إسقاط الآخر بدعوى الإخلاص والنقاء الإعتقادي
إسقاط الآخر بدعوى الإخلاص والنقاء الإعتقادي
تحلقت مجموعة من طلاب العلم في زاوية المسجد لقراءة كتاب في فقه المعاملات ، و وصل بهم الدرس إلى باب المواريث . و في هذا الباب تطرق البحث إلى الأسباب التي تمنع الإنسان من وراثة من مات من أقاربه .
و قرر الشيخ عبارة الكتاب و كان يشرح و يفصّل و يضرب الأمثلة و هو يقرر القاعدة القائلة بأن من موانع الإرث القتل و اختلاف الدين. أجهد الشيخ نفسه و هو يشرح هذه القاعدة و يبين أن من سقط حقه في الإرث لمانع لا يؤثر وجوده على الأقارب الآخرين الذين لا يرثون لوجوده مع انتفاء المانع. فالابن القاتل مثلاً لا يمنع الميراث إخوة القتيل الذين لا يرثون أخاهم مع وجود الابن في الحالة العادية .
و بعد الشرح الطويل سأل الشيخ طلابه: هل فهمتم ؟ فأجابه أحد الحضور وكأنه يريد أن يتخلص مما شعر به من ملل بدعابة لطيفة قائلاً: نعم ياسيدي أنت تعني أن نحسب أن الكافر لم يخلقه الله .
أن نحسب أن شخصاً لم يخلقه الله ، هي عبارة تستعمل للإهانة و التجاهل عند المواجهة بين الخصوم للتحدي و الإستفزاز . و هي عبارة تصلح للدعابة عند رواية أحوال المتخاصمين من العوام و الطغام و لكنها تعتبر مأساة حقيقية عندما تصور نموذجاً لتفكيرٍ سائد بين من ينتسبون للدعوة أو الفكر و التغيير .
فما أكثر من يخلطون بين التقييم الأخلاقي بمقياس الحق و الباطل أو الصواب و الخطأ ، و بين التقييم الواقعي للأمور كما هي عليه لا كما نتمنى لها أن تكون .
إن تجاهل و إسقاط من لا نتفق معه من كل حساب و موازنة عند التحرك لمحاولة التأثير و التغيير يدل على جهل بسنن التغيير ، و يصبح هذا الجهل قاتلاً عندما يبرر بدعوى الإخلاص و النقاء الإعتقادي الذي لا يقيم وزناً للمخالفين ، أو عندما تسمى الدعوة إلى فهم الواقع و فهم القوى التي تعمل فيه هزيمة روحية تتطلب التوبة و الإنابة أو ضعفاً إيمانياً لايليق بالمخلصين .
إن قوي الإيمان هو الذي لا يرى قيمة لموازين الباطل و قيمه ، و لا ترهبه زخرفة الباطل و ضجيج دعايته . أما الذي لا يرى الكافر شيئاً حتى في وجوده و قوته التي يمتلكها و نفوذه الذي يتمتع به و لا يحسب له حساباً ، فليس هذا من قوة الإيمان في شيء بل هو إلى الكبر و بطر الحق أقرب .
إن هذا الخلط في التقييم هو الذي ندفع ثمنه كل مرة لجهلنا بالسنن فشلاً و خيبةً و نحن نظن أننا نواجه الإبتلاء الذي لا بد منه للتمحيص .
قد يسوغ افتراض الكافر و كأنه غير موجود و ذلك في قضية إجرائية تتعلق بالحقوق و الواجبات ، أما أن نحسب أن تعميم ذلك الإفتراض هو من كمال الإيمان و تمام الإلتزام ، فهو موقف إن صلح للدعابة في مواطن المزاح و الترويح ، فلا يصلح بالتأكيد في مواطن التغيير و التصحيح . * (ورد المقال في الأصل تحت عنوان : إلى أن نلتقي).
المصدر: مجلة الرشاد العدد 17 ، ديسمبر 2004