بدون إجابة سؤال الإسلام ستراوح السياسية العربية في طريق مسدود

بدون إجابة سؤال الإسلام ستراوح السياسية العربية في طريق مسدود

بشير موسى نافع

بالرغم من الضجيج الكبير الذي تطلقه الضغوط الامريكية علي بعض من الأنظمة العربية، وليس كلها، من أجل الاسراع في عملية الاصلاح السياسي، وبالرغم من التفاؤل المتزايد في العالم العربي بأن عجلة الاصلاح قد بدأت فعلاً بالدوران، فإن الحياة السياسية العربية تراوح في الحقيقة في مكانها. وستظل كذلك الي حين، حتي وإن اكتست ببعض الألوان الجديدة. السبب الرئيس وراء هذا الوضع هو تهرب الأنظمة العربية من مواجهة السؤال الأكثر الحاحاً علي الحياة السياسية: السؤال الاسلامي. وما لم تتم الاجابة علي هذا السؤال ضمن اطار توافقي، فمن العبث توقع تغيير جوهري في البنية السياسية العربية، سواء تعلق الأمر بالأسس الدستورية او بالعملية الديمقراطية.

 

في مطلع التسعينات شهدت الجزائر انتخابات برلمانية كانت الأقرب الي العدالة والنزاهة. وما ان ظهرت نتائج الدورة الأولي للانتخابات حتي اتضح ان جبهة الانقاذ الاسلامية حديثة التكوين ستحصل علي الأغلبية البرلمانية وتصبح صاحبة القول الفصل في الحكومة الجزائرية، بل وربما حظيت بأكثرية كافية لتعديل الدستور. لكن انقلاباً عسكرياً، بكل ما للكلمة من معني الا الاسم، أجهض العملية الانتخابية وأعاد الدولة الجزائرية الي ما هو أسوأ مما كانت عليه قبل الانتخابات. كانت النتيجة، المعروفة من الجميع، اندلاع حرب أهلية طاحنة لا يعرف حتي قادة النظام الجزائري عدد ضحاياها. وبالرغم من ان الجزائر تبدو وكأنها تعافت الآن من مسلسل العنف الدامي، فإن السؤال الاسلامي لا يزال قائماً، وسينفجر علي هذا النحو أو ذاك ما لم تقدم الدولة علي تصحيح جريمة الانقضاض علي الارادة الشعبية في مطلع التسعينات.

 

وما عاشته الجزائر في العقد ونصف العقد الماضي عاشته تونس أيضاً، وإن في شكل ووتيرة مختلفتين. ولم يأت اختلاف السياق التونسي عن نظيره الجزائري بسبب اختلاف السياسات التي اتبعها النظامان الحاكمان، بل بسبب حكمة الاسلاميين التونسيين واعتقادهم العميق بعبثية العنف وأثره الفادح علي وحدة الأمة وسلامة البلاد. ففي الوقت الذي كان فيه الجيش الجزائري ينقض علي ارادة الشعب، كانت الدولة التونسية تتأمل النتائج الحقيقية للانتخابات العامة وتأخذ قرارها بتصفية التيار الاسلامي بكل توجهاته، السياسية منها والفكرية والثقافية علي السواء. وقد شهدت تونس جراء هذه الحملة اعتقال الآلاف، وهجرة آلاف آخرين الي منافي العالم المختلفة. وبالرغم من ان الحملة علي الاسلام، وليس علي الاسلام السياسي فقط، مستمرة علي قدم وساق منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي، فإن الحقيقة الوحيدة التي يمكن الركون اليها في الحياة السياسية التونسية هي ان التيار الاسلامي لا يزال يمثل القوة الرئيسة خارج نطاق الدولة وأجهزتها.

 

وقد مضي الآن زهاء ربع القرن علي الصدام الدموي بين الاسلاميين، أو قطاع منهم علي الأصح، والحكم السوري. خلال هذه الفترة جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقة بين الطرفين. قتل من قتل، وقضي في السجون والمعتقلات من قضي، وتشرد في المنافي من تشرد. وفي مرحلة ما، وإذ أصبح العنف المتبادل وراء ظهر الجميع، بدا وكأن الحكم يستكشف طريق المصالحة وإعادة بناء الاجماع الوطني السوري، سيما وان سورية ظلت منذ سنوات الصدام تلك محاطة بحمي التدافع علي مقدرات المنطقة العربية - الاسلامية ومصيرها. ولكن الواضح ان قوي بالغة التأثير في النظام لم تستطع التخلص من عقلية المنتصر والمهزوم، واعتقدت ان ليس ثمة من مبرر للتفاهم مع قوة وطنية هزمت في ساحة العنف، متناسين ربما التكلفة الباهظة التي دفعتها سورية ثمناً لانتصار الدولة علي شعبها. ولكن المسألة الأهم ان هنالك في الحكم السوري من يجهل ربما ان الاسلاميين السوريين ساهموا مساهمة كبري، ومنذ لحظة الاستقلال، في بناء الدولة السورية وفي صياغة تاريخ سورية الحديث. وليس هناك قوة اسلامية عربية لعبت مثل هذا الدور في تكوين الدولة، سياسة وتشريعاً وشرعية، كما الاسلاميين السوريين. واليوم، وسورية تمر بواحد من أكثر المنعطفات حرجاً في تاريخها الحديث، يبدو الاسلاميون السوريون وكأنهم الغائب الأكبر عن ساحة صراع سورية من أجل المحافظة علي الاستقلال والدور، وعن ساحة اعادة بناء البلاد.

 

وتتضح أزمة البنية السياسية العربية في مصر كما لا تتضح في أي بلد عربي آخر. وليس هناك من شك، بالرغم من التراجع المفروض علي دور مصر العربي، ان هذا الاقليم المركزي في المجال العربي ـ الاسلامي لا يزال صاحب الأثر الأكبر علي توجهات السياسة والفكر العربيين. أينما تسير العربة المصرية تلحق قافلة العرب؛ وكل تحول تشهده مصر أو تحدثه، تراقبه الأنظمة والشعوب العربية باهتمام بالغ وكأنه بوصلتهم الي المستقبل. وهناك في مصر اليوم حراك سياسي كبير، أطلقته الضغوط الامريكية كما يعتقد البعض، أو الحاجات الملحة والمتأخرة للجمهورية المصرية كما يعتقد آخرون، أو كلا القوتين معاً. ولكن ثمة استحقاق في أساس هذا الحراك يجري تجاهله من كافة الأطراف المعنية وكأنه سيعالج نفسه بنفسه، ألا وهو استحقاق تشريع الوضع الاسلامي. ان لم يكن الاخوان المسلمون أكبر القوي السياسية المصرية علي الاطلاق، فهم بلا شك أكبر قوي المعارضة السياسية. ومن العبث تصور اعادة بناء الحياة السياسية المصرية علي أسس عادلة بدون ان يعطي للإخوان المسلمين حق العمل السياسي الحزبي، علي نحو او آخر، وان تعطي للشعب المصري فرصة امتحان آرائهم ومواقفهم في شكل طبيعي ومن خلال أطر قانونية.

 

هذه مجرد أمثلة فقط علي أوضاع سياسية عربية تخرج عن حدود المعقول؛ وقد آن الأوان لأن يعاد النظر فيها من زواياها جميعاً، ومن زاويتها الأكثر الحاحاً علي وجه الخصوص. في منتصف التسعينات من القرن الماضي، نشرت النسخة الانكليزية من كتاب الفرنسي أوليفيه روي "فشل الاسلام السياسي"؛ وهو الكتاب الذي أثار تفاؤلاً واسعاً في صفوف القوي المناهضة للإسلاميين. ارتكزت أطروحة روي علي قراءة لأوضاع ايران وأفغانستان والسودان، حيث استطاع الاسلاميون السيطرة علي الحكم، وبدا انهم أوصلوا بلدانهم الي طريق مسدود، سياسياً واقتصادياً، اما لأنهم عجزوا عن ادارة شؤون الدولة الحديثة، للضغوط الخارجية، أو لعجزهم عن اعادة بناء الاجماع الوطني. كان تقدير روي لأوضاع البلدان الثلاثة صحيحـــاً في شكل عام، ولكنه لم يأخذ في الاعتبار أصل الدوافع التي أدت الي ولادة القوي الاسلامية السياسية وسعيها للإمساك بتقاليد الحكم. فمنذ بدأت حركة التحديث في العالم الاسلامي في منتصف القرن التاسع عشــر، وسؤال موقع الاسلام ودوره في الاجتماع الاسلامي يطرق الأذهان ويثير الاضطراب والقلق. وإن كان الاسلام السياسي يتعرض اليوم لكثير من الانتقاد، حتي من أبناء القوي الاسلامية السياسية أنفسهم، فإن السؤال الذي حاول محمد عبده والسلطان عبد الحميد الاجابة عليه بطرق مختلفة وبدون نجاح كبير ما زال معلقاً في أفق الاجتماع العربي والإسلامي. الاسلام السياسي لم يخترع السؤال بل كان احد افرازاته. وهذا ما يجعل اطروحة فشل الاسلام السياسي تبدو اليوم، وبعد عشر سنوات من الترويج لها، متسرعة الي حد كبير، لأنها لم تتطرق أصلاً، وربما لم تنتبه، للسؤال الأولي.

 

هذا السؤال لن تأتي الاجابة عليه من الضغوط الامريكية، ولا من التصورات الامريكية للإصلاح في العالم العربي. أولاً لأن النخبة السياسية الامريكية المعنية بحركة الاصلاح السياسي في المنطقة العربية تفتقد الحساسية لمشكلات المنطقة وقضاياها الكبري. ان الهم الرئيس لدي النخبة الامريكية الحاكمة هو هم السيطرة، وهو هم يرتكز الي أيديولوجيا الخير الأمريكي في مواجهة شرور العالم. ولا تعرف هذه الشرور دائماً من خلال الاجماع والتوافق الدوليين، بل من منظور ان كل من يناهض مشروع السيطرة الامريكية يقف بالضرورة في معسكر الشر. اضافة الي ذلك فإن هناك ثلاث مسائل رئيسة تقف في طريق اقامة علاقات ثقة بين المنطقة العربية وشعوبها من ناحية والسياسة الامريكية من ناحية أخري: الأولي هي مسألة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، والثانية هي الاحتلال الأمريكي للعراق، والثالثة هي التوجه الأمريكي المعادي لكل ما هو اسلامي. تستدعي هذه المسائل التوجس من برامج الاصلاح الامريكية، ابتداء من برامج اصلاح التعليم، الي الترويج لقيم ومؤسسات اعلامية بعينها، الي دعم دوائر نخب محدودة بتوجهات خاصة جداً. علي المدي المتوسط والبعيد، لن تؤدي البرامج والضغوط الامريكية الا الي تفاقم حالة الانقسام وعدم الاستقرار، وليس دعم الحريات والتحول الديمقراطي.

 

وربما تبدو تركيا وكأنها استطاعت بعد معاناة طويلة تقديم اجابة ما علي سؤال موقع الاسلام ودوره في اطار من دولة حديثة. تنطلق تجربة حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم من ان الاجابة علي سؤال الاسلام لا بد ان تنطلق من موضوعة القبول بمؤسسة الدولة الحديثة، ومن الاعتراف بالمتغيرات الكبري التي تعرضت لها تركيا خلال القرن العشرين. ما يعنيه ذلك هو حتمية التحول بالتيار الاسلامي من مشروع اقامة الدولة الاسلامية، الي هدف اقامة حكومة مدنية متصالحة مع دين الأغلبية، لا في حالة حرب معه ومعها. الدين هنا ليس شأناً خاصاً كما هو حال الفرضيات العلمانية الأرثوذكسية، التي قلما انعكست كما هي في واقع العلمانيات الغربية المؤسسة، بل هو توجه اجماعي تتبناه الدولة من خلال عملية تراض وطني واسع وليس من خلال صراع ارادات الأكثرية والأقلية البرلمانية. تبني عملية التراضي علي أساس أخذ مؤسسات الدولة، قوي النخبة السياسية والفكرية، الارادة الشعبية، وتوازنات القوي الاقليمية والدولية في الاعتبار. هذه بالطبع عملية بالغة التعقيد، وليس من الممكن التيقن من نجاحها في هذه المرحلة المبكرة من التجربة التركية؛ ولكن الأسئلة الكبري لا يمكن الاجابـــــة عليها بسهولة ويسر. ومهما كان الموقف مــــن التجربة التركية، فإن من المفيد ربما لكافة أطراف السياسة العربية، الدولة والقوي الاسلامية والنخبة الحديثة علي السواء، ان تنظر اليها بتأمل وترقب كبيرين.

 

مهما كان الأمر فإن أحداً لا يجب ان يقع أسير وهم امكان التغيير السياسي العربي، بدون مواجهة اشكالية القرنين الماضيين المتعلقة بسؤال موقع الاسلام ودوره في الحياة العامة. كما ان أحداً لا يجب ان يتصور ان تجاهل القضايا الكبري سيؤدي الي ان تحل هذه القضايا نفسها بنفسها. * د. بشير موسي نافع : باحث عربي في التاريخ الحديث.

 

المصدر: جريدة القدس العربي

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك