حرية الرأي الديني بين التخصيص والتعميم

حرية الرأي الديني بين التخصيص والتعميم
عبد المجيد عمر النجار
هل كل مسلم له أن يدلي برأيه في تفسير الدين و بيان مدلولاته و شرح مفاهيمه، أم أن ذلك شأن بعض من الناس خاصة دون غيرهم من عامة المسلمين؟ و إذا كان الأمر خاصا فمن هم أولئك الخاصة الذين يحق لهم القول في الدين و لا يحق لغيرهم القول فيه برأي؟
إنه سؤال أثير قديما، وهو يثار اليوم بصفة صريحة حينا و بصفة ضمنية أحيانا، و تختلف فيه الأجوبة إلى حد التضارب مما يستلزم المزيد من الحوار لتحرير الجواب، إذ هو يتعلق بصفة مباشرة بمسألة حرية التعبير و تعددية الرأي التي هي إحدى أهم المسائل العالقة اليوم بواقع المسلمين، و التي تشهد اضطرابا كبيرا على مستويات عدة.
إن الناظر في الأجوبة على السؤال المطروح كما هي متداولة اليوم يجد أنها في عمومها تعود في معرض تعددها إلى جوابين متقابلين، إما تقابلا حجاجيا مباشرا ، أو تقابلا بالمواقف العملية في الإدلاء بالآراء و الشروح المتعلقة بالمفاهيم الدينية، و في ممارسة المقتضيات الواقعية لتلك الآراء و الشروح، و هما جوابان يميل أحدهما إلى التخصيص في تقرير حق التعبير عن الأفهام الدينية، بينما يميل الآخر إلى التعميم في ذلك.
و خلاصة الجواب الأول أن القول في الدين لا ينبغي إلا أن يكون صادرا عن علم بالدين، و هذا العلم أصبح اليوم في ضوء توسع المعرفة و تشعبها اختصاصا قائما بذاته، و إذن فإن التصدي لبيان المفاهيم الدينية ينبغي أن يكون مقصورا على المتخصصين في علوم الدين دون غيرهم، و كثيرا ما يساق في الاحتجاج لذلك أنه كما يجب أن يقتصر التطبيب على المختصين في علوم الطب، و أن يقتصر العمل الهندسي على المختصين في الهندسة، و أن يقتصر العمل التصنيعي في أي مجال من المجالات على المختصين فيه، فإنه يجب أيضا أن يقتصر القول في الدين على المختصين في العلوم الدينية. و ينصرف المقصود بالاختصاص في الدين في الغالب إلى التخرج بالعلوم الدينية من المؤسسات التعليمية الإسلامية، و قد ينصرف أيضا إلى معنى تبوئ المناصب الدينية من إمامة و قضاء و إفتاء و ما شابهها.
و خلاصة الرأي الثاني أن الإدلاء بالرأي في الدين هو من حق كل مسلم، سواء كان مختصا في العلوم الدينية و في الوظائف الدينية أو غير مختص فيها، إذ التكليف بالدين هو تكليف شخصي لكل إنسان بعينه، فمن حيث المبدأ كل إنسان تحمل هذا التكليف بالدين له الحق في أن يحصل فيه فهما، و أن يدلي فيه برأي،. و يقال في مقام الاحتجاج لهذا الجواب إن الإسلام ضبطته مصادر موثوقة ثابة، و إن تلك المصادر موفورة بين أيدي المسلمين كافة، و إن الإسلام لم يوكل شرح الدين و بيان مفاهيمه إلى طبقة خاصة من رجال الدين تستأثر بمصادر و أسرار دون غيرها من الناس، و إنما أشاع الأمر بين عامة المؤمنين، و أتاح لهم ذلك على وجه المساواة بحفظ المصادر و سيرورتها بينهم، في حين أن التطبيب و غيرها من الصناعات ليست مناط تكليف للكافة، و إنما أنيطت بعهدة البعض دون آخرين، فوجب فيها الاختصاص و لم يجب في الأفهام الدينية و التعبير عنها.
و لو ضربنا هذا الرأي و مستنداته بذاك الرأي و حججه، و حاكمنا الكل إلى ميزان من الأصول المتعلقة بهذا الشأن من ذات الدين، و إلى المضاعفات التطبيقية التي أفرزتها التطبيقات العملية لكلا الرأيين، لتبين من خلال ذلك المجال المشروع للحرية الفكرية في حقائق الدين و في التعبير عنها لوجدنا حاجة إلى التفصيل في الأمر و التدقيق فيه بما قد ينتهي إلى تصور أكثر وضوحا و انضباطا من ذينك الجوابين المتقابلين على سبيل الحدية. و في سبيل ذلك فإنه ينبغي بحث الأمر من الناحية المبدئية العقدية، و من الناحية المنهجية.
أما من الناحية المبدئية العقدية، فإن فهم حقائق الدين هو جزء من التكليف به، و بما أن التكليف بالدين هو تكليف فردي يتحمل فيه كل إنسان مسؤولية عينية، فإن الفهم يكون تبعا لذلك مسؤولية عينية يتحملها المسلم بحرية كاملة، على معنى أن كل مسلم مكلف بأن يفهم دينه في مقتضياته النظرية و العملية من مصادره الأصلية بصفة مباشرة و على وجه النظر الحر، و ذلك هو الأصل في تحمل الدين بالفهم، وهو مناط المسؤولية في يوم الحساب.
إلا أن المسلم لو عاقته بعض العوائق عن الفهم المباشر للدين فإنه مكلف بأن يستعين بمن يساعده على الفهم، وهي مساعدة تندرج ضمن مسؤوليته الفردية التي يتحملها في التكليف بالدين، و ليست بحال من الأحوال واسطة بينه و بين دينه تعفيه من ذلك التكليف، أو تسلب حريته في الفهم لتجبره على وجهة معينة في الفهم جراء تلك الواسطة، و هذا ما يكفل للمسلم من الناحية المبدئية مجالا واسعا من الحرية الفكرية في فهم الدين هي جزء من الجرية في التدين إيمانا و عملا من حيث الأساس، إذ لا إكراه في الدين كما هو معلوم، و يتبع تلك الحرية في الفهم مقتضاها من الحساب على ما إذا كان المسلم قد تحرى الفهم الصحيح لدينه و توسل إلى ذلك بالذرائع المناسبة سواء على وجه السعي الذاتي أو على وجه اتخاذ الواسطة المساعدة أو هو قصر في ذلك.
و من حيث المبدأ يتبع حرية التفكير في المفاهيم الدينية حرية في التعبير عما يقع الوصول إليه من الأفهام، و ذلك حينما يستوجب الأمر الشرح و البيان تبليغا لها أو استدلالا عليها أو محاجة لدفع ما يعارضها، فمن حق كل مسلم أن يعبر عما وصل إليه فهمه من المقتضيات الدينية، و ليس لأحد الحجر عليه في ذلك من حيث المبدأ بسبب تخصيص هذا الحق ببعض المسلمين دون بعض من منطلق تمييز مسبق لاعتبار شخصي أو طبقي أو عرقي أو لأي اعتبار آخر متعلق بأصل مبدئي يميز بين المسلمين في حق التعبير عن أفهامهم الدينية، فيبيح هذا الحق للبعض و يمنع منه آخرين.
و لكن قد تطرأ أسباب عارضة تقيد هذا الحق في التعبير عن الرأي الديني كما تعرض أسباب لأي ضرب من ضروب الحريات الأخرى فتقيدها، و ذلك من مثل ما إذا كان التعبير عن الفهم الديني ينحو منحى قدحيا تحقيريا يهين المؤمنين و يسيئ إلى مشاعرهم ، أو كان تعبيرا عبثيا مستهترا يقلب المعاني رأسا على عقب، و ينسف ما هو ما إجماع من قبل أهل العقول، أو كان مدعاة لفتنة يبيت فيها الخداع و الغواية و التغرير، ففي هذه الحالات يمكن أن تقيد حرية التعبير عن الفهم الديني بقدر ما يحول بينها و بين ما تفضي إليه من أضرار، و ذلك شأن عام في تقييد أي وجه من وجوه الحرية يكون مسموح به من حيث المبدأ، و لم يعرف في التاريخ قديمه و حديثه إطلاق للحرية يعلو على هذه القيود.
و لكن إذا كانت حرية القول في الدين مكفولة للمسلم تفكيرا و تعبيرا من حيث المبدأ العقدي، فإنها من حيث المبدأ المنهجي تستلزم مقتضيات تقوم مقام الشروط الموضوعية التي لا يمكن أن تتم ممارستها إلا من خلالها، و إلا فإنها قد تؤول إلى ضرب من العبثية التي إن لم تفض إلى بعض المحاذير المذكورة آنفا فإنها لا أقل من أن تفضي إلى إضاعة الأوقات و التشويش على الناس بما لا يفيد.
و تتعلق هذه الشروط الموضوعية بامتلاك الأدوات التي تمكن من الفهم للمدلولات الدينية و التعبير خنها، إذ لا يتعلق الأمر بمحض الاجتهاد الشخصي أو الابتكار الذاتي، و إنما يتعلق بمدلولات تضبطها نصوص محددة هي مصدر الدين الذي لا مصدر سواه، وهو ما يجعل الفهم إنما يدور على البحث عما هو مراد من تلك النصوص و مقاصد مشرعها منها و ليس على مجرد الاجتهاد الشخصي ابتداء.
و حينما يكون الأمر كذلك فإن الموضوعية تدعو إلى أن يكون الرأي الديني صادرا عن علم بما يتعلق بالمصدر الذي يضبط المدلولات الدينية، و ذلك من حيث تاريخه و بناؤه اللغوي و كيفيات دلالاته، و مقاصده الفلسفية العلايا، و من حيث تجارب الاجتهادات السابقة التي تفاعلت معه في هذا الشأن فأثمرت أفهاما كثيرة على مر العصور، فالحرية في إبداء الرأي الديني لكي تكون حرية جادة و مسؤولة ينبغي أن تكون مبنية على هذه المعطيات في حدودها الدنيا كما هو الشأن في إبداء الرأي في أي قضية من القضايا الفكرية و العملية فيما تقتضيه الأحكام فيها من الانبناء على المعطيات الموضوعية، و إلا انقلب الأمر إلى ضرب من التهريج الفكري الذي هو إلى العبث أقرب منه إلى المسؤولية الجادة.
إذا جمعنا ذلك الوجه المبدئي فيما يتعلق بحرية القول الديني تفكيرا و تعبيرا إلى هذا الوجه المنهجي المقتضي لامتلاك الأسباب الموضوعية الممكنة من أن يكون ذلك القول جديا و الحرية فيه حرية مسؤولة تحصل من هذا الجمع أن المسلم من حقه باعتباره مسلما أن يفهم دينه بملء حريته في التعبير، و لكن ذلك مشروط بقيود منهجية موضوعية من شأنها أن تعصم تلك الحرية من أن تؤول إلى الفوضى بما تحدثه من الفتنة، أو إلى إهدار الجهود سدى بما تسقط فيه من العبثية، و ذلك إذا إذا هي تفلتت من تلك القيود، و أرسلت إرسالا غير مسؤول.
و على هذا الميزان في حرية الرأي الديني جرى الأمر في العهد الذهبي للفكر الإسلامي، إذ لم يحجر على أحد من المسلمين أو على أية فئة منهم أن يكون لهم تفكير في فهم دينهم أو تعبير عن ذلك الفهم، و انفسح المجال واسعا في ذلك لكل من طلبه، و منه نشأت تلك الحركة العلمية النشيطة التي أثمرت فقها هو من الثراء بحيث تباهى به الأمة الإسلامية الأمم، وهو من التنوع في الآراء و من التقابل فيها تقابلا يبلغ درجة التعارض أحيانا بحيث يعكس الحرية الواسعة التي كانت متاحة للمسلمين أو عن فئة منهم المشاركة في الحركة الحوارية الفقهية بالتفكير و التعبير ما عدا حالات نادرة تبين فيها الإخلال الفادح بالشروط المنهجية الموضوعية مما أفضى إلى الفتنة أو خيف من وجه الترجيح إلى الإفضاء إليها.
و لكن لما ضعفت الحركة العلمية الإسلامية، و اختلت كثير من الموازين في ضبطها و توجيهها، اختل هذا الميزان المتعلق بحرية التفكير الديني أيضا، فإذا قيود كثيفة تقيد بها تلك الحرية، و إذا تلك القيود التي عرفت غالبا تحت اسم شروط الاجتهاد تشبه أن تكون أغلقت باب التفكير في الشأن الديني و التعبير عنه دون سائر المسلمين، و خصت به فئة قليلة منهم يكاد لا يكون لها هي أيضا وجود في أغلب الأحيان جراء قسوة تلك القيود، و انتهى الأمر إلى ما يشبه الوجهة الواحدة في الفهم، و أهدرت أو كادت التعددية في الاجتهادات الدينية تفكيرا و تعبيرا.
و لما كان ذلك مخالفا للمخزون الثقافي الإسلامي الذي انبنى على التعددية في هذا الشأن وقع رد فعل اكتسى صبغة التفلت من القيود المنهجية، و قد اشتد هذا التفلت بتأثير الهجمة الثقافية الغربية على العالم الإسلامي، تلك التي أصبح النص الديني بسببها يحمل مفاهيم خارجية لا تتحملها تعابيره و لا مقاصده، فإذا الفهم الديني و التعبير عنه يتم من قبل الكثيرين بدون أي امتلاك لأسباب الموضوعية المتمثلة في الأدوات الأولية للفهم، و إذا الأمر يسفر في محصلته عما ذكرنا في صدر هذه المقالة من تيارين متقابلين في شأن حرية الرأي الديني يميل أحدهما إلى تخصيص يشبه أن يكون إهدارا لهذه الحرية من حيث المبدأ، و يميل الثاني إلى تعميم يشبه أن يكون إهدارا للمبدأ المنهجي المقارن لمبدأ الحرية.
و إذا ما حكمنا في هذين التيارين ميزان القسط الجامع بين مبدأ الحرية في الفكر الديني من جهة و بين مبدأ الالتزام المنهجي الموضوعي من جهة أخرى، فإن هذا الميزان يكشف عن شطط في كل منهما اختلت به تلك المعادلة بين الطرفين التي كانت قائمة في العهد الذهبي للفكر الإسلامي، وهو ما يقتضي التقويم ليستوي الفكر الديني على أصله في الحرية فهما و تعبيرا، و لكنها الحرية المنضبطة بالشروط المنهجية.
و في هذا الصدد فإننا لا نرى مبررا لما يقال من أن إبداء الرأي في الدين ينبغي أن يكون حكرا على مجموعة من المختصين مثل إبداء الرأي في الطب أو في الهندسة أو في أي اختصاص علمي آخر، ذلك لأن فهم الدين من حيث المبدأ هو مسؤولية مشاعة بين المسلمين تنضوي تحت مسؤولية التكليف بالدين عموما، فكل مسلم بل على كل مسلم الحق في أن يقوم بها باجتهاده إن توفر على إمكان ذلك، أو بالاستعانة بغيره إن لم يتوفر عليه، ثم إن التعبير عن ذلك الفهم هو أيضا من حيث المبدأ حق مشاع لا يستثنى منه مسلم، إلا إذا أدى إلى فتنة أو كان عملا عبثيا، فتقيد الحرية اعتبارا لتلك العوارض لا لأصل المشروعية.
و ما يقال من أمر الاختصاص على أي وجه حمل معناه ليس بميزان صحيح يضمن الرشد في الفهم و يعصم من الخطأ فيه، و الشاهد على ذلك أن كثيرا ممن يعتبرون من المختصين باعتبار التخرج من الدراسات الشرعية، أو باعتبار التصدي للمناصب الدينية من إمامة و غيرها نراهم اليوم يمارسون حرية التفكير الديني، فيتوصلون إلى تصورات في مسائل دينية يحملونها قناعة، و ينشرونها بين الناس دعوة، و الحال أنها تصورات كثير ما يجانبها الصواب لسقوطها في الجزئية، و تغافلها عن المقاصد الشرعية، وهي تحدث بذلك أحيانا فتنة بين الناس، و تكون لها آثار مرهقة للإسلام و المسلمين.
و في مقابل ذلك فإن ثلة من المصلحين الدينيين و المفكرين الإسلاميين ليس لهم صفة التخصص المجيز لحرية الرأي الديني على رأي من يذهب إلى ذلك، لا على معنى التخرج من المعاهد الشرعية، و لا على معنى تبوئ المناصب الدينية، و لكنهم لما مارسوا حريتهم في التفكير و التعبير أبدعوا في إصابة الحقيقة من حيث الفهم، كما أبدعوا في تبليغها إلى الناس، و في أن يحدثوا بها إصلاحات فردية و اجتماعية مشهودة، و من أولئك على سبيل المثال محمد إقبال حسن البنا و سيد قطب، فهؤلاء و كثير غيرهم لم يكونوا من المختصين في العلوم الشرعية، و لكنهم باعتبارهم مسلمين نظروا في دينهم نظرا حرا مع امتلاك الأدوات المنهجية لذلك النظر، فتوصلوا إلى أفهام في جملة من قضاياه تحمل من الحق لما عبروا عنها تعبيرا حرا أيضا ما جعلها تحدث تغييرا إصلاحيا واسعا.
و لكننا في ذات الوقت لا نرى من مبرر لموقف كثيرين لم يمتلكوا من الأدوات المنهجية و لا من الشروط الموضوعية للنظر في الدين شيئا، ثم هم باسم حرية الرأي الديني يتصدون للإفتاء الأكبر في أمهات القضايا الدينية، بل قد يتصدون أيضا للإفتاء في تفاصيل الأحكام الجزئية ذات الطبيعة الفنية الدقيقة، فإذا هم يصدرون من الآراء و الأفهام و الأحكام ما يعبرون عنه على أنه من حقيقة الدين و من مقتضيات مقاصده، و لكنه في حقيقته لا يعدو أن يكون من محض آرائهم هم التي اخترعوها أو استجلبوها، ثم أظهروها على أنها فهم ديني ناشئ من النظر الحر في مصادر الدين، فكان ما انتهوا إليه بفقدانهم للشروط المنهجية و الموضوعية أقرب إلى العبث منه إلى الجد، و إلى الإسقاط منها إلى التفكير الحر.
و بين الميل إلى ذلك التخصيص لحرية التفكير الديني و التعبير عنه، و الميل إلى ذاك التعميم المتفلت من القيود المنهجية و الموضوعية يمكن أن تستوي المعادلة بما استوت عليه في بادئ أمرها، و ذلك بأن تكون الحرية في الرأي الديني تفكيرا و تعبيرا حقا مشاعا للمسلمين عامة، غير محصور في أفراد أو فئات منهم على أي اعتبار من الاعتبارات، و أن يكون ذلك الحق مشروطا بامتلاك أسبابه المتمثلة في الحد الأدنى من الشروط المنهجية التي تمكن من النظر في الدين للتوصل إلى أفهام في أحكامه و مقاصده و مقتضياته.
و إذا ما استوت المعادلة على هذا النحو، فاكتسى النظر الحر في الشأن الديني الإخلاص و الجدية، و ابتعد عن الدسيسة و العبثية، فلا ضير أن تنتج تلك الحرية تعددا في الاجتهادات و الآراء، مهما يكن ذلك التعدد بالغا مبلغ التقابل أو التناقض، لأن الحكم في الحكم في سوق الحوار الدائر بين تلك الاجتهادات و الآراء سيكون هو سلطان الحجة العلمية نقلية و عقلية، و سيكون لهذا السلطان قوة الفرز بين ما هو صحيح فيبقى و بين ما هو خاطئ فيبطل، و بين ما هو راجح فيعمل به و بين ما هو مرجوح فيحفظ في الذاكرة الثقافية عسى أن يرجح في يوم ما أو في ظرف ما فيعمل به، و تلك هي الآلية التي ازدهرت بها الثقافة الإسلامية، و أثرى بها التراث الفقهي و العقدي ثراء تباهى به الأمة الإسلامية بين الأمم، وهي الآلية ذاتها التي يمكن أن تعيد الفكر الديني إلى سالف عهده حرا متعددا ثريا.
(نقلا عن نشرية "المناضل" التونسية العدد 6). * الدكتور عبد المجيد النجار / مفكر إسلامي تونسي.
المصدر: مجلة رؤى الفصلية العدد 14