الاعتدال والتطرف: هل هما مفهومان نسبيان؟

الاعتدال والتطرف: هل هما مفهومان نسبيان؟

عبد الحميد الأنصاري

الفرق بين المعتدل والمتطرف عندنا فرق في الدرجة لا في النوع.

ما تراه انت اعتدالا، يراه غيرك تطرفا، وما تراه تطرفا قد يراه غيرك اعتدالا، وما تراه اعتدالا في وضع وحالة قد تراه تطرفا في وضع وحالة مغايرة، فعرفات مثلا زعيم معتدل وداعية للسلام ووطني مخلص عند انصاره والمتعاطفين معه وهو في نظر الاسرائيليين متطرف وفي نظر بعض الفصائل المتشددة متساهل وشارون، هو ابو التطرف في نظرنا ولكنه عند بني جنسه يعد معتدلا وقد يكون متساهلا عند المتشددين منهم.

 

فهل الاعتدال والتطرف من المفاهيم النسبية التي هي دائما في حالة سيولة لا يمكن الاتفاق علي معايير ثابتة ومحددة لهما؟ لا ليس المقصود ذلك مطلقا، بل المقصود انه بالرغم علي الاتفاق علي سمات التطرف والاعتدال الا ان هناك عوامل عديدة مؤثرة فيهما، هناك العامل الايدلوجي الذي يصبغ مفهومي الاعتدال والتطرف بصبغة تجعلهما في حالة حراك مستمر، وهناك السياق المجتمعي وما فيه من عوامل التربية والتعليم والاعلام والسياسة، وهو له تأثير بارز في رجرجة المفاهيم وهناك الاطار التاريخي وتقلبات العصر. فمثلا كان مقاومة الافغان والعرب للروس جهادا مقبولا ولكن مقاومة الشيشان للروس الآن اصبح ارهابا غير مقبول ولا ننسي العامل الديني وتأثيره في تحديد المفاهيم، واذا كان ديننا الاسلامي قد حسم مسألة الغلو والتشدد في العبادة باعتباره تطرفا غير مقبول، وذلك عندما جاء الشباب الذين استصغروا عبادتهم مقارنة بعبادة الرسول صلي الله عليه وسلم فقرروا المزايدة والغلو فنهاهم الرسول مبينا اعتدال الاسلام ويسر منهجه الذي اتي لرفع الحرج عن الناس، الا ان المواقف السياسية الملتبسة بالدين تثير اشكالات تستعصي علي الحسم فمثلا موقف الخوارج وهو اول تشدد سياسي منظم يكفر المجتمع والحاكم ويستحل الدماء والاموال هناك من لا يزال يجادل عنه باعتباره امرا مقبولا ولا يعده تطرفا. وهذا -ايضا- ينسحب علي العديد من المواقف والنظرات والفتاوي المسيسة لكثير من الجماعات والتنظيمات والرموز الدينية سواء فيما يتعلق بنظرتهم الي المجتمع او العالم او العصر او الغرب واميركا او تجاه الحاكم او الديمقراطية او حقوق المرأة او غير المسلمين او بعض المسلمين او تطبيق الشريعة الخ بل ان تلك الفرق والتنظيمات تختلف مواقفهم تطرفا واعتدالا تجاه بعضها بعضا.

 

ولكن المؤكد انه مهما كانت تأثيرات السياقات المجتمعية والاطر التاريخية والعوامل الايدلوجية والدينية فان للتطرف والاعتدال سمات عامة مميزة عند عقلاء اهل الارض، فلا خلاف في ان الادعاء بتملك الحقيقة المطلقة وفرض الرأي علي الآخرين واساء الظن بهم وكراهيتهم وتكفيرهم والتحريض ضدهم والوصاية علي الناس، وهي سمات للتطرف، ولعلماء النفس والاجتماع والتربية تحديد واضح لسيكولوجية التطرف حيث يقولون: ان المتطرف هو من يدعي انه يملك الحقيقة المطلقة ولا يقبل بنسبية الحقيقة الاجتماعية والسياسية والفكرية وهو احادي التفكير لا يقبل التعددية وهو يري ان القضية التي يطرحها ويجادل عنها من الثوابت المقدسة بغض النظر عن آراء الآخرين ومن ثم من حقه الوصاية علي الناس جميعا كما يقول (اريك هوفر) -انظر رد: الكاتب الصحفي المختفي رضا هلال علي فهمي هويدي في مقال: الارهاب يبدأ من العقل، الشرق الاوسط 29/1/2003.

 

وفي كتابه المتميز (سيكولوجية العنف) يناقش (خالص جلبي) مفهوم التطرف حينما يقول (العنف ليس الضرب باليد او التراشق بالصواريخ، فهذا اقصي جرعات العنف، ولكنه طيف متحرك من الامكانات والسلوك بتأرجح من الفكرة الي الفعل، فالحروب تبدأ في الرؤوس قبل سل السيوف، وللعنف ثلاثة تجليات، كراهية وتهميش ثم حذف للآخر) ولذلك نقول: ان التطرف قبل ان يكون سلوكا مدمرا هو فكر عدواني ومرض نفسي وبيئة او مناخ يساعد علي احتضان التطرف ورعايته، وهو سمة ملازمة للمجتمعات الانسانية عامة ولا يمكن القضاء عليه لكنه ينشط وينتشر او يخبو وينكمش في حالة كمون طويل تبعا لتطورات البيئة وطبيعة التحديات والتحولات فيها مثله مثل فيروس الزكام ينشط وينتشر عند تغير الفصول وينكمش في حالة الاستقرار.

 

ولتطبيق ما ذكرناه سالفا من تأثير السياق المجتمعي والديني والايدلوجي علي مفهومي التطرف والاعتدال لنتأمل طبيعة المواقف بعد كارثة 11/9 وتداعياتها نعم نحن جميعا بمن فينا من شيوخ الاعتدال وكبار الرموز الدينية استنكرنا تلك الكارثة وفندنا نسبتها الي ديننا واعتبرنا من قام بها فئة ارهابية ضالة كل ذلك صحيح ولكن هل كان كل ذلك حقيقة مشاعرنا وسلوكياتنا اقصد مشاعر وسلوكيات اغلبية الرموز الدينية المعتدلة والجماهير؟ لو كان ذلك صحيحا اذن ما تفسيرنا لاستفتاء (الجزيرة نت) وغيره من الاستطلاعات التي اظهرت ان النسبة الغالبة (83%) اعتبروا (بن لادن) مجاهدا وليس ارهابيا وان ما قام به من مقتضيات الجهاد الاسلامي -الراية 12/11/2001 غير التهاني والتبريك والفرح والسرور التي عمت مجتمعات عديدة، يقول منصور النقيدان: عقب تفجيرات 11/9 لزم ابوسامي الصمت، فلما افاق: قال: الا نري الفرح في عيون من حولك لما حدث!! -الحياة 9/10/2002 هكذا اصبح العمل الارهابي مفهوما جهاديا مقبولا بتأثير السياق المجتمعي والعامل الايدلوجي والديني.

 

ولم نكتف بذلك بل تباري كتابنا ومشايخنا في الدفاع عن متطرفينا بالقاء اللوم علي الموساد تارة وعلي اليمين الاميركي تارة اخري او الاستخبارات الاميركية مرة ثالثة بل تطرف كاتبنا الاوحد وقال: هو من عمل الصرب انتقاما لما حصل لهم في يوغسلافيا حتي اذا استحكم الامر واحيط بنا بفعل الاعترافات التي ملأت الافق والشواهد والاموال التي تنتقل عبر الحدود والصور والتسجيلات قال اهل الاعتدال فينا: نعم ذلك من فعل ابنائنا ولكن بسبب سياسات اميركا الخاطئة وانحيازها ضدنا وعداوتها للاسلام والمسلمين دائما هناك (ولكن) الذي يبريء الجاني ويحمل الضحية المسؤولية كما يقول الغامدي: هل يمكن القبول ب (ولكن) في قتل انسان بغير حق؟ الحياة 1/6/2003.

 

تُري ما الفرق بين طرح اهل الاعتدال في تبرير جريمة سبتمبر الكارثية وطرح بن لادن عبر الجزيرة (ان ما حدث في اميركا يعتبر حدثا طبيعيا نتيجة للسياسات الحمقاء التي تمارسها اميركا في معاداة الاسلام والمسلمين).

 

اي ان اهل الاعتدال والتطرف متفقون في ان اميركا تستحق ما حصل لها اذن اين الفرق بين الاعتدال والتطرف؟ وهذا يجعلني اؤكد ان السياقات والاطارات والعوامل المجتمعية والدينية والفكرية تجعل في حالات عديدة الفرق بين المتطرفين والمعتدلين فرقا في الدرجة لا النوع بمعني ان عندنا تطرفا وتطرفا اقل لا غير ويجعلنا نقول ان المعتدلين بتعاطفهم وتبريراتهم وتلمسهم المعاذير والحجج، يساهمون وان لم يشعروا بازدهار ظاهرة التطرف والارهاب.

 

العالم بعد 11/9 انشغل بطرح اسئلة الحقيقة التي قادتهم للتغير ونحن طرحناها ايضا ولكن تمويها فلم نترجمها في تربية تقوم علي الحوار والتفاهم وتعليم منفتح علي العصر لا علي تمجيد الذات، وتاريخ يذكر السلبيات لا المآثر والامجاد واللحظات المتألقة، وخطاب ديني يدعو بالحسني لا بفناء الآخرين وهلاكهم واعلام يحترم عقول الناس لا يضللهم ويمنيهم الاوهام. * د. عبدالحميد الأنصاري : العميد السابق لكلية الشريعة - جامعة قطر

 

المصدر: القائمة البريدية قلب وفكر

الأكثر مشاركة في الفيس بوك