كيف نواجه 'التطرف'؟

كيف نواجه 'التطرف'؟

محمد سليمان أبو رمان

التنظيمات الإسلامية المسلحة التي تم الكشف عنها في الأردن قبل أسابيع، ومن أبرزها تنظيم "عبد الطحاوي"، وغيرها من التنظيمات والجماعات، تدفعنا جميعا إلى عدم الاكتفاء بالحل "الأمني العلاجي"، وإنما بالسعي إلى دراسة الأسباب التي ترمي بعدد كبير من الشباب البسيط المتحمس إلى أحضان فكر العنف والتطرف، والعوامل والشروط التي تساهم في خلق وإنتاج الإرهاب وتفسر لنا هذه الظاهرة كي نتمكن من التعامل معها "وقائيا" ومعالجة أسبابها.

 

أقول هذا الكلام وأؤكد أن هناك غيابا كاملا للخطاب الإسلامي المستنير المعتدل الذي يبين للشباب الطريق الصحيح في فهم الإسلام وأخلاقه وتعاليمه ووظيفته الاجتماعية، بل أزعم أن هناك غيابا لخطاب اجتماعي إرشادي يناقش أزمات الشباب ومشاكلهم ويقدم لهم مفاتيح فكرية ومعرفية تساعدهم على تلمس الطريق في واقع صعب ومرير.

 

نعم، هناك فراغ هائل يملؤه عدد من الوعاظ أو "المتطرفين" الذين يسممون عقول الشباب برؤى متشددة تجاه المجتمع والناس، تختزل كل تعقيدات الواقع السياسي ومساوئه بمقولات مثالية مطلقة، وذلك في ظل واقع سياسي واجتماعي كفيل بخلق شروط التطرف والعنف لدى الشباب، ومزاج شعبي عام غاضب تشكل جماعات العنف والتطرف الديني أحد إفرازا ته السلبية التي تمثل مؤشرا واضحا على اتجاهاته.

 

لقد كنت أحد الشباب الأردني الذين ولد وعيهم السياسي على نتائج الهزائم والحروب، وأنهيت دراستي الثانوية وأنا على أعتاب العشرين، وشعرت بمرارة الهزيمة بعد حرب الخليج الثانية، الأمر الذي دفعني -كما دفع كثيرين من أبناء جيلي-بطريقة أو بأخرى إلى دخول عالم التدين من السياسة أو العكس، فأمضيت سني الجامعة الأولى وأنا ما زلت أعيش صدى الهزيمة التي كانت تصرخ في أعماقي، فأشعر بتأنيب الضمير والغضب الشديد من هذا الواقع، وكأني مسئول عن تغييره، ولأن الاتجاه الإسلامي المهادن لم يكن ليلبي طموح الشباب الراديكالي اتجهنا إلى الأفكار المتشددة والتي كانت تنتشر بقوة في وسط الشباب، وهو العنصر المهيأ فكريا ونفسيا لتبني مشروع مغامرة "الراديكالية السياسية والاجتماعية" والسعي إلى التغيير بالقوة.

 

الحالة التي مررت بها في سنيّ الشباب الأولى؛ هي بالتحديد التي تشرح وتفسر الأسباب التي ترمي بأبنائنا إلى أحضان التطرف وتدفع بهم إلى التورط في اتجاهات سياسية خاطئة نتيجة الضعف الشديد في الخبرة السياسية والإمكانيات الفكرية، والنتيجة هي تحول هؤلاء الشباب من جيل نعلق عليه أمالنا إلى "حالة أمنية خطيرة" تعبر عن اتجاه فكري راديكالي لعله يجد في أحضانه "المثالية" السياسية والاجتماعية المفقودة في واقعه المرير.

 

فهناك العديد من الشباب المحكوم عليهم اليوم بقضايا أمن الدولة، يمضون فترة السجن، وقد كانوا في الدراسة الجامعية من المتميزين بالاستقامة الدينية، أو ممن أقبلوا على التدين بحثا عن حالة من الطهر والنقاء؛ وليسوا من ذوي الميول الإجرامية، لكنهم صدى لهزيمة سياسية نعيشها جميعا، وظروف غير صحية يغيب فيها الخطاب الفكري المستنير الموجه، فيضل الكثيرون طريقهم بحثا عن الحل والمخرج.

 

ومن خلال خبرتي في دراسة وتحليل الاتجاهات الإسلامية المتطرفة وحركات العنف في الأردن، أكاد أجزم أن متوسط أعمار الشباب المتورطين بهذه الجماعات يقع بين 22-23 عاما، أي أنهم لم ينضجوا فكريا أو نفسيا بعد، وكثير منهم بحاجة فقط إلى وقت وخبرة كي يدرك مثالية وضعف التصورات التي دفعتهم إلى الأفكار والآراء المتطرفة التي اعتنقوها.

 

بالتأكيد هناك شروط سياسية قاهرة لا تملك الدولة ولا المجتمع تغييرها، كالعدوان الأمريكي والإسرائيلي والتي تتكفل بتوفير شروط ممتازة لاتجاهات العنف الداخلي، إلاّ أن المؤسسات الرسمية والثقافية تمتلك الكثير لتقدمه في معالجة هذه الظاهرة؛ ومن ذلك تبني أو رعاية خطاب إسلامي مستنير تجاه المجتمع والشباب، يقدم الإسلام من خلال مقاصده وأهدافه العامة بعيدا عن "التفسيرات النصوصية الجامدة"، ويناقش حجج الفكر الديني المتطرف، ويفندها، ويرشد الشباب المسلم إلى الوظيفة الاجتماعية والسياسية الصحيحة للإسلام في عالم اليوم، وأدوات ومنافذ التعبير الإيجابي عن الإصلاح السياسي والاجتماعي المطلوب.

 

كما أن المطلوب اليوم هو عدم الاكتفاء بالمحاكمة القضائية للشباب المتورط في قضايا العنف وإنما تولي عدد من العلماء المعتدلين والمفكرين الإسلاميين بإشراف من الحكومة مناقشتهم داخل "الإصلاحيات" ومواجهتهم بأفكارهم، والعمل على تخفيف العقوبات على من يعود منهم عن أفكاره ورؤاه المتطرفة، ويقوم بمراجعتها، وهذا الحل قد طبق بطريقة وبأخرى داخل السعودية واليمن وأتى بنتائج جيدة، وبالفعل تم الإفراج عن عدد كبير من الشباب، كما أن مصر قد وفرت الكثير من الدماء والجهد عندما أعلن قادة الجماعة الإسلامية عن مراجعة أفكار الجماعة وأدبياتها ووصلوا إلى الاعتراف بالخطأ الكبير الذي وقعت به الجماعة باتخاذ منهج العنف والقوة والتشدد في فهم الإسلام، وقد أدى ذلك إلى إنقاذ مستقبل عشرات الالاف من الشباب الذين كانت تستقطبهم الجماعة، نعم كانت إجراءات السلطة والأجهزة الأمنية فاعلة في التقليل من أثار العنف والتطرف، لكن فعاليتها أقل بكثير من قدرة الفكر والخطاب المقنع على ذلك، وساهمت السلطة إلى حد ما بإنجاح مبادرة الجماعة الإسلامية من خلال فتح المجال لقادتها -داخل السجون- في إقناع الشباب بمبادرة وقف العنف، وأسبابها، الأمر الذي أدى إلى نتائج كبيرة.

 

ما أريد الخلوص إليه هو أن "المنظور الأمني" وحده غير كاف للتعامل مع الفكر والجماعات الإسلامية المتطرفة، ولا بد من وجود "الحلول المتكاملة" والرؤى الوقائية التي تجنب الوطن والمجتمع حالة النزيف من خلال إهدار مستقبل مئات الشباب، الذين دلفوا إلى العنف بنوايا طيبة لكن برؤى ومناهج خاطئة، والمسؤولية أولا وأخيرا تقع على عاتقنا جميعا: الحكومة والمؤسسات الثقافية والكتاب والمفكرين.

 

في هذا السياق يجدر التنبيه على خطورة الرؤية التي تحاول الإدارة الأمريكية تسويقها في العالم العربي، وقد عبرت عنها مؤسسة "راند" من خلال دراسة "الإسلام الديمقراطي" والتي تبنت ضرورة دعم الاتجاهات الإسلامية التقليدية لمواجهة الإسلام المسلح، كما أن هناك عددا من الكتاب والخبراء الأمريكان يدعون اليوم إلى تشكيل تحالف مع كل القوى العربية المعادية للإسلام المسلح، مهما اختلفت توجهاتها ومواقفها، بما في ذلك القوى الدينية والإسلامية التقليدية، أقول من الخطأ الكبير تبني هذه الرؤية داخل مؤسساتنا ودوائرنا الرسمية، فهذه الرؤية تعبر عن ضحالة وضعف كبير في التصور، وهي أولا وأخيرا تعكس المصالح الأمريكية في المنطقة وليس مصالح مجتمعاتنا ودولنا؛ فمن رحم التيار التقليدي السلفي يولد التطرف والعنف، وهذا التيار وإن هادن الحكومات قليلا وابتعد عن السياسة علنا؛ إلا أنه يزرع أفكار التشدد والعنف والرفض داخل المجتمعات، وهي التي تساهم في نضوج حالة من التطرف لدى العديد من الشباب الذي يخرج من عباءة هذا التيار، وهناك الكثير من الأدلة على ذلك...

 

المصدر: مجلة العصر

الأكثر مشاركة في الفيس بوك