تطاوعا ولا تختلفا
تطاوعا ولا تختلفا
إن المتأمل لشجرة الدعوة المباركة ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة يرى امتداد ظلالها الوارفة يوما بعد يوم ، وإتيان ثمارها اليانعة كل حين ، إلا أن العواصف تتتابع لاجتثاثها ، والأمراض تهدد نموها وانتشارها ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، ومن هذه الأمراض والعواصف عاصفة الاختلاف العاتية بين أبنائها .
ذلك الاختلاف الهائل الذي أدى إلى أمرين خطيرين :
1- الشماتة بالدعاة ودعوتهم ، فيكون التنافر والتنابز مجلبة لازدرائهم ؛ حيث يجد المتربصون بالدعوة فرصة عظيمة للنيل من أصحابها والشماتة بهم ، كما قال هارون لموسى - عليهما السلام - حين أخذ برأسه : " فلا تشمت بي الأعداء " ( الأعراف : 150 ) .
2- انجفال المدعوين عن الدعوة ، والنفرة من أصحابها لعدم اتفاقهم في الدعوة أو عدم مراعاة آداب الخلاف ؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ - رضي الله عنهما - لما بعثهما إلى اليمن داعيين : " تطاوعا ولا تختلفا " ( السلسلة الصحيحة 3/142) ، وقد قيل لابن مسعود : عبت على عثمان ثم صليت أربعا ! قال : الخلاف شر . ( السلسلة الصحيحة 1/394 ) .
وللاختلاف والفرقة بين الدعاة أسباب عديدة ، من أهمها :
- الدعوة إلى النفس أو الجماعة : إن الدعوة يجب أن تتمحض خالصة للكتاب والسنة ، فيكون استتباع الناس بعلم : " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك " ( مريم : 43 ) ، وهدفه الهداية إلى الحق : " فاتبعني اهدك صراطا سويا " ( مريم : 43 ) ، " اتبعون أهدكم سبيل الرشاد " ( غافر : 38 ) ، وليحذر الداعي أن يقع في المحذور فيدعو إلى شخصه أو نهجه أو جماعته ، وإلى هذا الامر أشار القاسمي - رحمه الله - بقوله : ( ولم تجد سبيلا - الطوائف المختلفة - لاستتباع الناس لها إلا بالغلو بنفسها ، وذلك بالحط من غيرها والإيقاع بسواها حسب ما تسنح لها الفرص وتساعدها الأقدار وإن كان بالسنان واللسان ) ( كتاب الجرح والتعديل لجمال الدين القاسمي ) .
- الغبن والبغي : الغبن في حق الدعوات المخالفة من أعظم أسباب الاختلاف والفرقة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك : ( لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها ، بل تزيد على مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك ؛ ولذلك جعل الله مصدر الاختلاف البغي ) ( اقتضاء الصراط المستقيم ص40 ) .
فعلى الداعية أن ينظر إلى سبق إخوانه في الخير والفضل ، ويجعل من ذلك شفيعا لهم في التأدب معهم في زلاتهم وهناتهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في موسى - عليه السلام - حين ألقى الألواح ، وجر بلحية أخيه ، وفقأ عين ملك الموت : ( لم يعتب عليه ربه ، إنه وقف تلك المقامات العظيمة ، وقاوم أكبر أعداء الله ، وعالج بني إسرائيل ، وذو النون لما لم يكن في هذا المقام سجنه في بطن الحوت من غضبة ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ) ( مدارج السالكين لابن القيم 2/456) .
- الانتساب المفرق : لا يكمن خطر الخلاف في تنوع العمل وتعدد الجماعات - غالبا - ولكنه في التعصب لهذا العمل أو ذاك ، بحيث يصير معقد ولاء وبراء ، ومحبة وبغض ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وإذا تفقه الرجل بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار ، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم ) ( الفتاوى 20/8 وانظر 20/164 ، 3/347 ) . وقال أيضا : ( ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين ، كل من أفاده إفادة دينية هو شيخه فيها ، وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك ؛ بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ) ( الفتاوى 12/512 ، وانظر 12/514 ) .
د- الحسد : إن داء الحسد جر كثيرا من هذه المشاحنات بين الجماعات والدعاة ، وهذه قصة تبين ذلك ، قال الإمام الذهبي : كثر أصحاب الإمام البربهاري فاجتاز الجانب الغربي ، فعطس فشمته أصحابه ، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها الخليفة فأخبر بالحال ، فاستهولها ، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلبه حتى نودي في بغداد : لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري ، فاختفى . ( انظر السير 15/92 ) .
مجلة البيان العدد 153 ص 139
المصدر: مجلة البيان