القراءات المختلفة للدين

القراءات المختلفة للدين

هاشم الهاشمي

المراد من الدين في قولهم (القراءات المختلفة للدين) هو النص الديني، الأعم من القول والفعل والتقرير وسيرة أئمة الدين، والمراد من تعدد القراءات تعدد التفسيرات والتلقيات للنص الديني.

 

وبما أن الثقافة الإسلامية بخاصة، مقتبسة من النصوص الدينية، لذلك; فإن هذه الثقافة تدور حول (محورية النص)، وللنص تأثيره الكبير فيها، فكل نظرية تطرح حول فهم النص، أو النص الديني، يكون لها تأثيرها الكبير والمباشر في الثقافة الإسلامية.

 

وأن الآراء والنظريات في مجال الهرمنيوطيقا والنقد الأدبي، ومناهج التفسير في علوم القرآن لها تأثيرها في هذا المجال، ومما يلزم التأكيد عليه أن نظرية إمكان القراءات المختلفة للدين من معطيات الآراء الجديدة في الهرمنيوطيقا الحديثة.

 

والملاحظ أن وجود الاجتهادات والآراء والتفسيرات المختلفة للنصوص الدينية حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها، كما يلاحظ في اختلاف آراء الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأمثالهم، وكما يلاحظ وجود هذه التعددية في الفهم والتفسير في مجال تفسير النصوص الأدبية من النثر والشعر.

 

بل يمكن القول بأن اختلاف الآراء والتفسيرات من الشروط اللازمة لتطور العلوم لذلك ربما يبرز هذا السؤال، إذا تقبلنا وجود الاجتهادات والتفسيرات المختلفة، حتى في النصوص الدينية كحقيقة واضحة، وأصل موضوعي، فلماذا اعتبرت من معطيات الهرمنيوطيقا الفلسفية؟ ولماذا هذا التحسس بل النقد والرفض والمعارضة الشديدة لها من قبل أنصار المنهج التقليدي والصحيح في فهم النص، ومن قبل بعض علماء الدين، والمفكرين المتدينين؟ وبالتالي ما هو السبب في وجود اختلاف القراءات للنص الواحد، وهل يمكن التجرد عنها؟

 

الفرق بين القراءات المختلفة المتطرفة والمعتدلة

 

ولكن مما يلزم التأكيد عليه أن القراءات أو التفسيرات المختلفة عند علماء الإسلام تختلف عن القراءات المختلفة لأتباع هذه النظريات، لذلك يرفض المسلمون هذه النظرية، ونشير إلى الفرق بين هذين النوعين:

 

أ ـ إن علماء المسلمين يتقبلون اختلاف الآراء والاجتهادات والتفسيرات في نصوص ومجالات معينة، مع اعترافهم بوجود الكثير من التفسيرات والنصوص الثابتة والضرورية والمتفق عليها، وأن هناك نصوصا لا تقبل القراءات والتفسيرات المتعددة، بينما أصحاب النظرية الحديثة يرون إمكان تقبل جميع النصوص للقراءات المختلفة حتى النصوص الدينية، وفي مختلف المجالات، لا يستثنى أي نص من إمكان القراءات المختلفة اللامتناهية، وكلها صحيحة.

 

ب ـ إن علماء الإسلام وإن ذهبوا لامكان التفسيرات والآراء المتعددة في بعض النصوص، ولكن يعترفون بأن الحق والواقع واحد، وأن القراءة الصحيحة واحدة، وهي الموصلة لقصد الشارع ومراده، وأما اختلاف القراءات فإنها ناشئة عن غموض النص أو عوامل اُخرى، بينما أصحاب النظرية الحديثة، فيرون بأن جميع القراءات صحيحة.

 

جـ ـ إن علماء الإسلام يرون وجود معيار لتقويم وتمييز الفهم الصحيح عن الخاطئ في مجال التفسيرات المختلفة لبعض النصوص، ويوجد منهج للتفسير له قواعد واُصول وحدود معينة، وأما أصحاب النظرية الحديثة، فلا يرون وجود معيار لتقويم الصحيح أو السقيم من التفسيرات، لأنها كلها صحيحة، ولا معنى لتقسيم التفسيرات لصحيحه وخاطئه، مع جبرية الخضوع لقبليات المفسر أو مشروعية التفسير بالرأي، ولا يوجد هناك منهج معيّن وقواعد واُصول محددة لعملية التفسير، بل للمفسرين الحرية الكاملة، خضوعا لقبلياتهم في إبداع التفسيرات المختلفة اللامتناهية. و ـ إن علماء الإسلام يؤمنون بـ(محورية المؤلف) ويبحثون عن قصد الشارع المقدس ومراده من النص الديني، من الكتاب والسنّة، لأن السعادة أو الشقاء الأبدي يترتب على معرفته، ويلزم تجنب التفسير بالرأي وفرض المفسر قبلياته وقناعاته وأحكامه المسبقة على النص، ولا مبرر للقراءات المختلفة، لأن قصد المؤلف أو الشارع المقدس واحد، لا معاني لا متناهية متناقضة.

 

بينما أنصار النظرية الحديثة، يتنكرون لدور المؤلف وقصده، بل يؤكدون على (محورية المفسر) في عملية الفهم، ويذهب بعضهم إلى (موت المؤلف) وقصده، ولزوم تأثر المفسر بقبلياته، ومعلوماته وتوقعاته وأحكامه المسبقة، فكل تفسير هو تفسير بالرأي، بالمعنى المصطلح له، وليس التفسير والفهم إلاّ تركيب الاُفقين، ولا أهمية لقصد المؤلف ومراده، وهذا نظير رأي المصوّبة الذين يقولون، بأنه ليس للشارع المقدس أحكام واقعية، وإنما أحكامه تابعة لآراء المجتهدين. (وغيرها من الفروق، التي ربما ظهرت للقارئ من خلال ما ذكرناه حول الهرمنيوطيقا والإشكالات عليها) وبذلك نفسر العوامل التي دفعت علماء الإسلام والمتدينين لرفض هذه الآراء الحديثة حول فهم النص والقراءات المختلفة للنص الديني.

 

ومن خلال ذلك عرفنا الأساس العلمي لنظرية القراءات المختلفة، وأنها تعتمد كثيراً على الهرمنيوطيقا الفلسفية كما ذكرنا، بعض آرائها واُسسها، أمثال الاعتماد على محورية المفسر واُفقه الفكري، وفرض قبلياته على فهم النص، وبذلك تكون جميع التفسيرات من التفسير بالرأي، بل لا يمكن للمفسر مهما بذل من جهد من تجنب التأثير بقبلياته خلال عملية الفهم. وأن فهم النص حاصل من نتيجة الحوار بين المفسر والنص، كما وضحناه، وعلى ضوء هذا التصور فلا يبقى فهم ومعنى ثابت ونهائي للنص، لأن الفهم يعتمد على عنصرين: النص والقارئ، والنص وإن كان ثابتا، ولكن العنصر الآخر وهو القارئ متغير دائما حسب الظروف، وتغير الزمان والمكان، لذلك فالتفسيرات للنص الواحد دائماً متغيرة ومتعددة.

 

وهكذا يظهر أن الفرق الرئيس لهذه النظرية الحديثة عن المنهج الإسلامي، هو أن المنهج الإسلامي يؤمن بوجود معنى واقعي للنص هو قصد الشارع المقدس ومراده، ويبحث عن التوصل له بينما تنكره هذه النظرية.

 

والملاحظ أن القول بعدم الأهمية لقصد المؤلف في عملية تفسير النص لا تختص بالهرمنيوطيقا الفلسفية، بل تذهب إليه بعض المذاهب والاتجاهات الاُخرى، كبعض اتجاهات النقد الأدبي، والبنيويون حيث يؤكدون على استقلالية معنى النص عن قصد المؤلف ومراده حين خلقه للنص أو العمل الفني; لذلك لا مبرر للبحث عن قصده وحياته وظروفه.

 

إذن فالرأي الصحيح هو منهج التفسير والفهم الذي يبحث عن معرفة (قصد المؤلف)، فإن التفسيرات المتعددة وإن كانت ممكنة، ولكن الصحيح والحق منها هو مراد الشارع المقدس، وليس لديه معان متعددة متناقضة، ولابد من وجود قواعد للتوصل للفهم الصحيح أو تقويم وتمييز الصحيح عن السقيم.

 

وبعد هذه المقدمة حول تعريف القراءات المختلفة للدين، ومدى تأثرها بالآراء الحديثة في الهرمنيوطيقا الفلسفية وفهم النص، نذكر بعض الإشكالات عليها، وهي تمثل أيضا إشكالات على نفس الهرمنيوطيقا وآراء غادامر، وخاصة حسب التصور الإسلامي ورأيه في نصوصه.

 

1 ـ الفرق بين النصوص الدينية والأدبية: إذا كان مقصود هذه النظرية (إمكان) القراءات المختلفة في كل نص، وخاصة لو لم نخضع لأساليب وقواعد معيّنة في تفسير النص، بل أخذنا بالأهواء والظنون غير المعتبرة أيضاً، فيمكن أن تكون للنص الواحد تفسيرات متعددة، بل متناقضة فيمكن مثلاً في النصوص الدينية أن يفسرها بما يخالف حتى التعاليم والأحكام والمعتقدات، الضرورية والقطعية، فيما لو اعتمد في التفسير على الظنون والأهواء، والعلة المستنبطة. أو مجرد تغير الزمان والمكان، ونظرة الغرب والحداثة، أو التأثر ببعض الآراء الغربية حول الدين، وأن جوهر الدين متمثل بالتجربة الدينية ولا أهمية للشريعة والمعتقدات، أو حصر الدين بالمبادئ الكلية. لا الأحكام العملية، وأمثالها، فيمكن على ضوئها القراءات المتعددة بل المتناقضة للنصوص الواضحة، والتعاليم الضرورية والقطعية، بل ربما إنكارها أو تبديلها، فيفسر مثلاً نصوص وأحكام الحجاب والحدود والديات وسهام الإرث وحقوق الرجل والمرأة وأمثالها بتفسيرات اُخرى غير معانيها الضرورية والواضحة عند جميع المسلمين، وكما ذكر البعض بأن هذا الحكم (للذكر مثل حظ الاُنثيين) إنما كان يصلح للمجتمع الزراعي لا لعصرنا، بل ربما بعضهم وسع هذه التعددية في التفسير، حتى للعقائد الضرورية، ففسر المعاد بحصول الخلاص للبشر في هذه الدنيا ولم يفسره بعالم الآخرة، أو فسر التوحيد بالوحدة بين البشر أو فسر الله بوجود مادي.

 

ولكن إذا أمكن تقبل هذه النظرية في بعض النصوص والأعمال كالنص الأدبي والشعري، أو الأمثال السائرة أو العمل الفني، التي تعتمد على الذوق والإحساس بالجمال، وليس وراءها حقائق ثابتة غير العامل الذاتي أو الذوق، أو لا يطلب فيها فهم معيّن، أو تعاليم عملية أو اعتقادية معيّنة، ولا أهمية لقصد المؤلف فيها، بل المهم مشاعر القارئ أو المشاهد، وما تخطر فيه من إيحاءات، ربما اختلفت حسب الزمان والمكان والأفراد، ولا تطالب بمعرفة قصد المؤلف وفهمه أو فهم غيره من القراء.

 

ولكن هناك نصوصاً وأعمالاً، يلزم فيها التعرف على قصد المؤلف وفهمه، كالنصوص الدينية، كنصوص القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فإنه لابد من معرفة قصد الشارع المقدس، وذلك لأن للإسلام معتقدات وأحكاماً معيّنة، تهدف سعادة البشر أنزلها الله لطفا بهم، يطالبهم بالتعرف عليها، والالتزام بها عقائديا وعمليا، دون أن يخضعوا في ذلك للظنون والأهواء، أو قبلياتهم، وإلاّ كان الشارع المقدس يأمر بقبليات البشر وأهوائهم، لا بتعاليمه المقدسة; ويجب على الإنسان أن يتجرد عن قبلياته لمعرفة تعاليم السماء. وقد ذكرنا أن أدلة النهي عن الظن والتفسير بالرأي تشمل أيضاً أمثال هذه القراءات والآراء الجديدة حول النصوص الدينية الواضحة وحول الأحكام والعقائد الدينية الضرورية والاتفاقية، حيث تحاول إنكارها أو التشكيك فيها أو تبديلها، أو تفسيرها بتفسيرات تختلف عن معانيها الضرورية والاتفاقية.

 

2 ـ أنواع النصوص والأحكام الدينية: ذكرنا في المقالات السابقة أن النصوص وأحكام الإسلام على قسمين:

 

أ ـ قطعية نصوص السند والدلالة، وتعاليم من أحكام وعقائد ضرورية وقطيعة ومسلّمة واتفاقية، وهي لا تقبل الاجتهادات والقراءات المختلفة من حيث القبول والإنكار، أو تأثير الخلفيات الثقافية بالنسبة للمعتقد بالإسلام كالتوحيد أو وجوب الصلاة. فلا يمكن القول بأن من ينكرها يصح رأيه أو تفسيره، بل أنه سيكون خارجا عن الإسلام أو مرتداً في شروط معيّنة.

 

فهناك الكثير من النصوص الإسلامية، كالآيات والروايات صريحة في معناها، وكل من يعرف اللغة وقواعدها، واتبع الأساليب المعتبرة، يفهم منها معاني قطيعة، لا تخضع لقبليات القارئ كالآيات التي تحكم بوجوب الصلاة، أو قطع يد السارق، أو حكم الزاني والزانية وأمثالها، فليست جميع النصوص تقبل التفسيرات المختلفة، بل الكثير منها صريحة، اتفاقية في الفهم والتفسير، إذا اعتمدت الأساليب المعتبرة، كما اتفق عليها جميع علماء الإسلام أو الإمامية. وخاصة بعد ثبوت ضرورية الكثير من التعاليم الإسلامية وقطيعتها واتفاقيتها، من السنة وسيرة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ والأئمة ـ عليهم السلام ـ والمسلمين.

 

ومثل هذه النصوص والتعاليم تشكل أكثر النصوص والتعاليم الإسلامية. وهناك معتقدات ضرورية وهي اُصول الدين، لو أنكرها أحد; خرج عن الدين أو المذهب، حتى لو كان معذوراً، بأن كان عن جهل قصوري، فمن ينكر التوحيد لا يسمّى مسلما حتى لو كان عن جهل قصوري، بينما هناك تعاليم ضرورية بل قطعية لو أنكرها مع استلزامها لتكذيب الرسول خرج عن الإسلام أيضاً، كما ذكر كل ذلك علماؤنا حين بحثهم عن ضروري الدين والمذهب.

 

ومثل هذه التعاليم ثابتة، لا تقبل التغيير من حيث القبول والإنكار، وإن قبلته أحيانا من حيث التعمق في الفهم والاستدلال، كما لو تعمق فهمه وتطور استدلاله أو تعدد حول وجود الله وتوحيده، أو ما يستوحيه من الصلاة والحج من مشاعر أكثر عمقاً في المعتقدات والأحكام، فلا يمكن القول بأن التوحيد أو وجوب الصلاة يقبل الاجتهاد فتصح قراءة من ينكره أو يرفضه، بل أن أمثال هؤلاء المنكرين، والذين يحاولون الاجتهاد حسب الظنون والأهواء حول التعاليم الضرورية والقطعية، يلزم إقناعهم أولاً باُصول الدين ليؤمنوا بضرورياته.

 

فالقول بعدم إمكان وجود المعرفة الدينية الثاتبة، وأن هناك اختلافاً دائماً بين المعرفة الدينية والدين نفسه، غير صحيح، فهناك فهم ثابت ومطلق، للنصوص الإسلامية وتعاليم الإسلام، كما ذكرنا في مجال النصوص الصريحة والتعاليم الضرورية والقطيعة.

 

ب ـ وهناك بعض النصوص الدينية أو المجملة والمتشابهة، وجد الخلاف فيها بين العلماء، لعوامل سنذكرها، بعضها مشروعه وبعضها غير مشروعة، كما أن هناك بعض الآراء والفتاوى والمسائل الخلافية بين العلماء، ومثل هذه النصوص والمسائل تقبل الاجتهادات والآراء المختلفة، سواء في الأحكام أو العقائد الجزئية، كنوع عذاب القبر، أو الصراط، ولكن إنما يحق الاجتهاد والرأي من أهل الخبرة والتخصص، كما هو الأمر في سائر العلوم ونصوصها، مع اعتماد الأساليب المعتبرة والمشروعة في الاجتهاد، ولكن مع اعتراف جميع المجتهدين المؤمنين مع اختلاف آرائهم واجتهاداتهم بأن الحق والواقع عند الله واحد، ولكن المجتهدين قد يصيبون وقد يخطئون، وفي حالة الخطأ مع اعتماد الأساليب الشرعية يكون المجتهد معذوراً. لذلك سمي علماء الإمامية بالمخطئة، ولكن في خصوص هذه النصوص والأحكام.

 

وهذا هو الفرق بين علماء الإسلام، وأصحاب القراءات المختلفة في الدين من أنصار النظريات الجديدة، حيث يذهبون لإمكان القراءات المختلفة في كل النصوص والتعاليم الدينية، والقول بأن جميعها على حق وتمثل الواقع، مع عدم الاعتماد على الطرق والأساليب المعينة أو الشرعية في القراءة والاجتهاد، بل ربما اعتمدت الظنون غير المعتبرة، ولا ينحصر عندهم حق الرأي في خصوص جماعة معينة، ومن هنا يمكن القول بأنهم يقولون بالتصويب بصورة شاملة، وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين، في جميع مذاهبهم، لأن الأشاعرة القائلين بالتصويب، إنما يقولون به في قسم خاص، وهو الأحكام التي لا نص فيها، حيث ذهبوا إلى أن الأحكام الواقعية فيها تابعة لآراء المجتهدين، ولا يقولون بهذا التصويب في جميع الأحكام(1). وإن كنا نرفض هذا الرأي للأشاعرة، للأدلة الدالة على إكمال الشريعة، وأن الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل، وأن لله في كل واقعة حكماً قد يصيبه المجتهد وقد يخطئه، وخاصة إذا اعتمد في ما لا نص فيه على بعض الظنون والأدلة غير المعتبرة، وغير الشرعية، ولكن الأشاعرة يقولون بالتصويب في قسم معيّن، وأمّا أصحاب النظريات الحديثة يقولون بالتصويب في جميع النصوص والآراء والتفسيرات والأحكام، وأن الحق والواقع يتعدد بعددها، وهذا ما لا يقول به مسلم.

 

ولكن هناك بعض المتأثرين بأمثال هذه النظريات في فهم النص والتعددية الدينية وأمثالها، يحاولون القول بمشروعية التغير حتى في الأحكام والمعتقدات الضرورية واليقينية كما في إلغاء الحجاب أو الحدود والديات أو سهام الإرث وأمثالها، وذلك من خلال مشروعية جميع القراءات المختلفة للدين ونصوصه، وإن اعتمدت على الظنون غير المعتبرة، فيفسر الحجاب بالعفاف قلبياً مثلاً، ولعل ذلك نشأ من ضعف الثقافة الإسلامية والاقتصار على الثقافة الغربية، وقياس الإسلام ونصوصه على غيره من الأديان ونصوصه، أو القول بتاريخية الشريعة حتى ثوابتها، مع أن للإسلام تعاليمه الثابتة المناسبة لإطروحته وأهدافه في سعادة البشر في الدنيا والآخرة، ولكل زمان ومكان، يدل على ثباته عدم نسخه، ولا تتغير بأهواء البعض وأذواقهم وظنونهم، أو لمجرد تغير الزمان والمكان، فإن على البشر أن يخضعوا لتعاليم الله (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض).

 

3 ـ إن القول بنظرية القراءات المختلفة للدين والنصوص الدينية ومشروعيتها بمعناها الشامل بالتفسير الذي ذكرناه، يعني القول بمشروعية تغير الشريعة، حسب الزمان والمكان، وأن جميع المذاهب والتيارات على حق، مع ما في بعضها من نسخ وتحريف وأحكام ومعتقدات باطلة بل هدامة للفرد والجتمع، وأن جميع الآراء والتفسيرات للنصوص على حق والإسلام لا يوافق ذلك.

 

وقد ذكرنا في المقالات السابقة، أن هناك من يدعو إلى تغير الشريعة، حتى في بعض تعاليمها الضرورية والقطعية، أو لأن الأحكام الإسلامية يلزم أن تلائم أهدافها، فتغير الأحكام حسب ما نتصوره من الأهداف والمبادئ، ونظنه من موافقة الأحكام لها وعدم موافقتها وغيرها من مجالات الاعتماد على الظنون غير المعتبرة وأمثالها، بل ربما ذهبوا إلى أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لو بعث في زمامنا; لتغيرت الشريعة، وأمثالها، ولعل من اُسس هذه الآراء ما ذكرناه من نظريات في التعددية الدينية، وبعض نظريات فهم النص الحديثة.

 

ولكن ذكرنا أننا نعترف بوجود مجالات للتغير في الأحكام، فقد ذكرنا بعضا منها في المقالات السابقة، كما نعترف بوجود اختلاف آراء العلماء في بعض النصوص والأحكام. ومن مجالات التغير تأثير العناوين الثانوية والتزاحم والأحكام الولائية التي يسمح فيها لولي الأمر من جعل حكم ولكن في منطقة الفراغ، وقد فسرناها في تلك المقالات ولا حاجة لإعادة هذه الأقسام، وسنذكرها بإيجاز في مقال التعددية الدينية، وكذلك قد يحصل التغير في تطبيقات الأحكام الثابتة ومصاديقها كتغيير أساليب الجهاد وأسلحته، وغير ذلك من مجالات التغير التي ذكرناها(2).

 

ولكن هناك الكثير من الأحكام الثابتة، التي لا تقبل التغير ويمكن أن يستدل على ذلك:

 

أ ـ إن صدور الأحكام من الشارع المقدس مع عدم نسخها، دليل على ثباتها، لأن التشريع والنسخ يختص بالشارع المقدس، لما ذكرناه من عوامل القصور في البشر، وما ذكر من إمكان تغير الشريعة، وحتى بعض أحكامها الضرورية الثابتة فهذا يعني إمكان النسخ من البشر.

 

ب ـ قد جعل الإسلام أحكامه وتعاليمه بصورة تتلاءم واُطروحته لسعادة البشرية، فعدم تصور البعض لعدم جدوى الحجاب أو سهام الإرث وأمثالها، حسب نظره القاصر، أو أنه لا يتلاءم وأهداف الإسلام، مما يرفضه ثبات الحكم مع عدم نسخه، وترفضه أهداف الإسلام، الذي جعل أحكامه الثابتة بما تحقق سعادة البشرية إلى يوم القيامة، وبالصورة التي تتلاءم وأهدافه ومبادئه الكلية.

 

جـ ـ ثم كيف نجزم أن الحكم لا يلائم اُطروحة الإسلام وأهدافه، وهل يمكن الاعتماد في ذلك على الظنون والأذواق، ثم ماهو البديل الذي نضعه بدلاً عن الحكم، فمثلاً لو حذفنا سهام الإرث، أو الحدود والديات، فما هو البديل لها، إذ لا يمكن بقاء المال بلا وريث، أو بقاء المجتمع بلا قوانين جزائية، فهل القانون الجزائي الذي يضعه البشر أفضل مما وضعه الله؟

 

ولعله لأجل ذلك، نهى القرآن الكريم عن الظنون، والتي يقصد بها خضوع الإنسان لأهوائه وقبلياته والأدلة غير العقلائية في أحكامه وعقائده، وكذلك نهت الروايات عن التفسير بالرأي، وهو فرض الإنسان لقناعاته وأحكامه المسبقة على النص وكذلك نهت عن اعتماد الظنون غير المعتبرة في تفسير النص أو استنباط الأحكام. وقد صرح القرآن الكريم: (لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) وسنذكر في مقال التعددية الدينية ما يلقي الأضواء على هذا الموضوع، وقد ذكرنا في المقالات السابقة الكثير من الآراء المفيدة.

 

د ـ ومما يدل على ثبات الشريعة وبقاء أحكامها، خاتمية الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وشريعته، ولا تنسخها شريعة نبي، بصريح القرآن الكريم أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ (خاتم النبيين) والأحاديث الشريفة، وأنها من ضروريات الدين، وقد وضع الشارع المقدس قواعد وأحكاماً كلية تعالج جميع المتغيرات والمستجدات في كل زمان ومكان، منها قواعد العناوين الثانوية، مثل (لا ضرر ولا ضرار) وأمثالها، وهذا كله يدل على أن الشارع المقدس من خلال جعله للأحكام الثابتة دون نسخها، قد جعل شريعته بصورة تلائم أهدافه لإصلاح البشرية وهدايتها وسعادتها في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة.

 

4 ـ عوامل اختلاف الفقهاء والعلماء المسلمين: ربما يستدل أصحاب نظرية القراءات المختلفة للدين، باختلاف الفقهاء والعلماء في آرائهم في الفقه والتفسير وعلم الكلام وغيرها من العلوم الإسلامية، وهذا الاختلاف حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها.

 

ولكن ظهر مما ذكرنا بعض الأجوبة عن هذا الإشكال، ونشير هنا إلى بعض الملاحظات التي تجيب عن هذا الإشكال:

 

أ ـ إن اختلاف الفقهاء أو العلماء في بعض المسائل الإسلامية، ليس بمعنى القراءات المختلفة للدين، كما تذهب إليه هذه النظرية، بمعنى تعدد الحق والواقع بعدد الآراء والفتاوى، أو بمعنى التصويب الشامل، وذلك لأن جميع علماء المسلمين يعترفون أن الحق والواقع الإلهي الواقعي واحد، يشترك به العالم والجاهل، قد يصيبه المجتهد وقد لا يصيبه. والحكم الذي يتوصل إليه الفقيه حسب الطرق الشرعية المعتبرة حجة له ولمقلديه، بحيث يكون معذورا في حالة مخالفته للواقع، دون أن يكون حجة على الفقهاء الآخرين ومقلديهم، والمعذورية غير تعدد الحق والواقع حسب تعدد الآراء.

 

ب ـ إن الاختلاف بين العلماء ليس في جميع النصوص والتعاليم الإسلامية، وإنما في بعضها، كما ذكرنا وهي النصوص الظنية والمجملة والمسائل الخلافية، ولكن هناك الكثير من النصوص صريحة واضحة المعنى معتبرة السند، والكثير من التعاليم والأحكام ضرورية يقينية، ثابتة، لا مجال للاجتهادات المختلفة فيها، بل ليس لها إلاّ قراءة واحدة، بل ربما كان منكراً البعض منها خارجا عن الإسلام أو منكراً للضروري كما وضّحناه.

 

إذن فالاختلاف في خصوص النصوص والأحكام الظنية والخلافية دون غيرها، وهناك عوامل لهذا الاختلاف، بعضها مشروعة وبعضها غير مشروعة، وقبل استعراض هذه العوامل نشير إلى أن من مميزات مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وعلمائها، فتح باب (الاجتهاد)، ولكن ـ وكما ذكرناـ ليس في كل الأحكام والنصوص، بل في بعضها مع اعتماد الطرق والأساليب المعتبرة حتى لو كانت ظنية، فلا يفرض فقيه رأيه على فقيه آخر، ولا يقلّده، بل أن فقهاءنا يناقشون الآراء ويجدّدون، ولا يجترّون تفسيرات الآخرين وآراءهم، وكتبهم حافلة بالآراء الجديدة والمناقشات، مع

 

 

محاولة الاستفادة من تجارب الآخرين وعلومهم، بما لا يخالف مبادئ الإسلام وأحكامه، بما يفيدهم في إثراء الفكر الإسلامي، والفهم والاجتهاد الأكثر صوابا، ولكن مع تقويمها وربما توصلوا لآراء جديدة في النحو واللغة والمنطق وأمثالها تختلف عن آراء أصحابها، مع اعتراف منهم بأن الرأي أو الحكم الذي يستنبطونه من أمثال هذه النصوص حكم ظاهري، قد يصيب الواقع وقد لا يصيبه، وإن كان حجة له ولمقلديه دون غيرهم، بحيث يكون معذورا عند المخالفة.

 

وبعد ذلك نستعرض بعض عوامل اختلاف الآراء والفتاوى بين العلماء ومجالاته:

 

1 ـ اختلاف العلماء في بعض النصوص والأحكام الظنية والخلافية، في فهم الموضوع أو الحكم بما هو أوسع أو أضيق مما فهمه غيره، بحيث يشمل أو لا يشمل الموضوع مصاديق أكثر، أو الحكم موضوعات أكثر، معتمداً في ذلك على الأدلة الشرعية المعتبرة، فمثلاً اختلف في موضوع حرمة الاحتكار بخصوص الغلات الأربعة، أو أوسع من ذلك.

 

أو يعتمد على امتداد الحكم على اكتشاف العلة المنصوصة من النص، أو اكتشاف بعض المفاهيم منه، بما يشمل غيره، وأمثالها.

 

2 ـ سنذكره في مقال التعددية، أن الموضوع الواحد قد يختلف حكمه، بسبب اختلاف العناوين الطارئة عليه، فالصدق قد يطرأ عليه عنوان هلاك المؤمن، فيكون قبيحاً محرّماً، وبذلك يختلف عن حكمه بدون هذا العنوان، فربما كان سبب اختلاف الفقهاء لأجل اختلاف وجود العناوين الطارئة عليه، ولعل من هذا القبيل، ما ذكر حول الدم، أن بيعه لم يكن جائزاً في السابق عند العلماء، لأنه لم تكن له منفعة محلّلة مقصودة، وأما في عصرنا، فله مثل هذه المنفعة، وهو استخدامه لعلاج المرضى، وجواز البيع وعدمه يدور مدار وجود هذه المنفعة وعدمها، وبذلك يتغير حكم الدم من حيث جواز البيع وعدمه.

 

وكذلك ما ذكرناه في مقالات سابقة، أن الشارع جعل أحكامه للموضوعات الكلية، فمثلاً في قوله تعالى (اُوفوا بالعقود) فقد جعل وجوب الوفاء للعقد، وهو موضوع كلي، نأخذ معناه ـ أي العقد ـ من عصر نزول الآية الشريفة، ولكن لا يتحدد حكمه وهو وجوب الوفاء بالمصاديق المعهودة في ذلك العصر، بل يشمل المصاديق المستجدة فيما إذا لم يخالف الأحكام الإسلامية المسلّمة كما لو استلزم العقد الضرر أو الربا، فإذا وجد عقد جديد، فيشمله الحكم، إلاّ أن يخرج هذا الشيء الجديد عن مصداقيته للعقد، ومن هنا ربما تظهر مصاديق جديدة للعقد لم تكن في السابق، فيشمله حكم العقد، بينما ليس للسابقين مثل هذا الحكم لعدم وجود مصداقه.

 

وربما اختلف العلماء في الفهم العرفي لهذا المصداق، وهل أنه يشمله مفهوم العقد أم لا، هل أنه مصداق للعقد أم لا، أو أنه يستلزم مخالفة الأحكام الإسلامية، أو ربما اختلفوا في أصل القاعدة، وأن (اُوفوا بالعقود) هل يختص بالمصاديق المعهودة في عصر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أو يشمل غيرها، وبذلك يظهر الاختلاف؟

 

ـ ربما يكتشف العلماء معلومات جديدة من القرآن والسنّة، غفل عنها السابقون. وربما وجدوا قرائن وروايات كانت موجودة، ولكن لم يتوجه إليها أو إلى دلالتها السابقون، كما ذكروه في روايات الاستصحاب. وكذلك ربما استفاد العلماء مما يحمله التطور العلمي، وتجارب الآخرين، من معلومات وآراء لها تأثيرها في عملية الفهم والاستنباط، كما استفادوا من نظرية حساب الاحتمالات في بعض مسائل الفقه والاُصول، وأمثالها، ولكن في الغالب أن هذه المعلومات الجديدة مما تؤدي إلى عمق الفهم وتطور الاستدلال، لا إلى نفي الأحكام السابقة سواء في الأحكام القطعية أو الظنية المعتبرة، وحتى لو أدت لذلك، فإنها تختص في القليل من الأحكام والنصوص الظنية والخلافية ولا تشمل الضرورية والقطعية والاتفاقية.

 

4 ـ ربما كان السبب في الاختلاف، إجمال بعض النصوص أو ألفاظها، في معناها العرفي أو اللغوي، مما يؤدّي لاختلاف العلماء في تحديد موضوعها، وحكمها، كالاختلاف في معنى الصعيد والغناء أو الكعبين وأمثالها، ولكن، هذا أيضاً في موارد قليلة.

 

5 ـ وربما كان السبب اختلاف آراء العلماء في بعض القواعد الاُصولية أو الفقهية أو الرجالية وأمثالها، والتي تؤثر في استنباط الحكم من النصوص، كما في اختلاف الآراء حول حجّية بعض الروايات وعدم حجيّتها، فربما اعتبر البعض الشهرة جابرة لضعف الرواية، وبعضهم ينكر ذلك، أو يختلفون في تقويم بعض الرواة، أو في تمييز النسخة الصحيحة عن غيرها، أو في جريان البراءة في بعض المسائل كالشبهة التحريمية وعدم جريانها، أو اعتبار بعض المفاهيم كمفهوم الوصف وعدمه، أو في حدودها ومجالاتها، هذه مما تؤثر في اختلاف الآراء والفتاوى.

 

6 ـ الاختلاف في الموضوعات التي يهتم بها الباحث، ويحاول دراستها من خلال النص، وقد ذكرنا أن اختلاف كتب التفسير نشأ من اختلاف الموضوعات والمسائل أو الأسئلة التي يطرحها المفسر على القرآن الكريم ليتعرف على أجوبتها، حسب اهتمام المفسر، فربما يبحث المفسر عن رأي القرآن في بعض القضايا الاقتصادية أو السياسية، دون أن يهتم أو يتنبه لها مفسر آخر، وفي الواقع ليس هذا من الاختلاف في الآراء، لأن الاختلاف يتضمن موضوعا واحداً، تختلف فيه الآراء، وإنما هذا من اهتمام البعض بموضوعات وبحوث، دون أن يهتم بها الآخر، ولكن هذا السبب يدل على اختلاف المفسرين أو العلماء في الموضوعات التي يبحثون عنها.

 

وهناك عوامل اُخرى لاختلاف العلماء، يطول البحث لو بحثنا عنها بصورة موسعة، وإنما نشير إليها إشارة عبارة فحسب، فبعض هذه العوامل ربما كانت سلبية بل ومرضية أو متعمدة، يلزم على الباحث تجنبها لأنها من التفسير بالرأي، أو التفسير اعتماداً على الظنون غير المعتبرة أو أنها خاضعة لأهواء الباحث وأمثالها، مع التأكيد بأنها حالات جزئية عند بعض الآراء والقليل من الباحثين، ولكن يمكن التجرد الموضوعي عنها، وخاصة مع التنبه لها، كما تجرد عنها الكثير من علمائنا، فربما خضع البعض لقبلياته، أو ظروفه الزمانية والمكانية في الاستنباط، أو رغباته وميوله، وأمثالها من المؤثرات، مما يؤكد علماؤنا على التجرد عنه مع إمكانه، فيما لو توجه الفقيه إليها، أو ذكر بها، كما رأينا العلماء يتراجعون عن بعض آرائهم حين يكتشفون خطأها، أو خضوعهم لبعض المؤثرات شعوريا أو لا شعوريا، ونشير إلى بعض هذه العوامل بإيجاز، لأجل التذكر بها فحسب والبعض منها سلبية يلزم تجنبها:

 

1 ـ فربما كان السبب عدم استيعاب القواعد اللغوية والأدبية، أو عدم الاهتمام بها. أو عدم الاستفادة من الأساليب العامة للكلام التي تشمل جميع المتكلمين. أو الخاصة ببعض المتكلمين، كزعماء الاُمم والأديان، إذ ربما لهم أساليب خاصة في الكلام من استعمال الخاص أو المقيّد المنفصل أو الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والتورية، أو التقية، وأمثالها، مما لا يستعملها سائر المتكلمين، لذلك لابد من معرفة قواعد الكلام وأساليبه العامة والخاصة، من حمل المطلق أو العام على المقيّد والخاص، أو معرفة جهة النص، وأنه للتقية أو لبيان المراد الجدي، وكذلك التعرف على الكثير من القواعد والأساليب التي توصل الباحث للمراد الاستعمالي أو الجدي، وقد ذكرها علماؤنا في الكثير من بحوثهم، وخاصة في الفقه والاُصول والدراية والرجال، والتزموا بها عمليا في بحوثهم، ولكن ربما البعض لا يهتم أو لا يعترف بها، ولذلك يقع في الكثير من الأخطاء ويؤدي لاختلافه مع غيره.

 

وفي رواياتنا يلاحظ، التأكيد على ضرورة تعرّف الفقيه على هذه الأساليب العامة والخاصة، وأنه لا يعد الفقيه فقيها حتى يعرف معاريض كلامهم ولحنه والبحث بتوسع في محله، وأشرنا إليه في المقالات السابقة، فراجع(3). وهذه كلها أساليب وطرق عقلائية وعرفية يستخدمها العقلاء في فهم أقوال عموم المتكلمين، أو في فهم أمثال هذا المتكلم الخاص، حيث أنه ليس للشارع طريقة اُخرى في كلامه وتفهيم مراده، غير تلك الطرق العرفية والعقلائية.

 

2 ـ وربما اختلفت آراء العلماء والمفسرين في منهج التفسير، لعوامل دفعتهم لذلك، فيؤدي ذلك لاختلافهم في الفهم والرأي.

 

أ ـ فقد يعتمد المفسّر على التفسير التجزيئي للقرآن الكريم، لا الموضوعي، مع أن التفسير الموضوعي أكثر اعتباراً، بأن يلاحظ مجموع الآيات في الموضوع الواحد، ويحاول تفسيرها، بينما المفسّر التجزيئي يلاحظ الآية الواحدة مستقلة عن سائر الآيات، ويحاول تفسيرها، لذلك ربما اختلف تفسيره عن المفسّر الموضوعي.

 

ب ـ وربما اختلف المفسرون في مدى الاعتماد على العلوم الخارجة عن النص، وهو يؤدي لاختلاف التفسيرات، فالبعض يدعو لتفكيك القرآن الكريم والسنّة الشريفة عن العلوم العقلية والفلسفية في مجال تفسيرها، بينما البعض يؤكد في تفسيره للقرآن على الاعتماد أكثر على الأحاديث وظواهرها، ولكن هناك من يعتمد على العقل والأدلة العقلية كالمعتزلة في التفسير، لذلك رأينا بعض كتب التفسير اقتصرت على ذكر الأحاديث التي تفسر القرآن الكريم وبعضها اشتملت على الأدلة العقلية أو جمعت بينهما.

 

3 ـ وربما لاحظ البعض في تفسيره للنص ظروف صدوره، كما يلاحظ شأن نزول الآية، وظروف صدور الرواية، وبعضهم لا يلاحظها، وهذا يؤثر كثيراً في اختلاف الفهم والتفسير، فالسيد البروجردي يرى ضرورة دراسة ظروف صدور الرواية، والآراء الشائعة آنذاك، لأن الرواية ناظرة لها، وربما توصل لتفسير يختلف كثيراً عن تفسير من لا يرى أهمية لدراسة ظروف الرواية، فيتوصل إلى موضوع لحكم الرواية أوسع أو أضيق.

 

4 ـ وربما اختلفت الآراء في نظرة المفسّرين للغة النص واُسلوبه، فبعضهم يرى بأن لغته عرفانية، فيفهم منه معاني عرفانية باطنية، وبعضهم يرى بأن لغته لغوية أو عرفية، فيكون له فهم آخر، وهذا ما يلاحظ في تفسير البعض للآيات والأحاديث الشريفة.

 

5 ـ وربما لا يتوجه البعض للمعاني المجازية والكنائية التي يقصدها النص، مع اعتماد الكاتب الأساليب البلاغية والأدبية، كالكناية والمجاز كما هو في القرآن الكريم، حيث إن من عناصر إعجازه بلاغته، فلا يعبر عن مقاصده دائما بالتعبيرات المباشرة.

 

6 ـ وربما نشأ الاختلاف من عدم التمييز بين الظهور الشخصي والنوعي أو الموضوعي العرفي للنص، وقد ذكرنا الفرق بينهما في مقال سابق، وأن الحجة هو الظهور النوعي لا الشخصي، وأنه يمكن تحصيله، وكيفية الوصول إليه(4)، ولكن ربما يشتبه الأمر على المفسّر، فيحصل في ذهنه ظهور من النص، فيتوهم أنه ظهور عرفي، مع أنه من الممكن أن يكون ظهوراً شخصياً وجد في ذهنه لبعض العوامل الشخصية المختصة به، أدت إلى اختلاف فهمه وظهوره عن فهم غيره للنص، وهذا يؤدي لاختلاف التفسير.

 

7 ـ وربما نشأ الاختلاف من اختلاف المصادر التي يعتمدها المفسرون. فالشيعة تعتمد روايات الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ بينما بعض المذاهب الإسلامية لا تعتمدها، وهذا يؤدي للاختلاف.

 

8 ـ وربما كان لبعض الأطماع والأهداف الدنيوية والشيطانية تأثيرها في حمل النصوص الإسلامية من الكتاب والسنّة على بعض المعاني التي يتوصلون من خلالها لأطماعهم، وبذلك ربما وجدت بعض التيارات والمذاهب اعتماداً على هذه التفسيرات، فنلاحظ أن الأمويين شجّعوا المذاهب الجبرية والمرجئة تبريرا لممارساتهم، وكذلك غيرهم من أصحاب الأطماع والتيارات المنحرفة.

 

وربما كانت هناك عوامل اُخرى لاختلاف تفسيرات العلماء وآرائهم، فبعضها سلبية، وبعضها جزئية ضئيلة يمكن تجنبها.

 

وأخيراً نؤكد، أن الكثير من التفسيرات للنصوص والمسائل الإسلامية متفق عليها بين المسلمين، وإنما الاختلاف في بعض النصوص والمسائل، مع الاعتقاد بأن الحق والواقع واحد غير متعدد.

 

وأن هناك بعض الأساليب والعوامل المنحرفة الدخيلة في تفسير النصوص، لم يتقبلها أكثر العلماء، ولم يخضعوا لها في تفسيرهم، ودعوا لتجنبها مع الإمكان. الهوامش

(1) أنوار الاُصول 1: 340.

(2) رسالة الثقلين العدد 33: 123.

(3) رسالة الثقلين العدد 32: 60، مفاهيم معاصرة في الميزان.

(4) رسالة الثقلين العدد 32: 67 حول الدراسات المنهجية للعلوم الإسلامية. المصادر

اعتمدت في هذا المقال على مجموعة من الكتب والمقالات، سواء في فهم الآراء أو ردّها، ونقلت الكثير من نصوصها، وأذكر هنا بعضها مما اعتمدته أكثر من غيره:

1 ـ تفسير الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي.

2 ـ مباني معرفت ديني، باللغة الفارسية، محمد حسين زادة،1379قم.

3 ـ مدخل جديد إلى الفلسفة، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت. 1975.

4 ـ تاريخ الفلسفة المعاصرة، بوخينسكي، مؤسسة الفرجاني، الطبعة الاُولى.

5 ـ إشكاليات القرّاء وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، الطبعة الخامسة 1999. وقد اعتمدت هذا الكتاب في التعرف على النظريات الحديثة في الهرمنيوطيقا ونقلت بعض النصوص منه.

6 ـ مدخل إلى الفلسفة، الدكتور إمام عبد الفتاح إمام.

7 ـ شريعت دراينه معرفت، الشيخ عبد الله الجوادي الآملي.

8 ـ خلاصة علم الاُصول، السيد هاشم الهاشمي، مخطوط.

9 ـ هرمينوطيقا النص المقدس، مجلة البحوث الإسلامية باللغة الفارسية العدد 15 ـ 16.

10 ـ ضروري الدين، السيد هاشم الهاشمي، مجلة رسالة الثقلين العدد 36.

11 ـ أنوار الوصول، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

12 ـ مفاهيم معاصرة، السيد هاشم الهاشمي، مجلة رسالة الثقلين، العدد 33.

13 ـ الهرمنيوطيقا، المقتضيات والنتائج، الدكتور أحمد البهشتي، قضايا إسلامية معاصرة.

14 ـ اُصول الفلسفة، السيد محمد حسين الطباطبائي.

15 ـ محاضرات في اُصول الفقه، تقريرات السيد الخوئي.

16 ـ مدخل في علم الاُصول، السيد هاشم الهاشمي.

17 ـ حول الدراسات المنهجية للعلوم الإسلامية (في البحث عن فلسفة الفقه ودلالة النصوص) السيد هاشم الهاشمي، رسالة الثقلين، العدد 31 ـ 32.

18 ـ هرمنوتيك مدرن: مقالات في الهرمنيوطيقا المعاصرة ـ لمجموعة من علماء الغرب (أمثال هيدجر وغادامر وريكور وفوكو وغيرهم) ـ مترجمة إلى اللغة الفارسية.

 

المصدر: الجامعة الإسلامية

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-ikhtilaf/2010-04-26-1191.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك