العنف الإسلامي في طبعاته القديمة والجديدة

العنف الإسلامي في طبعاته القديمة والجديدة

ياسر الزعاترة

كثير من الخلط يجري في الساحة الفكرية بين "التكفير" و"العنف" أو "التطرف" في طبعته أو طبعاته القديمة، وبين التكفير والعنف في طبعاته الجديدة كما هو الحال في بلاد عديدة هذه الأيام. * العنف.. الطبعة السعودية

 

ربما بدت الحالة السعودية أكثر أهمية؛ للتطورات الأخيرة، لكن واقع الحال يقول: إن العنف في طبعته السعودية يبدو ذا صلة من الدرجة الثانية بمسألة التكفير، فيما صلته الأولى بالمنهج الجهادي الذي دشنه الدكتور عبد الله عزام وأضاف إليه أسامة بن لادن بعداً جديداً في استهداف مصالح الذين يستهدفون الأمة "اليهود والصليبيين"، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

 

السبب الأساسي في معادلة العنف في طبعته السعودية كان خارجيًّا، فيما جاء تكفير الحاكم ومن يعينه على "مطاردة المجاهدين" تالياً على الظاهرة، بدليل أن رموز التيار المذكور لم يكونوا تكفيريين قبل سنوات عندما لم تكن الأجواء مناسبة لانطلاق ما يعرف بتيار السلفية الجهادية الذي ازداد تشدداً بعد ردة الفعل العنيفة ضده من طرف السلطة.

 

والحال أن ثمة مسافة بين تكفير الحكام الذي تشترك فيه نخب وجماعات إسلامية كثيرة بعضها يمارس الاعتدال في عالم السياسة ضمن فن الممكن، وبين تكفير الناس كما هو حال نماذج متفرقة في القديم والحديث.

 

لعل ذلك هو ما يفسر الرجوع السريع لرموز ذلك التيار في السعودية عن دعواتهم العنيفة والتكفيرية، ليس لثبوت عبثية العنف الداخلي فحسب، ولكن لأن أصل بضاعتهم الفكرية لا صلة له بتلك المواقف بقدر صلته بجوهر التفكير السلفي الذي يعلي من شأن مسائل العقيدة على نحو استثنائي، ويعامل الآخرين تبعاً لمواقفهم من تفاصيل تلك المسائل، وليس كلياتها فقط.

 

لقد نهضت ظاهرة العنف القديمة ومعها التكفير على أبعاد فكرية سياسية أكثر من استنادها إلى مسائل عقدية، فلم يتحدث الأولون أيام شكري مصطفى وتوابعه في الساحة المصرية، وكذلك سيد قطب عن العقيدة الصافية والفرقة الناجية وإنما تحدثوا عن الحاكمية والولاء والبراء، مركزين في أغلب الأحيان على الحاكم، فيما ذهبوا أحياناً في اتجاه "جاهلية المجتمع" من دون تكفير أفراده كما هو حال الشهيد سيد قطب، وإنما الحكم العام عليه بالجاهلية، أي الاحتكام لغير ما أنزل الله. * عنف الثمانينيات

 

في عنف الثمانينيات (الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر) كان الوضع مختلفاً إلى حد ما، فهنا جرى الخلط بين سيد قطب وابن تيمية على نحو واضح، أي بين الحاكمية والولاء والبراء، وبين سلفية العقيدة، لكن واقع التطبيق على الأرض كان يشير إلى غلبة البعد الأول على الثاني، ربما لطبيعة البنية المصرية الأكثر تسامحاً في مسائل العقيدة والفقه.

 

ففي حين كانت الرؤى الأولى تذهب في اتجاه الحاكم والأجهزة التابعة له، لم يؤد البعد الثاني إلى تكفير المجتمع، أو آحاد الناس فيه أو حتى الانشغال بتكفيرهم أو تفسيقهم أو الحكم عليهم بفساد العقيدة على نحو ما فعله التيار السلفي الذي أخذ ينشأ في الساحات العربية بمنهجية أقرب إلى التعامل مع الحكام وفق المنهج "الإرجائي" إن جاز التعبير، أي عدم التهجم عليهم وطاعتهم بوصفهم ولاة الأمر، مقابل التعامل مع الناس والدعاة منهم على وجه الخصوص وفق منهج التشدد، ولا سيما في مسائل العقيدة.

 

من هنا كان الرجوع عن مسار العنف طبيعيًّا إلى حد ما كما تبدى خلال السنوات الماضية، ذلك أن الأبعاد السياسية والفكرية وحتى الفقهية تبقى سهلة المراجعة، خلافاً للأبعاد العقدية في حال تبني موقف التشدد؛ لأن جوهر الفكر والسياسة هو تقدير الواقع والبناء عليه أكثر من حرفية الفتوى والنص، خلافاً لمسألة العقيدة المستندة إلى نصوص تفسر على نحو خاص له صلة بطبيعة الشخص ومنهجيته. * عنف في طبعته الجزائرية

 

في الجزائر كان الموقف مختلفاً، ففيما كانت البداية مستندة إلى بعض أفكار سيد قطب في الولاء والبراء والجاهلية إلى غير ذلك، جاء الموقف التالي على أسس مختلفة تدعي السلفية، وتتحدث عن العقيدة الصافية والفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وتكفر المخالفين في المنهج العقدي، حتى لو كان في بعض التفاصيل. فقد حكم عنتر زوابري قائد الجماعة الإسلامية على ثلاثة من قادة جبهة الإنقاذ هم: عبد الرزاق رجام ومحمد السعيد وزميل ثالث لهما بالموت بدعوى أشعرية العقيدة في موقف لم يسبقه إليه أحد في التاريخ الإسلامي. * سلفية والسلفية الجهادية

 

في الساحة العربية والإسلامية عموماً، وفي تأثر واضح بمناخات سائدة في المملكة العربية السعودية وتبنيها للمنهج السلفي، كان ثمة ثلاثة تيارات تتحرك هنا وهناك تتوحد في تركيزها على "عقيدة السلف"، فيما تختلف في آلية تطبيقها في الواقع. فقد مال التيار الأول إلى التشديد على طاعة ولي الأمر، والبعد عن السياسة إلى حد كبير، إلى جانب التشديد على الآخرين في مسائل العقيدة، ومن ضمنهم الدعاة والعلماء، الأحياء منهم والأموات ومعهم جمهور الناس كما أشرنا سابقاً.

 

أما التيار الثاني فذهب إلى الجمع بين الحاكم والمحكوم، فيما كان الثالث أكثر تشدداً مع الحاكم وتسامحاً مع الناس والدعاة الآخرين، وهذا هو التيار الذي نشأ مؤخراً مع أسامة بن لادن، بدليل تحالفه مع حنفي متشدد هو الملا محمد عمر، في وقت كان الآخرون يرفضون، ليس الأحناف الجدد فحسب بوصفهم فاسدي العقيدة، بل إمامهم الأول (أبو حنيفة) نفسه.

 

الحال أن تيار أسامة بن لادن قد تحوّل بذلك إلى تيار جديد، فهو وإن بدا سلفي المنهج من زاوية النظرة العقدية والفقهية فإنه جهادي النزعة حيال الخارج أكثر منه حيال الداخل، وإن بدا أن ثمة تغيرًا في نبرة خطابه في الآونة الأخيرة كنتاج لاستهداف المؤمنين بخطه، ممن بدءوا يوصفون بالخوارج رغم أن برنامجهم كان جهادياً ضد عدو خارجي حتى لو جرى استهداف ذلك العدو في الداخل. وقد بادر الرجل في إحدى رسائله الأخيرة إلى نفي تهمة "الخروج" و"التكفير" عنهم، محتسباً من قضى منهم شهداء عند الله.

 

في ضوء ذلك كله، ومن خلال قراءة تجارب هذه التيارات وتداعيات فعلها على الأرض، يمكن القول: إن تيار التشدد المفرط في مسائل العقيدة والقابض على مسألة "الفرقة الناجية" والتركيز على رفض الآخر المسلم هو الأكثر خطورة بصرف النظر عن وجهته؛ لأنه تيار يمعن في تفريق الداخل الإسلامي أكثر من أي شيء آخر، وهو لا يحتاج إلى ظروف موضوعية نادرة كي يتحرك. أما تيار الجمع بين التكفير والعنف، أو تيار العنف من دون تكفير، فلا بد له من ظروف موضوعية حتى ينشأ وينمو ويتحرك.

 

فالعنف الرسمي والفساد والقمع ومطاردة مظاهر التدين أجواء ضرورية لنشوء عنف الداخل، فيما أجواء استهداف الإسلام والمسلمين من قبل قوى خارجية هي المحفزة لتيار العنف الموجه للخارج، كما هو حال تيار أسامة بن لادن ومن هم على شاكلته. والواقع أن إعادة مثل هذا التيار إلى المسار الصائب ليست صعبة؛ لأن المسألة لا تتعدى الحوار معه حول جدوى ما يفعل على الإسلام والمسلمين، فإذا كان مفيداً فهو كذلك، وإذا كان ضارًّا فلا بد من تركه أو ترشيده بنبذ الخاطئ من ممارساته والإبقاء على الصائب. وحتى في حال إذا لم يحسم الخلاف على هذا النحو، فإن نتائج تلك الأفعال المعاكسة لأهدافها غالباً تكون سبباً في توقفها بفعل أو قرار ذاتي.

 

أما التكفير أو الإقصاء أو التشكيك في الدين والعقيدة على أسس من نصوص السنُّة اجتهادًا، واحتكارا للحقيقة، بل تجاوز العقيدة إلى الفقه أحياناً، فهو الأخطر؛ لأنه يتحرك في الداخل ويفرق صف المسلمين ويسهل عملية استهدافهم من قبل الخارج المتربص.

 

خلاصة القول: إن ثمة مخاضًا فكريًّا في الساحة العربية والإسلامية، وهو مخاض سيؤدي وفق تقديرنا إلى خير؛ لأن سنة الله في الأمة هي أن الزبد يذهب جفاءً، فيما لا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس. وقد ثبت أن التشدد في الموقف من المسلمين لا يمكن أن يتواصل؛ لأنه في الغالب نتاج انغلاق على النفس، الأمر الذي يبدو صعباً في ظل ثورة الإعلام القائمة. أما الجانب الأهم فهو الرفض العام لمنهج التشدد وميل الناس نحو الوسطية.

 

والحال أن توقف المملكة العربية السعودية عن دعم مجموعات الإقصاء بحق المسلمين الآخرين تحت دعوى فساد العقيدة أمر لا بد منه، وحين يحدث ذلك سيبدأ هذا التيار بالانحسار، ولا سيما أنه يركز على مواجهة المسلمين، وبث الخلاف فيما بينهم أكثر من انشغاله بمواجهة قضايا الأمة وصيانة وحدتها. ونحن هنا لا نعني التيار السلفي عموماً، بل ذلك الجزء الذي عرف بمبالغته في التشديد على المسلمين وتبديعهم وتفسيقهم وصولاً إلى تكفيرهم.

 

لقد أثبتت مسيرة الإسلام خلال قرونه الماضية أن حشره في رؤية معينة هو المستحيل بعينه، وإذا أراد البعض أن يفعل ذلك الآن فإنه لن يحصد غير الفشل، فتعدد آليات الفهم لا بد منها. ويبقى السؤال مركزاً حول أفضل السبل لإدارة الخلاف على نحو يحفظ وحدة الأمة.

 

لا بد من القول ختاماً: إنه إذا لم يجر التعامل مع الخلاف في فروع العقيدة كما هو الحال مع الفقه والتسامح في الحالين معاً ومعهما أدوات العمل السياسي فإن الشَّرذمة هي النتيجة الحتمية، وحين تكون الشرذمة يكون "التنازع" و"الفشل" و"ذهاب الريح". * المقال سبق نشره في "الجزيرة نت"، ويعاد نشره بإذن خاص، وبتصرف يسير (إسلام أون لاين)

** ياسر الزعاترة : كاتب فلسطيني.

ملاحظة : هذا المقال منشور بنسختيه في موقع الوحدة الإسلامية للإفادة.

 

المصدر: إسلام أون لاين

الأكثر مشاركة في الفيس بوك