في أسس الحوار بين الأديان

في أسس الحوار بين الأديان

محمد حسين فضل الله

لم يعد بالإمكان – في هذا العصر – تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات ان تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر، بطريقة وبأخرى.

وفي هذا المجال، نجد أن الواقع المعاصر الذي بدأ ينفض يديه من الدين، أيّ دين، بفعل حركة الحضارة المادية التي تثير في الذهنية العامة للإنسان الكثير من المفاهيم المادية البعيدة عن الله والايمان، هذا الواقع يؤكد ان مسألة الحوار بين الأديان ترقى الى مستوى الضرورة التي ينبغي ان تقابل بالجدية اللازمة.

نحاول ان نطرح عدة نقاط أساسية، نعتبرها منهجية في جدية أي حوار، خصوصاً اذا كان في مستوى حوار أديان ينبغي لها أن تحكم حركة الإنسان من مبدئه الى آخرته. 1- لا إيمان دون حوار:

 

في النظرة الإسلامية، لا إيمان من دون حوار، لأن الإيمان يبدأ من حديث الإنسان مع ذاته، في حركة التفكر الداخلي، حيث يدور الجدل بين احتمال واحتمال، وفكرة وفكرة، بين النفي تارة والإثبات أخرى، حتى يتكامل صنع الانسان لعقيدته، التي تتحدد على ضوء قناعته بما يرى انه يمثل الحقيقة.

 

واذا كان الحوار الذاتي السابق يدور في عالم العقيدة، فإن ثمة حواراً داخلياً آخر، يتمحور حول تركيز التزام الانسان الديني واستقامته عليه، وذلك عندما يدور التجاذب بين منطق العقل ومنطق العاطفة، وبين نقاط الضعف ونقاط القوة، امام كل المثيرات والمغريات التي تدفع الانسان الى ما يضاد قناعاته، على مستوى العمل.

 

وبكلمة موجزة: إن الايمان ينطلق من حركة حوار تديره الذات مع نفسها، هدفه هو الوصول الى وحدة الانسان في قناعاته العقيدية والتزاماته الفكرية والعملية، فلا يبقى يتحرك في ازدواجية تجعله يتحرك بين الشيء ونقيضه، في عملية اهتزاز فكري وحسيّ وعاطفي، ما يسلبه الطمأنينة والأمن والاستقرار الذي يحتضن الايمان. 2- الايمان حركة في العقل:

 

إن المنطق المتقدم يجعلنا نصل الى حقيقة دينية أصيلة، وهي ان الإيمان حركة في العقل، وليس فوقه، حتى الماورائيات الغيبية، لا بد من رصد وجودها وإثباتها بالعقل اولا، وإن كان العقل لا يتمتع بالقدرة على معالجة ما فيها من مفردات، لأنه لا يملك وسائل اكتشافها ذاتياً. تماماً كما هي الفلسفة، قد لا تستطيع من خلالها معرفة كنه الجوهر، ولكنك تستطيع ان تشير اليه.

 

إن الانسان مؤمن بما يعقل، ولو في بعده الإثباتي، لأن العقل هو الميزان بين الحقيقة والخيال والوهم، وقد ورد في أدبياتنا الاسلامية – على نحو المثل - : "لما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت أعز عليّ منك. أما إني إياك آمر وإياك انهى، وبك أثيب وبك أعاقب". 3- فهم الدين بشريّ:

 

مع الإذعان بأنّ الأنبياء معصومون عن الخطأ في تبليغ رسالتهم، كما ان فهمهم للرسالة ينطلق على عين الله سبحانه وتعالى، إلا أن فهم الدين لا يمثل الا وجهة نظر المجتهدين في تلمس حقائقه الموضوعية، ما يجعل من الطبيعي ان نجد الاختلافات الاجتهادية في فهم الدين، والتي تمخضت عن مذاهب لم يسلم منها أيّ دين، وقد قال تعالى في القرآن الكريم: (ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك، ولذلك خلقهم).

 

على ضوء ذلك، وما تقدم من مسألة خضوع الإيمان للعقل، فإن للدين – المنتج اجتهادياً - وجهة ثقافية يمكن لأيّ إنسان أن يتخصص فيها، ويدخل في حوار حولها. ولذلك، نجد ان الفكرة التي تقول بأن المسلمين أعرف بإسلامهم من غيرهم دائماً، وإن المسيحيين اعرف بمسيحيتهم من غيرهم دائماً، وأن اليهود أعرف بيهوديتهم من غيرهم دائما، وهكذا سائر الأديان، هي فكرة غير علمية وغير دقيقة، لأن نقاش الفكرة الدينية، في بعدها الثقافي، كنقاش أيّ فكرة، يخضع للموازين العلمية في الاستدلال على صحتها او خطئها، والتي ترتكز الى منهجية إنسانية عامة، ومفردات ثقافية معرفية تمثل أدوات مقاربة الموضوع.

 

ولعل ما أوجب ذلك النوع من احتكار أتباع كل دين لدينهم، هو الخلط بين البُعد الثقافي للدين والبعد الطقوسي العبادي، مما ليس الان مجال بحثه.

 

ما نود الاشارة اليه في هذه النقطة، هي فكرة الاحتكار المعرفي للدين، من شأنه ان يفوّت على الحقيقة فرص التلاقح الفكري، عبر الحوار، الذي يفتح فرص الاطلالة على أكثر من وجهة نظر في فهم الحقيقة، ما قد يشكل جزءاً في معرفتها، يمكن – في النهاية – ان تتكامل الأجزاء في تشكيلها لصورة واضحة المعالم، بدلا من استغراق كل فريق في جزء يحسب انه تمام الصورة.

 

ولعلنا نلمح هنا عظمة المنهج الحواري الذي ركزه القرآن الكريم للنبي محمد (ص)، وهو قوله تعالى: (وإنّا او إياكم لعلى هدى او في ضلال مبين)، حيث لم يطرح المحاور صوابية فكره وخطأ الفكر الآخر، بل على أساس فكرة مطروحة يتساوى فيها احتمال الخطأ والصواب، ما يعزز من فرص إدارة الحوار بأكبر قدر من الموضوعية العلمية التي تنشد الحقيقة من موقف حيادي، دونما أي تعقيد او تهويل.

 

ولذلك، نجد ان الحوار يمثل نوعا من التفكير بصوت مسموع أو مقروء. هذا هو جوهر دعوة الأنبياء للناس، والتي تريد منهم ان يدخلوا في مناقشة جدية لما يطرحونه من أفكار، في الوقت الذي كانوا يواجهون الفكر بالسباب والسخرية والاضطهاد والأفكار المسبقة. 4- لا محرمات في الحوار:

 

إذا خلصنا الى ان الايمان هو فعل حوار عقلاني، فمن الطبيعي ان لا يكون هناك محرمات او مقدسات في الحوار. وقد لمسنا هذا الامر في القرآن الكريم الذي ذكر كل المفردات التي اتهم بها النبيّ محمد (ص) في شخصه ورسالته، ثم عالجها بكل جدية وموضوعية: هل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبيّ؟ كاذب أم صادق؟ قرآنه من صنع البشر أم إلهي؟

 

ولذلك، فإن على أيّ حوار – إذا كان ينشد الموضوعية والعقلانية – ان لا ينطلق من مسبقات قداسوية، فإن التقديس ذاته لا بد ان يدل عليه العقل، بالدليل والبرهان. 5- تكامل الأديان:

 

في المفهوم الاسلامي، تمثل الرسالات السماوية حركة تكاملية تصاعدية في بناء الحضارة الانسانية، أساسها التوحيد: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). ولذلك، كان كل دين مصدقاً للدين السابق، ومكملا لما فرضت الظروف تعديله أو تغييره. وعلى هذا الأساس كانت نسبة الدين الى الله واحدة، وقد قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكُتُبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا واليك المصير). وهذا ما يفترض – بالضرورة – وجود مقاصد مشتركة للأديان، لا بد للحوار من أن يخدم تلك المقاصد الرسالية الدينية العامة، والتي تقدم – بدورها – خدمة جليلة للحضارة الانسانية، في وقت بقي فيه الحوار بين الأديان على السطح، وفي إطار المجالات التي تمنع من التحرك بواقعية. 6- أسس الحضارة:

 

نرى ان الحضارة في بعدها الانساني تقوم، في امتدادها الفكري والعملي، على أساس العناصر التالية:

 

أ- احترام الانسان للانسان. وفي هذا المجال، ركّزت الأديان جميعاً على الكرامة الإنسانية، إذ كان الهدف من كل الرسالات السماوية هو هداية الانسان الى الطريق المستقيم الذي يرتفع بمستوى إنسانيته الى أن يكون أفضل من الملائكة في طُهرها وصفائها. وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم: (ولقد كرّمنا بني آدم).

 

ب- تفاعل البشر في طاقاتهم ونتاجهم، والذي يمثل سيرورة طبيعية لوجود الانسان على الأرض. وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم).

 

لا بد ان تخاطب الحضارة، في كل اهدافها وحركتها ونتاجها، في الانسان كل ابعاده، اذ نعتقد ان الانسان يمثل ذلك التفاعل المميز بين المادي والروحي، فهو "قبضة من الطين ونفخة من روح الله". واذا كان الدين نزل لخدمة الانسان، ولم يوجد الانسان لخدمة الدين، فان الحضارة لا بد ان تسير في هذا الاتجاه. وان الحضارة التي تختصر الانسان في بعد واحد هي حضارة تبعد الانسان عن الحياة او تغرقه في اتون الغريزة الجموح.

 

الايمان بالعقل الذي هو الاساس لصناعة الفكر وابداعه، وانتاج العلم، والذي يتحرك بين مصدرين: التفكر والتجربة العملية. وفي هذا المجال نجد ان الدين لا يتنكر للعلم وابداعه، وقد اكد القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: "(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، انما يتذكر اولو الالباب) (سورة الزمر، الآية 9)، واعتبر ان حركة انتاج العلم والمعرفة هي حركة تصاعدية، وهو ما اكده الله سبحانه لنبيّه محمد (ص) في قوله تعالى: (وقل رب زدني علما) (الآية 114). وقد أوجبت الشريعة الاسلامية على الناس ان يتحركوا في خطوط العلم التي يتوقف عليها نظام المجتمع في جميع المستويات. ولو تحرك الناس في علم واحد، لما استطاعوا ان يصنعوا للحياة نظامها. ولذلك كانت حركة انتاج العلم – انسانيا – هي حركة تكاملية التي تتكامل فيها الشعوب والمجتمعات والحضارات.

 

**********

 

على اساس كل ما تقدم، نرى ان من الضروري لحوار الاديان، كما لكل حوار انساني حضاري، ان ينطلق من المقاصد والنقاط المشتركة الآتية، في عملية صناعة الخطط والبرامج التي تتجلى فيها النقاط المشتركة في سبيل انسنة بناء الحضارة على قيم الدين ورسالته.

 

اولاً: التوحيد ضد الالحاد والشرك

 

طرح القرآن الكريم عنوانا للكلمة السواء بين الاديان السماوية: (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا).

 

اننا نعتبر ان عنوان التوحيد ينبغي ان يحكم حركة الاديان في مواجهة المادية الملحدة التي تجعل الانسان سلعة مادية تتحرك على اساس الغريزة بعيدا عن العقل، والدنيا بعيدا عن الآخرة، والمادة بعيدا عن الروح.

 

على ان التوحيد لا بد ان يحكم الفكر، فلا يُتبنى اي فكر للشرك فيه مكان، والعمل، فلا يؤخذ بأي وسيلة من وسائل التعبير التي تلتقي بالشرك. ومن خلال ذلك تُطرح مسألة الحرية في كل قضايا الانسان المرتكزة على عبوديته لله دون سائر البشر.

 

وأننا – في هذا المجال – نرى ان من عناصر فاعلية المواجهة تلك ان يفرض الدين نفسه في الحياة المعاصرة، وذلك على اساس ما اثرناه سابقا، من ان فهمنا للدين بشري، اي هو في معرض الصواب والخطأ على حد سواء، وما اكدنا من دور العقل في الايمان، ما يعني ضرورة ابقاء باب الاجتهاد في فهم الدين مفتوحا، حتى لا يصبح الدين عاجزا عن معالجة قضايا كل عصر، وبالتالي يكون في واد والناس في واد آخر، او يضطر معه الانسان في ازدواجية بين الدين والحياة.

 

ولعل الحوار الموضوعي بين الاديان، من شأنه ان يوجد ارضية خصبة لتلاقح التجارب في علاج الدين، اي دين، لمشكلات المجتمع في اي عصر، ما يؤسس لاغناء التجربة الدينية الحضارية بشكل مؤثر وفاعل.

 

ثانيا: العبودية لله في مواجهة الاستكبار

 

العنوان الثاني الذي طرحه القرآن الكريم كقاعدة لحوار الاديان: (ولا يتّخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله) (سورة آل عمران، الآية 64)، بأن، لا يكون الانسان مستعليا ومستكبرا على الانسان، مهما علا شأنه وتضخمت قوته وامتدت سلطته، لأن ذلك كله لا يرفعه الى درجة الربوبية.

 

وعلى هذا الاساس، فان للأديان دورا كبيرا في حماية الانسان، من ان يتحكم في حركته ومصيره كل اشكال الاستكبار، سواء كان سياسياً أو أمنياً أو اقتصاديا أو اجتماعيا، حتى لو كان بلباس الدين نفسه، لأن الارتكاز على العبودية المطلقة لله تفرض كل ذلك.

 

وهذا ما نجده اليوم، عندما باتت القوى المستكبرة، من دول وغيرها، تحاول ان تتجه بالانسانية الى قيم النفعية والمصلحية الذاتية بعيدا عن القيم.

 

ثالثاً: القيم قاعدة البناء الحضاري

 

ان القيم الاخلاقية التي تحركت الحضارات في تركيزها على مستوى القواعد والقوانين والشرائع هي قيم دينية الجذور والمنشأ، لأن مصدرها هو الله. لذلك نجد ان مسؤولية حوار الاديان هي التخطيط لحماية القيم من ان يتم تشويهها في حركة البناء الحضاري، لأننا نعتقد ان ابتعاد القيم الدينية عن الحضارة، وخصوصا الحضارة الحديثة، هو جريمة كبرى بحق الانسانية طالما ان الدين هو لخدمة الانسان في دنياه وآخرته.

 

ولا بد من التركيز هنا على اهمية دخول القيم في عالم المكتشفات العلمية، لأننا اذا كنا نرى ان الدين يشجع على العلم والاكتشاف، فاننا نعتبر ان عدم احتكامه الى القيم الاخلاقية والروحية من شأنه ان يساهم في تحويل العلم الى عنصر تدمير للحضارة الانسانية بدلاً من اعمار الحياة.

 

واننا نرى اليوم ان حلول قيم الاستهلاك والاحتكار محل القيم الدينية التي تحض على التعاون والعطاء، بدأ ينعكس على كل البشرية، من خلال الخلل الذي بدأ يصيب البيئة الطبيعية والتنمية الانسانية الشاملة من خلال استغلال مقدرات الأرض للانسان كله.

 

وفي هذا الاطار، لا بد من ادارة الحوار حول القيم الدينية الروحية والاخلاقية في الاديان السماوية، في طبيعتها من حيث المفهوم، وفي حدودها العملية الواقعية، بهدف الوصول الى نظام اخلاقي مستمد من الاديان السماوية، الامر الذي قد يجعل التربية الاخلاقية الدينية في نطاق موحد في ما تتفق فيه، ويتابع الحوار فيما تختلف فيه، في حدوده الواقعية والايحاءات الروحية، انطلاقا من الفكرة التي اشرنا اليها سابقا، وهي ان الاجتهاد الديني في كل دين ليس حكرا على اتباعه.

 

وتجدر الاشارة هنا الى ان فاعلية الحوار حول القيم الدينية الروحية والاخلاقية تقتضي الدخول في التفاصيل الدقيقة في القضايا الاخلاقية، لأن الحديث المتكرر في العناوين العامة يضع المسألة الاخلاقية في نطاق العموميات التي لا تصنع وعيا عمليا في وجدان الانسان، وبالتالي عدم القدرة على فرض نفسها في عملية البناء الحضاري للانسان المعاصر.

 

رابعاً: اقامة العدل هدف الاديان

 

في المفهوم الاسلامي، بل والواقعي، تمثل اقامة العدل الهدف الكبير في ارسال الرسل وانزال الرسالات السماوية، وهذا ما نجده في قول الله تعالى في القرآن الكريم: (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (سورة الحديد، الآية 25). وعلى هذا الاساس يعتبر تحقيق العدالة الانسانية هدفاً مشتركاً لكل الاديان. وهذا ما يجعل الوقوف بوجه الظلم سواء اكان ظلم افراد ام جماعات ام دول، ضرورة وبديهة دينية عامة.

 

وفي هذا المجال نرى من اللازم العمل على ادارة الحوار حول تجليات الظلم في الواقع، من خلال عناوين الاحتلال والارهاب والاجرام، وضرورة استجلاء النظرة الدينية المشتركة تجاه هذه المفاهيم، من خلال مفهومي العدل والظلم، حتى لا يبقى عنوان العدل غارقاً في الضباب تجاه الواقع.

 

ومن الضروري هنا التدقيق في منشأ ما سمي بالتطرّف والارهاب، بين الدين وبين البيئة والظروف المحيطة التي أنتجت وسائل عامة ألقت بظلالها على المتدينين وغيرهم.

 

ولعل من أوضح الشعارات ما حكاه القرآن الكريم على لسان نبيّ الله موسى (ع): (ربّ بما أنعمتَ عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين)، وما أكده من الشعار: (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، (واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى)، (وإن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي).

 

خامساً: تنقية الدين من الشوائب

 

مما لا شك فيه أن نزول الدين الى عالم البشر من شأنه أن يتأثّر بحركة الانسان في انتاج الفكر والسلوك، والتي تتداخل عندها عناصر ثقافة الانسان الذاتية المتنوعة، وتاريخ الصراعات الدينية وغير الدينية، ما قد يساهم في أن يعلق بالدين ما ليس منه – في أصالته وعمقه ومفاهيمه الصافية -، وهذا ما يحتّم القيام بعملية مراجعة نقدية تحاول أن ترجع بالدين الى جذوره الصافية ومنابعه الاصيلة.

 

سادساً: الدين محبة

 

يبقى أن نشير الى أننا اذا درسنا الاديان فإننا نجد التأكيد في قيمة الانسان على المحبة، ذلك الشعور الذي تتمثّل فيه الايجابية الروحية والعملية في العلاقة بالآخر؛ لأن المحبة تعني النظر اليه من خلال انسانيته، في عناصرها التي تجذبه اليه، والتعامل مع سلبياته بطريقة لا تبتعد عن الرفق المرتكز على الخلفيات الكامنة وراء تلك السلبيات.

 

وقد جاء في التعليم المسيحي أن الله محبة، حيث ينفتح المخلوق على خالقه بالحب الذي هو سر الوجود والعناية واللطف والرحمة.

 

وفي الاسلام جاء أن الدين هو الحب، و"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، بما يمكن أن نتمثّله في مقولة: كن أنت الآخر، بحيث تتقمّصه في مشاعره السلبية والايجابية.

 

واذا كانت المحبة هي الطابع الذي يتمثله الانسان، فإن ذلك يجعله منفتحاً على الاعتراف بوجوده كما هو، واحترام فكره، واعتبار الاختلاف الفكري قضية انسانية يفرضها التنوّع في التجربة الفكرية والعملية، من دون أن ينطلق الانسان، في أي دين، من خلفية إلغائية.

 

هذا الامر، نلاحظه في الخط الاسلامي للدعوة الى الله والخير، والذي هو خط الاديان كلها، وذلك قول الله تعالى: (ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) (سورة النحل، الآية 125)، وفي توجيهه للحوار مع أهل الكتاب: (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن، الا الذين ظلموا منهم، وتولوا آمنّا بالذي أُنزل الينا وأُنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).

 

هذا بالاضافة الى الخط العام في تقويم السلوك الانساني الذي يتمثّل لدى النصارى تجاه المسلمين، من خلال أخلاقياتهم الروحية، وذلك في قول الله تعالى: (ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا أنّا نصارى، ذلك بأن منهم قسّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)، مما يوحي بأن الاختلاف في الانتماء الديني لا يمنع من تقدير الجانب القيمي في العلاقات الانسانية.

 

واذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن اليهود بشكل سلبي، فإن ذلك لا يتصل بالانتماء الديني لليهودية؛ لأن اليهودية دين الله الذي أنزله على نبيّه موسى (ع)، بل من خلال السلوك السلبي المتمثل في أخلاقياتهم وعلاقاتهم بالآخرين.

 

ولكن القرآن – مع ذلك – يؤكد على المسلمين ان يأخذوا بالمسالمة العامة مع كل الفئات المسالمة، من كل الناس الذين يختلفون معهم، وذلك بالأخذ بأسباب العدل، في معاملاتهم وعلاقاتهم العامة والخاصة، وبالاحسان اليهم في المعاشرة، وذلك هو قول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم، إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة، الآية 8)، أما الذين يمارسون العدوان بالقتل والتشريد ومساعدة الاعداء، فلهم وضع آخر، باعتبار أن الامر عندئذ يتمحور حول الدفاع عن النفس، وذلك هو قول الله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (سورة الممتحنة، الآية 9).

 

وفي ضوء ذلك، فإن هذا الموقف الدفاعي، مقارناً بكل الآيات التي أمرت بالانفتاح على الآخر، نجد أن مسألة الجهاد في الاسلام ليست مسألة عدوانية قائمة على اساس الاختلاف في الدين او الرأي، بل هي مسألة وقائية في حالة، ودفاعية في حالة اخرى، خلافاً لما يفهمه البعض، حيث يفسّرون الجهاد بطريقة سلبية. ولعل الدراسة الدقيقة لتاريخ الحرب في حركة المسلمين توحي بذلك.

 

مع ملاحظة مهمة، وهي أن التاريخ الاسلامي لا يمثّل العصمة المطلقة في كل مواقعه، كما هو شأن تاريخ سائر الاديان. وعلى أساس ذلك، فمن الممكن أن تقع الاخطاء او الانحرافات عن الخط المستقيم، مما قد يعترف به الباحثون المسلمون في دراستهم للحروب الاسلامية في الماضي. (*) كلمة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله والتي كان سيلقيها نجله السيد علي فضل الله في مؤتمر حوار الاديان في العاصمة القطرية – الدوحة.

(*) ملاحظة: امتنع الوفد الذي يمثل سماحته عن حضور المؤتمر بعد دعوة شخصيات اسرائيلية

 

المصدر: جريدة النهار (لبنان)- 10/07/2005

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1580.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك