قراءة نقدية لمناهج الصحوة في تكوين فكر العنف والتطرف

قراءة نقدية لمناهج الصحوة في تكوين فكر العنف والتطرف

عبد القادر طاش

لا مناص من الاعتراف بأن نمو الخطر الذي يمثله تيار العنف في جسم الصحوة الإسلامية المعاصرة يعد قضية بالغة الأهمية لا ينبغي علينا تجاهلها, أو التقليل من شأنها, أو معالجتها معالجة انفعالية, فضلا عن اللجوء إلى (تبريرها) أو البحث لها عن أعذار مهما كانت!

 

إن المطلوب هو أن ينظر الإسلاميون إلى قضية العنف نظرة أكثر جدية, وأن يولوا البحث الموضوعي لأسباب نشوء تيار العنف ونموه داخل جسم الصحوة عناية فائقة حتى يتمكنوا من وضع أيديهم على مكامن الجرح ومواطن الخلل مما يساعدهم على معالجة الجرح وسد الخلل. وإذا كنا ننادي الحكومات والجهات المتضررة من حوادث العنف المنسوبة لفئات إسلامية بأن تبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى العنف, فإن من العدل أو نوجه النداء نفسه أيضا إلى الإسلاميين لأن إلقاء اللوم على طرف وتبرئة ساحة الآخر ليسا منهجا صحيحا كما أنهما في الواقع العلمي لا يؤديان إلى نتيجة مثمرة.

 

إن الذين تناولوا مشكلة العنف المنسوب إلى فئات "إسلامية" ذكروا في تفسير المشكلة أسبابا عديدة منها الأسباب المتعلقة بالأوضاع والظروف السائدة في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية حيث يشوبها كثير من الانحرافات والمفاسد التي تسيء إلى الإسلام, وهذا المناخ هو البيئة الخصبة التي تفرخ تيارات العنف وهو الذي يولد لدى الشباب - وبخاصة المتدينين منهم - الإحساس بـ"الغربة" عن المجتمع ويدفعهم هذا الإحساس إلى "النقمة" على تلك الأوضاع والسعي نحو تغييرها بالقوة إن لم يجد الرفق والحلم! ويزيد هذه النقمة اشتعالا الاندفاع العاطفي الذي يرافق الشباب في مراحل عمرهم الأولى.

 

وإذا كان المناخ الفاسد وعدم العزم الأكيد على إصلاحه يدفعان الشباب إلى الإحباط فإن تنظيمات وحركات سرية تنسب نفسها للإسلام وجماعات مشبوهة لا تدري حقيقة انتماءاتها تسارع إلى استغلال نقمة الشباب فتتلقفهم لتدفع بهم إلى أتون العنف وتزج بهم في حومة الصراع الدموي مع السلطات والمجتمعات على حد سواء. وبذلك تتحول صفة التدين لدى هؤلاء الشباب - وهي صفة محمودة - إلى حركة احتجاج اجتماعي موظف من تلك التنظيمات والجماعات لتحقيق مآربها السياسية والاجتماعية ويكون هؤلاء الشباب - مع الأسف - مجرد أدوات يستخدمها أولئك للوصول إلى أغراضهم!

 

وقد تصلح هذه الأسباب لتفسير كثير من الحالات التي يلجأ إليها المنتمون إلى تيارات العنف, ولكننا نرى أنها لا تكفي وحدها للتفسير الموضوعي المتكامل, إن هذه الأسباب تتصل بـ"الخارج" أي خارج جسم وفكر الصحوة الإسلامية. إنها تتعلق بالمناخ العام وبالتنظيمات والحركات التي تستغل ذلك المناخ فماذا عن "الداخل" أي داخل الصحوة الإسلامية؟ هل يكفي أن نعلق نشوء تيار العنف على ما تفعله السلطات وما يحيط بالمجتمع من انحرافات ونبرئ الصحوة رموزا ومناهج وسلوكيات من التبعة ونخلي جانبها من المسؤولية؟!

 

نحسب أن المنهج الصحيح الذي أرساه الإسلام ويصدقه المنطق ويدعمه الواقع يطلب منا أن نبحث عن الأسباب الداخلية والذاتية فنحللها, كما نفعل تماما مع الأسباب الخارجية, بل ربما كان الأولى أن نبدأ بالأسباب الداخلية والذاتية مصداقا لقوله تعالى: (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم).

 

إن علينا إذا أن نعيد النظر مليا في طريقة معالجتنا لقضية العنف المنسوب إلى الإسلام, وعلينا أن نكف عن إلقاء التبعة كلها على "الخارج", إن إلقاء التبعة على الآخر أمر ميسور, وهو - في حقيقته - هروب من المواجهة. ولن نحل مشكلة العنف - الفكري منه والسلوكي - إلا إذا امتلكنا الشجاعة الكافية لنبحث عن الأسباب الداخلية والخارجية معا, ثم امتلكنا العزيمة الصادقة على إصلاح خلل "الداخل" قبل المطالبة بإصلاح خلل "الخارج".

 

ويحسن بمرشدي حركة الصحوة الإسلامية وموجهيها وهم يعالجون ظاهرة العنف أن يعترفوا بأن ثمة خللا ما في "داخل" جسم هذه الصحوة يسهم بصورة أو بأخرى في تغذية تلك الظاهرة وأن عليهم أن يعالجوا ذلك الخلل بشجاعة وحزم. فالمسؤولية عن تفاقم ظاهرة العنف لا تقع على "الخارج" وحده, فأين هو الخلل الداخلي أو الذاتي إذا؟

 

يتمثل الخلل الذاتي في بعض مناهج التكوين الفكري والتربية العقائدية والحركية التي يتبناها كثير من الجماعات والرموز والدعاة الإسلاميين الذين يسهمون في توجيه الشباب وإرشادهم. إن هذه المناهج تمهد الأرضية الصالحة لنمو بذور الاتجاه نحو العنف لدى بعض فئات الشباب المتلزم.

 

ولعل أبرز الجوانب التي تعالجها مناهج التكوين الفكري بطريقة خاطئة أو مبتسرة أو غير متكاملة ما يلي:

 

- الموازين والضوابط الشرعية لتحقيق الإيمان والكفر.

 

- القواعد الحاكمة لعقيدة الولاء والبراءة.

 

- تنظيم العلاقة بين الفرد المسلم والسلطة ومفاهيم الطاعة والخروج.

 

- أسس التعامل بين المسلم والآخر ممن لا يدين بالإسلام داخل المجتمعات المسلمة أو خارجها.

 

- ضوابط معالجة أخطاء المجتمع استنادا إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

إن هذه القضايا ما هي إلا نماذج لبعض تلك القضايا الخطيرة التي تتناولها مناهج التكوين الفكري والتربية العقائدية لدى الجماعات والتيارات الإسلامية على مختلف أنواعها.

 

ويظهر جليا أن الاضطراب أو سوء الفهم, ثم سوء التطبيق في هذه القضايا يؤدي إلى نتائج بالغة الأثر تتصل بسلامة العقيدة من جهة وتتصل بأمن المجتمعات واستقرارها من جهة أخرى.

 

فإذا اختلت موازين تحقيق الإيمان والكفر في نفوس الشباب انزلقوا إلى هوة التكفير والتفسيق والتبديع دون سند شرعي. وإذا لم تتضح حقيقة العلاقة بين الفرد والسلطة ولم تبن على أسس سليمة وفق منهج أصيل دخل الشباب في دهاليز "الخوارج" المظلمة دون أن يعوا ذلك. وإذا لم ير الشباب في تفسير نصوص الدين وتوجيهاته سوى موقف العداء للآخرين, فكيف لا نتوقع منهم أن يتطرفوا في نظرتهم للآخر وتعاملهم معه؟

 

وإذا لم يحسن الشباب التعامل الحسن الرشيد مع الأخطاء التي تقع في المجتمع وفق مبادئ الدين السمحة وأساليبه الحكيمة فلا ينتظر منهم إلا أن يأخذوا على عواتقهم تغيير المنكر بالقوة والعنف والاندفاع نحو التصادم مع المجتمع أفرادا ومؤسسات حتى إن أدى سعيهم لتغيير المنكر إلى منكر أعظم يشعل الفتنة ويؤجج نيران الصراع!

 

ومما يلاحظ أيضا على مناهج التكوين الفكري والتربية العقائدية لدى بعض حركات الصحوة الإسلامية وجماعات الدعوة أمران خطيران. أحدهما أن الذين يتولون مهمة ذلك التكوين وتلك التربية ليسوا - في معظمهم - من العلماء الراسخين المتخصصين في العلوم الشرعية. بل هم - في أحسن الأحوال - دعاة متحمسون لا ينقصهم الإخلاص ولكن بضاعتهم في العلم والحكمة مزجاة! بل إنك لتجد بعض أولئك الموجهين والمرشدين من أنصاف المتعلمين الذين لا باع لهم في العلم أصلا!

 

أما الأمر الآخر فهو يتعلق بالخطاب الديني الذي يتبناه هؤلاء المرشدون والموجهون. وهو خطاب يميل إلى "الإثارة والتهييج" أكثر مما يعتمد على "المنهجية الموضوعية" وهو أقرب إلى أسلوب الخطاب "الثوري" في العمل السياسي, منه إلى أسلوب "الخطاب البنائي" في العمل الفكري والدعوي. وهذا اللون من الخطاب التهييجي يتسبب - في كثير من الأحيان - في تصعيد العواطف وشحن النفوس مما يؤدي إلى اختلال معايير الحكم والتقويم لدى الشباب فيدفعهم إلى مالا تحمد عقباه!

 

علينا أن نبدأ علاج هذه الظاهرة المرضية أولا بإدانة تيارات العنف والتطرف الفكري وتشديد الحصار على أفكار الغلو الديني وعدم التساهل معه والأهم من ذلك عدم التبرير له مهما كانت الأسباب والدواعي. ولكن الإدانة وحدها لا تكفي. علينا أن نعالج الأسباب والظروف التي تؤدي إلى نمو أفكار التطرف والعنف وعلينا أن نصلح البيئة التي تفرخ تيارات الغلو بكل أشكاله. * الدكتور عبدالقادر طاش : مستشار إعلامي وكاتب سعودي.

 

المصدر: جريدة الوطن السعودية 18-01-2004

الأكثر مشاركة في الفيس بوك