حول الخطاب الديـنى المعاصـر

حول الخطاب الديـنى المعاصـر
أحمد كمال أبو المجد
هذا حديث عن الخطاب الدينى المعاصر، المنتشر عندنا فى مصر وفى سائر بلاد العرب والمسلمين.. ولى فى هذا الخطاب رأى أبديه، ولكنى لا أبتديه.. ذلك أن ابتداءه وسط موجة الهجوم الإعلامى والسياسى على الإسلام والعرب والمسلمين، من شأنه أن يفتح باب الشك فى بواعث هذا الحديث، وقد يتصوره البعض استجابة لا تجوز لتدخل أجنبى سافر فى أخص شئوننا الثقافية والدينية.. وقبولاً ضمنياً للهيمنة الثقافية من جانب قوة أو قوى كبرى تسعى إلى بسط نفوذها على الآخرين، وتمنح نفسها شرعية كاذبة فى تحديد "مفردات" ثقافة أولئك الآخرين ومكوناتها الموضوعية..
لذلك.. أستأذن القارئ فى مطلع هذا الحديث فى أن أذكره بأن كاتب هذه السطور، ومعه عشرات من الكتاب والباحثين والمهتمين بالشأن الثقافى فى عمومه، وبالخطاب الدينى على وجه الخصوص، لم يتوقفوا منذ أكثر من عشرين عامًا عن نقد بعض صور الخطاب الدينى السائد، نقدًا تناول مضمون ذلك الخطاب، كما تناول أسلوب القائمين به، مما يعبر عن حاجة أصيلة لهذا النقد وتلك المراجعة، سابقة فى الزمان على الملابسات المعقدة التى أحاطت بأحداث الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، من ذلك على سبيل المثال أننى نشرت فى الصحف المصرية والعربية خلال تلك السنوات نحو عشرين مقالاً، تدور كلها حول الحوار الدينى وآدابه، وحول عناصر الجمود أو عناصر الشطط فى بعض صور الخطاب الدينى المنتشر فى بلادنا وضرورة مراجعة ذلك الخطاب، وتصحيح فهم كثير من القائمين به للإسلام ذاته.. بجوانبه المتصلة بالعقيدة أو بالأخلاق أو بالشريعة..
كما ظهرت خلال هذه الفترة كتب عديدة لعلماء مصريين وعرب ومسلمين تدعو إلى هذه المراجعة وتنادى بتجديد الفكر الإسلامى بصفة عامة والفقه الإسلامى بصفة خاصة.. من أجل ذلك كله كان حرصى على القول بأننى أبدى الرأى فى الخطاب الدينى السائد وإن كنت لا أبتديه..
ويبقى قبل أن نحدد مداخل إصلاح الخطاب الدينى المعاصر، أن نبدأ بتحديد ما نقصده بالخطاب الديني، وأن نرصد أهم أوجه النقص أو العوج فى الخطاب المعاصر.
وحديثنا هذا لا يتعلق "بالنص" الديني، قرآنًا كان ذلك النص أو سنة، فكتاب الله كله كلام الله سبحانه، وهو حق كله، وحكمة كله، ونور كله، وهو محفوظ بحفظ الله ـ تعالى ـ له.. وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هى الأخرى وحى يوحي، المعنى فيها من عند الله سبحانه، واللفظ من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى أوتى جوامع الكلم.. ولكن النصوص كلها تحتاج إلى تفسير، وهذا التفسير تحكمه ضوابط منهجية لابد من اتباعها حتى لا يتسلل إليه الهوى أو تغيب عنه البصيرة.. وفى التفسير مندوحة عن الكلام الكثير الذى دار بعضه فى صدر الإسلام ودار كثير منه خلال السنوات الأخيرة.. حول "النص" ومحاولة تقييده بالإطار التاريخى الذى أحاط "بتنزيله" على النبى صلى الله عليه وسلم.. فعن طريق التفسير، يستجلى المفسر والفقيه "مقاصد" النصوص، فيتيسر لهما تنزيل حكم النص على الوقائع المتجددة، وهو ما يحقق للنصوص معنى "الخلود" والصلاحية الدائمة من خلال "التجديد" الذى أشار إليه حديث النبى صلى الله عليه وسلم، والذى رواه أبو داود فى سننه الصحيحة من "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".. والأمر ـ عند التحقيق والتأمل ـ لا يقتضى أن يكون المجدد فردًا واحدًا بعينه يبعث أو يخرج وحده على الناس كل مائة سنة.. بل يحتمل الأمر أن يكون التجديد عمل جماعة أو مدرسة علمية أو فقهية.. وألا يكون عمل تلك الجماعة منسوبًا إلى سنة واحدة كل مائة سنة..
أما الخطاب الدينى الذى نتحدث عنه وحده فى هذه السطور، فهو خطاب الدعاة والوعاظ والخطباء والمفتين والباحثين حين يقدم إلى جمهور الناس على أنه الوصف السليم والفهم الصحيح للإسلام فى عقيدته ونظامه الأخلاقى وآدابه وشريعته.
ولهذا الخطاب الدينى ـ بتعريفه هذا ـ دور أساسى فى تكوين "العقل المسلم" و"الوجدان المسلم"، ومنه يتلقى عامة الناس تصورهم للإسلام، وللعالم فى ظله.. وتزداد أهمية ترشيد هذا الخطاب فى ظل أمرين تكاد تشترك فيهما جميع البلاد الإسلامية.. أولهما انتشار الأمية بمعناها العام، والأمية الدينية بوجه خاص.. وهو ما يحول دون الاتصال بمصادر المعرفة الدينية الصحيحة، من المراجع المعتمدة فى التفسير وفى علوم الحديث والسيرة والفقه.. وما يجعل الخطاب الدينى بمعناه الذى بيناه المصدر الأساسى إن لم يكن الوحيد للمعرفة الدينية.. والمسئول الأول عن تحديد معالم "التدين" ورسم صورة "المتدينين" لدى الأفراد ولدى الجماعة، ولدى الغير.. ثانيهما: تعاظم موجة التدين احتجاجًا على المادية التى آل إليها أمر الحضارات المعاصرة.. وما صاحبها من تراجع فى "نوع" العلاقات الإنسانية السائدة، وفسادٍ لذات البين داخل الجماعة الواحدة، وداخل المجتمع الدولى كله، وهو التراجع المسئول ـ مع أسباب أخرى ـ عن انتشار ظواهر الأنانية والانحصار على الذات، وظواهر العنف الفردى والجماعي، الذى يتخذ أشكالاً متعددة باختلاف ميادينه، بدءًا بالعنف الفردى والحكومي، وانتهاء بالإرهاب الداخلى والدولي، ووصولاً إلى الحروب الأهلية والإقليمية والدولية.
وتعبر موجة التدين ـ بالإضافة إلى معنى الاحتجاج ـ عن حرص جديد على الاتصال بالجذور والأصول الاعتقادية والثقافية والسلوكية التى تصنع "الهوية" وتؤكد معنى "الخصوصية" الثقافية، وتيسر الانتماء الواضح لثقافة محددة وأمة معينة.
والتدين حين يرتبط بأصوله الاعتقادية والسلوكية وحين يفهمها الفهم السليم ويضعها موضعها الصحيح.. ظاهرة جديرة بالاحتفال والتشجيع، فهو مصدر هداية للفرد، وانضباط للجماعة، يغرى بالصلاح والإصلاح، ويعصم من الفساد والإفساد.. ويؤدى ـ فى نهاية الأمر ـ إلى الارتفاع بمستوى العلاقات الإنسانية بين أفراد الجماعة، وبين الجماعات المختلفة داخل النظام الدولى.. وهذا الارتفاع هو الذى ييسر التعاون، ويوظف التنوع الإنساني، ويعين على احترام حقوق الأفراد والجماعات، ويفتح الباب أمام السلام الاجتماعي، والسلام الدولى.. أما حين ينحرف التدين عن أصوله، وحين ينفصل ـ ولو بالنيات الحسنة ـ عن إطاره المرجعي، فإنه يصير تديناً مغلوطاً، يفضى إلى حالات فكرية ووجدانية فردية وجماعية بعـيدة الصلة بالصورة التى سعى "الدين" إلى بنائها وإقامتها فى الفرد وفى الجماعة على السواء.. والدين ـ من قبل ومن بعد ـ دعوة ونداء وخطاب، تتحقق غاياته فى الناس بقدر ما يستجيبون الاستجابة الصحيحة لهذه الدعوة وذلك النداء: "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتا" ( النساء – 66) .
وبمراجعة الخطاب الدينى المنتشر هذه الأيام، والذى يصنع صورة المتدين المعاصر، يتضح أن هناك مظاهر سبعة لانحراف هذا الخطاب عن توجهات الإطار المرجعى الثابت للدين، والدين الذى أخصه بالحديث فى هذه الدراسة هو "الإسلام" الذى عرفته البشرية ولا زلنا نعرفه، ونحتكم فى معرفته إلى مصدريه الأساسيين: القرآن الكريم، وسنة النبى ـ صلى الله عليه وسلم، وسيرته التى جسدت الوحى فى سلوك إنسانى مشهور لييسر للناس فى عصره ومن بعده سبيل التحقق بما جاء فى الكتاب والسنة من هداية فى العقيدة واتباع للشريعة..
والمظاهر السبعة لهذا الانحراف هى موضوع هذا الحديث كله.. وقد وجدت أن أيسر المداخل لإصلاح الخطاب الدينى المعاصر أن أستعرض هذه المظاهر واحدًا بعد الآخر وأن أبين ـ ما وسعنى ـ مدى انحرافها عن المنهج الصحيح فى فهم الإسلام
وتصور عقيدته، وإقامة نظامه فى المجتمع.
ولست فى حاجة إلى أن أقرر ـ قبل الحديث عن مظاهر الانحراف ـ أن من الخطأ التعميم فى إصدار الأحكام.. وأن من الخطباء والكتاب والمفتين من خلال "خطابهم" من هذه المظاهر، فقدموا بذلك للإسلام وللتدين به، صورة مشرقة موصولة بالأصول، مستجيبة لحاجات الناس، واعيةً بما طرأ على الدنيا من حولهم من تغيرات.. فرضها تطور إنسانى متعدد الساحات موصول الحلقات، وهو تطور استجاب له أولئك الدعاة والخطباء والمفتون.. ولكن يبقى صحيحًا ـ فى تقدير كاتب هذه السطور ـ وتقدير كثير ممن معه، أن الصورة الغالبة للخطاب الدينى المعاصر تحتاج إلى النقد، وإلى المراجعة الهادئة فى غير مبالغة أو تهويل.
العنصر الأول: الترهيب والتخويف
أول عناصر الخطاب الدينى المعاصر، وأكثرها انتشارًا، وأشدها حاجة للمراجعة، الدعوة للإسلام عن طريق الترهيب والتخويف، وإغفال الدعوة إليه عن طريق الترغيب والتبشير.. وقد كان من ثمرات هذا الخلل أن وجدنا كثيرًا من المتدينين يقبلون على التدين "مذعورين" مخوفين، تلاحقهم صيحات الوعيد، وما ينتظرهم يوم القيامة من عذاب أليم مهين.. وهو ذُعر يملأ النفوس قلقًا، ويحول بينها وبين السكينة والرضا.. وقد يحول بين أصحابه وبين التوجه للعمل البنائى الصالح الذى هو رسالة المسلمين فى الدنيا وطريقهم إلى السعادة فى الآخرة.. ذلك أن الخائفين المذعورين لا يصلحون لبناء الحضارات العظيمة، وحمل تبعات هذا البناء.. ومخالفة هذا التوجه لصحيح الإسلام لا تحتمل الجدل الكثير.. فالنبى صلى الله عليه وسلم ـ شأنه شأن سائر الأنبياء والمرسلين ـ قد بعثه الله شاهدًاومبشرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.. فهو (صلى الله عليه وسلم) شاهد على الناس بما بلغهم من كلمات الله، وما ذكرهم به من نعمه وآياته.. وهو مُبشرًُ لهم بالفلاح فى الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.. وهو ـ كذلك وبعده ـ نذير يذكرهم بعواقب الاستكبار والجحود بعد الإعذار وإقامة الحجة ووضوح الحقيقة "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا" (14 ـ النمل)، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (165 ـ النساء).
وهكذا جمع الإسلام ـ دائمًا ـ بين الترغيب والترهيب حثًا للنفوس والعقول على اتباع الحق وإقامة العدل والسعى فى الناس بالخير.. فلم يعد من حق أحد أن يجعل الترهيب وحده أداة لهذا الحث، وأسلوبًا يعتمد عليه وحده، فى الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وإقامة الدين.. وإغفال أسلوب الترغيب فيه ـ فوق ذلك ـ إغفال لمعنى أساسى آخر هو معنى الرحمة والمغفرة من الله.. فهو سبحانه الرحمن الرحيم الودود الغفور التواب.. وهو القائل لعباده: "قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم" (53 ـ الزمر) وهو ـ سبحانه ـ القائل: "ورحمتى وسعت كل شيء"(156 ـ الأعراف) ونبينا (صلى الله عليه وسلم) قد روى لنا عن رب العزة سبحانه قوله فى حديث قدسي: يا ابن أدم لو جئتنى بقراب الأرض ذنوبًا لجئت بقرابها مغفرة.. وبعد هذا كله لا يكون من حق أحدٍ ـ مهما حسنت نيته ـ أن يأخذ ببعض الكتاب دون بعض.. وأن يشيع فى أفق المؤمنين جوّاً من الذعر والرهبة والخوف المقيم.. تتراجع معه معانى القرب من الله والأنس بمعرفته والتوجه لحبه ـ سبحانه ـ لما يغذونا به من نعمه، كما يقول الحديث الشريف.. إن الدعوة إلى الله بالترهيب وحده ليست منهج الإسلام الصحيح، وعواقبها قد لا تكون ظاهرة للداعية أو المفتى أو الناصح للناس.. ولكن ثمرتها المحققة أن يحل الذعر محل الاطمئنان وأن يسد الخوف المقيم أبواب الإحساس بالطمأنينة والرضا ـ وهما حالتان من حالات الإيمان الصحيح وأثران من آثار وقعه فى النفـوس: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية" (28ـ الفجر). "رضى الله عنهم ورضوا عنه" (119ـ المائدة).
إن الترغيب، والتبشير يظلان معًا المدخل الأساسى لجذب النفوس إلى الحق.. وهما يفعلان فعل السحر عند أكثر الناس، ويشيعان فى النفوس جوّاً من الطمأنينة والسكينة والرضا، ويفجران ينابيع الخير والتوجه إليه انطلاقًا من حقيقة وجودية وإيمانية كبرى مؤداها أن الله تعالى خلق عباده كلهم "حنفاء" كما يقول الحديث القدسي، وحين تتفجر ينابيع الخير تتفجر معها طاقة العمل والقدرة على الإبداع والبناء والتعمير، وهى غايات كبرى من غايات الوجود الإنسانى على هذا الكوكب "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (61ـ هود). إن الخوف وحده يبعث على التراجع والانكماش.. أما الاطمئنان والثقة فإنهما يبعثان على الحركة والتقدم والانتعاش.
العنصر الثاني: الميل إلى التشديد على الناس:
جوهر التشديد التوسع فى إيجاب الواجبات والتضييق فى إباحة المُباحات.. واختيار أعسر الأمور وأجلبها للمشقة وأدعاها إلى وقوع الحرج مع وجود البديل الذى يرفع الحرج ويجلب التيسير.
والمتشددون ـ فى كل زمان ـ يصدرون فى تشددهم عن تصور خاطئ لمهمتهم وحدودها، فهم يتصورون أنفسهم وصاة على الدين وعلى الناس، وهم لذلك فى خوفٍ دائم مقيم أن يؤدى التيسير على عباد الله إلى الخروج على حدود الله وتكاليف الشريعة..وينسى هؤلاء أنهم دعاة ومبلغون، وليسوا أوصياء على أحدٍ من الناس.. إذ تظل الطاعة والمعصية أمورًا منوطة باختيار الأفراد والمكلفين، يسألون عنها بين يدى خالقهم الذى علمهم أنه "لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي" (256 ـ البقرة). وعلمهم رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن ما يلقونه يوم الحساب لا يعدو أن يكون ثمرة أعمالهم "ترد إليهم"..
كذلك يتصور المتشددون أن تشددهم من شأنه أن يقفل أبواب الشر والعوج، وأن يسد الذرائع فى وجه الانفلات من تكاليف الشريعة.. وينسون أن سد الذرائع طريق احتياطى من طرق التشريع والإفتاء.. وأنه كما يسد مداخل الشر، فإنه يفتح أبواب الخير.. كما ينسون أن المرجع فى حل الأفعال والتصرفات وتحريمها إنما هو إلى الخالق سبحانه.. وأن الوصول فى التشديد إلى الاقتراب من تحريم الحلال لا يقل إثمًا عن الوصول إلى تحليل الحرام، يشهد لذلك ويقرره قوله سبحانه: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام" (116 ـ النحل)
والتشديد ـ فوق ذلك كله ـ من شأنه أن يصور للناس أن طاعة الله أمر عسير، وأنالتدين يحمِّل أصحابه عناءً ومشقة.. مما يغرى كثيرين "بالإعراض عن جملة الشريعة" كما يقول ابن قيم الجوزية.
والتشديد ـ فى حقيقته ـ هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل، إذ الأمر كما قال الفقيه الكبير سفيان الثورى عليه رحمة الله: "ليس العلم فى التشديد، فإنه يحسنه كل أحد، إنما العلم الرخصة من ثقة، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه كما يقول حديث النبى صلى الله عليه وسلم.
ويحتاج الدعاة والخطباء والمتحدثون والمفتون إلى أن يعرفوا معرفة لا شك فيها، ولا مكابرة معها أو جدال.. أن شريعة الإسلام قد بنيت على التيسير ورفع المشقة ورفع الحرج، ولم تبن أبدًا على التعسير والمشقة والحرج.. وهذا من أصول الإسلام الكبرى التى تشهد لها نصوص عديدة فى القرآن وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم الصحيحة التى لا ترد.. يقول الحق سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (185 ـ البقرة). ويقول: "هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج" (78 ـ الحج). ويقول: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا" (66 ـ الأنفال). ويقول فى وصف مهمة نبينا عليه الصلاة والسلام: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم" (سورة الأعراف ـ الآية 157)
ويعلم الله المسلمين أن منهج الإسلام فى تقرير الحل والحرمة منهج توسعة على الناس وتخفيف عنهم، وعفوٍ عن كثير من الأعمال والتصرفات.. يقول سبحانه فى سورة المائدة (الآية 101): "يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم".. وبيانًا لمعنى هذه الآية يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الحاكم عن أبى الدرداء: "ما أحل الله فى كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا".. ثم تلا قوله تعالي: "وما كان ربك نسياً" (64 ـ مريم).
وتصف عائشة رضى الله عنها منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الاجتهاد بقولها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً".. فقد كان أبعد الناس عنه.
ويبقى فى أمر المفاضلة بين التشديد على الناس والتيسير عليهم أن نلاحظ أمرين،يتصل أولهما بمضمون رسالة الإسلام ذاته، ويتصل الآخر بأصول دعوة الناس ومنهج تلك الدعوة.
1- فأما الذى يتصل بمضمون رسالة الإسلام فهو تحديد موقف الفرد المسلم والجماعة المسلمة من الحياة، ففى بعض نماذج الخطاب الإسلامى المعاصر دعوة غريبة إلى مخاصمة الحياة، والتحريض على الزهد فيها، والإعراض عنها، ووصف هذه الدنيا بأنها جيفة وطلابها كلاب، ومن شأن هذه الدعوة أن تصرف جمهور المسلمين عن الإقبال على الحياة والسعى لتعمير الأرض، ومنافسة أهلها على مواقع الريادة والقيادة، وهى دعوة تناقض نداء الإسلام الصريح للعمل النافع والضرب فى الأرض ابتغاء الرزق وتحقيق التوازن الذى تشير إليه الآيتان الكريمتان فى قوله سبحانه: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" (77 ـ القصص). وقوله على لسان المؤمنين الصالحين: "ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفىالآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (201 ـ البقرة).
والزهد المحمود فى الدنيا هو الزهد مع القدرة.. وليس الزهد مع العجز.. والمؤمن الحق هو الذى يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، والتوجه الإسلامى الصحيح هو توجه يملؤه الأمل والتفاؤل والتطلع إلى المستقبل والإعداد له، وهو المعنى الذى عبر عنه حديث نبوى شريف قلما ينتبه قارئوه إلى دلالته الكبرى على موقف الإسلام الإيجابى من الحياة.. يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة على أحدكم وفى يده فسيلة، فاستطاع ألا تقوم عليه حتى يغرسها فليفعل، فإن له بذلك أجرا".
والإسلام بهذا كله لا يضع أصحابه فى صراع مع الحياة، والمسلم الحق لا يكره الناس والدنيا، ولا يقضى عمره فى معركة ـ صنعها الوهم ـ مع قواها ونواميسها، وأنى له ذلك وهى صنع الله الذى أحسن كل شيء خلقه ثم هدي، ثم أنَّى له ذلك وهى ـ دون الآخرة ـ دار العمل وأرض الابتلاء.. ثم كيف يكون هذا موقف المسلم فيها وقد أسبغ الله عليه فيها نعمه ظاهرة وباطنة، وخلق له ما فيها جميعًا، ثم دعاه إلى تعميرها بسلطان العقل وقوة العمل وأحب منه ـ بين ذلك ـ أن يرى أثر نعمته عليه..
إن موقف المسلم من الحياة قضية بالغة الأهمية لابد أن ينتبه إليها المشتغلون بالخطاب الديني، إذ إن الخلل فيها هو أول أبواب الانحراف الذى تقع فيه جماعات من الشباب، الذين يبدأون تدينهم بالعزلة عن المجتمع، وفى العزلة يلقنون كراهية الحياة وكراهية الناس، ويقيمون فى أنفسهم حربًا باردة يحاكمون فيها مخالفيهم.. وبعيدًا عن نور المعرفة وإشراقات السماحة تكون مفاصلة المجتمع، واتهام أهل الزمان كلهم جميعًا بالكفر، ووصف العصر كله بالجاهلية.. وهى آفات خطيرة نبه إليها العلماء المحققون، فوجدنا ابن القيم يقول فى أمثال هؤلاء:
"ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلم بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرتفى الإسلام، فكفر أهلها المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم.. وسموا دارهم دار هجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب"..
2- أما الأمر الذى يتصل بمنهج الدعوة فهو ضرورة مراعاة أحوال الناس عند مخاطبتهم.. وإلا لم تصل رسالة الداعى إليهم.. حين لم تتصل بواقعهم أو تخاطب همومهم وشواغلهم.. وهذا ما نسميه "تفريد الفتوي" و"تفريد القضاء" أى ضرورة استجابتها لحال السائل، من حيث قدرته وما يحيط به من ظروف.. وهو منهج النبى صلى الله عليه وسلم فى الفتوى وفى القضاء.. ومن أمثلته الواضحة أنه أذن للأحباش أن يرقصوا ويغنوا فى بيت النبوة أو مسجده الشريف، وحين اعترض عمر على ذلك لم يقبل اعتراضه بل راجعه قائلاً: "دعهم يا عمر" ثم أذن لزوجته عائشة أن تنظر إليهم حتى اكتفت، وقد فطنت رضى الله عنها إلى أن هذا قد كان منه صلى الله عليه وسلم مراعاة لسنها الصغيرة حينذاك، فقالت فيما يرويه عنها البخارى ومسلم: "فاقدروا قدر الفتاة الحديثة السن الحريصة على اللهو".. ترى هل ينتبه المتشددون إلى هذه المعانى الإنسانية الرفيعة، وهل يسعهم من التيسير ما وسعنبيهم صلى الله عليه وسلم فى هذا.. وحين قال لعائشة وقد زفت فتاة إلى رجل منالأنصار: "يا عائشة ما كان معهم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
وتفريد الفتوى باختلاف حال الفرد السائل منهج أصولى رده بعض الفقهاء إلى العرف كمصدر تكميلى للأحكام الشرعية.. وفى هذا يقول الفقيه الحنفى الشهير ابن عابدين: "إن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد"..
وقد عبر عن قاعدة التيسير هذه فقيه ثقة معاصر بقوله: "إنه يختار الأيسر لا الأحوط فى زماننا"ا.
العنصرالثالث:
هو الغفلة عن مقاصد الشريعة، والوقوف عند ظاهر النصوص وحروفها..
وهذا المنهج النصى الخالص الذى لا يلتفت إلى المقاصد يسميه البعض تجاوزًا أوخطأ بـ"السلفية"، وهى كلمة حمالة أوجه استعملها ابن تيمية وغيره فى ميدان العقائد والإلهيات إشارة إلى منهج الالتزام بالنصوص القرآنية المتضمنة لأمور العقيدة، وهى نصوص تنفى عن الخالق سبحانه مشابهة مخلوقاته ولا يتكلف أصحابها تكلف الفلاسفة الذى وصل بالبعض منهم إلى مقولات من التشبيه والتجسيد، أو الحلول، أو وحدة الوجود التى يندمج فيها الخالق بالمخلوق.. أما فى مجال الشريعة والاجتهاد فى استنباط أحكامها فإن ابن تيمية قد تحرر من المنهج الحرفي، وكانت له اجتهادات رائعة أوصله إليها بصره بالمقاصد القائمة وراء النصوص.. ولذلك عده مؤرخو الفقه من المجددين، بل عدوه شيخ المجددين.. وأصحاب هذا النظر الحرفى الضيق للنصوص القرآنية والنبوية يسيئون الظن بكل مذهب أو اجتهاد يدعو إلى التجديد واستخدام العقل فى فهم النصوص وتفسيرها وتطبيق حكمها على الوقائع المتجددة بدعوى أن ذلك يفتح باب الحكم بالهوى.. ودعوى أن المؤمن الصالح متبع لا مبتدع.. وهذا كله لا حجة فيه، فالاتباع الذى أمرنا به إنما هو اتباع العقلاء المبصرين لا اتباع المقلدين المنقادين.. والابتداع الذى نهينا عنه هو أن ندخل فى الدين ما ليس منه إضافة إليه أو حذفًا منه، أو قولاً فيه على الله بغير علم.
أما الابتداع المحمود فهو ثمرة الاجتهاد على منهج فى استقراء الحكم الشرعى من دليله الجزئى فى إطار من مجموع النصوص وفى ظل من الوعى بمقاصدها الكلية وبالمصالح التى اعتبرها الشارع بالنص عليها أو تركها "مرسلة" يتغياها المجتهدون فى اجتهادهم، وتسعى الأمة من ورائهم إلى تحقيقها، غير خارجة على نص قطعي، ولا ساعية لتحقيق مصلحة ألغى الشارع اعتبارها بدليل يقينى لا يحتمل التأويل.
والأمر فى شأن المقاصد على ما ذكره الإمام الشاطبى فى موافقاته (كتاب الموافقات فى أصول الشريعة) حين قال: "إن تكاليف الشريعة ترجع كلها إلى تحقيق مقاصدها فى الخلق".. ثم فصل ـ رحمه الله ـ هذه المقاصد إلى رعاية الدين، ورعاية النفس، ورعاية النسل ورعاية العرض، ورعاية المال..
ثم عاد فقرر أن المصالح المتصلة بهذه المقاصد تندرج تنزلاً من الضروريات، إلى الحاجيات، إلى التحسينات (الكماليات).
ولا غنى لأحدٍ من المشتغلين بالخطاب الديني، والممارسين له، عن معرفة ما قرره علماء الأصول فى كيفية رعاية هذه المصالح التى تتفاوت مراتبها،ويحتاج الأمر إلى منهاج دقيق للتوفيق بينها عند تعارضها، ولتقديم الفقيه أو المفتى أو القاضى بعضها على بعض عند تزاحمها، فقد قرر علماء الأصول قواعد عديدة فى هذا الشأن.. فى مقدمتها القاعدة المعروفة من أن درء المفسدة، فى موقف معين، مقدم على جلب المنفعة فيه ومنها:أن مصلحة الجماعة تقدم على مصلحة الفرد. وأن مصلحة الكثرة تقدم على مصلحة القلة. وأن المصلحة الدائمة تقدم على المصلحة العارضة أو المؤقتة.
.. ولا ندرى كيف يغفل البعض عن هذه الضوابط التى يفرضها المنطق وتقتضيها الحكمة وتوجبها البداهة، خصوصًا حين يدلهم القرآن الكريم على هذا المنهج فينص فى أحيانٍ كثيرة على المقاصد القائمة وراء الأحكام، وهو منهج لم تستثن منه أحكام العبادات، مع أن الأصل فيها مطلق الطاعة نزولاً عند قوله سبحانه: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"( الأحزاب). فيدل على القصد من فرض الصلاة بقوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" (45 ـ العنكبوت) ويدل على الحكمة من فرض الصيام على المؤمنين بقوله: "لعلكم تتقون" (21 ـ البقرة) كما يدل على الحكمة من فرض الزكاة بقوله: "صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" (103 ـ التوبة). وأخيراً يدل على الحكمة من فريضة الحج بقوله: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله" (28 ـ الحج).
ثم تكشف الأحاديث النبوية الصحيحة عن زوال القبول والثواب عن الفعل العبادى حين تغيب عنه مقاصده، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه". ويقول: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". ويجمع فقيه مصر الأشهر العز بن عبد السلام هذه المعانى فى عبارته الشهيرة: "كل أمرٍ تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو ردٌّ" (أى مردود على صاحبه ولا قيمة له).
إن إدراك مرامى الأحكام الشرعية، ومقاصد التكاليف التى تنطوى عليها تلك الأحكام من شأنه أن يحقق المنفعة القصوى للفرد والجماعة من إقامة أحكام الشريعة.
أما حين تنفصل الأحكام عن غاياتها، وتنفك الرابطة بين التكاليف الشرعية ومقاصدها.. فإن المنفعة تفوت والمصلحة تغيب.. ويقع الناس بذلك فى العسر والعنت والحرج.. ما أدق وأحكم قول ابن القيم: "اعلم أن الشريعة عدل كلها وقسط كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الظلم، ومن القسط إلى الجور،ومن الرحمة إلى ضدها، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل..".
العنصر الرابع :
الغفلة عن ترتيب الأولويات ومراتب الواجبات الدينية.
والواقع أن من أعقد المشاكل التى تواجه حركات التغيير الفكرى والاجتماعى تحديد نقطة البداية فى هذا التغيير وترتيب الأولويات فى برامج الإصلاح.. وتتخذ هذه المشكلة طابعًا أشد تعقيدًا فى خصوص الخطاب الديني، وفى إطار العمل الإسلامى حيث تتنازع هذا الترتيب اعتبارات مختلفة ومعايير عديدة، فهو ليس قائمًا على تقدير الأهم والمهم من حيث المصلحة الاجتماعية فحسب، وإنما يتداخل فى تحديده عنصران إضافيان:
أولهما: ترتيب القيم فى إطار التصور الاعتقادى الشامل الذى يقوم على الإسلام، وهو ترتيب قد لا يتطابق بالضرورة تمامًا مع الترتيب القائم على رعاية المصلحة الاجتماعية كما يراها الناس، أو كما تراها أكثريتهم العددية.
ثانيهما: ملاحظة درجة الثبوت، وقطعية المصدر الذى يستند إليه الحكم محل البحث، فما ثبت بدليل قطعى يكون عادة أوفر نصيبًا من الطلب والإلحاح فى برامج الإصلاح، بينما تتراخى فى الترتيب أمور أخرى إذا لم يحمل ثبوتها درجة اليقين التى تحملها نصوص أخرى ربما كانت تعالج أمورًا أقل أهمية أو أقل اتصالاً بالمصلحة الاجتماعية الظاهرة.
وفى تقديرنا ـ مع ذلك ـ أن درجة ثبوت الدليل الجزئى لا يجوز أن تكون العنصر الأساسى الحاكم فى تحديد مراتب الأعمال.. فقد يثبت دليل جزئى ثبوتًا قطعيا دون أن يؤثر ذلك على نوع الحكم التكليفى الذى يقرره ذلك الدليل، مما يتعين معه الرجوع إلى معيار موضوعى مستمد من مجموع النصوص لا من واحد منها فحسب، ولا نريد أن نطيل الحديث أكثر من ذلك فى هذه القضية الفنية التى قد لا يستوعبها غير المتخصصين، وإنما نقرر أن الذين يمارسون الخطاب الدينى ويوجهونه للناس لا يملكون إغفال الواقع الاجتماعى الذى يعملون فى إطاره، وأن يصنعوا لأنفسهم أولويات خاصة بهم، منعزلة عن حاجات الناس فى الأزمنة المختلفة والأمكنة المختلفة، مستندين إلى أن الإسلام "حاكم لا محكوم" وأن على الناس أن يعيدوا ترتيب حياتهم على أساس هذه الأولويات كما يحددها لهم أولئك المصلحون والدعاة، ذلك أن الفقه والاجتهاد والفتيا تقتضى جميعها رعاية مصالح الناس، وهذه الرعاية هى جوهر "السياسة الشرعية"، والسياسة الشرعية كما يقول ابن القيم قسم من الشريعة، أى جزءًا من أجزائها، وليست قسيمًا لها أو بديلاً عنها، وهى على ما عرفها ابن عقيل: "فعل ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد".
فإذا انتقلنا من هذا التحليل العلمى لمسألة ترتيب الأولويات والفتيا نظرة فاحصة إلى ما آل إليه أمر كثير من المتدينين الذين تحددت معالم تدينهم فى إطار الخطاب الدينى الذى شكل رؤيتهم للإسلام ولواجباتهم فى ظله وجدنا عوجًا لا شك فيه، فهم ـ على سبيل المثال ـ لا يفرقون بين أساسيات العقيدة التى لا يكتمل بغيرها معنى الإيمان بالله والتصديق برسوله والاعتقاد فى اليوم الآخر، وكلها من أركان الإسلام التى بنى عليها، وبين أمور فرعية تتصل ـ من بعيد ـ بهذه الأركان كزيارة المقابر، وبناء الأضرحة، والحلف بغير الله.. فيظل بعضهم يشدد فى أمر تلك الفروع، ويشد الناس إليها، ويشغلهم بها.. فتمتلئ الساحة بجدل لا طائل من ورائه ولا نفع فيه.. ومنها ـ ولعله المثال الواضح المتكرر أمامنا ـ أن هؤلاء لا يفرقون بين الفرائض ـ أى الأمور التى أوجبها الشارع ـ سبحانه ـ على سبيل الفرض ـ وبين ما أمر به على سبيل الندب والاستحباب.. فيهمل بعضهم أمر الفرائض، ويشدد على نفسه وعلى الناس فى أمور لا تجاوز حد الندب والاستحباب.. وأكثرهم لا يعرف الفرق بين ما هو فرض عين وهو يجب على كل فرد مكلف.. بحيث لا يسقطه عنه أداء غيره له، وما هو من فروض الكفاية التى تجب على مجموع الأمة، بحيث إذا قام بها فرد أو عدد كافٍ من الناس سقط الإثم عن باقيهم.
كذلك لا يفرق عامة المتدينين ـ متأثرين بما يستقبلونه من خطاب ديني، بين الأمور المجمع عليها بين الفقهاء، وتلك التى اختلف حولها الرأى بين المدارس الفقهية أو داخل المدرسة الواحدة، ، والنتيجة العملية التى يؤدى إليها هذا الخلل فى فهم مراتب الأحكام والتكاليف الدينية أننا نرى كثيرًا من الناس، رجالاً ونساءً وشبابًا يشغلون أنفسهم بأداء أعمال ليست لها فى منطق الأولويات قيمة كبري، ويهملون أمورًا أخرى لها الوزن الأكبر والقيمة العظمي، ويظهر ذلك عند استقراء الأسئلة وطلب الفتاوى التى يتقدم بها أكثر الشبان والفتيات إلى العلماء والمفتين والمتحدثين عن الإسلام، فهم ـ على سبيل المثال ـ يسألون عن نوافل العبادات، وعن أمور متعلقة بالأشكال والمظاهر، وعن أمور جزئية تعددت فيها آراء الفقهاء، دون أن يؤدى الأخذ برأى منها دون آخر، إلى الوقوع فى إثم أو ضياع أو فوات مصلحة فى الدنيا أو ثواب فى الآخرة.. وحسبى فى هذا المقام أن أشير إلى خلل هائل يقع فيه بعض المتدينين من الشباب، حين يتعرف بعضهم على دينه من جديد، وتتجه نيته إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، فيكون أول ما يبدأ به الاهتمام بالتزام صيغ معينة فى الدعاء والذكر والتسبيح والحرص على أداء السنن والنوافل والإنكار الشديد على الذين يتساهلون فى أدائها.. والتعبير عن ذلك بإرسال اللحية، وتقصير الثوب (على هيئة لا أصل لها فى الدين، ولا وزن لها فى ميزان الشرع) وارتداء الجلباب. وهو بدوره أمر شكلى خاص لا علاقة له بالدين، وإنما هو عُرف من الأعراف، وأزياء الناس لا استقرار لها كما كان يقول أستاذنا الشيخ عبد الوهاب خلاف ـ رحمه الله.. ثم يبدأ الواحد منهم فى نصح أمه وأبيه وإخوته وأخواته فى غلظة وصلف واستكبار، مهملاً فى ذلك كله أصلاً كبيرًا من أصول الإسلام، هو بر الوالدين، وإكبارهما، وإحسان معاملتهما التى جعلها الله سبحانه تالية فى الوجوب للإيمان به الذى هو أصل الأصول فى عقيدة أهل الإسلام، وذلك بقوله تعالي: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا" (23 ـ الإسراء). وقوله الذى يحدد للمسلم مرتبة هذا الإحسان: "وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفًا" (15 ـ لقمان).
العنصر الخامس:
الغفلة عن دور العقل وأهمية العلم فى بناء التصور الإسلامي:
وهذه الغفلة تقع فى ميدانين، أولهما: الميدان العام الذى يجعل للعقل الإنسانى دورًا أساسيا إلى جانب دور النقل، أى النصوص القرآنية والنبوية.. وذلك فى مقام فهم الطبيعة التى تحيط بنا، وسائر أمور المعاش التى يشترك فيها المسلمون مع غيرهم من سائر خلق الله.. أما الميدان الثاني، فهو ميدان الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال الناس، أفرادًا وجماعات.
والواقع أن قضية دور العقل مع وجود النقل أى النصوص التى مصدرها الوحى الإلهى المنزل على الأنبياء والمرسلين قضية قديمة فى الفكر الإنسانى وفى تاريخ الأديان السماوية. . والمناقشة حولها تخرج بنا عن نطاق هذه المحاولة لرصد الثغرات القائمة فى الخطاب الدينى السائد عندنا، ولكن الذى نحرص على وضعه فى إيجاز ووضوح كامل أمام أمتنا الإسلامية، وأمام الأجيال الناشئة، وشباب الإسلام أنه آن الأوان لوضع حدً ونهاية لهذه المقابلة المغلوطة بين العقل والوحى.. وأن نعرف جميعًا أن صاحب "العلم" هو صاحب "الشريعة".
فإن واهب العقل هو الموحى بـ "النقل" وأن الرواية فى أمور الدين لا تكفى وحدها ولا تغنى أبدًا عن التعلم والفقه والدراية.. وأن "المسلم" العاقل التقى عليه أن يقرأ ـ فى خشوع ـ كتاب الله المنزل على رسوله، وأن يقرأ ـ فى خشوع مماثل ـ كتاب الله المثبوت فى الكون.. آيات بينات تدل على القدرة والرحمة والعلم واللطف والوحدانية. إن على المسلمين المعاصرين أن يودعوا ـ إلى غير رجعة ـ منهج الخرافة فى فهم الدين ونصوصه ومنهج تعطيل العقول، التى بغيرها لا تفهم النصوص.. وأن يعلموا ـ علم اليقين ـ أن تكاليف الشريعة ليست عقوبات يفرضها الله على المكلفين، فهو سبحانه غنى عن العالمين.. والنصوص ليست إلا شواهد وعلامات على تحقيق مقاصد الشريعة.. وإن كارثة ترك الاجتهاد والنظر ينبغى أن تنزاح عن كاهل هذه الأمة حتى تستطيع عمل شيء، أى شيء لإنهاء الجمود القاتل، والخروج من بياتها الحضارى الطويل..
ودعونا نذكر هؤلاء الخائفين من العقل وسلطانه، والمشفقين أن تتطاول العقول على النصوص، دعونا نذكرهم بأن الله تعالى هو المتكفل بحفظ تلك النصوص، وأن الفقهاء وأهل العلم كانوا ـ ولا يزالون ـ ورثة الأنبياء فى المحافظة على تلك النصوص، ولكن الأزمة الحقيقية فى ثقافتنا السائدة وفى خطابنا الدينى المعاصر أن العقل قد أنزل عن عرشه، وأن قضية العلم قد تراجعت مكانتها فى عقول كثير من المتدينين.. وأنه إذا كانت آفة الدنيا من حولنا أن بعض الناس قد تصوروا أن العقل يستطيع ـ بغير النقل وهداية الوحى.ـ أن يهدى إلى الرشد، فإن آفتنا ـ نحن المسلمين ـ أننا عطلنا العقول وركنت عامتنا وخاصتنا إلى المنقول، فتوقف كثيرون عن إعمال العقول، وتوقف بعضهم عن السعى وإحسان العمل، واختلط التوكل بالتواكل، وامتزجت القناعة بالخمول، كما اختلطت العفة بالعجز، فتقدم الناس وتأخرنا، وتحركت الدنيا وتجمدنا.. ولا خير اليوم فى خطاب دينى لا يتصدى لهذه الثغرة، ولا يعالج هذا الخلل.
العنصر السادس:
مداومة الحديث عن الماضي، والذهول عن الحاضر، والخوف من المستقبل:
إن استقراءً سريعًا للخطاب الدينى السائد عندنا يكشف على الفور عن ظاهرة شديدة الغرابة تتمثل فى أن الجانب الأكبر، والوحيد أحيانًا، فى هذا الخطاب يتصل بالماضى ويكاد يقف بالسامعين والمشاهدين عند عصر النبوة وعصر الصحابة وقليل من التابعين.. حتى صار الإسلام فى تصور العامة هو تاريخ هذه الحقبة وحدها، وسيرة الخلفاء الأربعة الراشدين، وقد يضاف إليهم الخليفة الأموى العادل عمر بن عبد العزيز.. وتلك آفة بالغة الخطورة على جيلنا كله.. فقد التوت أعناق هذا الجيل وهو مشدود أبدًا إلى الوراء، منكفئ على الماضي، مشغول بالذات.. وحجتهم الحاضرة ـ ولا غناء فيها ـ أن من يقطع صلته بماضيه لا رجاء له فى مستقبله، وتلك حجة داحضة، أو هى كلمة حق يراد بها باطل، فإن أحد ًا من العقلاء الأتقياء لا يقول بقطع الصلة بالماضى ولا يتصور ـ من حقه ـ أن يعرض عن جملة التراث، أو أن يهون من قدسية النصوص التى نزل بها الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يغض من فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين عاشوا معه، وتلقوا منه الحكمة، وتأسوا بسيرته، وكانوا همزة الوصل بين عصره ومن جاء بعدهم... ولكن يبقى أن نذكر أمرين:
أولهما: أن الماضى ـ بكل ما فيه ـ ليس من صنعنا نحن، وأمجاده ماض نعتز به ولكن لا فضل لنا فيه.. ثم إن الماضى على امتداده ساحة هائلة اجتمع فيها الحق والباطل، والهدى والضلال وتصارع فيها العدل مع الظلم، والإسلام مع الكفر والنفاق.. ومن ثم فليس كل قديم نافعًا.. وليس كل ما مضى خيرًا نجتره ونلتزم به واهمين.
ثانيهما: أن الاستغراق فى الماضى يشغل عن معالجة "الحاضر" واستشراف المستقبل والإعداد له والاحتفال بأمره.. ولست أدرى كيف ينسى بعض الخطباء والمتحدثين والمفتين أن يذهلوا عن السرعة الهائلة التى تتحرك بها العلوم والمعارف الإنسانية بأشكالها وصورها التى لم تكن تخطر على بال الأقدمين.. وكيف يستطيع هؤلاء أن يعزلوا عقولهم ووجدانهم ومعهم عقول المخاطبين والسامعين عن الإيقاع السريع لحركة الحياة من حولهم.
لقد آن الأوان لتكون النغمة الغالبة على الخطاب الدينى المعاصر دعوة للجيل كله، يرفع بها أصابعه عن آذانه، ويزيل غشاوة الرتابة والجمود عن عيونه ويشحذ الهمة لعمل كبير، وجهاد طويل بخطو سريع يمد بها أبصاره إلى المستقبل، ويرتحل ـ ولو قليلاً ـ عن الماضى الذى حصر نفسه فيه، ووقع فى أسره وهو يظن أنه يتقرب ـ بهذا كله ـ إلى الله. وبعد..
فهذه وقفة ـ على طولها ـ سريعة مع الخطاب الدينى المعاصر.. نؤكد بعدها من جديد، أننا لسنا غافلين عن جهود صادقة تبذل هنا أو هناك لترشيد هذا الخطاب، ولكن الحقيقة التى لا نحب لأحد أن يكابر فيها دفاعًا عن نفسه، أو اعتذارًا عن تقصيره، أو مجاملة لصاحب سلطان.. إن هذا الخطاب الدينى يحتاج إلى ثورة حقيقية عمادها الأكبر مزيد من العلم والفقه ومزيد من التوجه لفهم علل الأحكام ومقاصدها الكبرى.. ومزيد من معرفة الواقع المعقد الذى يحيط بنا وبسائر الناس من أهل هذا الزمان.. وبغير جهد علمى صادق يبذل على طريق هذه الثورة.. فإن الحديث عن صحوة إسلامية، أو مشروع إسلامى للنهضة لن يكون إلا فرقعة لفظية، وكلامًا مرسلاً لا غناء فيه، ولغوًا لا يصح به دين ولا تصلح به حياة.
العنصر السابع: علاقة المسلمين بالغير:
هذه القضية بالغة الأهمية، وعلى فهمها الصحيح يتوقف مستقبل العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامى الواحد.. ومستقبل العلاقات بين المسلمين وغيرهم من شعوب الأرض.. ومن المؤسف أن بعض نماذج الخطاب الإسلامى المعاصر تقع فى أخطاء فادحة وهى تصف هذه العلاقة "لجماهير المسلمين". ويتمثل الخطأ الأكبر فى إقامة سور نفسى واجتماعى يحاجز بين المسلمين وسائر الناس، وإقامة سور آخر يحاجز بين المسلمين بعضهم البعض داخل المجتمع الواحد.. فتكون عاقبة ذلك محاصرة" المسلمين داخل حوزات مغلقة، تحول دون تواصلهم مع غيرهم، وتتركهم فى عزلة تضر بهم وبالناس جميعًا.. وتمنح شرعية كاذبة للدعاوى التى تملأ الدنيا من حولنا هذه الأيام.. زاعمة أن الإسلام يضع أتباعه فى حالة "جهاد دينى مقدس" متواصل الحلقات ضد من لا يدين بدينهم ولا يرى رأيهم، وأنهم سيظلون ـ لذلك غرباء ـ عن مسيرة الإنسانية المعاصرة.. وستظل الفجوة قائمة وواسعة بينهم وبين سائر الشعوب بسبب اعتناقهم لفكرة "الجهاد" وتفسيرها تفسيرًا يتسع يومًا بعد يوم.. وبسبب إصرارهم على أنهم مختلفون تمامًا عن سائر الشعوب، وأن عقيدتهم وثقافتهم لا تفسحان مكانًا للاختلاف.. ولا تحرصان على التعايش مع "الآخرين" فى ظلال من المساواة والاعتراف المتبادل، والحوار الذى لا يحول دونه وجود الخلاف. والحق أن قضية "العلاقة بالآخر" تقع فى نطاقين متميزين:
أولهما: النطاق الداخلي، أى خلاف المسلمين بعضهم مع بعض، والآخر: علاقة المسلمين مع غيرهم ممن لا يدينون بالإسلام، وينتسبون لعقائد وثقافات أخرى. فأما الأمر الأول: فيقتضى ملاحظة أن الفرد المسلم ليس وصيا على الفرد المسلم الآخر، وأن اختلاف الأفكار والمواقف العملية بين أفراد المسلمين، وتحت مظلة الدين الواحد الذى يدينون به، أمر وارد تمامًا، وهو ـ فى النهاية ـ نافع لمجموع الأمة.. ولا يجوز أن تضيق به الصدور أو أن يكون سبيلاً للتفرقة والقطيعة وتبادل الاتهام، كما أنه لا يقتضى ـ أبدًا ـ أن يكون أحد أطرافه مؤمنًا، والآخر فاسقًا ومارقًا.. إذ الصواب والخطأ فى الاجتهاد غير الاستقامة والخطيئة. والقرآن يذكرنا ـ وقلما نتذكر ـ بأن وحدة الأمة لا تحول دون وقوع الخلاف بين أفرادها، بل يظل المؤمنون ـ رغم خلافهم ـ "كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وحتى إذا استفحل أمر الخلاف ووصل إلى حد الاقتتال المنهى عنه، فإن الفريقين المختلفين يظلان "إخوة" ويظلان "مؤمنين". "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله" (9ـ الحجرات) لذلك نلح فى الرجاء على المشتغلين بالخطاب الإسلامى أن يراجعوا أنفسهم وأن يعيدوا التأمل فى آيات الكتاب الكريم وسنة النبى صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا ـ من جديد ـ كيف اعتبر الإسلام التنوع وتعدد الآراء واختلاف الثقافات نعمة تستوجب شكرها "بالتعارف" الذى يشير إليه قوله تعالي: "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"، (13ـ الحجرات) ثم ليقفزوا ـ بعد ذلك ـ قرونًا من الزمان ليسمعوا الإمام أباحنيفة وهو يقول: "علمنا هذا رأى وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بخير منه قبلناه"، ثم ليسمعوا الإمام الشافعى وهو يقول: "رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب".. وليذكروا بعد ذلك أن الصحابة وهم حواريو النبى صلى الله عليه وسلم الذين لازموه وأخذوا منه الدين والعلم والعمل، قد اختلفوا فى أمور عديدة، وأن التابعين من بعدهم كانت بينهم خلافات فى الرأى أكثر من اختلافات الصحابة..
وأن الأئمة أصحاب المدارس الفقهية الكبرى فى تاريخ التشريع الإسلامى.. كانت لهم أصولهم الفقهية، واجتهاداتهم الخاصة بهم فى فروع الفقه وفيما انتهوا إليه من رأى.. فما ذكر أحد منهم أحدًا بسوء.. فضلاً عن أن يتهمه فى خلق أو دين..
إن هذا السجل المشرف أثر من آثار البصر الدقيق بالأصول الاعتقادية الكبرى للإسلام وعثرة من عثرات الإيمان بأن الحكمة ليست حكرًا على أحد.. وإنما هى موزعة بين الأفراد، مبثوثة فيهم جميعًا.. وأن على طالبها أن يبحث عنها عند الآخرين ولو كان هؤلاء الآخرون غير داخلين فى الإسلام بحدوده الجغرافية أو التاريخية.
أما غير المسلمين فقد علمنا القرآن الكريم أن نجادلهم بالتى هى أحسن "فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم" (34ـ فصلت) كما بين لنا أن العدل معهم، والبر بهم (والبر تقديم ما يجاوز حد العدل) هو أقوم السبيلين.. "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" (8 ـ الممتحنة) وحين يتصل الأمر باختلاف العقائد الدينية، فإن القاعدة الذهبية الكبرى التى لا يتصور ورود النسخ عليها أو تبديلها هى قوله تعالي: "لا إكراه فى الدين"وهى قاعدة بين
المصدر: رؤى إسلامية (مجموعة من المؤلفين)