موقف الإسلام من الصراع

موقف الإسلام من الصراع

أحمد صدقي الدجاني

يكون أحد الطرفين هو النفس الأمارة بالسوء والصراع نشاط موجود فى كل مكان من عالم الإنسان. وظاهرة الصراع هى إحدى الحقائق الثابتة فى واقع الإنسان والجماعة، وعلى مستويات الوجود البشرى كافة، وهى تعبر عن موقف ينشأ من التناقض فى القيم أو فى المصالح بين أطراف تكون على وعى وإدراك بهذا التناقض مع توافر الرغبة لدى كل منها للاستحواذ على موضع لا يتوافق، بل وربما يتصادم مع رغبات الآخرين. فالظاهرة تعنى وجود تعارض فى أحد أبعاد الوجود البشرى، واستمرار هذا التعارض وربما التناقض يؤدى إلى أحد أمرين إما الصدام بين الأطراف أو إدارته وحله، كما يقول د. أحمد فؤاد رسلان فى مقدمة كتابه "نظرية الصراع الدولى".

 

يرتبط الصراع بالقيم، وبما يعتقده الإنسان من أنه خير وشر، وتقوى وفجور، وعدل وجور، ومعروف، ومنكر، وإيمان وكفر... وقد أوضح لويس كوسر ذلك فى تعريفه الذى أشار أيضا إلى تحقيق وضعيات نادرة أو مميزة، وفرق فيه بين الصراع والمنافسة التى لا تتضمن السعى لمنع المنافسين من تحقيق أهدافهم. ويلاحظ العلماء الذين درسوا الصراع أنه يمكن أن يكون عنيفا أو غير عنيف، كما يمكن أن يكون ظاهرا أو مسيطرا أو خفيا متنحيا، ويمكن السيطرة عليه أو غير ممكن، وقابلا للحل أو غير قابل، وقد ميزوا بينه وبين التوتر الذى يتضمن العداوة والخوف والشك وتصور اختلاف المصالح، ولكنه لا يمتد بالضرورة إلى أبعد من الإتجاهات والإدراكات ليصبح مواجهة مفتوحة بين الإدارات، والتوتر يسبق غالبا مرحلة انفجار الصراع، وهو يلازمه، وهناك علاقة قوية بين أسباب كل منهما. ويميز هؤلاء العلماء بين ثلاثة مستويات من الصراع انطلاقا من طبيعة أطرافه فهناك صراع بسيط بين أفراد يمارسونه مباشرة، وصراع منظمات يتم بين جماعات منظمة مثل صراع الدولة مع النقابات العمالية، وصراع جماعات لكل منها انتماؤها.

 

واضح أن ظاهرة الصراع البشرى قديمة بدأت مع وجود الإنسان، ومنذ أن توعد أحد ابنى آدم أخاه لأقتلنك (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) (المائدة: 30) وهذا ما دعا المفكرين لدراستها عبر العصور، ومن هؤلاء هان فى تو الصينى الذى جادل بأدن جوهر المجتمع هو القوة، وان الناس فيهم نزوع إلى الكسل والجبن والخوف هو الذى يوجد الخير فيهم ويدفعهم إلى العمل درءا للعقاب، وهيرا الكتبى اليونانى الذى اعتقد أن الصراع هو قانون العالم المرئى، والسفسطائيون الذين ذهبوا إلى القول بوجود تعارض بين القانون والطبيعة وأن العدالة ليست سوى مصلحة الأقوى إن الطبيعة هى حكم القوة، وبوليب الرومانى الذى قدم تفسيرا شاملا للمجتمع على أساس مفهوم الصراع واستمراره من التاريخ الرومانى وفكرة أن السلام العالمى لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مركزية السلطة فى روما، كما أوضح رسلان فى كتابه.

 

تأخذ ظاهرة الصراع فى عالمنا المعاصر أبعادا خطيرة، بعد أن أكتوى العالم فى النصف الأول من القرن العشرين الميلادى بنارحربين عالميتين، ما أسرح إن تلتهما حرب باردة استمرت خمسا وأربعين سنة، فقد شهد العالم المعاصر بعد انتهاء الحرب الباردة حوالى خمسين صراعا مسلما أساسيا، وعددا مماثلا لصراعات أصغر هنا وهناك فى أرجائه، كما يقول الأستاذ بيتر والينستين من إدارة بحوث السلام والصراع فى جامعة أوبعالا بالسويد، فى بحثه "إيجاد شروط لحوار بناء خمسة دروس للمستقبل، الذى قدمه لندوة الإسلام وأوروبا (الأردن- 6/1996م).

 

وأصبح من الشائع فى عالمنا الحديث عن الصراع الدولى الذى يعبر فى مفهومه عن ظاهرة عدم التوافق أو التناقض فى المصالح والقيم والأهداف القومية بين القوى الفاعلة فى النظام الدولى، وتتحول ظاهرة التناقض هذه إلى ظاهرة صدام حين تسعى قوة فاعلة للتدخل فى شئون قوة فاعلة أخرى، وتزداد ظاهرة الصراع انتشارا فى المجتمع الدولى كلما افتقد هذا المجتمع الشرعية، ويشهد عالمنا طرح نظريات حول الصراع الدولى مثل نظرية صنع القرار ونظرية الاتصالات ونظرية النظم لريتشارد سيندر وكارل دريتش ومورتون كابلان، ويلاحظ أن غالبيتها ظهر فى الولايات المتحدة الأمريكية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 

لقد فت ح انتهاء الحرب الباردة الباب لصراعات كثيرة تنشب بين دول أو فى داخل الدول، فى الوقت الذى تضاءل فيه خطر المواجهة النووية الشاملة بين القوى العظمى، الأمر الذى غير بنود جدول أعمال السياسة الدولية. ويلاحظ والينستين بحق فى بحثه أن حروبا جديدة بعضها بلا جذور وبعضها الآخر جذوره ممتدة فى التاريخ، أخذت مكانها. وبدأ الحديث يتردد حول تهديدات جديدة "بعد تفكك الإتحاد السوفيتى ، ولم يعد خافيا أن بعض منظرى الصراع فى الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة طرحوا " الإسلام " باعتباره خطرا يهدد الحضارة الغربية. وهكذا أصبح موضوع الصدام بين الإسلام والغرب والإسلام وأوروبا محل مناقشة، وتفنن مروجو هذه النظريات فى تشويه صورة الإسلام وتاريخ الحضارة العربية الاسلامية، وفى التخويف من الصحوة الاسلامية التى سموها "الأصولية" والخلط بينها وبين "التطرف الدينى"، وفى وضع شرائط مشاهدة حول المواجهة الحتمية القادمة بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية. وقد نظمت قوى الهيمنة الدولية حملة قوية دعائية لتعميم ذلك كله، وقامت الحركة الصهيونية بدور خاص على هذا الصعيد شرحناه فى أحد فصول كتابنا "فى مواجهة نظام الشرق الأوسط". وهكذا عادت تتردد من جديد مقولات "إنتشار الإسلام بحد السيف "والحرب المقدسة الجهاد "ودار الحرب مع أحاديث عن الحكم الإسلامى والمرأة فى الإسلام ووضع غير المسلمين فى المجتمعات الاسلامية.

 

إن عالمنا يشهد اليوم وهو يواجه الأبعاد الخطيرة لظاهرة الصراع محاولات جادة لمحاصرة هذه الظاهرة ويشارك المسلمون مع غيرهم من المؤمنين ومحبى السلام القائم على العدل بجهودهم فى هذه المحاولات ويمكننا ونحن نتابع الاستجابة لتحدى الحملة المنظمة لتشويه الإسلام وإثارة الإحن بين الحضارتين أن نلاحظ أمرين: أولهما حرص تيار قوى بين المسلمين على الدعوة إلى الحوار والدخول فيه مع كل القوى فى عالمنا، رافعا شعار التعارف وصولا إلى التعاون على البر والتقوى، وهكذا رأينا أنواعا من الحوار تجرى منها حوار دينى واخر سياسى اقتصادى اجتماعى، والأمر الآخر أن أصواتا قوية غربية بدأت تنطق فى مواجهة هذه الحملة داعية إلى الحوار وللتعرف على صورة الإسلام الصحيحة وتاريخ الحضارة العربية الاسلامية، مفندة المزاعم التى ترددها حملة التشويه- والأمران معا يحثان على تكثيف الجهود لطرح حقائق الإسلام وشرح موقف الإسلام من الصراع.

 

يتحدد موقف الإسلام من الصراع تبعا للتصور الإسلامى للكون والحياة والاجتماع الإنسانى. فالله سبحانه عالم كل شئ . وقد شاءت إرادته أن يجعل فى الأرض خليفة، فأنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها وزوده بالسمع والبصر والفؤاد، وهداه النجدين، وأعطاه حرية الإرادة، وحمله الأمانة، وجعله مسئولا، بعد أن تبين له الطريق المستقيم، وسخر له أشياء كثيرة فى الكون، ودعاه إلى الإيمان وعمل الصالحات واستباق الخيرات ، الإنسان فى هذا التصور ذو نفس وروح وعقل، وقد سوى الله سبحانه النفس الإنسانية فألهمها فجورها وتقواها، وطلب من الإنسان أن يزكيها ليفلح، وحكم بالخيبة على من يدسها. وهكذا فإن هناك صراعا يجرى على مستوى النفس الإنسانية بين الخير والشر والتقوى والإثم والحلال والحرام والحق والباطل، وهو صراع مرتبط بالقيم، ومرجعية القيم فى التصور الإسلامى هى الوحى الإلهى الذى أنزله الله على أنبيائه ورسله. والإنسان مدعو إزاء هذا الصراع إلى الارتقاء بنفسه الأمارة بالسوء فى مدارج السالكين لتصبح لوامة إذا أخل صاحبها بالقيم ولتصل إلى منزلة النفس المطمئنة بالمجاهدة والنهى عن الهوى، وقد ورد فى الأثر وصف جهاد النفس بأنه جهاد أكبر. وهنا يبرز أول معنى من معانى الجهاد، وهذا المعنى يستهدف تحقيق السلام فى النفس الإنسانية بحيث تصبح راضية مرضية من خلال تحقيق التوازن بين الإشراق والضرورات. والإسلام كما أوضح سيد قطب فى كتابه السلام العالمى يبدأ بناء السلام فى العالم بتحقيق سلام نفس الفرد، ومن ثم سلام الأسرة، فسلام المجتمع وصولا إلى السلام العالمى.

 

الإسلام إذا يعترف بوجود الصراع على أصعدة كثيرة. وهو ينطلق من هذا الاعتراف إلى توجيه الناس لكيفية حل هذا الصراع بدءا من صعيد النفس، وهذا ما نراه بوضوح على صعيد الأسرة التى تبدأ بزوجين ذكر وأنثى خلقهما الله من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، فهناك رباط شرعى هو "النكاح " يجمع بين الزوجين يباركه خالقهما، يحدد لكل منهما حقوقه وواجباته ويجعلهما "محصنين، تكون معاشرتهما بالمعروف، فإن لم يتحقق ذلك فيكون "التسريح بالإحسان " بعد أن تصل جهود الإصلاح إلى طريق مسدود. وفى ظل هذا الرباط الشرعى ينشأ الأطفال ولهم حقوقهم التى تحرسها القيم وأولها حق الحياة فلا وأد ولا قتل، ثم بقية الحقوق الأخرى صحية وتربوية وفى كنف الأسرة تكون رعاية الإنسان حين تتقدم به السن ويبلغ به الكبر فيصبح شيخا وقد يرد إلى أرذل العمر. والوحى الإلهى فى القرآن الكريم حافل بالتوجيهات لمعالجة أى صراع ينشب على صعيد الأسرة ذات الأجيال بين الزوجين أو بين الابن والوالدين بشأن المعتقد.

 

(وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) (لقمان: 15) تعنى تعاليم الإسلام عناية كبيرة بمعالجة الصراع الاجتماعى فى المجتمع، فتنظر إلى الجماعة كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وهى تحث من ثم على التكافل الإجتماعى والانفاق فى سبيل الله كما أنها تحذر من "القارونية، فى أمثال قارون الذى كان من قوم موسى فبغى عليهم- وتدعو إلى مواجهة البغى بغير الحق والطغيان بكل أشكاله. وهى تؤكد على مبدأ العدل حلا للصراع الاجتماعى.-

 

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8) ، (واتقون يا أولى الألباب) (نهاية الآية 197: البقرة) كما تؤكد على مبدأ الشورى.

 

(وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون) (الشورى 38-39)

 

يواجه الإسلام ما ينشب من صراع بين الشعوب والأمم والدول بتوجيهات الهية لحل هذا الصراع نابعة من تصور متكامل للعلاقات التى ينبغى أن تكون بين الناس. فالله سبحانه خلق الناس جميعا من ذكر وأنثى، أصلهم واحد، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، فالتعارف هدف لهم، وجعلهم مختلفين فى ألسنتهم وألوانهم لا فرق بينهم فى الإنسانية وكلهم سواسية كأسنان المشط. وقد دعاهم إلى التعارف على البر والتقوى ونهاهم عن التعارف على الإثم والعدوان، ولم ينههم عن بر من لم يقاتلهم فى الدين ولم يخرجهم من ديارهم وعن الأقساط إليهم، ودعا إلى الدخول فى السلم كافة، فالسلم هو الأصل حين يقام الميزان بالقسط. والقتال هو لمواجهة الكفر والطغيان والبغى بغير حق حين يحدث طغى فى الميزان، وحين يحدث العدوان.

 

(وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 190).

 

وهذا جهاد فى سبيل الله. وهكذا فإن الجهاد هو لرد الحقوق المغتصبة، وقمع العدوان ونصرة المظلوم وحماية الدعوة إلى الله- وجاءت تعاليم الإسلام متضمنة توجيهات بشأن انتهاء الحرب ومعاملة الأسرى، ومؤكدة على الوفاء بالعهد.

 

(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (المائدة:1)

 

(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون) (النحل: 91)

 

وقد وصف القرآن الكريم المؤمنين بأنهم (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (الرعد: 20) (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (البقرة: 177)

 

لقد فرض الإسلام الجهاد فى سبيل الله بمعناه الشامل الذى يتضمن جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار والمنافقين، وجهاد أهل المنكر من الظلمة والفسقة، وهو فى جميع هذه الأحوال معترف بالقيم التى حددها الله سبحانه لعباده، من تزكية للنفس إلى نصر الحق وإعلاء كلمة الله فى الأرض. ولذا نراه يرد فى الآيات القرآنية فى مواجهة الظلم والطغيان والبغى بغير حق، دفاعا عن المؤمنين.

 

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) (البقرة: 251) كما نراه مقترنا بالسلم الذى هو الأصل. بل نجد كلمة المودة ترد بعد العداء.

 

(عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم) (الممتحنة:7)

 

وهذه السورة تبدأ بنهي الله سبحانه المؤمنين عن أن يتخذوا عدو الله وعدوهم أولياء، لأنهم كفروا بما جاء من الحق وأخرجو الرسول وهى تتضمن ذكرا لإبراهيم عليه السلام، ولنا فيه أسوة حسنة، الذى قال لأبيه الكافر لأستغفرن لك ودعا (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) (الممتحنة :ه) وواضح أن الفرق شاسع بين صورة الجهاد فى القرآن وتلك الصورة التى رسمها بعض الكتاب غير المسلمين عن "الحرب المقدسة فى زعمهم "، وقد اختار مراد هوفمان هذا القول عنوانا لفصل فى كتابه "الإسلام كبديل "، وبين كيف تعامل الإسلام القانون الدولى للحرب على أساس الآيات القرآنية، وانتهى إلى القول بعد استعراض هذه الآيات فإذا نظر القارئ إلى هذه الحقيقة نظرة متأنية، وعرف أن الإسلام مع يدعو للسلام فرضا مفروضا، ويحرم العدوان، ويستنكر كل حرب عدوانية، فإنه سيفهم الآيات التى بترها عن سياقها هانز فوكنج وتخيرها ليبرهن بها على ما زعم، ولقد نبه من قبل محمد أسد عام 1980م على أهمية السياق، الذى يجب أن يأخذه المرء فى الحسبان قبل استنطاق الآية على غير ما تنطق به "الإسلام كبديل ص 234 من الترجمة العربية" . * ممارسة موقف الإسلام من الصراع فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية :

 

شهدت فترة البعثة المحمدية وبخاصة فى العهد المدنى ممارسة رسول الله- صلى الله عليه وسلم لموقف الإسلام من الصراع، فقدمت نموذجا احتذى المسلمون به، وقد سار الخلفاء الراشدون لوفق هذا النموذج، وضربوا أمثلة عملية عليه ومن بين هذه الأمثلة وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه لجيش أسامة بعشر: لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا معمرا، ولا تخرب عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل ولا تجبن (نيل الأوطار: 7،248) نقله وهبه الزحيلى فى كتابه أو العلاقات الدولية فى الإسلام، واستمرت هذه الممارسة النبوية لموقف الإسلام من الصراع مصدر الهداية للتابعين والفقهاء فى مختلف العصور، وحرص المؤرخون على إبراز الأمثلة المشرفة التى جاءت على هداها. ومن بين الأمثلة ما ذكره ابن الأثير فى كتابه الكامل فى التاريخ من قصة أهل سمرقند، وما ذكره البلاذرى فى فتوح البلدان، حين شكوا إلى الخليفة عمر بن الخطاب قتيبة بن مسلم الباهلى فحكم القاضى سليمان بن أبى السرى بخروج العرب المسلمين من أرض سمرقند إلى معسكراتهم ومن ثم يتباحثون فى أمر الصلح أو الحرب وفقا لتعاليم الإسلام.

 

لعل من أبرز ما سجله تاريخ العمران الحضارى العربى الإسلامى على صعيد "الصراع" هو إسهام للفقهاء المسلمين فى بلوره "قانون دولى إسلامى، قد عنى مجيد خورى بدراسة هذا الاسهام فى كتابه "القانون الدولى الاسلامى" الذى قدم فيه كتاب السير للشيبانى. فالأنظمة القديمة التى سبقت لم تكن دولية لأنها فشلت فى إدراك مفهومى المساواة والمعاملة بالمثل القانونيين، على حد قوله، وحين ظهر الإسلام وبفضل دعوته الشاملة للبشرية جمعاء استشعرت الدولة الاسلامية الحاجة لبلورة القانون الدولى الإسلامى الذى هو ليس نظاما منفصلا عن الشرع الإسلامى، بل هو امتداد له. والغاية منه تنظيم علاقات المسلمين بغير المسلمين سواء كان ذلك ضمن البلاد الإسلامية أو خارجها. وقد فرض المسلمون هذا النظام القانونى على أنفسهم وكانت أحكامه الخلقية أو الدينية تلزم المسلمين "وإن كان بعض ما فيه من قوانين ليس فى صالحهم " وهكذا لم تكن قوة "السير الملزمة" مبنية أساسا على نوع من المعاملة بالمثل بل كانت انطلاقا من مبادىء واضحة محددة جاء بها الإسلام. وهذا ما جعلها تنجو من الكيل بمكيالين. ويلاحظ خدورى أن الإسلام كان يفرض على المؤمنين المسلمين أن يحيوا حياة منسجمين مع الشرع الإسلامى ومع المبادئ الخلقية الاسلامية داخل حدود الدولة الاسلامية وخارجها، وأن الإسلام انتشر بواسطة التجارة والعلاقات الثقافية التى أقامها المسلمون عبر حدود الدولة الاسلامية ومشهود المثل الذى يقدمه انتشار الإسلام فى جزر الهند الشرقية على أيدى التجار المسلمين الذين سألوا شعوب تلك الجزر عن أحكام التعامل التجارى عندهم، وعرضوا عليهم أحكام الإسلام فى هذا التعامل فسعدوا بها وأصبحوا مسلمين.

 

لقد عمد بعض الفقهاء المسلمين فى ظل الظروف التاريخية التى عاشرها إلى تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، ولكن فقهاء مسلمين آخرين طرحوا دار العهد أو دار الصلح أيضا. ودار العهد هى جملة الأقاليم التى عقدت عهودا مع المسلمين، وحدد هؤلاء الفقهاء واجبات دار الإسلام تجاه العهد التى من بينها حمايتها من أى عدوان خارجى حتى لو كان القائم بهذا العدوان فئة من المسلمين المنشقين، والحفاظ على حرية المعاهدين وعدم التدخل فى شئونهم الخاصة، واحترام المعاهدين فى أشخاصهم وأموالهم وحرمة منازلهم، والحفاظ على الحرية الدينية لهم، كما أوضح د. حسان الخنيدى فى كتابه "الإسلام والقانون الدولى" ويوجز غوروى فهمه لنظرية الجهاد فى الإسلام بأن "هدف الجهاد نشر الدعوة وإشاعة حكم الله سبحانه فى العالم أجمع وهو بمعناه الشامل لم يكن بالضرورة دعوة إلى العنف أو القتال الفعلى، إذ أن الإسلام يستطيع أن يبلغ غايته عبر الوسائل السلمية. وفى وسعنا اعتباره كفاحا بالحجة والسيف، وقد سبق أن أوضحنا متى يكون الكفاح بالسيف وفقا لتعاليم الإسلام. وقد عنى عدد من الباحثين الغربيين بدراسة كتب "السير". والسير جمع سيرة وبه سمى الكتاب الذى يبين سيرة المسلمين فى المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المنافقين وأهل الذمة ومع المرتدين ومع أهل البغى الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفى التأويل مبطلين كما عرفها الرخى فى كتاب المبسوط وقد راجع هذا الكتاب جوزيت هامر فون بورجستال عام 1827م الذى وصف الشيبانى مؤلف السير بأنه هيروجو جروشيوس المسلمين وجيروشيوس هو العالم الهولندى الدى تناول فى مؤلفاته موضع السلم والحرب. وقد سبقه الشيبانى بثمانية قرون حيث توفى جيروشيوس عام 1645 م بينما كانت وفاة الشيبانى عام 804 م، ويتتبع خدورى خلفاء الشيبانى فى كتابة السير ويقرر ان المعاهدة التى عقدها السلطان سليمان القانونى سنة 1535 مع ملك فرنسا فرنسيس الأول، أبرز أداه تضمنت الاعتراف بأن السلم هو القاعدة التى تنظم علاقات المسلمين بغيرهم من الشعوب.

 

تأثرت ممارسة المسلمين لموقف الإسلام من الصراع بالظروف التاريخية التى مروا بها. وقد أدى قيام الدويلات فى إطار الدولة الاسلامية إلى التوصل لاتفاق ضمنى على الجيران غير المسلمين ينظم العلاقات بينهما على أساس المساواة والمصالح المتبادلة والتعامل بالمثل وبقى غالبية الفقهاء يؤكدون على ضرورة التزام المبادئ التى جاءت بها تعاليم الإسلام ومنها مبدأ العدل ومبدأ الشورى. وقد حفظ لنا التاريخ أمثلة رائعة على هذا الالتزام من أشهرها فتوى شيخ الإسلام فى عهد السلطان سليم الأول العثمانى بشأن عدم جواز إكراه أهل الكتاب الذين يخضعون للحكم الإسلامى على اعتناق الإسلام، لأن الشريعة الاسلامية تقول ببقائهم على دينهم وأن يمارسوا حرية شعائرهم الدينية.

 

واستوقف هذا المثل الأستاذ الأمريكى البرت هو لايبير Albert Howe Lbuer فى كتابه : (حكومة الأمبراطورية العثمانية فى عهد سليمان الرابع) :

The Government of the Ottoman Empire in the time of Suleiman The Magnificent (1913 HARVARD)

فخصه بتعليق واف أورده عبد العزيز الشناوى فى كتابه : (الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها)، فى حول التزام هذه الفتوى، وهذه الأمثلة الرائعة لا تعنى عدم وجود أمثلة أخرى على ممارسة لم تلتزم، إذ وجد منها أيضا كثير وصدرت فتاوى تبرر أفعالا تعسفية قام بها الحكام أصدرها" مفتون استمالتهم السلطات" ولكن الأمثلة الرائعة هى التى بقيت تلهم المؤمنين وتذكر بنموذج السيرة النبوية.

 

جديد جد على صعيد الممارسة بعد انهيار الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية وبروز الدول القطرية فى دائرة الحضارة الإسلامية على نمط الدولة الوطنية الأوروبية . وذلك بفعل هيمنة الغرب على كل هذه الدول ووضع نطاق علمانى تسير عليه مستمد من النظام العلمانى الغربى تأثرت به غالبيتها، وهكذا تساهل البعض فى أمر العلاقات الخارجية، ودعا البعض إلى فصل الدين عن الدولة فصلا تاما، ودعا بعض أخر إلى إقامة نظام إسلامى ضمن إطار المجموعة الدولية، ومن أبرز القائلين بهذا الرأى الآخر عبد الرازق السنهورى فى كتابه الخلافة وأولى الأمر إلى ربط الإسلام لقضية السلام والأمن العالميين على حد قول مجيد خدورى. * تفاعل موقف الإسلام من الصراع مع الواقع القائم فى عالمنا:

 

لافت للنظر أن الفكر الإسلامى نشط فى عالمنا المعاصر، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فى إمعان النظر وأعمال الفكر فى الصراع المحتدم على صعد عدة فى العالم، وعنى بدراسة النظام الدولى القائم وبالتفاعل مع حقائق الواقع. واستشعر الحاجة لقيامه بدوره فى طرح رؤية إسلامية لحل الصراع وبلوغ السلام القائم على العدل، ويمكننا أن نرصد على هذا الصعيد ثلاث أفكار تبلورت لديه.

 

الفكرة الأولى: أن الإسلام قادر على التعايش مع العقائد الأخرى. وهو مؤهل لأن يقدم إسهاما متميزا فى القانون الدولى والمعاملات الدولية، وذلك من خلال تأكيده على المبادئ الأخلاقية فى التعامل، واعتماده معيارا واحدا فى إقامة العدل الذى ينبغى أن يكون جوهر النظام الدولى لأنه "أساس الملك" (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). (المائدة:8)

 

ولقد درس عدد من المفكرين المسلمين أزمة القيم التى تتحكم فى النظام الدولى ، وأحاطوا بما سببته من كوارث لشعوب العالم فى النصف الأول من القرن العشرين الذى شهد اندلاع حربين عالميتين وفى النصف الثانى الذى شهد احتدام الحرب الباردة وتفجير عشرات الحروب فى جهات مختلفة من عالمنا، فطرحوا موقف الإسلام من الصراع والمبادئ التى تحكم التعامل مع الآخرين فى نظر التعاليم الإسلامية. ومثل على ذلك ما كتبه محمد إقبال فى "تجديد الفكر الدينى" وما كتبه مالك بن بنى فى الإفريقية الأسيوية. ومن الملاحظ إن بعض الدول فى دائرة الحضارة العربية الاسلامية تبنت فى المحافل الدولية مواقف من بعض القضايا المطروحة تنطلق من هذه المبادئ ، وأبرز مثل يعيشه العالم هو الدفاع القوى عن حق مقاومة الاحتلال الذى تؤكده الشرعية الدولية وتعمد قوى الهيمنة إلى إنكاره ولصقه بممارسيه تهمة الإرهاب، وقد رأينا كيف أدان بيان القمة العربية الأخيرة التى انعقدت فى القاهرة فى يونيو- حزيران 1996م كل أشكال الإرهاب وميزت فى الوقت نفسه بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال مؤكدة أن هذه المقاومة حق شرعى، يجب أن يصان ويحترم وليست إرهاباً، ومثل أخر هو فضح اعتماد قوى الهيمنة الدولية معيارين فى التعامل، ويلقى هذا التوجه تجاوبا متناسبا من قبل عامة الناس من مختلف الشعوب التى تدرك بنظرتها أن أساس العدل وجوهره هو أن لا ترضى للآخر ما لا ترضاه لنفسك، و أن تحب لأخيك الإنسان ما تحب لنفسك، وقد أوضح الفكر الإسلامي المعاصر أن مشاركة الدول فى دائرة الحضارة العربية الاسلامية فى التوقيع على الاتفاقات الدولية يعنى أن المسلمين يعيشون مع من لا يحاربهم فى دار العهد.

 

الفكرة الثانية: أن الإسلام بطبيعته يحث على الحوار الهادف لتحقيق التعارف وصولا إلى التعاون على البر والتقوى بين الأمم والشعوب والدول والتجمعات الإقليمية، وإن حاجة عالمنا ماسة إلى هذا الحوار فى ظل احتدام صراعات كثيرة فيه، وأن المسلمين مدعوون إلى مباشرة هذا الحوار، ويمكننا أن نرى بوضوح إقبال المسلمين فى عالمنا على صور مختلفة من الحوار، فهم يشاركون فى حوارات دينية مع المسيحيين واليهود وأتباع أديان أخرى من بوذيين وهندوسيين وشنتويين، وهم يشاركون فى حوارات إقليمية حكومية مثل الحوار العربى الأردنى، وهم يشاركون فى حوارات فكرية غير حكومية حول موضوعات وقضايا حيوية، وقد أسهم عدد من المفكرين المسلمين فى شرح ظاهرة الحوار هذه، والإحاطة بها، وتوضيح أهداف الحوار وعوامله وأساليبه ونتائجه، وكان لكاتب هذه الورقة إسهام متواضع على هذا الصعيد فى كتابيه الحوار العربى الأوروبى وعمران لا طغيان وفى كتاب تحت الطبع "تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر"

 

الفكرة الثالثة: أن الفكر الإسلامى يتابع ما تقوم به مراكز بحثية تابعة لقوى الهيمنة الدولية من تنظير لتفجير صراعات فى عالمنا، ومن تحريض على الإسلام ووصفه بأنه الخطر الأكبر على الحضارة الغربية، وكذلك على الكونغوشوسية حضارة الصين، ولافت للنظر أن الفكر الإسلامي لم يفجر فى غالب الأحيان موقف رد الفعل على هذا التحديد بل اتخذ موقف الاستجابة الفاعل مؤكدا على حرصه على الحوار بين الحضارات وتعارف الثقافات وشارحا حقائق الاسلام وأباطيل خصومه ومتجاوبا مع حرص بعض الغربيين على رفض دعاوى العداوة للإسلام ومتعاونا معهم، وقد رأينا هذا بوضوح فى موقف الفكر الإسلامي من نظرية صدام الحضارات التى طرحها صموئيل هنتجتون وساندها روبرت كابلن الذى كتب مؤخرا "نهايات الأرض: رحلة إلى فجر القرن الحادى والعشرين، وقدم عرضا لهذا الكتاب عاطف الغمرى فى أهرام 3/7/1996م. كما رأينا ذلك بوضوح فى ردود عدد من المفكرين الأوروبيين على هذه النظرية فى عديد من الندوات الفكرية، ومثل عليها ندوة "الإسلام وأوروبا " التى عقدت فى 6 / 1996م فى الأردن بمشاركة عدد من المعاهد السويدية البحثية. * وبعد:

 

فإن الفكر الإسلامي الذى ينهل من معين الوحى الإلهى ويتفاعل مع الواقع القائم بإمعان النظر فيه وأعمال الفكر يتشوف رؤية مستقبلية يكون للإسلام فيها دوره الفاعل فى إقامة نظام عالمى قائم على العدل، وفى تحديد ماهية الصراع فى عالمنا على أساس من القيم العليا، فهو فى حقيقته صراع بين العدل والجور، والتعارف والتناكر، وتعاون على البر والتقوى وتعاون على الإثم والعدوان وحق وباطل..-

 

بين قوى هيمنة دولية يحكمها طغاة قارونيون جدد وقوى المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ويتطلعون إلى عالم يسوده السلام المستتب القائم على العدل، ومن هنا فالحوار ليس بين شرق وغرب ولا بين هذه الدولة وتلك ولا بين شمال وجنوب، وإنما هو بين الفئة المؤمنة الساعية للعدل والأقوال الطاغوتية والفئة المؤمنة فيه تخاطب الناس وتدعوهم بالتى هى أحسن ولا تعتدى، ولكنها ترد العدوان.

 

وهى تلتزم بتعاليم الوحى الإلهى فى التعامل مع الآخرين، ونصب عينيها إن السلم هو الأصل وأن الحرب العادلة هى عند الضرورة لرد الاعتداء ورفع الظلم، وهى مدركة إن السلام يمكن ان يتحقق إذا تعامل الناس على أساس من الندية لتلبية مصالحهم المشتركة الحيوية ووضعوا الميزان وأقاموا الوزن بالقسط ولم يخسروا الميزان، كما أنها واثقة من انتصار الحق.

 

(ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى عزيز) (الحج: 40). * الدكتور أحمد صدقي الدجاني: مفكر فلسطيني.

 

المصدر: ورقة عمل قدمت في المؤتمر الثامن للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر (الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري - يوليو 1996م)

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك