فلسفة المعصية والتوبة... وثقافة التسامح
فلسفة المعصية والتوبة... وثقافة التسامح
ليلى أحمد الأحدب
في كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله مقطوعة جميلة تفرد بها عن غيره من علماء المسلمين, حينما حاول أن يمنح معصية آدم التي كانت سببا لخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض, أبعادا فلسفية عميقة الغور لا يمكن للفهم العادي أن يحيط بها, فقد مزج ابن القيم بين العقل والإلهام في هذه العبارات التي أتت كأنها خطاب من الله سبحانه لآدم بعد المعصية:
( يا آدم لا تجزع من قولي لك "اخرج منها" فلك ولصالح ذريتك خلقتها. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك, واليوم تدخل دخول العبيد على الملوك. يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كياستك فقد استخرج منك داء العُجْب وأُلبِست خلعة العبودية "وعسى أن تكرهوا ...." ؛ يا آدم لم أُخرج إقطاعك إلى غيرك, إنما نحيّتك عنه لأكمل عمارته لك, وليبعث إلي العمال نفقة "تتجافى جنوبهم..."، تالله ما نفعه عند معصيته عز "اسجدوا" ولا شرف "وعلّم آدم..." ولا خصّيصة "لما خلقت بيدي" ولا فخر "ونفخت فيه من روحي"؛ إنما انتفع بذل "ربنا ظلمنا أنفسنا", لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل, فجرحه, فوضع عليه جبار الانكسار, فعاد كما كان, فقام الجريح كأن لم يكن به قَلَبة!). فمعصية آدم سبقت اصطفاءه واجتباءه كما يبين كلام ابن القيم, وذلك حينما استفاد آدم من عبوديته لله سبحانه فاعترف بذنبه فعفا الله عنه, وكيف لا يعفو سبحانه وهو القائل:( وخُلق الإنسان ضعيفا)؟
من الأخطاء المتجذرة في ثقافتنا العربية عدم التسامح مع النفس وبالتالي عدم التسامح مع الغير, ولعل هذه الكلمات الرائعة لابن القيم تعلمنا كيف نتسامح مع أنفسنا مهما كانت أخطاؤنا كبيرة, مع التأكيد بأن ديننا ينهى عن الذنوب والمعاصي, ولكنها إذا حصلت فيجب عدم التوقف عندها بل على العاصي أن يكف عن جلد الذات ويقرع باب التوبة متذكرا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لو لم تذنبوا لخلق الله بشرا يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم).
ماذا يعني أن تسامح نفسك؟ يعني التسامح مع النفس الاعتراف ببشريتنا وعدم ملائكيتنا, والشعور بنقائصنا ونقاط ضعفنا, واللجوء إلى الله لنستمد منه المغفرة والقوة, ولندرك أنه على الرغم من أخطائنا فإنه سبحانه لن يتخلى عنا, ومن الأقوال الحكيمة لابن عطاء السكندري: (من علامات الاعتماد على العمل, نقصان الأمل عند وجود الزلل), أما المؤمن الحقيقي فأعماله ليست لها قيمة عنده ولذلك هو لا يعتمد عليها بل يعتمد على واسع مغفرة ربه حتى لو أتاه بقراب الأرض خطايا لعلم أن الله يأتيه بمثلها مغفرة. ومن الحكايات التي يتجلى فيها الغفران الذي لا حدود له تلك التي يرويها الإمام الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين, وهي قصة سكير كان لا يصحو من غيبوبة الخمر إلا ساعة في الليل فيقوم يتوضأ أو يغتسل ويجلس متذللا بين يدي ربه مخاطبا إياه بعبارة وحيدة: (في أي زاوية من زوايا جهنم ستحشر هذا الخبيث؟) ويقول الإمام الغزالي إن الملائكة خرجت في جنازة ذلك الرجل عندما توفي؛ وهذه القصة قريبة مما رواه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث قدسي عن رجل كان مسرفا على نفسه فلما حضرته الوفاة طلب من أولاده أن يحرقوا جثته بعد وفاته ويذروا رماده في كل مكان, فجمع الله سبحانه رماده وسأله عن سبب فعلته تلك فكان جوابه أنه فعل ذلك خشية الله لعظم ذنوبه في حق الله, فغفر الله له.
هذا جانب من حديث المغفرة أسجله هنا ونحن في شهر الرحمة والمغفرة لأنطلق منه إلى الفكرة الأخرى ألا وهي التسامح مع الغير, فمن كان قادرا على التسامح مع نفسه تمتع بحالة مزاجية عالية تجعله يتقبل أخطاء الآخرين بسعة صدر, فيسامح ويعفو ويتجاوز عن الإساءة؛ وكذلك عندما يتقبل المرء ذاته بنقائصها وعيوبها سيكون أقدر على تقبل الآخرين بعيوبهم ونقائصهم. وفي ورقة ملقاة تحت شجرة في حديقة ملجأ أيتام في أمريكا وُجدت هذه العبارات: (إنه ليوم غائم... ولكنني سعيدة... ولست سعيدة لأن شيئا ما سوف يحدث... ولكنني سعيدة لأنني راضية... فأنا راضية عن نفسي كما أكون... وأنا أحبك على النحو الذي تكون), وقد لا يخطر للقارئ أن من كتب هذه الكلمات صبيّة صغيرة يبلغ عمرها اثني عشر عاما كانت تفتقد الحب الحقيقي فاستعاضت عن فقدها بحبيب متخيَّل, وما أجمل هذه العبارة إذا أحسنا فهمها واستخدامها :(أنا راضية عن نفسي كما أكون... وأحبك على النحو الذي تكون) فهي كفيلة بأن تجعلنا نحب بني البشر كما هم وأن نتقبلهم على علاَّتهم وأن ننظر إلى الجانب الإيجابي فيهم ونتغاضى عن زلاَّتهم؛ وكما أمكننا استثمار معاصينا لنقترب من الله بالتوبة وخاصة أن التائب حبيب الله, يمكننا أن نجعل أخطاء الآخرين معنا سبيلا للمحبة بيننا وبينهم؛ وقد يعجب بعضنا من هذا الكلام ويظنه شطحة مثالية من شطحات علم النفس, لكنه في الحقيقة ليس كذلك لمن يقرأ الآية الكريمة بتفهم وتدبر: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
وأذكر هنا أسطورة هندية تحكي قصة سقّاء اعتاد أن يحضر الماء من النهر ويحمله في وعائين موصولين بعصا تستند إلى رقبته. وكان أحد الوعائين سليما أما الآخر فكان به بعض الشقوق تجعل الماء يتسرب منه فلا يصل السقاّء إلى بيته إلا وقد سال نصف ماء ذلك الوعاء, واستمر هذا الأمر لمدة سنتين, كان خلالهما الوعاء السليم فخورا بإنجازاته أما الوعاء المتشقق فقد كان يشعر بالخزي والتعاسة لعدم تمكنه من القيام إلا بنصف المهمة التي يجب أن يؤديها؛ وبعد عامين من الشعور بمرارة الإخفاق تكلم الوعاء المتشقق مخاطبا السقّاء عند النهر: (أنا أشعر بالخجل من نفسي ولذا أعتذر عن إيصال نصف كمية الماء فقط بسبب هذه الشقوق التي تجعل الماء يتسرب على طول الطريق إلى منزلك), فأجاب السقّاء: (هل لاحظت أن وروداً نبتت على طول الطريق في الجهة التي أنت فيها وليس في جهة الوعاء الآخر؟ هذا لأنني علمت دائما بوجود هذه الشقوق فيك فنثرت بذورا في الجهة التي تكون أنت فيها, وفي كل مرة نعود فيها إلى البيت كنت ترويها, وهكذا ولمدة عامين كاملين كنت أقطف تلك الزهور وأزين بها منضدتي, ودون شقوقك هذه لم يكن بإمكاني أن أزين بيتي بهذا الجمال!)، من هذه الأسطورة نستنتج أننا جميعا أوعية ذات شقوق مميزة, وهذه الشقوق هي التي تجعل حيواتنا ممتعة ومجزية, وعلينا أن نقبل كل إنسان بأخطائه ونواقصه ونتسامح معه في اختلافه خاصة أن الاختلاف سنة إلهية ماضية.
وحديث التسامح يقودنا إلى حديث الحقوق, فلا يوجد عاقل بالتأكيد يطلب من أي إنسان أن يسامح في حقوقه الأساسية مثل حق الحياة والحرية والكرامة والكسب المشروع وما شابه, ولكن التجاوز عن الحقوق الفردية الثانوية مثل دين المعسر وسفاهة الجاهل وغيرها يعدّ مكرمة أخلاقية؛ وحقوق الفرد غير حقوق الجماعة, ولا يجوز التهاون بحق الجماعة في الأمن والكرامة والاستقلال فهي حقوق مقدسة يجب التعصب لها لأن التسامح بها تفريط يؤدي إلى فوضى ما بعدها فوضى, ومن هنا يمكننا أن نميز بين التعصب المحمود والتعصب المذموم, فإذا كان من التعصب المحمود أن يكون للمرء الحق في الثبات على موقفه ومبدئه وعقيدته, فإنه من التعصب المذموم اضطهاد المخالفين في العقيدة والإساءة إلى المختلفين في الأفكار واستباحة دمائهم وسلب أموالهم؛ ويعجب المرء كيف يدعي الإسلام من يرهب الناس الآمنين حتى لو كانوا غير مسلمين, ويتساءل إن كان أحد هؤلاء قد قرأ قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم, إن الله يحب المقسطين)؟ والأكثر عجباً أن يسمي هؤلاء أفعالهم الشنيعة بالغزوات, مثل غزوة مانهاتن وواشنطن, وهاهم الآن يغزون المواطنين والمقيمين في البلد الآمن ونسوا قول الله تعالى:(أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويُتخطّف الناس من حولهم؟), فلماذا يريد هؤلاء الموتورون الحاقدون أن يجعلوا الحرم الآمن مكانا تستباح فيه الدماء ويقتل فيه الأطفال والنساء ويُتخطّف فيه الأبرياء؟
هؤلاء بحاجة إلى غسيل أدمغة من جديد... فلا شك أن الأفكار الدموية التي يعتنقونها تبيح لهم كل شيء, ما دامت قد أباحت لهم دم امرئ مسلم, وهو أغلى عند الله من الكعبة كما في الحديث الشريف, وإذا لم يكن المرء مسلما ولكنه ليس معاديا ولا محاربا فيكفي أنه يحمل بين جنبيه نفحة من روح الله, والسؤال الخاتم هو: كيف يمكن أن يتم غسيل الأدمغة من جديد لإعلاء ثقافة التسامح التي هي أصل أساسي من أصول ديننا؟ * ليلى أحمد الأحدب : رئيسة تحرير مركز الراية للتنمية الفكرية
المصدر: الوطن السعودية