذا الاتصال وهذا الارتباط، أو تلك المواجهة قد تكون واضحة وقد تكون خفية عنا. فالاختلاف بين الأديان ليس في واقع التجربة وصدقها، فالكل يتجه نحو مقصد واحد، وهو تلك القدرة، أو ذلك الجمال، وإنما الاختلاف يقع في تفسيرها. والاختلاف في التفسير لا يغير من الحقائق شيئاً، وبهذا يكون العرفان وجهاً من وجوه ذلك التفسير. وقد نقل عن بعض المتصوفة في شرح هذه التجربة «أن السالك بشروعه في تصفية القلب ومجاهدة النفس والرياضة معها يعبر الملك والملكوت، وتنكشف له الوقائع في المقام المناسب بما يناسب حاله، وقد يكون ذلك أحياناً على صورة الرؤيا وأخرى على شكل واقعة غيبية»(4)، ثم يعقب على ذلك بأنه «نوع من التفسير لهذه التجربة نفسها»(5)..

 

هذا تقريبه للمسألة.. وإني شخصياً لمعجب بهذا المبنى، وقد آمنت به منذ ما قبل اطلاعي على كلام سروش، لكنني لم أكن لأضعه في سياق التعددية الدينية، بل في سياق البحث عن سر الرحمة الإلهية التي ينالها أهل الأرض على اختلاف مذاهبهم الدينية، ومعتقداتهم، فربما شفى الله مريضاً دعاه وهو من دين غير الإسلام. والحقيقة فإن هذا المبنى في حد ذاته ليس فكرة مبتدعة، ولا هي بالجديدة في دائرة الفكر الديني عموماً والإسلامي خصوصاً. وكيف يكون كذلك والفطرة عندنا دليل لُبِّي وجداني على وجود الله تعالى، واتجاه الخلق إليه، ولهذا كان هو المقصود الواقعي للإنسان الساعي نحو الكمال، والمتعلق بقوة تنجده في وقت الضيق، ومن هنا كانت هذه الأحاسيس هي الموحد الواقعي في حركة الإنسان، كل إنسان، وإنْ أخطأ في تفسيرها. لكن الجديد في استخدامات هذا المبنى طرحه في سياق بحث التعددية الدينية.

 

ومآل هذا المبنى إلى أن تكون الأديان معبرة عن حقيقة واحدة.. وهنا مغالطة لا بد من حلها قبل استكمال البحث.. فالتعبير عن الحقيقة الواحدة، إنْ أُريد به التعبير عن واقع قد لا نكون أحسنا التعبير عنه، أي ملاحظة واقع الحال، وان الإنسان في واقعه مريد لله تعالى وإن اخطأ الطريق أو التفسير، كما أشرنا قبل قليل.. فهذا حق.. لكن هذا لا يستوجب التعددية الدينية لتكون كلها ذات حقائق، لأنها إنما تكون كذلك بمقدار صدقها في التعبير عن تلك الحقيقة، فإذا أخطأنا في التعبير عنها نكون منحرفين عنها.. أما إذا كان المقصود بالتعبير عن الحقيقة الواحدة أن الأديان تحمل تلك الحقيقة الواحدة فهذا غير صحيح.. نقول ذلك مع وعينا التام أننا ربما نستبق النتائج لكن كان هذا أمراً ضرورياً لنلفت عناية القارئ الكريم إلى المغالطة المطروحة في هذه القضية.

 

أما الأديان كما جاء بها الأنبياء فهي بلا شك تعبير عن حقيقة واحدة.. واختلاف الشرائع الدينية في بعض التشريعات مرتبط بعالم النسخ الذي قد يحصل في الشريعة الواحدة أيضاً، لارتباط حكم سابق بعوامل خاصة يزول الحكم بزوالها.. ولهذا فإن كل الأديان السماوية، كما جاء بها الأنبياء تدل على معنى واحد، فإن كان الدين تفسيراً فهي ذات تفسير واحد، ولا يدل اختلاف بعض التشريعات على اختلاف التفسير.. نعم.. بغيُ الناس أحدث اختلافاً خطيراً في الدين، كما أن لجهلهم دوراً آخر في هذا الاختلاف، فاختلفت التفسيرات.. فمنشأ الاختلاف ليس دينياً، ولا سماوياً، ولا من الأنبياء أو الرسل، بل من البشر أنفسهم.. أليس هذا ما يمكن فهمه من قوله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ‏ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ امَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقّ‏ِ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(6).

 

إن التجربة الدينية ليست ديناً، وهذا مؤكد بل هي إن كانت صادقة طريق يوصل إلى الدين.. والدين هو مجموعات معتقدات وتشريعات ترتقي بتلك التجربة إلى محلها المناسب وتضعها في السياق الصحيح، ليصل الإنسان إلى سعادته في الدنيا والآخرة. وإذا لم تكن التجربة المسماة بالدينية ديناً، ولا جزءاً منه، فإنها قد تنفك عن الدين أو المعتقدات، وقد لا يكون الدين الذي تنتمي إليه أو المعتقدات معبراً عنها. نلفت هنا إلى أن مقصودنا بالدين ليس الدين السماوي كما أنزله الله تعالى، بل الدين المنسوب إلى السماء على ما هو عليه فعلاً في واقع حياة الناس ومعارفهم مع ما قد يحتويه من تحريفات وبدع. إذن لا يكفي وجود التجربة الدينية كي نقر بالتعددية الدينية بالمعنى المطروح هنا للتعددية.

 

وإذا كان الدين منفصلاً عن التجربة، فما هو موقع الدين منها، وهل الدين هو محض تفسير لها لتكون التعددية الدينية محض تعددية تفسيرية لتجربة متحدة لها مظاهر مختلفة. وهل إن تعدد الأديان سببه تعدد التفسيرات، وتعددها يفترض اختلافها فيما بينها وإلا لكانت واحدة؟. وهل تعدد الأديان، كما أنزلها الله تعالى، تعدد حقيقي أم تعدد شكلي لا يمس المضمون والجوهر، أم تعدد تكاملي يحفظ الحقيقة يطور اللاحق منها ما سبق، ويكملها؟.. وهل هناك حقائق دينية يجب أن يتضمنها كل دين، أم أن الأديان قد تختلف فيما بينها اختلافاً جذرياً؟!. وهل إذا جاءنا دين أو تفسير بحسب كلمات سروش من عند الله تعالى في زمن النبي عيسى (ع)، ثم انحرف الناس عن هذا الدين أو التفسير، ورسموا تفسيراً آخر من عندهم يصير هذا أيضاً ديناً، ويبقى على دينيَّته، بحكم أنه تفسير للتجربة وإن كان مخالفاً للتفسير الأول الذي أتى به النبي عيسى(ع)، وصار تفسيراً بشرياً محضاً قد يكون واضعوه ارتكبوا فيه الكثير من الافتراءات على غفلة من الناس الذين اتبعوا ذلك الدين؟.. هل نظرية الثالوث مثلاً هي تفسير ديني لتلك التجربة، أم هي تفسير بشري لبس لباس الدين؟.. ثم ما هو موقع التفسير من مَبدأَيْ الحق والباطل، أم أن الحقانية والبطلان متمخضان في التجربة نفسها، ولا تطال التفسير، وبالتالي الدين نفسه؟. وهل كل نظرية تفسر التجربة، ولو كانت وضعية، يحمل أصحابها كل عوامل المعرفة والصدق والنزاهة تجعلهم أولاً قادرين على تفسيرها، ثم على تقديم تفسير صحيح لها، دون إنكارها والتحايل عليها؟. أم يكفي أي تفسير بمحض أنه تفسير ولو كان كيدياً ليكون ديناً، أو حقاً أو له جزء من الحقانية. هل يستحيل أن تكون هناك أي علاقة بين تفسير ما للتجربة مع عالم الأهواء والظلم والغش والتزوير والتدليس على الناس والتلاعب بمشاعرهم.

 

لا شك أن التجارب الدينية التي يعيشها الأعم الأغلب من الناس تلتقي في مسار وجداني واحد، والكل إلى ذلك الجمال يسير.. لكن هل كل التجارب صادقة، وهل كل الأحاسيس التي نعيشها وتربطنا بما نعتقد أنه الإله هي أحاسيس نقية صحيحة، أم يمكن للوهم أن يسري حتى إلى ما نسميه تجربة دينية؟. هل يمكن أن نعيش تجربة سخيفة واهمة في عالم مشبع بالأوهام نتيجة تراكمات عاطفية معينة، أو تربية وتوجيه مكثف، فنظن أنها تجربة دينية؟. هل يمكن أن نعيش ما قد نسميه تجربة دينية وتكون في واقع الأمر انحرافاً خطيراً؟.

 

يشير القران الكريم إلى أن الناس قد يمرون بمثل تلك التجارب التي يلاقون فيها الله تعالى، ويستشعرون وجوده في لحظة ضيق هي لحظة التماس المباشر مع الفطرة أيضاً، لكنهم فيما بعد ينكرون تلك التجربة أو يعمدون إلى نسيانها ، ولا يعتنون بشأنها ، وفي هذا المجال نقرأ قوله تعالى: «وَإِذَا مَسّ‏َ الانْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(7) وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيح عَاصِف وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلّ‏ِ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ‏َ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ‏ِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمّ‏َ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(8). وقد دلت هذه الآية أن هؤلاء الذين وقعوا في تلك التجربة قد يتمردون عليها، ثم يبغون، وليس البغي فقط في السلوك، بل قد يبغون في توجيه ما عاشوه وتفسيره. ونظيره أيضا قوله تعالى: «وَإِذَا مَسّ‏َ الإِنْسَانَ ضُرّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمّ‏َ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلّ‏َ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»(9)، وقوله تعالى: «فَإِذَا مَسّ‏َ الإِنْسَانَ ضُرّ دَعَانَا ثُمّ‏َ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَة وَلَكِنّ‏َ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»(10). فإذا كان الإنسان قد يتحايل على نفسه في تبرير ما عاشه حفظاً لمنافع دنيوية «تمتع بكفرك»، فبالأولى أن يتحايل على الناس في تفسيره لمشاعرهم ووجدانهم وتجاربهم. فهذه الآيات تدل أيضاً على أن بعض التفسيرات يمكن أن لا تكون صادقة مع التجربة، وبالتالي تكون محكومة بالخداع، مثل أن يخرج الإنسان من تلك التجربة إلى الشرك، أو الإلحاد، أو إسناد النعمة إلى نفسه، فلا يشكر الله تعالى على ما أنعمه عليه. * تفسير التجربة والدين:

 

ثم يدخل في قضية تنوع التفاسير فيقول: «فالعزم على معرفة ما هو ذاك النداء الذي سمعته ومن أين كان؟.. وبالتالي بيانه باللسان على صورة المفاهيم التي قد تكون أحياناً متناقضة ومتنافية ذاتاً - هو نفس الورود به إلى ساحة التفسير»(11). فالتجربة الدينية هي ذلك النداء الفطري الذي يشعر به كل إنسان في حالة أو حالات معينة، وهو ما يدعو المرء للبحث والتساؤل عن هذا النداء ما هو؟، ويسعى لتوضيحه وشرحه بلغة معينة، فيصبها في قالب من المفاهيم، والتي قد تبدو متناقضة. إن هذه الحالة هي حالة البحث عن الدين، لأنها حالة البحث عن التفسير. وإذا تبنينا تفسيراً معيناً نكون قد انتمينا إلى الدين الذي يتبنى ذلك التفسير.

 

وفقاً لهذه المقولة، تكون التعددية الدينية تعددية شكلية غير جوهرية، والمعيار التام هو في تلك التجربة، وتكون التعددية الدينية إذا نسبت إلى التجربة متحدة في الجوهر مختلفة في المظهر، لأن تلك الحالة الوجدانية، والتجربة الدينية تتمظهر بمظاهر شتى كلها تدل على شي‏ء واحد. وإذا نسبت إلى التفسير والمعتقدات والشريعة تكون تعددية وكثيرة قد تكون متناقضة ومتنافية فيما بينها، موحية بأنها تعددية حقيقية، لكنها تخفي وراءها الحقيقة المشتركة. فكل دين سماويا كان أو غير سماوي، موحد أو مشرك، وثني أو غير وثني يخفي وجهاً من تلك الحقيقة.

 

لقد أصاب في أن كل نفس مهما كان انتماؤها الديني، تستمع بفطرتها إلى ذلك النداء، وليس ذلك إلا الإحساس الوجداني بالفقر والحاجة، لغني مقتدر كامل، وهو الذي يدعى في موارد الضراء، وإذا ضاقت بنا السبل، كما عبر القران عن ذلك غير مرة في القران الكريم. إلا أن البحث يعود قهراً إلى مدى علاقة التفسير أو الدين بالحقائق، وهل الصراط المستقيم محض التجربة أم للدين دخل في ذلك الصراط. وهل يكفي أن نكون في واقع أمرنا، وبحسب فطرتنا طالبين للجمال المطلق حتى نصير على حق في سلوكياتنا، معذورين في اتجاهاتنا، مهتدين غير ضالين. وإذا كانت التجربة هي المعيار التام، واحد العمادَين التامين في تبني التعددية الدينية، فما هي قيمة البحث عن الدين أساساً، ما دامت التجربة أمراً وجدانياً فطرياً. وما هي حاجتنا للتفسير في طريق الهداية والضلالة. فإن لم يكن للدين، والتوجيه والإرشاد دخل في هذا الطريق يصير إنزاله، واختيار رسل لتبليغه، عبثاً لا طائل منه، إذ الفرض أن التفسير في حد ذاته لا قدسية له، وليس له قيمة ذاتية، بل كل القيمة للتجربة ما دامت هي عماد تام. ويصير البحث عنه مضيعة للوقت لا قيمة لها لا معرفياً، ولا عملياً.

 

والقضية تتعقد حينما يتحدث عن الأنبياء في مسألة التجربة الدينية فيقول: «وهكذا الأديان كلها مسبوقة بالكشف، فقد كانت تجارب غيبية وقدسية وروحانية من جانب الأنبياء، فالأنبياء الحقيقيون لم يذهبوا إلى مدرسة، كما لم يكونوا سحرة أو كهنة ولا مجانين أو مخادعين لأنفسهم، وإنما كانوا على حد تعبير إقبال اللاهوري «رجالاً باطنيين»، وليس فقط الأنبياء، بل أن أتباعهم المتأدبين والمجاهدين كان لهم أيضاً حظ من الوحي والتجربة الباطنية»(12).

 

ماذا يريد سروش من هذه القضية، وهل يريد الحديث عن تجربة دينية فردية كان يعيشها الأنبياء، لا علاقة لها بالتفسير والمظهر؟. هل كانت لديهم تجارب دينية قد أخطأوا تفسيرها مثلا؟. هل كانت لديهم تجارب دينية اختلفوا فيما بينهم في تفسيرها؟. أم أنهم مثلما عاشوا التجربة الدينية أُلهِموا التفسير الصحيح. وقدموا التفسير الصحيح والدين الواحد سماها الله تعالى في القران الكريم بالإسلام، تسمية تنطبق على كل الأنبياء السابقين، لأنه كنه الدين، وجوهره، وليس محض التجربة. والأنبياء(ع) في لقائهم مع الله تعالى مختلفون، لأن لكل نبي مقامه، فيكون له لقاؤه. ولأن بعضهم أكمل من غيره كان لقاؤه أتم وأكمل. والاختلاف بين لقاء ولقاء بالكمال والنقص ليس من الاختلاف الحقيقي، بل هو من الاختلاف التشكيكي الذي يسري على كل الوجودات المشتركة فيما بينها في الحقيقة والمختلفة فيما بينها في رتب الحقيقة. فالنور قوي وضعيف، وكلاهما نور. أما الظلمة والنور فمتباينان حقيقة وإن أطلقنا على الظلمة اسم النور. فليس محض اللفظ هو ما يحل المشكلة، ويجعل التفسيرات متفقة في الحقيقة، وإلا لكان البحث لفظياً، ولكان قوام الأمور بالألفاظ لا بالمعاني. كما لا يكفي محض النوايا على فرض سلامتها ولا محض تسمية تجربة بأنها دينية وقد تكون شيطانية، كمن يعبد ذاته ويعتقد أنه يعبد ربه.

 

ثم ما هو الوحي في كلام سروش: «نعم إن تجربة الصوفيين والتي هي عين الوحي حق، ولا تقل عن الوحي في شي‏ء، وهم لأجل تغطية الأمر على العامة أسموها وحي القلب، وبالتالي فالكل وحي، غايته أن الوحي ذو مراتب عديدة، فله مرتبة سفلى، وله مرتبة عليا، وقد يصاحب أحياناً بالعصمة فيما لا يكون كذلك في أحيان أخرى. نعم لدينا وحي بدءاً بالنحل نفسه حتى البشر بشكل أعم من العرفاء والأنبياء والشعراء. وكل ذلك عبارة عن تجربة دينية»(13).

 

كيف تكون تجربة الصوفيين عين الوحي؟ وهل الوحي ذو علاقة بالتفسير أم له علاقة بالتجربة؟. وإذا كان مطلق لقاء مع الله تعالى، وتواصل معه تجربة فهذا يعني أن كل آن من أوان الإنسان هو تجربة، لكن قد يغفل عنها ويساعده على اكتشافها امتلاكه مسبقاً للفهم الصحيح والدين السليم أو بحسب مصطلحاته التفسير السليم، فالتجربة لا تنفك عن التفسير، لأن التفسير في كل الأديان لهذه التجارب الدينية هي عن وحي، فيغدو التفسير نفسه تجربة. «وهذه التجارب الباطنية هي كما قلنا محتاجة إلى تفسير وبيان، بل في الحقيقة ليس ثمة تجربة خام، بل من وجهة نظر الفيلسوف الإنكليزي والتر استيس».

 

يعد البوذيون على الرغم من عدم وجود إله عندهم حسب الظاهر، وعلى الرغم من أنهم يعبدون الأصنام يعدون أصحاب قصة أعمق من ذلك. إن البوذيين لا يملكون نظرية الله على الرغم من تجربتهم له.. «وهذه نقطة في غاية الأهمية لا بد في عالم التجربة الدينية من الالتفات إليها والتفطن لها فقد يعثر الإنسان في كثير من الحالات على شي‏ء بيد انه لا يعرف ما هو هذا الشي‏ء»(14).

 

نعم إن الذين يعبدون الأصنام يعدون أصحاب قصة أعمق من ذلك، مستحكمة في عمق فطرتهم، لكن هذا الذي يمتلكونه في فطرتهم لن يجعلهم على حق لا مطلقاً ولا نسبياً، لأنهم قد انفصلوا عن هذا العمق، ولم يلتقوا به إلا لماماً. وكيف يمكن لنا أن نعتبر تجربة الوثني تجربة دينية، لمحض أنه منقاد من شعوره بالحاجة إلى التمسك بقوة أعظم منه. وإذا كانوا لا يملكون نظرية الله، ولا وجود للإله عندهم، فهل مجرد أنهم يعيشون حالة فطرية يعني أنهم يعيشون التجربة الدينية؟ والى أي حد تكون هذه التجربة على فرض كونها كذلك كافية في الحقانية.

 

نحن نعلم أن الأديان جاءت لتشبع حالة فطرية، وتهديها سبل الرشاد، والوثنية، أو البوذية تحرف الفطرة عن وجهتها، فالمرء وإن انطلق من شعور فطري كان يصلح أن يكون منطلقاً لتجربة دينية لكنه إذا انحرف عن مسار الفطرة لا يعود ما يعيشه تجربة دينية.

 

وبعد هذا كله، يعود الأستاذ سروش ليستدرك أمراً أوهمه كلامه، فقال «إن هذه التجارب على الرغم من أن لها تفاسير متنوعة ومتعددة، وعلى الرغم من تقبلها لكل ذلك، بيد أن هذا لا يعني أن كافة التفاسير حق وصحيح. إذن فهناك ممر آخر لورود التعدد والتنوع في الفكر الديني ألا وهو وضع عدة تفاسير لتجربة واحدة»(15).

 

لكن ما استدركه كان قد نفاه، وسيعود إلى نفيه لاحقاً، بشكل صريح تارة وتلميح تارة أخرى. فإنه إذا اعترف بأن بعض هذه التفاسير قد لا تكون صحيحة فهذا يعني أنه لا يقبل بالتعددية الدينية إلا بين أديان صحيحة، إذ لا بقاء لأي حقانية في دين، إن جعلت التفسير غير صحيح. فيكون قد أسقط عن الدين أي قيمة.. لكن هل كلامه هذا يؤكد أن تمام الملاك في حقانية الأديان ليس في التفاسير المقدمة بل في التجارب المعاشة؟ لو كان الأمر كذلك فسيمكنه غض النظر عن مقولة «ليست كل التفاسير حقة وصحيحة»، ولن تكون هناك أي قيمة للحكم على تفسيرٍ ما بأنه حق وصحيح إذ صار دوره شكليا محضا، ولن تكون هناك أي قيمة للحكم على تفسير آخر بأنه باطل؟ بل بحسب تعبيره يمكن للإنسان أن ينفرد عن السماء بوضع تفسير من عنده لتلك التجربة ويكون هذا الوضع الجديد احد أفراد التعدد والتنوع في الفكر الديني.

 

لقد أسقط سروش معنى الحق والبطلان عن التفاسير والأديان، ليجعله متمخضاً في التجربة التي ستتلاقى فيها الأديان المختلفة وتكون هي مناط حقانية الأديان مطلقاً أو نسبياً، فيعود الدين ذو التفسير الباطل حقاً. إن عنوان التجربة الدينية هو في حد ذاته عنوان تفسيري لتجربة فطرية لا يصح تسميتها بأنها دينية إلا إذا تلاقت التجربة مع الفهم الديني الصحيح، ومع معطيات الدين، إذ يكون الدين هو الحاكم على تلك التجربة بأنها صحيحة أو وهم، وهو المشرف على تلك التجربة حتى لا تفسر تفسيراً خاطئاً توجب انحرافا وتقديس ما لا يستحق.

 

ثم يؤكد التراجع عن تلك المقالة فيقول «فسواء اعتبرنا التجربة الدينية تجربة لأمر واحد نتج عنها كافة هذه التفاسير المتنوعة، أو اعتبرناها متنوعة ومتعددة بالأصالة، فنحن نواجه على كل حال التعدد والتنوع الذي لا يقبل الاختزال في أمر واحد، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع، وان لا نغض الطرف عنه ومن ثم فنحن مطالبون بنظرية تفسره وتشرح حدوثه»(16).

 

إذا كان يعترف بأن التفاسير متنوعة ومتعددة، وبأن بعضها حق وبعضها باطل، فكيف يطالبنا بالاعتراف بحقانية الجميع، والإقرار بالتعددية الدينية على أنها تفسيرات متنوعة لحقيقة واحدة، أو لأجزاء من الحقيقة. نعيد هنا مجدداً السؤال عن الأديان: هل إن تعددها ناشئ عن اختلافها في التجربة أو في التفسير؟ سؤال يكشف عن المغالطة التي تعتمد في هذا المبنى، وهو عدم التمييز بين الدين كما جاء به الأنبياء، والدين الذي يزعم الناس أنه ما جاء به الأنبياء. وإنما اختلفت الأديان فيما بينها في المضمون بسبب من الناس، لا بسبب من الله أو الأنبياء (ع). * اختلاف الأديان اختلاف في وجهات النظر:

 

ثم ينقل شعراً لمولوي الذي يعتبره حجة وخاتم العرفاء(17)، ويحمل كلامه أكثر مما يتحمل.. أما كلام مولوي فهو حسب الترجمة الواردة في الكتاب: «فمن وجهة النظر يا لب الوجود حصل الاختلاف بين المؤمن والمجوسي واليهودي» ثم يعلق عليه: «إنه يقول بأن اختلاف هؤلاء الثلاثة ليس اختلاف الحق والباطل، وإنما هو بدقة أكثر اختلاف وجهة النظر. وليس المقصود اختلاف وجهة نظر أتباع الأنبياء(ع)، وإنما هو اختلافها لدى الأنبياء أنفسهم. نعم لقد كان الأنبياء الثلاثة ينظرون إلى الحقيقة الواحدة من زوايا ثلاث، أو أن التجلي عليهم كان على ثلاث نواحي أو من ثلاث نوافذ، ومن هنا قدموا لنا أدياناً ثلاثة. وبناء على ذلك فإن سر اختلاف الأديان لا يكمن فقط في التغايرات الموجودة بين الظروف الاجتماعية أو في تحريف الدين نفسه أو مجي‏ء ديانة أخرى مكان الديانة الأولى، بل أن هناك التجليات المتنوعة للخالق تعالى في العالم فكما هو الحال في الطبيعة حيث خلقها متنوعة كذلك الشريعة هي الأخرى متنوعة منه تعالى»(18).

 

لقد أقحم الأستاذ سروش بالمجوسية في سياق البحث مع أنها ليست ديناً، بل وصف النص الديني المجوس بأشباه أهل الكتاب، وليسوا منهم حقيقة. والمجوسية كفر صريح لا تعبر بمضمونها العقائدية عن دعوة نبي مرسل من عند الله، وعلى فرض أن لديهم نبيا فيما سبق فليست هذه هي دعوته بالقطع واليقين، مستندين في ذلك إلى القران الكريم الذي يؤكد في كل آياته أن كل الأنبياء والمرسلين دعوا إلى دعوة عقائدية واحدة هي التوحيد، والتسليم لله تعالى. ثم الأخطر من ذلك انه جعل اختلاف الأديان، ناشئاً عن اختلافها لدى الأنبياء أنفسهم، وأن نبي الإسلام نظر من زاوية غير الزاوية التي نظر إليها نبي اليهود، لكنه لم يوضح لنا ما هي هذه الزاوية وتلك. ولو أضفنا المسيحية فستكون هناك زاوية رابعة غير الزاوية المجوسية. فهل يا ترى كان النبي عيسى (ع) ينظر إلى الحقيقة الواحدة من زاوية التثليث؟ ما هي هذه الزوايا التي أطلقها سروش.

 

ألا ترى معي أخي القارئ أن الأستاذ سروش قد حمّل كلام مولوي أكثر مما يحتمل؟ هل وجهة النظر في كلام مولوي تلك هي وجهات نظر الأنبياء؟. أم يريد مولوي الإشارة إلى خطأ أتباع بعض الأديان في الدلالة على المقصود. ثم هل الإتيان بنص شاعر مثل مولوي يحل اللغز، وهل كلامه نص ديني ليستدل به على مسألة دينية بهذه الخطورة.

 

لقد نفى سروش أن يكون لتحريف الأديان دخل في اختلافها، كما نفى أن تكون للظروف الاجتماعية دخل أيضاً. مع أن نفي دجالة التحريف يكذبه التاريخ والحاضر والعقل. نعم ليس للظروف الاجتماعية دخل في اختلاف الأديان ألاعتقادي، وإنما دخلها في اختلاف التشريع بين دين ودين كما بينا سابقاً. فالسبب الوحيد الذي أوجب اختلاف الأديان عقائدياً، وهو ما يعنينا من تفسير التجربة، هو الناس فقط. ولكن الأستاذ سروش يصر على أنهم الأنبياء من دون أي دليل، يلقي الكلام على عواهنه من غير أن يبين كلامه ومستنده، سوى فهمه هو لكلام مولوي المحسوب على العرفانيين، لا الأنبياء ولا الأوصياء المعصومين، مع انه أخطأ في تفسير كلامه. إن الزعم بأن الاختلاف منشؤه الأنبياء يؤدي إلى القول بأن منشأه الوحي والله تعالى، فهل الله تعالى يتطور فكره ورأيه في الأمور فيرسل نبياً آخر بتفسير مختلف، مع أن الظروف السابقة الاجتماعية كانت مهيأة أيضاً لهذا الدين الجديد.

 

لكنه يعود من جديد لمغالطة فيقول: «إن تصحيح وجهة النظر يعد شرطاً أولياً وأساسياً في عملية النظر نفسها. فامتلاك العين وتنظيف النظارات شروط لازمة لرؤية واضحة. وبعيداً عن ذلك إذا ما حصل اختلاف في وجهة النظر، فإن الاستنباطات والكشوف والاستنتاجات البشرية ستكون هي أيضاً عرضة للتغير والتبدل، فتنوع وجهات النظر يستدعي تنوعاً في المنظورات نفسها أيضاً، ووجهة النظر هذه ليست أمراً غير الإنسان ونفسه، فالنظر والمنظر والناظر هنا أمر واحد، وهذا هو لب الكلام وروح الرسالة والمطلوب»(19).

 

ما هي الحاجة إلى تصحيح وجهة النظر إذا كانت كل وجهة نظر تكتسب صدقيتها من التجربة الدينية، وكل التجارب الدينية عند سروش حقة فطرية. ولماذا كان تصحيحها شرطاً في عملية النظر مع أن العبرة في المنظور إليه لا في صدق وجهة النظر. ثم إذا كان تصحيح وجهة النظر شرط في عملية النظر فكيف يكون تنوع وجهات النظر يستدعي تنوعاً في المنظورات؟ إلا يمكن أن يكون المنظور واحداً لكن تعدد وجهات النظر سببه عدم تصحيح وجهة النظر لدى بعضهم. وإذا كان النظر والمنظر والناظر واحد وهو الإنسان، فالقضية انتهت وثبت المطلوب، وبالتالي يكون كل إنسان تعبيراً عن دين، ونبي لنفسه لا حاجة معه إلى نبي آخر يرشده إلى الطريق الصحيح.

 

لقد لاحظنا حتى الآن، وسنستمر بملاحظة أن الأستاذ سروش غالباً ما يعتمد على فتاوى يلقيها من هنا وهناك، من دون أن يقدم أي دليل عليها، ولا مستندة فيها.

 

هل يمكن أن يكون الله تعالى متأثراً بالزمان والمكان، والاستنباطات والاكتشافات فيأتي بتفسير جديد ودين جديد. عن إله نتحدث هنا، وما هو مفهومنا عن «الله»، و«النبي»، و«الوحي». ثم ما معنى الحديث عن اكتشافات واستنباطات في الوقت الذي أنكر فيه أن يكون للظروف الاجتماعية دخلاً في ظهور دين.

 

وأما الأديان كما جاء بها الأنبياء فهي تشير إلى شي‏ء واحد لا تختلف فيه. وبناء عليه: هل التفسيرات المختلفة التي تحملها الأديان تلغي فكرة أن يكون هناك أي تحريف. وهل حقاً إن الله تعالى قد جعل المسيح إلهاً مثلما يقول به أهل النصارى في زماننا هذا؟ وهل تفسيرهم الذي ينقلونه في هذه الأيام هو تفسير مستند إلى وحي، أو يعبر عن وجهة النظر الحقيقية للنبي عيسى (ع)؟

 

ثم يتحدث بلغة الجبريين أو بلغة البسطاء الذين يحكمون على الله بأنه من قتل فلاناً بمجرد أنه تعالى أعطى القدرة على صنع سكين للقتل، فيقول «إن أول واضع لبذور التعدد في العالم هو الله تعالى، وذلك حين أرسل أنبياء متعددين فتجلى على كل واحد منهم وبعثه إلى مجتمع معين كما وجعل في ذهن وعلى كل لسان منهم تفسيرا ومن هنا اكتسبت التعددية حرارتها»(20).

 

ولكنك عرفت أن تعدد الأنبياء لم يوجب تعدداً في الدعوات.. تعدداً حقيقياً فيما يمس الجوهر أي التوحيد والتسليم لله تعالى. وإنما تعددوا لحاجة الشعوب بعد مرور الزمان إلى نبي بينهم ينبههم بعد أن يكونوا قد انحرفوا عن المسار الطبيعي، وضلوا الطريق فلم تعد يجديهم أن نبياً كان في تاريخهم، ولم تنفعهم التجارب التي يعيشونها.

 

* مناقشة عامة لقضية التجربة الدينية وعلاقتها بحقيقة الدين:

 

إن القول بالتجربة الدينية ليس من مختصات القائل بالتعددية، بل الذي يرفض التعددية يقر بالتجربة الدينية، ويعتبرها هي الأساس في ظهور الأديان والأنبياء، ليكون لظهورهم دور في دخول الإنسان في الصراط المستقيم، وفي الهداية والنجاة، ولن تكون التجربة الدينية كافية في شي‏ء من ذلك. لكن القائل بالتعددية يقع في مغالطات وتناقضات عديدة، فهناك تناقض بين اعتبار قوام الحقيقة بالتجربة، وبين حاجة التجربة إلى تفسير، حتى تظهر وتعرف ويتنبه لها صاحب التجربة.

 

وفي الحقيقة فإن البحث عن التجربة الدينية لن تكون له أي قيمة إذا لم يحدد مسبقاً ما هي الحقيقة الدينية، أو ما هي حقيقة الدين وجوهره، كما نبه عليه الدكتور القائمي في مقالته المنشورة في الكتاب نفسه الذي نشر مقالة الأستاذ سروش. وقد نقل القائمي أن بعضهم يرى جوهر الدين قائم في تجربة عرفانية، وأن التجارب العرفانية المتنوعة هي في الحقيقة أمر واحد، وتمايزها إنما يكون في مرحلة التفسير، أما التجربة الخام العارية عن التفسير فهي موجودة وتعبر عن جوهر كافة التجارب العرفانية»(21).

 

وينقل عن آخر «بأنه ليست لدينا أي تجربة غير مفسرة»، ثم يتساءل: فهل إن تجربة العارف الهندوسي والمسيحي واليهودي واحدة؟ وأن التفاسير والعقائد لهؤلاء دخيلة في نفس التجربة فالعارف اليهودي لا يمكنه أن يحوز تجربة الاتحاد بالله تعالى لماذا؟ لأن نهاية التجربة التي يمكن للعارف اليهودي الإتيان بها إنما هي تجربة الالتصاق بالله، أي أنه يرى في أعلى تجربة الله تعالى مجزَّأً بشكل كامل ومغايراً لذاته وهنا نسأل أيضاً لماذا؟

 

ويسجل الدكتور قائمي على القول بالتعددية بأنها «تقول اتركوا التعاليم جانباً، فهناك شي‏ء تملكه كافة الأديان ويوصل الإنسان إلى المقصد النهائي، أما محتويات الأديان فهي أمور لا أهمية لها أصلاً.. إنها صنيعة الذهن البشري، فلو أن نبي الإسلام (ص) قرأ الصلاة بذلك الشكل وبتلك الدقة أو قام بأعمال أخرى فلا فرق في ذلك من وجهة نظر الشخص التعددي. والأهمية إنما تكمن في أن الله يريد منك أن تقوم بمواجهة الوجود الأسمى والأرفع فلسنا مضطرين للتقيد بأعمال دينية خاصة إذ يكفي أن تذهب إلى الكنيسة مرة واحدة كل أسبوع بدل أن تقوم بأداء الصلاة الإسلامية وهو ما يحقق لك أيضاً الوصول إلى الهدف النهائي الذي هو النجاة».

 

وفي سياق البحث: هل التجربة قبل التفسير أم التفسير قبل التجربة يجيب الدكتور قائمي فيقول: «ففعل التجربة مصاحب دائما بالتفسير، كما أن فاعل التجربة يمارس تجربته مع التفسير، لا أنه يحقق التجربة في البداية، ومن ثم يقوم بتفسيرها. وكما أن تجربة المؤمن هي تجربة وفق المقول، فكذلك تجربة أصحاب الدنيا، وتجربة الإنسي - المذهب الإنساني -. فالمؤمن يجرب العالم بشكل ديني، فيما العلماني بطريقة علمانية، فكلاهما يجربان أمراً مبهماً، إذ في العالم نوع من الإبهام لكن تجربة المؤمن يصاحبها تفسير ديني أما تجربة الدنيوي فهي تمر من خلال التفسير الدنيوي».

 

وتعليقاً على هذا الكلام، وهو تعليق غير جوهري، لا نعتقد ضرورة أن تكون كل تجربة مسبوقة بتفسير، أو مصحوبة بتفسير، وأن كل صاحب تجربة محكوم بالتفسير الذي يحكمه، بل قد يعيش الإنسان تجربة مخالفة لما يحمله من مفاهيم وتفاسير، فتجعله يبدل قناعاته. *التجربة الدينية ليست حقيقة الدين‏:

 

بعد ذلك كله نقول: إن التجربة الدينية ليست حقيقة الدين، بل التجربة الدينية هي التي تدعو إلى وجود الدين، لأن التجربة لوحدها لا تكفي لوصول الإنسان إلى سعادته، ووصوله إلى ربه، فكان من الضروري أن يتجلى الله تعالى لعباده الذين يستشعرون وجوده بوجدانهم وفطرتهم. وإنما كان لا بد من تجليه لهم حتى يعرفهم ما يريد، وكيف يمكنهم أن يصلوا إليه، لأن التجربة الفردية لوحدها لا تتكفل بذلك، بل قد يختلط الأمر على العبد بين الوهم والحقيقة، ولهذا نجد أن مسار العرفان مسار خطير ربما أودى بالإنسان إلى الوقوع في أحضان الشيطان، وهو يظن أنه في أحضان الله تعالى، ولا نقصد بالعرفان هنا المدرسة النظرية بل المعنى الوجداني الشهودي السلوكي.

 

فليس الدين مجرد تفسير للتجربة فهذا خطأ جوهري وكبير، بل هو استجابة إلهية للتجربة الدينية، فالعبد في لقائه الوجداني مع الله تعالى يطلب الوصول إليه، يسأل الله كيف، فيأتيه الجواب عبر الدين والرسل، بعد أن كان ليس بإمكان العباد أن يحصل لهم التواصل الكافي الذي يعرفهم بما يريده الله تعالى. وهذا يعني أنه لا يمكن الاستغناء عن الدين في الهداية والنجاة، لأنه الضامن لاستمرارية التجربة الدينية بما يوصلها إلى الهدف. فالعلاقة بين الدين والتجربة علاقة في الصميم لا مجال للدين أن يصل إلى العبد إن لم يعش تجربة دينية ما، ولا مجال للتجربة أن تنجح في إيصال العبد إلى الهدف من دون الدين. وبهذا تكون العلاقة في الصميم أيضاً بين المعتقدات والمعارف والشريعة وبين التجربة. فالشريعة بواجباتها وآدابها، تحدد السلوك الدخيل في تصحيح التجربة فلا ينحرف، والمعتقدات دخيلة أيضاً في التوجيه نحو الهدف وبدونها يضل الطريق. * الشيخ مالك وهبي: كاتب لبناني

 

الهوامش:

 

1- بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة «طباعة دار الهادي، ص‏24».

2- المصدر السابق.

3- المصدر السابق.

4- المصدر السابق، ص‏25.

5- المصدر السابق، ص‏25.

6- سورة البقرة، الآية: 213.

7- سورة يونس، الآيتان: 11 و12.

8- سورة يونس، الآيات: 21 - 23.

9- سورة الزمر، الآية: 8.

10- سورة الزمر، الآية: 49.

11- المصدر السابق، ص‏26.

12- المصدر السابق.

13- المصدر السابق، ص‏27.

14- المصدر السابق، ص‏28.

15- المصدر السابق، ص‏29.

16- المصدر السابق، ص‏29.

17- المصدر السابق، ص‏30.

18- المصدر السابق.

19- المصدر السابق، ص‏31.

20- المصدر السابق، ص‏34.

21- مقالة للدكتور قائمي في «المصدر السابق، ص‏74».

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية العدد 44

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك