الإسلام والآخر في السنّة المطهرة والتـأصيل الفقهي
الإسلام والآخر في السنّة المطهرة والتـأصيل الفقهي
حسن السعيد
انتهج الإسلام مبدأ التسامح، لا سيّما مع «الآخر» المغاير، ولم يكن هذا التسامح كاذباً، كما يزعم المستشرقون، بل هو أحد ثوابت الشريعة الإسلامية في وضع أسس تحكم طبيعة العلاقة، معتمداً أسلوب الحوار، ومن ثم التعايش السلمي مع الأديان الأخرى التي سبقته أو جاورته; لقد وضع الإسلام الاطار العام لحركة التواصل والاسترسال بينه وبين «الآخر» بشكل «تبتعد فيه عن كل الأجواء النفسية الحادة الزاخرة بعوامل الاثارة والحقد.. لينتهي إلى إحدى نتيجتين; إمّا وحدة الموقف، وإمّا الالتقاء على أساس واضح الرؤية لما يفكّر به كل منهما.
وقد كان الاسلام واقعياً عملياً، لأن فكرة التعايش السلمي بين الأديان، التي حمل الاسلام لواءها، لا تلغي عوامل الصراع الكثيرة التي لابدّ أن تظهر .. وفي ضوء هذا، لابدّ من وضع الاسس التي يرتكز عليها الصراع من حيث الفكرة، ومن حيث الاسلوب.. أما الفكرة فهي البدء بمواطن اللقاء التي تركّز التعايش على أرض مشتركة صلبة يقف عليها كل الفرقاء، وتوحي باكتشاف أراض جديدة للقاء، أو بامكانات هذا الاكتشاف على الأقل»(1) إنه يبدأ مباشرة باعلان إيمانه بتعددية أشكال الإيمان الديني، ولا يكتفي بذلك
بل يذهب بعيداً في هذا المجال، لاعلان التزامه «إيمانياً» بما أوتي «للآخرين» من «نصوص إلهية»(2) استعرضنا بعضها آنفاً.
أما على صعيد السُنّة المطهرة ـ وهي المصدر الثاني للشريعة، بعد كتاب الله ـ فقد جسّد الرسول الأكرم (ص) هذا النهج أروع تجسيد. إذ أعطى مثلاً أعلى لمعاملة أهل الكتاب. فقد روي أنه كان يحضر ولائمهم ويشيع جنائزهم، ويعود مرضاهم، ويزورهم ويكرمهم، حتى روي: أنه لمّا زاره وفد نصارى نجران فرش لهم عباءته ودعاهم إلى الجلوس عليها.
وروي: أنه كان يقترض من أهل الكتاب نقوداً ويرهنهم أمتعته، حتى أنّه توفي ودرعه مرهونة عند بعض يهود المدينة في دَين عليه.(3)
بل حتى في طريقة الحوار مع خصومه.. كان اسلوب النبي محمد (ص) مثلاً رائعاً على حيوية القاعدة الإسلامية في اسلوب الحوار ومرونتها.. وقد كانت مسيرة الدعوة، في الممارسة الرسالية، خاضعة في خطوطها العامة والخاصة، لحركة النبي (ص)، فقد كان يتولّى عملية خلق الجو الطبيعي للحوار وادانته، ودفع الدعوة إلى أن تتحرك في إطاره، وبذلك كانت سيرته تجسيداً عملياً لكل القواعد العامة في الفكرة والأسلوب.(4)
وليس أدلّ على ذلك من اهتمام الرسول (ص) المبكّر في تقنين العلاقة مع «الآخر»، ووضعها ضمن أولوياته الملحّة التي لا تتحمل الابطاء أو الإرجاء. فحال وصوله (ص) إلى المدينة المنورة، سارع إلى إنجاز ثلاث قضايا مركزية:
أولاً: المؤاخاة الثانية بين المؤمنين.
ثانياً: بناء المسجد ليكون مقرّاً للدعوة والصلاة ولقاء الوفود.
ثالثاً: عقد معاهدة حسن جوار وتحالف دفاعي بين المسلمين وبين اليهود
والمشركين وتقرر فيها حريّة العبادة والدعوة.(5)
وإذ يضع النبي (ص) الصحيفة، أو ما يُعرف بدستور المدينة.. أوّل مقدمه المدينة بعد هجرته الميمونة.. فإنما استهدف التعبير عن الوضع الحقوقي، والعلاقات التنظيمية الإدارية والسياسية للمسلمين بما هم (أمة) مع بعضهم، ومع اليهود(6)، وبهذا تكون تجربة «الصحيفة» صيغة مبكرة لابرام العهود مع «الآخر». وقد اتفق الباحثون لاحقاً على اعتبارها أول دستور مكتوب في الإسلام، بل في التاريخ الإنساني.(7)
ما تجدر الإشارة إليه، ان تعبير «أهل الصحيفة» قد ورد في ثنايا الصحيفة في مواضع عدّة، والمعني به كل من قبل الصحيفة، سواء أكان من أهل المدينة، أم غيرهم، وسواءً أكان من اليهود، أم العرب غير المسلمين. وهذا التعبير يكشف ان «الصحيفة» قد وضعت لتنظيم علاقات الدولة والأمة فيما جاوز المدينة، وليست خاصة بأهل المدينة وحدهم.(8)
الموقف من اليهود
وفيما يتعلّق باليهود، باعتبارهم يمثلون مجتمعاً خاصاً، يخالف مجتمع المدينة في; الدين، والمشاعر، والأهداف.. فقد عمل الرسول (ص) على مهادنتهم جميعاً، ليتجه لبناء الدولة ونشر الدعوة، وترسيخ العقيدة في النفوس.. وقد أفرد لهم جزءاً كبيراً من الدستور الذي وضعه للدولة.(9) وفيما يلي مقتطفات لبعض الفقرات من نصوص المعاهدة التي أبرمها مع اليهود.
جاء في هذه المعاهدة، ان المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم.. أمة واحدة.
وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(10) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم!
وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
وأنه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً(11) ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأنّ يهود بني عوف أمّة من المؤمنين.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
وأنّ ليهود بني النجار والحارث وساعدة وبني جشم وبني الأوس.. الخ مثل ما ليهود بني عوف.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على منْ حارب أهل هذه الصحيفة.
وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم.
وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر المظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضارولا آثم.
وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.
وأنّ من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلاّ من ظلم وأثم..
وأن الله جار لمن برّ وأتقى.(12)
هذه بعض بنود الدستور الذي وضعه الرسول (ص) للتعايش بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين اليهود من وجهة النظر الإسلامية، وقد وقّع هذه الوثيقة يهود بني عوف، بني النجار، بني الحارث، بني ساعدة، بني جشم، ويهود الأوس، وبني ثعلبة. ولم يتخلّف منهم سوى بني قريظة وبني النضير، وبني قينقاع.. ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا صحفاً مشابهة لها، وخضعوا لنفس الشروط التي حوت.(13)
لقد عقد الرسول (ص) مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة، مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله (ص) والتعهّد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش، والكفّ عن مناصرة أي مهاجم للمدينة، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله (ص)، وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممّن يجنحون إلى السلم، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً، وأن يوادعهم ما وادعوه.(14)
ويجافي الحقيقة، إن لم يكن قد تجنّى عليها كثيراً، المستشرق البريطاني المولد، الأمريكي الاقامة «د.ب. ماكدونالد»(15) حين يكتب في دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون بأكثر من لغة أوروبية: ان أهل الذمة «لا يعدّون مواطنين في الدولة الإسلامية».(16)
ويحذو حذوه د. مجيد خدوري «رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جونز هوبكنز بواشنطن»، زاعماً «ان الذمي لا يستحق المواطنة الكاملة; لأن الذمي مع كونه مؤمناً بالله، إلاّ أنه لا يعترف بمحمّد (ص) رسولاً له، ولذلك كان ناقص الإيمان، لا يستحق أن يكون عضواً خالصاً في الأخوة الإسلامية»، والغريب أن الدكتور خدوري يطلق هذا الحكم الخطير دون أن يذكر سنداً شرعيّاً واحداً يعزّز به وجهة نظره!(17)
ولا حاجة بنا إلى مناقشة هذه المزاعم، رغم أن هناك أكثر من دليل ودليل على تهافتها، فلسنا هنا بصدد استعراض هذه الأدلة، ونكتفي بدليل واحد.. هو ما نصّت عليه «الصحيفة» (أول دستور للدولة الإسلاميّة)، التي حدّد فيها الرسول (ص) بالاتفاق مع «الآخرين»، الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين المسلمين وغيرهم في مجتمع المدينة. فبعد تأكيد الصحيفة على أن الجميع، المسلمين وغيرهم، «أمة واحدة»، قالت الصحيفة ما نصه: «وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. وأن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة دون إثم..».
فأهل الكتاب، بنص هذه الصحيفة، كانت لهم حقوق المواطنة الكاملة، يمارسون عبادتهم بكل حريتهم، ويناصحون المسلمين، ويتناصرون في حماية المدينة.. ويتعاونون، كل في موقعه، على حمل أعباء ذلك.(18)
وفي ضوء هذه الحقائق الدامغة. فإن «المواطنة» ليست شعاراً عابراً، بل هي مفهوم أصيل أكدته «الصحيفة» وهي ترسم الاطار العام للحكم والإدارة في مرحلة التأسيس. فمن بين المفاهيم الأساسية التي طرحتها الصحيفة يأتي مفهوم المواطنة، وقد تناولها الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالدراسة، إذ يقول:
تفيد دراسة نصوص (الصحيفة) أن (المواطنة) لا تساوق الانتماء الديني دائماً،بل يمكن أن تفترق عنه، حين يكون المجتمع السياسي مكوّناً من فئات ذات انتماء ديني متنوّع.
فقد تتساوى (المواطنة) مع الانتماء الديني، حين يكون المجتمع السياسي كله ذا انتماء ديني واحد، فيتحد في الخارج المعاش، مفهوم الأمة مع مفهوم الوطن، والدولة، و(المواطنة). وقد لا تتحد هذه المفاهيم في مصداق واحد، فتكون (أمتان في الانتماء الديني) في وطن واحد، ومجتمع سياسي واحد، ودولة واحدة.
ويمكن كما يبدو ذلك من بعض نصوص (الصحيفة) أن تتكوّن (أمة واحدة)
بالمعنى السياسي التنظيمي، تشكل مجتمعاً سياسياً واحداً، وهي مكوّنة من (أمتين) من حيث الانتماء الديني.
إن دراسة نصوص (الصحيفة) تدلّ على هذا;
ففي الفقرة الأولى عبّرت الصحيفة عن المسلمين (أنهم أُمةٌ واحدة من دون الناس). والأمة هنا تقوم على اعتبار الانتماء الديني وحده.
وفي الفقرة: (25) «وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم،وللمسلمين دينهم».
وفي الفقرات: (26 ـ 31) وأن ليهود بني النجار.. بني الحارث.. بني ساعدة.. بني جشم.. بني ثعلبة.. بني الأوس، مثل ما ليهود بني عوف».
فأثبتت هذه الفقرات لجميع هذه العشائر من اليهود أنهم (أمة مع المؤمنين).
ولابدّ أن يكون المراد من (الأمة) هنا معنى غير التوحّد في الانتماء الديني، لأن الفقرة (25) تصرّح بأن (لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم)، فيتعيّن أن يكون المراد ب (الأمة) التوحّد في الانتماء إلى المشروع السياسي، والمجتمع السياسي، والكيان السياسي، والمكان السياسي: (الدولة والأرض).
وينشأ هذا الانتماء من الالتزام بالمشروع السياسي للمجتمع، وتحمّل الواجبات والمسؤوليات التي يفرضها المشروع السياسي. فبذلك يتحقق الانتماء، وينشأ منه التلبّس بمفهوم (المواطنة)، وهو في المصطلح الإسلامي: الولاية، بمعنى المعاضدة، والتناصر وحقوق المواطن.
وإذن، فإن المجتمع السياسي الإسلامي المتنوّع في الدولة الإسلامية يتكوّن كما يلي:
1 ـ مسلمون يمثلون الغالبية، ويشِكلون جزءاً من (الأمة بالمعنى العقيدي الديني) ينشئون دولة.
2 ـ يهود، نصارى، مجوس، أو غيرهم.. ينتمون من الأساس إلى الأرض التي تقرر إنشاء الدولة فيها.
3 ـ يلتزم غير المسلمين بالمشروع السياسي للمجتمع.
4 ـ يترتّب على هذا الالتزام الانتماء إلى المجتمع السياسي والدولة، وتتحقق لجميع أعضاء المجتمع السياسي صفة المواطنة (الولاية).
5 ـ يترتّب على هذا نشوء حقوق للمواطن غير المسلم على المجتمع السياسي،وعلى الدولة.
وقد تضمّنت (الصحيفة) بيان هذه الالتزامات والحقوق في تلك المرحلة من تكوين الدولة، في الفقرات التالية: (16، 24، 25، 36، 37، 38، 44، 45).. ويبدو أن (الصحيفة) فتحت الباب أمام انضمام فئات أخرى إلى المجتمع السياسي والدولة الإسلامية..(19)ومرّ آنفاً أن يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة تخلّفوا عن بقيّة اليهود الذين وقعوا وثيقة (الصحيفة) بيد أنهم لم يلبثوا أن وقعوا عهوداً مشابهة.
وبعد مضي وقت قصير بدأ اليهود ينقضون العهود والمواثيق، وأول من كشفعن ضغنه وهزأ بالإسلام وأهله يهود بني قينقاع المقيمون في داخل المدينة نفسها.. وذلك في أعقاب معركة بدر مباشرة، ممّا اضطر الرسول (ص) إلى إيقافهم عند حدّهم، بعد تكرر اعتداءاتهم ومناوشاتهم، فحاصر حصنهم لمدة خمس عشرة ليلة، حتى اضطروا إلى التسليم.. وكان طلب الرسول الوحيد «أن يخرجوا من المدينة ولا يجاورونا بها».(20)
حصل هذا في منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة، وفي السنة الرابعة للهجرة، وضمن تداعيات غزوة أحد، وفي غمرة الخسائر المتلاحقة التي مُني بها المسلمون.. تحرك يهود بني النضير ليغتالوا رسول الله (ص). فلم يتوانَ في إنزال العقوبة الرادعة بهم.. وحين تمّ دحرهم نزلوا على حكم المنتصر الذي أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال ما عدا السلاح.(21)
في السنة الخامسة للهجرة، تصاعدت حملات التحريض ضد المسلمين ولعب اليهود دوراً خطيراً في تأجيج العداء، واقناع مشركي قريش بمعاودة الكرّة لمهاجمة المدينة والقضاء على دولة الإسلام الفتية واستئصال شأفة المسلمين. وحين اطمأنّ بنو قريظة لطبيعة تلك الاستعدادات المناوئة، ألغوا العهد من جانب واحد، ومزّقوا عهد
الرسول (ص)، الذي كتب بينهم.. وحين طولبوا بالتزام العهد، طالبوا باعادة يهود بني النضير الذين طردهم الرسول (ص).
وحال هزيمة الأحزاب في غزوة الخندق، حاصر الرسول (ص) بني قريظة واستمر الحصار خمساً وعشرين ليلة، سمح المسلمون في أثنائها لليهود الذين رفضوا الغدر بالرسول (ص) أيّام الأحزاب أن يخرجوا، فجزوهم عن وفائهم خيراً، وخلّوا سبيلهم ينطلقون حيث يبغون. ثم قرّروا أن يهجموا على الحصون المغلقة ويقتحموها عنوة(22) وينهون وجودهم.
وفي غمرة فرحة المسلمين بانتصارهم في غزوة الخندق، والحاقهم الهزيمة بآخر قلاع اليهود في المدينة.. في تلك الأثناء بلغ الرسول (ص) أن محاولة تجري فيالخفاء، للتنسيق بين قريش ويهود خيبر لغزو المسلمين، فقرّر الرسول (ص) أن يهادن قريشاً ليفصلها عن اليهود أولاً، وليتمكن بعد الهدنة أن ينشر دعوته بين العرب من غير قريش ثانياً.(23) مع مشركي قريش
وعقد رسول الله (ص) مع مشركي قريش صلح الحديبية وهم على شركهم بشروط لم يسترح إليها (بعض) المسلمين، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً، وألاّ يدخلها إلاّ بسلاح الراكب والسيوف في القِرَب. وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردّوه، ومنْ أتاه من أصحاب المشركين ردّه.. وقد رضي رسول الله (ص) بما ألهمه الله هذه الشروط، التي تبدو في ظاهرها مجحفة، لأمر يريده الله ألهم به رسوله.. وفيها متسع على كل حال لمواجهة الظروف المشابهة; تتصرّف من خلالها القيادة المسلمة.(24)
حقّقت المعاهدة انعطافاً تاريخياً هائلاً لصالح الرسالة والدعوة، ومن ثمراتها تفرّغ المسلمين لمواجهة اليهود، وقد تجلّى ذلك بغزوة خيبر التي تمّت بعد عودة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الحديبية بخمسة عشر يوماً.. (25) وشنّ المسلمون هجومهم على الحصون المشيّدة، فبدأت تتداعى تحت وطأتهم حصناً بعد حصن، ودافع اليهود عنها دفاع المستميت. فان خيبر أخصب أرضهم وأمتع بقاعهم.. غير أنهم لم يروا محيصاً من الاستسلام، فعرض كبيرهم الصلح على أن يجلو من أرض خيبر، ولهم ما حملت ركابهم، وللمسلمين سائر ما بقي. فقبل الصلح واشترط عليهم رسول الله (ص) ألاّ يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عهد.(26)
النصارى: وفد نجران نموذجاً
فيما يتعلق بموقف الرسول الأكرم (ص) من النصارى، فقد تجلّى في مواطن عديدة، وكلّها تؤكّد مبدأ التسامح ونهي الرسول (ص) عن أن يُفتن أهل الكتاب في دينهم.. وكان النصارى أخفّ خصومة، من اليهود، حيث ابتعدوا عن سلطان الكنيسة.... فأسلم بعضهم عن طواعية وإعجاب بما في الإسلام من سهولة واستقامة، وبقي الآخرون على ما ورثوا. وتباينت مواقفهم شدّةً وفتوراً.
سارت العلاقة بين الدينين في مجراها.. حتى تحوّلت إلى حرب طاحنة بين المسلمين والرومان، وكانت النصرانية مع تفوّق الرومان السياسي والعسكري تسود شمال الجزيرة وجنوبها. فرأى المسلمون ـ وهم في حرب مع دولة الرومان ـ أن يحددوا موقفهم مع نصارى الجنوب، خصوصاً وأن الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويبسطون عليهم الكرامات، ويشجعونهم على المضي في تنصير القبائل المتوطنة بهذه الأرجاء.(27)
فأرسل النبي (ص) إلى أهل نجران كتاباً جاء فيه: «بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران. إن أسلمتم فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد. وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد. فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب. والسلام».(28)
فأرسلت نجران ـ وهي كعبة النصرانية جنوباً ـ وفدها إلى المدينة ليقابل رسول الله (ص) ويتفاهم معه، ووافى المدينة بعد العصر، ودخل المسجد. فكان أول ما صنع أن اتجه إلى بيت المقدس يصلّي لله على ما تقضي به طقوس المسيحية، وأراد الناس منعهم، فقال رسول الله: دعوهم.. حتى انتهوا من عبادتهم.
عرض النبي (ص) على أحبار «نجران» وسائر الوفد أن يسلموا فقالوا له: أسلمنا قبلك، قال: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ادعاؤكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير.
فجادلوه في عيسى (ع).. ولمّا رأى النبي (ص) أن الجدل يتمادى بالقوم، وأنهم مصرّون على اعتبار عيسى (ع) إلهاً أو ندّاً للإله قال لهم: أقيموا غداً حتى أخبركم.. فنزلت آيات المباهلة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. الحق من ربّك فلا تكن من الممترين. فمَنْ حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقلْ تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).(29)
فقال رسول الله (ص): باهلوني، فإن كنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً أُنزلت علي. فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم (السيد والعاقب والأهتم): إنْ باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيّاً، وإنْ باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنّه لا يقدم إلى أهل بيته إلاّ وهو صادق.
فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (ع) فقال النصارى: مَنْ هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين ففرقوا.(30)
بادرهم الرسول (ص) بالقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّى لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا، قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم.. فأبوا، قال: فإني اُناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحكم على أن لا تغزونا، ولا تخيفنا، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلّة; ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد.. فصالحهم على ذلك (31) وأصبحوا بمقتضى الصلح من رعايا الدولة الإسلامية.
وجاء في شروط هذا الصلح: «إن لنصارى نجران جوار الله وذمّة محمد النبي، على أنفسهم وملّتهم وأرضم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وتبعهم. وأنْ لا يغيّروا ممّا كانوا عليه، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا ملّتهم، ولا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.
وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية ولا يحشرون (أي يكلفون بجهاد) ولا يعشرون (يكلفون بزكاة) ولا يطأ أرضهم جيش.
ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمتي منه بريئة، ولا يُؤخذ رجل منهم بظلم آخر.
وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم».(32)
وحسب الإسلام انه لا يُكره أهل الكتاب على اعتناق عقيدته، وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم، وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام، وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلّق بمسائل النظام العام.(33)
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهاراً نهاراً في العقيدة.. وهو تسامح لم ينعم به إلاّ الذين عاشوا في المجتمع الإسلامي «في دار الإسلام» أو تربطهم به روابط الذمة والعهد، من أهل الكتاب.
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية، ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي فيما يختص بالعشرة والسلوك، أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر.(34) وقفة مع المنافقين
استعرضنا بعض مواقف الرسول (ص) من المشركين (قريش تحديداً) ومن أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وبقيت فئة المنافقين التي دخلت الإسلام على دخل في القلب، وسوء طويّة، لكنها خشيت من تعاظم المد الإسلامي، فأعلنت إسلامها وبطنت كفرها. وكانت دوافع المنتمين لتلك الفئة المنافقة مختلفة; فبعضهم حمل النفاق لأن الإسلام ضرب مصالحه المادية، وبعضهم كان يرى في الإسلام خطراً على دينه الوثني، وفريق يتأثر بالشبهات التي يثيرها اليهود في وجه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفريق كان ينظر للأمور نظرة أقليمية حيث يرى في المهاجرين دخلاء على المدينة وعنصراً غريباً فيها.
ولكن جميع تلك الأطراف كانت مسلمة في الظاهر، فهم يصلون مع المسلمين، ويصومون معهم، ولكنهم يبطنون العداء والشر للإسلام ورسوله (ص).
وأغلب نشاطاتهم العدائية، كانت من نوع إشاعة الدعايات المغرضة، كحديث الإفك مثلاً، وإثارة اليهود وتحريضهم على المسلمين، ولكن أساليبهم كانت تبوء بالفشل الذريع باستمرار، نظراً لتولّي القرآن الكريم كشفهم ومهاجمتهم، وفضح أساليبهم الوضيعة أمام المسلمين أولاً، ولتعاظم النفوذ الإسلامي ثانياً، وعدم قدرتهم على مواجهته أو التأثير فيه.
وهكذا ظل المنافقون عنصراً مشلولاً، طوال حياة الرسول (ص) لا يملكون تأثيراً يذكر بحال، وإن كانوا بين الحين والآخر، يثيرون بعض المتاعب للمسلمين.(35)
ومع ذلك كله، سلك النبي (ص) مع هؤلاء طريق الملاينة والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم وهي مختلقة، ويتكرّم عن فضحهم وهم يتفلتون من قيود السمع والطاعة. فإذا تلبّس أحدهم بخيانة تهدر دمه رغب في التجاوز عنه، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وما هم من صحبته في شيء، ولكن هكذا سيقول الناس.(36)
ولو أن هؤلاء المنافقين كانوا على قليل من الخير، لأسرهم هذا الحلم، وانخلعوا من خداعهم الصغير، وأقبلوا على الإسلام طيبين خالصين، بيدَ أن هذا الأسلوب العالي في معاملتهم لم يزدهم على الله ورسوله إلاّ جرأة، فزاد افتياتهم، وربت شرورهم، ولم يبقَ بدٌّ من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تنطوي عليه نفوسهم وأعمالهم.
وقد نزلت الآيات أخيراً تندّد بما فعل أولئك المنافقون، وتمزّق الأستار التي يتوارون خلفها، وكانت ألاعيبهم قبل «تبوك» وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماجة التي مرحوا في سعتها طويلاً، ولم يقدروها حق قدرها. فأمر النبي (ص) أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكلّف ألاّ يقبل منهم وألاّ يصلي عليهم، بل عرف ان استغفاره لهم لن يُجاب، ثم طولب المسلمون كافة أن يقاطعوهم.
ومن أعجب ما تفتقت عنه حيل المنافقين أن يبنوا مسجداً يلتقون فيه وحدهم، ويمكرون فيه بالإسلام تحت ستار التجمّع على العبادة، وقد ذهبوا للرسول (ص) قبل رحيله إلى تبوك يقولون له: بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة..
فلمّا آب النبي (ص) بجيشه، وتحرّج موقف المنافقين وانكشفت خباياهم، أرسل اثنين من أصحابه إلى هذا المسجد وأمرهم أن يحرقوه ويهدموه، وجاء الصاحبان إلى المسجد يحملان الشعل الحارقة، وأخذا يأتيان عليه وفيه أهله الذين فرّوا مذعورين لمرأى اللهب، يدمّر آخر ما شاد النفاق من حيل.(37)
ومهما يكن من أمر فإن التاريخ لم ينقل ان الرسول (ص) قتل كتابيّاً لأنه لم يسلم، أو عذّبه أو سجنه أو منعه من التعبّد على طريقته. نعم فرض عليهم الجزية وبعض الأمور الأخرى التي ذكرتها كتب الفقه(38) خلافاً للموقف من حركة النفاق الذي حُسم لاحقاً، بعد أن أعيت المسلمين الوسيلة في التسامح مع هؤلاء دون جدوى. التجربة التاريخية
إن الدفاع عن كرامة الإنسان هو واجب أساسي للمجتمع الإسلامي. وأي انتقاص من هذه الكرامة على أي وجه هو مساس بقيمة أرساها الإسلام، ونصّ عليها مرتبطة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في الأرض. فضلاً عن أن ذلك يُعد مساساً ب«البر» الذي حثّ الله المسلمين على أن يعتبروه «القاعدة» في التعامل مع الآخرين.(39)
والخلاصة; ان الإسلام يؤمن بالتعايش السلمي بينه وبين الأديان الأخرى، أو العقائد الأخرى، في نطاق حاجة الواقع بالمستوى الذي لا يمسّ سعيه الدائب من أجل الوصول إلى سيطرته على نظام الحياة من جهة، ولا يسيء إلى مفاهيمه العامة من جهة أخرى. وبذلك كانت أساليب التعايش السلمي في التشريع الإسلامي وفي التطبيق العملي في حياة النبي محمد (ص) الذي تعتبر سيرته العملية شريعة للمسلمين، في واقعهم العملي، مثالاً للمرونة وتجسيداً للحكمة التي انطلقت الدعوة في خطّها المستقيم، سواء في ذلك مجال التبليغ أم مجال الواقع المتحرك الذي جاء الإسلام من أجل أن يعلم الناس كيف يتعاملون معه بالحكمة.(40)
وهذا ما يجعل المجتمع الإسلامي متميّزاً عن غيره من المجتمعات الأخرى، لكونه تجسيداً لعقيدة وشريعة ورسالة حضارية. وهو قبل ذلك تعبير عن التزام رسالي، ومهمة حضارية، وهذا هو مبرّر وجوده في التاريخ.. ولكن هذا التمايز لا يعني الانغلاق ونبذ الآخر. إنه تمايز لحفظ الشخصية الرسالية من الذوبان، فهو تمايز تفرضه طبيعة المجتمع الإسلامي ومهمته الرسالية، وليس تمايزاً ناشئاً من التعصّب العرقي، أو الديني، أو ناشئاً من البغضاء العاطفية.
ومن هنا فإن المجتمع الإسلامي منفتح على الآخر; منفتح عليه بالحوار، ومنفتح عليه بالتعايش والتعاون لما فيه خير الإنسانية العام.. وهذا التمايز عن الآخر، والانفتاح عليه في الوقت نفسه بالحوار، والتعايش، والتعاون.. هو الذي أعطى الأمة الإسلامية سمتها العظيمة الفريدة. الوسطية والشهادة.(41)
وقد كانت التجربة التاريخية للإسلام والمجتمع الإسلامي، في عهد النبي (ص) وبعده، تطبيقاً أميناً وجديّاً لهذا التشريع في مجال الحوار، وفي مجال التعايش، ابتداءً من تجربة النبي (ص) والمسلمين مع اليهود والنصارى في (المدينة)، و(نجران)، وغيرهما، مروراً بجميع المراحل التاريخية التي كان المجتمع الإسلامي فيها متماسكاً على أساس الإسلام.
ولم يحدث خلل في هذا التعايش، والتعاون، والحوار، إلاّ في حالات إخلال غير المسلمين بشروط الحوار، والتعايش، حين كانوا يتواطأون على العدوان مع القوى المعادية للمسلمين..
أمّا حالات انحراف بعض الحكام المسلمين عن التزام النهج الإسلامي في الانفتاح على غير المسلمين، فقد كانت قليلة نادرة.(42) التأصيل الفقهي
تناول الفقهاء المسلمون في أبحاثهم العلاقة مع غير المسلمين، وأشبعوا الموضوع دراسة وبحثاً، سواء كانوا أفراداً أم جماعات منضوين تحت الدولة الإسلامية أو دولاً وكيانات خارجها. وبإمكان أي باحث الرجوع إلى أمهات المصادر الفقهية ليجد في مظانّها البحوث الموسّعة حول هذا الموضوع في أبواب: الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، البغاة، المحاربين، المبدعة..
فالعلاقات مع الخارج غير المسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المحايدون
وهم الذين لا تربطهم بالمسلمين معاهدات وعلاقات. وليس بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء معلن، فهؤلاء لهم السلام وعدم الاعتداء ما داموا على حالة الحياد، مع انفتاح المسلمين على كل بادرة لانشاء علاقات صداقة وتعاون على أساس العدالة والتكافؤ; وذلك لأن الأصل في العلاقات مع الخارج غير المسلم هو السلام، والتعاون، والبر.
قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحب المقسطين).(43)
وهذه الآية التي خاطب الله بها الأمة مطلقة شاملة لجميع حالات المحايدين سواء أكان المسلمون في حالة حرب، أم عداء معلن يهدّد بنشوب الحرب مع قوم آخرين، أم لم يكونوا كذلك.
وثمّة حالة أخرى من حالات الحياد، وهي ما إذا كان المسلمون في حالة حرب مع بعض أعدائهم، وكان ثمّة قوم آخرون لم يدخلوا في هذه الحرب، وكانت تربطهم بالمحاربين علاقات، ولكنهم تجنّبوا الدخول في الحرب ضد المسلمين، فإن هؤلاء أيضاً يجري عليهم حكم الحياد من المسالمة.
وقد بيّن الله تعالى حكم هذه الحالة مخاطباً الأمة بالتكليف الشرعي في شأن هؤلاء، وهو يشير الى المنافقين (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً * إلاّ الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يُقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً * ستجدون آخرين يُريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردّوا الى الفتنة أُركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأُولئك جعلنا لكم عليهم سُلطاناً مبيناً).(44)
القسم الثاني: المعاهدون
وهم الذين تربطهم ـ أو تربط المسلمين بهم ـ معاهدات ومواثيق. ولهؤلاء من المسلمين الوفاء الكامل، والسلام الكامل، والتعاون على قاعدة المساواة والتكافؤ.
يجب الوفاء للمعاهدين بعهودهم، ويحرم نقضها، والاخلال بها، ما داموا أوفياء من جانبهم. فإن الوفاء بالعهود والمواثيق من أعظم الواجبات في الشريعة الإسلامية، وقد نهى الله تعالى نهياً صارماً عن نقض العهود حتى إذا كان ذلك لترجيح مصلحة المسلمين على غيرهم.
قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم...)(45)
فإذا دخل المسلمون في عهد وميثاق مع غير المسلمين، وجب على المسلمين الوفاء لهم بما عاهدوهم عليه. قال الله تعالى: (.. إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يتظاهروا عليكم أحداً، فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين...)(46)
فإذا نقض الكفار عهودهم مع المسلمين وجب على المسلمين، في هذه الحالة، أن يعاملوهم بالمثل، وإذا اقتضى الأمر قتالهم وجب قتالهم إلى أن يخضعوا. قال الله تعالى:(إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة وهم لا يتقون. فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلّهم يذّكرون. وإمّا تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء. إن الله لا يحب الخائنين).(47)
القسم الثالث: الأعداء
وهم الذين في حالة حرب أو عداء معلن يهدّد بالحرب مع المسلمين، وهؤلاء ليس لهم عند المسلمين إلاّ الحرب،(48) واستعرض الفقهاء في بحوثهم تفصيلات ذلك، وخاصة في «باب من يجب قتاله من المشركين وكيفية قتالهم».
ومن ذلك ما ورد في كتاب «النهاية» للشيخ الطوسي، الذي تناول الموضوع بمنهجيّة متميزة واختصار غير مخل.. إذ قال: «كلّ منْ خالف الإسلام من سائر أصناف الكفّار يجب مجاهدتهم وقتالهم. غير أنّهم ينقسمون قسمين:
قسم لا يُقبل منهم إلاّ الإسلام والدخول فيه، أو يُقتلون وتُسبى ذراريهم وتُؤخذ أموالهم. وهم جميع أصناف الكفّار، إلاّ اليهود والنصارى والمجوس.
والقسم الآخر هم الذين تُؤخذ منهم الجزية. وهم الأجناس الثلاثة الذين ذكرناهم. فإنّهم متى انقادوا للجزية وقبلوها وقاموا بشرائطها; لم يَجُزْ قتالهم، ولم يَسُغْ سبيُ ذراريهم. ومتى أبوا الجزية أو أخلّوا بشرائطها; كان حكمهم حكم غيرهم من الكفّار، في أنه يجب عليهم القتل،ُ وسبيُ الذراري، وأخذ الأموال.
ولا يجوز قتالُ أحد من الكفار إلاّ بعد دعائهم إلى الإسلام، وإظهار الشهادتين، والإقرار بالتوحيد والعدل، والتزام جميع شرائع الإسلام. فمتى دُعوا إلى ذلك، فلم يُجيبوا حَلّ قتالهم. ومتى لم يُدعَوْا لم يَجُزْ قتالهم، والداعي ينبغي أن يكون الإمام أو مَنْ يأمره الإمام.
ولا يجوز قتال النساء، فإن قاتلنَ المسلمين وعاونّ أزواجهنّ ورجالهن، أُمسك عنهن. فإن اضطُرّوا إلى قتلهنّ; جاز حينئذ قتلهن، ولم يكن به بأس».(49)
أما شرائط الذمة فقد حددها الفقهاء بالامتناع من مجاهرة المسلمين; بأكل لحم الخنزير، وشرب الخمور، وأكل الربا، ونكاح المحرمات في شريعة الإسلام. فمتى فعلوا شيئاً من ذلك; فقد خرجوا من الذمّة، وجرى عليهم أحكام الكفّار.(50)
وهناك تفصيلات في هذه النقطة وغيرها من أحكام أهل الذمة تطرقت إليها الموسوعات الفقهية، ولعل العلامة الحلي: (648 ـ 726هـ) كان في مقدمة الفقهاء البارزين الذين توسعوا في تناول الموضوع عبر دراسة مقارنة، شملت آراء فقهاء المذاهب الإسلامية، وذلك في موسوعته الفقهية الرائدة «تذكرة الفقهاء».(51)
وفيما يذهب الفقيه المالكي المعروف الشاطبي إلى أن حقوق الإنسان ضرورات، وكذلك كل مبدأ ينسجم مع الشرع وتقتضيه مصلحة الإنسان في حكم الشرع، وإنْ لم ينص عليه،(52) فإن الفقهاء المعاصرين أشاروا إلى حق ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة وقبول الآخر، بل إن مفكراً ضليعاً في مجال الفقه السياسي ذهب إلى قبول الآخر بلا شروط، إذ يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «في الفكر السياسي في الإسلام، مبدأ قبول الآخر في المجتمع وفي الدولة مبدأ أساسي، وأي فقيه يقول غير هذا، أنا أحترم رأيه، ولكني أقول له أن يعيد النظر في مبانيه الفقهية».(53)
وهنا نكتفي بإيراد رأي أبرز فقيهين معاصرين، وهما; الإمام الخميني والمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر. ففي معرض جوابه حول حقوق الأقليات الدينية، أوضح الإمام الخميني «بأن الإسلام أعطى حرية للأقليات الدينية أكثر من بقيّة الأديان والمدارس. ويجب عليهم أيضاً أن يتمتعوا بحقوقهم الطبيعية التي جعلها الله لجميع الناس». ثم أردف قائلاً: «إننا نقوم بحمايتهم على أفضل وجه».(54)
كما سُئل الإمام الخميني: هل جمهوريتكم الإسلامية ستسمح للمذاهب الأخرى بأداء طقوسها الدينية بشكل حر وعلني؟. فكان الجواب: «نعم. إن جميع الأقليات الدينية في الحكومة الإسلامية يمكنها القيام بجميع فرائضها الدينية بحريّة. والحكومة الإسلامية مكلفة بحماية حقوقهم على أفضل وجه».(55)
وعن رعاية حقوق الأقليات الدينية يقول الإمام الخميني: «لا يوجد أي فرق في الإسلام بين فئات الشعوب المختلفة. وإن حقوق جميع الشعوب محفوظة في الإسلام; فحقوق المسيحيين قد روعيت، وكذلك حقوق اليهود والزرادشتيين، ويعتبر جميع أفراد العالم بشراً، ولهم حق الإنسانية، وينظر لجميع الناس بمنظار المحبة، ويريد انقاذ عالم المستضعفين.. فالإسلام جاء لإنقاذ البشرية».(56)
ومن هنا، فإن حكومة العدل الإسلامي تعتبر خير ملجأ للأقليات. وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني: «إننا نعلم أن الإسلام كان يحترم الأقليات الدينية دائماً، حتى إن أمير المؤمنين (ع) قال في قضية سلب الخلخال من قدم تلك المرأة الذمية والتي كانت يهودية(57) أيضاً: بأنني سمعت بوقوع مثل هذه الحادثة، ويحق للمرء أن يموت من ذلك. إننا نحترم الأقليات الدينية، وإنهم أبناء شعبنا، وأهل بلادنا، وإنني آمل أن تكون حكومة العدل الإلهي جيدة جداً لهم، وأن يعيشوا هنا في ظل الإسلام حياة مرفهة وحرة وسليمة».(58)
وفي الوقت الذي يؤكّد فيه الإمام الخميني حق «حرية الدين والاعتقاد»، فإنه يثبّت حق «حرية التفكير والرأي»، في النطاق الأوسع، بل نراه يشير إلى المقاربة بين النقد والاصلاح: «ينبغي أن يكون هناك نقد، فما لم يكن هناك نقد، لا يكون اصلاح».(59)
وها هو يدعو إلى ضرورة أن تتخذ الأمة دورها، وتمارس حقّها بحرية تامّة: «إن النظرة القائلة إن ذكر نقاط الضعف يؤدي إلى إضعاف الدولة الإسلامية نظرة خاطئة; لأن انتقاد تحرّك معين، أو سياسة، يعني بالضبط دعم الدولة. على وسائل الاعلام أن تسمح لرقابة الأمة بحرية أوسع، ومن الضروري الحفاظ على هذه الحرية، وتوسّع نطاقها; لأن حرية التعبير من مستلزمات تقدّم المجتمع».(60)
أمّا المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر فانه يرى أن «الأمة هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الأمانة، وأفرادها جميعاً متساوون في هذا الحق أمام القانون، ولكلّ منهم التعبير من خلال ممارسة هذا الحق عن آرائه وأفكاره وممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله. كما أن لهم جميعاً حق ممارسة شعائرهم الدينية والمذهبية».(61)
وفي هذا السياق نفسه; كفل دستور الجمهورية الإسلامية «حرية الاعتقاد» للأقليات الدينية. إذ جاء في المادة الثالثة عشرة: «الإيرانيون الزرادشت، واليهود، والمسيحيون.. هم الأقليات الدينية الوحيدة المعروفة التي تتمتع بالحرية في أداء مراسيمها الدينية، والعمل وفق مبادئهم في الأحوال الشخصية، والتعاليم الدينية».(62)
وتأتي المادة الرابعة عشرة، لتؤكّد طبيعة معاملة الأقليات غير الإسلامية إذ تقول: «بحكم الآية الكريمة: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(63) فإن على حكومة جمهورية إيران الإسلامية، وعلى المسلمين أن يعاملوا غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية، هذه المادة يجري مفعولها بحق الذين لا يت آمرون ضد الإسلام وجمهورية إيران الإسلامية».(64)
ذلكم هو الموقف الإسلامي من الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية رعتْهُ الدعوة الإسلامية على مرّ تاريخها.. وجسدته الممارسات الإسلامية حضارة تميّزت بالتعددية والتعايش بين الأديان.. ووجد مكانه في أدبيات الحركة الإسلامية المعاصرة. فكتب فيه الإمام (حسن البنا) الكثير، من مثل قوله: «إنّ الأقلية غير المسلمة، من أبناء هذا الوطن، تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليم الدين الإسلامي وأحكامه.. وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعاً مسلمين وغير مسلمين يكفينا مؤونة الافاضة والاسراف، فإن من الجميل حقاً أن نسجّل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم، وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم».(65)
وهكذا نجد أن «دار الإسلام» قد تفرّدت بين أوطان الحضارات ببقاء الديانات السابقة على الإسلام، جميعها فيها، بعد ظهوره، وفي ظل دولته وحاكمية شريعته، مع ازدهار مدارس لاهوتها كلها، بل لقد تمتعت هذه الديانات كلها، في ظل الإسلام، بالتعددية التي حافظت على علاقاتها، والتي ضبطت وقننت هذه العلاقات السلمية لأول مرّة في تاريخها، حيث طوى الإسلام نهائياً صفحة «الحروب الدينية» بين أتباع كل الديانات!
وكان تاريخياً المنظّم لتعددية المذاهب داخل مختلف الديانات!.. ولم يقف ذلك عند أتباع الديانات الكتابية المعروفة، وإنما شمل ديانات وضعية وشبه وضعية مثل ديانات فارس والهند والصين أدخلها الفقهاء المسلمون في عداد الديانات الكتابية، وقالوا لقد كانت لهم كتب فضاعت، أو لعل أمرها كان كذلك.
حدث هذا الانجاز في ميدان «التعددية» بدار الإسلام، وعلى امتداد تاريخه.. في الوقت الذي ضاقت فيه صدور أوروبا الوثنية بكل ما هو «آخر» وغير وثني.. فلما تدينت بالنصرانية ضاقت صدورها بكل ما هو غير نصراني.. بل وضاقت حتى بالتعددية المذهبية داخل النصرانية الواحدة.(66)
إنّ موقف الغرب من الإسلام يتلخّص في محاربته واستبعاده. أمّا عن استبعاد الإسلام من الساحة العالمية، فقد بدأه الغرب بالفعل منذ القرن السابع (للميلاد)، بل وما زال هناك من يواصلون محاربته وبمزيد من العنف لحسم الموقف، مثل القس السابق «جان كلود بارو Jean Claude Barreau الذي صدر له كتاب عام 1991 تحت عنوان «الاسلام والعصر الحديث» حصل على جائزة أدبية لنفس ذلك العام، إذ يقول فيه، بعد أن زايد في تجريح الإسلام طوال كتابه: «إنه لابدّ من إعادة صياغة القرآن والحديث والسنة خلال عقد أو اثنين، بمفاهيم عصرية، أو على الإسلام أن يختفي»!(67)
وشتّان ما بين سماحة الإسلام.. ونزعة الغرب الاستئصالية! الهوامش
1- السيد محمد حسين فضل الله: «الحوار في القرآن»، بيروت، 1399هـ ـ 1979م، ص 123 (بشيء يسير من التصرف).
2- د. محمد حسين دكروب; مرجع سابق: 91.
3- عفيف عبد الفتاح طبارة: «روح الدين الاسلامي»، ط 18، بيروت، 1979م، ص 295.
4- السيد محمد حسين فضل الله: «الحوار في القرآن»، ص 55.
5- محمد شديد: «منهج القرآن في التربية»، بيروت، 1408هـ ـ 1987م، ص 295.
6- الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «نظام الحكم والادارة في الاسلام»، ط 2، بيروت، 1411هـ ـ 1991م، ص 531.
7- فهمي هويدي; مرجع سابق، ص 33.
8- الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «نظام الحكم والادارة في الاسلام»، ص 532 (الهامش).
9- يُراجع كتاب «محمد رسول الله» من اصدارات دار التوحيد، ط 2، طهران، 1401هـ ـ 1981م، الجزء الثاني (الدولة)، ص 14.
10- محض.
11- مجرماً.
12- محمد الغزالي: «فقه السيرة»، ط 7، 1976م، ص 193 ـ 194 وللمزيد من الاطلاع يُراجع كتاب «النظام السياسي في الاسلام» لباقر شريف القرشي، بيروت، 1408هـ ـ 1987م، ص 133 وما بعدها.
13- كتاب «محمد رسول الله»، مرجع سابق، ص 15.
14- سيد قطب; في ظلال القرآن 3: 1547.
15- ماكدونالد (1863 ـ 1943م) كان شديد التمسك بالمسيحية، وصرف نشاطاً كبيراً في التبشير المسيحي، وفي اعداد المبشرين في مدرسة كندي للارساليات التبشيرية.. اهتم ابتداءاً من 1920م بتاريخ العلوم في الاسلام، كذلك اهتم بدراسة «ألف ليلة وليلة» تُراجع «موسوعة المستشرقين» د. عبد الرحمن بدوي، ط 2، بيروت، 1993م، ص 538.
16- تُراجع مادة «الذمة» في «دائرة المعارف الاسلامية» تعريب أحمد الشنتناوي وآخرين، بيروت (د.ت)، 9: 391.
إن هذه المزاعم التي يبثها المستشرقون وتلامذتهم ويلقونها على عواهنها، دون استناد الى دليل.. لا تصمد أمام الحقيقة. والذمة هي العهد، والاسلام هو الذي يتعهد لأهل الذمة. وفي الروايات التي تؤيد ذلك ما جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف، فقد روى: «لمّا ولى رسول الله (ص). عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلمّا ولى (انصرف) من عنده ناداه فقال (ص): «ألا من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه، أو أخذ منه شيئاً من غير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة».
أما ما ورد من كلمات الفقهاء التي تؤيد ذلك، فما جاء في كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي حيث يقول فيه: «ويلتزم لهم ـ أي للمسلمين ـ ببذلها مقابل حقين; أحدهما: الكف عنهم، والثاني: الحماية ليكونوا بالكف آمنين، وبالحراسة محروسين».
وجاء في المبسوط: «ان شرط الذمة يقتضي أن يكونوا في أمان المسلمين، والمسلمون في أمانهم» يراجع كتاب «الجهاد» تقريراً لبحث آية الله محمد مهدي الآصفي، لأبي ميثم الشبيب، قم 1421هـ، ص 74 ـ 75.
17- ورد هذا الاتهام من قبل الدكتور مجيد خدوري في كتابه «الحرب والسلام في شرعة الاسلام» ص 237 نقلاً عن مقال: «مواطنون.. لا ذميّون» للأستاذ فهمي هويدي، مجلة العربي: الكويت، العدد (271)، يونيو 1981م، ص 45).
18- د. عبد العزيز كامل: «مع الرسول والمجتمع»، ص (25) (أيضاً نقلاً عن مقال «مواطنون.. لا ذميون» المرجع السابق، ص: 48).
19- للمزيد يُراجع كتاب: «نظام الحكم والادارة في الاسلام» مرجع سابق، ص 535 ـ 537.
20- محمد الغزالي: مرجع سابق، ص 245.
21- المرجع السابق: ص 254 ـ 295.
22- للمزيد يراجع المرجع السابق، ص 324 وما بعدها.
23- كتاب محمد رسول الله، مرجع سابق، 32.
24- سيد قطب; مرجع سابق، 3: 1547 ـ 1548.
25- كتاب «محمد رسول الله»; مرجع سابق: 39.
26- للمزيد; يراجع كتاب «فقه
المصدر: مجلة رسالة الإسلام