في منهج الحوار وفي العلاقة بين الغرب والمسلمين

في منهج الحوار وفي العلاقة بين الغرب والمسلمين

منير شفيق

يواجه الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي وضعاً جديداً لم يسبق لهما أن واجهاه في عهود دولة الخلافة ذات السيادة العالمية ، والتي عرفت ازدهاراً عظيماً في ميادين الفقه والعلوم والفكر.

 

ومن ثَمّ فإن كثيراً من الأحكام الفقهية والآراء الفكرية ، التي سادت في تلك العهود ، لم يعد من الممكن للمسلمين تطبيقها إلا في حالات تكاد تكون نادرة. فعلى سبيل المثال : حكم الهجرة من دار الشرك أو الكفر إلى دار الإسلام.

 

بل يمكن القول أن ما نواجهه اليوم من إشكالات يحمل درجة من الخصوصية والاستثنائية لم يسبق لها مثيل ، حتى فيما بين الحالات التي تبدو متشابهة. فعلى سبيل المثال : سمة الدولة الإسلامية الراهنة تختلف عن سمة دولة الخلافة. ومن ثَمّ لا مفر من أن يُجتهد في أحكام فقهية تناسبها ، كما تناسب الظرف السائد والوضع العام للأمة.

 

أما إذا جئنا لبحث العلاقة بين المسلمين والغرب ، أو بين المسلمين وغير المسلمين عموماً ، لا سيما في البلدان التي يشكل فيها المسلمون أقلية فسنجد أنفسنا أمام سلسلة معقدة من الإشكالات. بل سنجد الإشكال الواحد منها ذا وجوه متعددة ، وكل وجه حمال أوجه.

 

وإذا جاز أن نتلمس بعضاً من تلك الإشكالات دون أن نستنفذها كلها في هذه العجالة ، فيمكن الإشارة إلى :

 

أولاً : يتسم الغرب ، لا سيما دوله الكبرى ، بحالة سيطرة عالمية شبه مطلقة على النظام العالمي والاقتصاد العالمي ، ناهيك عن المجالات المعرفية والتقنية والإعلامية والثقافية والفنية. فهنا سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية وإعلامية على الشعوب الأخرى ، لا سيما شعوبنا الإسلامية ، وإلى جانبها أو من ضمنها ثمة تفوق في مجال القوة ومصادرها المادية : من أسلحة وجيوش وتقنيات وعلوم وإعلام.

 

وهذا يعني أن العلاقة غير متكافئة ، ومن ثمّ فإن كل حوار سيبدأ من اللاتكافؤ ، إن لم يبدأ من خلال الصراع ويمر عبره. فالشعوب الإسلامية خاضت ألواناً من الصراع الطويل المرير والمتعدد الأوجه من أجل التحرر من ربقة الاستعمار المباشر ، الذي مارسته بعض الدول الغربية عليها. فالحوار مع الدولة الاستعمارية ما كان يمكن أن يمر إلا عبر الصراع.

 

على أن نيل أكثر الدول العربية استقلالها ، وسعيها لبناء علاقات إيجابية بالدول الغربية ، وفي مقدمتها تلك التي استعمرتها سابقاً ، لم يسفرا عن تغيير جذري للعلاقة السابقة.

 

فقد استمرت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة ، في هذه المرحلة ، بالمحافظة على جوهر العلاقاة السابقة ، أي : علاقة الدول الاستعمارية بالمستعمرات ، مع تغيير مستمر في الأشكال التي يتحقق من خلالها ذلك الجوهر. ومن ثمّ أحبطت أحلام العلاقات الإيجابية التي راودت قادة الاستقلال بالغرب ، لتجد الدول نفسها ، مرة أخرى ، تعاني من التبعية. وتواجه أمام كل قضية بالإملاء من جانب الطرف المتفوق. أي : كان على الحوار أن يعبر مرة أخرى من خلال ألوان جديدة معقدة من الصراع ، لأن علاقات تقوم على التبعية والإملاء هي ليست العلاقات المرجوة ، أو التي يمكن أن تدوم ، أو تكون مثمرة ومعبرة عن خير الجميع.

 

ولهذا يمكن الوصول إلى خلاصة مؤداها : أن العلاقة بين الدول الإسلامية والدول المسيطرة في الغرب ما زالت محكومة برؤية أحادية الجانب تفرضها الدول المسيطرة على تلك العلاقة. أما ما تفعله الدول الإسلامية فهي تقديم التنازلات تلو التنازلات ، والقبول بعلاقات غير متكافئة ، لكن دون أن يكون هنالك حدود لما تطلبه منها الدول المسيطرة من تنازلات ، ويكفي مثلاً صارخاً على ذلك قضية فلسطين ، أو مسألة القدس ، أو احتلال الجولان وجنوبي لبنان ، أو مشروع بيريز للشرق الأوسط ، أي مشروع إقامة نظام شرق أوسطي تحت الهيمنة الإسرائيلية.

 

ومن هنا وجدت الدول الإسلامية عموماً والعربية منها على الخصوص ، والمنخرطة في عملية التسوية على أخص الخصوص ، نفسها مضطرة لخوض ألوان من الصراع لكي لا يهبط سقف التنازلات أكثر فأكثر بلا حدود ، حتى لا يتبقى للطرف الآخر أي حق أو أية مصلحة ، أو حتى بقية من ماء الوجه. ولهذا تتسم العلاقة الآن بطلب ملح من الجانب الإسلامي والعربي لفتح حوار إيجابي يحقق الحد الأدنى من الحقوق والمصالح والعدالة له ، بينما يُرفض ذلك من الجانب المسيطر رفضاً ، ويأبى إلا الإملاء حتى حدوده القصوى.

 

بكلمة : إن الحوار الآن مأزوم بين الغرب - بزعامة أمريكا - والمسلمين. إنه مأزوم بداية على مستوى الدول الإسلامية والعربية البعيدة كل البعد عن اتهامها بالأصولية ، أو بالقومية التحررية ، والقريبة كل القرب من التغريب : سياسة وأيدولوجية وثقافة وإعلاماً ، والحريصة كل الحرص على بناء علاقات بالغرب ولو على درجة عالية من الإجحاف بحقوقها ومصالحها.

 

وبالمناسبة ، إن وجهاً من الأوجه التي نرمي إلى إبرازها هو أنه مأزوم على مستوى النُّخب ، على اختلافها ، فضلاً عن المستويات الشعبية والإنسان العادي. هذه الملاحظة هي : دفع المسؤولية عن الإسلاميين عموماً في كل ما يتعلق بمسائل الحوار مع الغرب حين لا ينشأ حوار أو حين يفشل حوار. فالكرة هي في ملعب الغرب. ولهذا من المهم جداً أن يكون الطرف الإسلامي مدعواً للحوار مع الغرب. وأن يكون داعياً لذاك الحوار. وألا يكون معرقلاً له. وإنما أن يكون له مسهلاً. ففي هذا الموقف انسجام مع أصل إسلامي يطلب من المسلم أن يبادر في الدعوة إلى الحوار ، وأن يخوض فيه بالتي هي أحسن ، كما أن ثمة كسباً سياسياً حين يكون الموقف العادل إلى جانبك ، ويكون الطرف الآخر هو الذي يريد العداوة والتأزيم ويفرض المواجهات. كما أن في هذه المواقف تفهماً عميقاً لأوضاع عالمنا وموازين قواه وما يحتاج إليه من حلول لإشكالاته ووسائل لتحقيق تلك الحلول. ثانياً : في مفهوم الحوار:

 

يُظن أن الحوار يعني : التنازل مسبقاً ، أو لاحقاً ، عن الثوابت والمبادئ بينما لا يتضمن ذلك بداية أو نهاية. لأن التنازل عن المبادئ والثوابت يعني توقيع شروط الاستسلام من قبل مهزوم في الحرب ، وقد سلم بهزيمته النهائية. الأمر الذي هو نقيض للحوار المستهدف أن يدخل طرفان في جدال أو نقاش حول ما هم يختلفان فيه بديلاً من الحرب والفرض بالقوة والإكراه. وإن كان من غير الصحيح أن ثمة حواراً لا يرتكز بصورة مباشرة ، أو غير مباشرة ، إلى الحرب وميزان القوى. على أن العقلانية هنا تسعى لأن يحقق الحوار جزءاً من الأهداف بدلاً من تحقيق أكثر منها عبر الحرب والدماء. لأن الخسائر في الحرب ، حتى لو كللت بنجاح كبير أو صغير ، قد تكون باهظة إلى حد ما تحقق زيادة على ما يمكن أن يحققه الحوار.

 

على أن ما يراد بالحوار بين المسلمين والغرب الآن هو ليس حواراً في العقائد والأهداف والمبادئ ، وإنما هو في البحث عن تعايش وعن تعاون لتحقيق مصالح متبادلة ، وعن تنظيم للصراع والخلافيات دون سقف العنف والعداوة والقطيعة ، وإذا ما تحقق ذلك فإن أجواء أفضل ستتولد لمن يريد أن يفتح حواراً في العقيدة والمبادئ أو أن يمارس دعوته. أما الذين يقدمون هذه على الحوار من أجل التعايش والتعاون وعلاقات إيجابية فكأنهم يوصدون الأبواب بأيديهم أمام دعوتهم. لأن الدعوة لا تصل القلوب حين تكون الأجواء مسمومة والعداوة والعصبية والحرب الكلامية أسياد الموقف.

 

والآن : إذا قُبل هذا التحديد لمفهوم الحوار وغاياته ، فإنه يعني - فيما يعنيه - القبول بالآخر كما هو ، واحترام خياراته ، دون الموافقة عليها ، والسعي للتعايش وإياه والتعاون معه حيثما أمكن التعاون ، وتجنب نقاط الاشتعال والعداوة والعنف والقهر. وهو موقف يجب أن يراعى ، في عصرنا الراهن ، أشد مراعاة سواء أكانت الحالة الإسلامية غالبة في مجتمعها أم كانت أقلية في مجتمعات غير إسلامية. لأن من سمات عالمنا أنه أصبح كما يسميه البعض قرية صغيرة ، ومن ثَمّ ما من جزء إلا ويتأثر سلباً وإيجاباً بما يجري في أي جزء آخر.

 

الأمر الذي يفترض أن يحسب الأمر على أساس الموقف العام ، والمصلحة العامة ، وليس من زاوية جزئية محلية ضيقة ، كما أن عالمنا ضجر من القوى التي تطبق ازدواجية في المعايير. ويتطلع إلى مشروع حضاري يحمله قوم يعدلون ولا يزدوجون في معاييرهم.

 

أريد من هذا المدخل أن يساعد عند مناقشة وضع المسلمين الذين يعيشون في الغرب. ومن ثم بحث إشكالات علاقاتهم بالمجتمعات والحكومات الغربية.

 

لعل من الضروري بداية التفريق بين الإشكالات التي يواجهها المهاجرون أو المواطنون من أصول عربية أو إسلامية ، أو أفريقية أو أسيوية ، من قبل المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها ، أو من جهة سياسات الدولة إزاءهم ، لا سيما في هذه الظروف التي لم تعد الأيدي العاملة الأجنبية مطلوبة كما كانت من قبل ، بل أصبح ينظر إلى لمهاجرين في بعض الحالات بأنهم يفاقمون أزمة البطالة ويشكلون عبثاً على الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية ، وبين ، من جهة أخرى ، الإشكالات التي يواجهها المهاجرون الملتزمون بمسلكهم وحياتهم بشروط دينهم ، فضلاً عن اهتمام بعضهم بالدعوة أو بالشأن السياسي الذي يهم أوطانهم ، ولا سيما قضية فلسطين وقضية القدس أو الأراضي العربية الأخرى المحتلة ، أو ما يثار من تحريض ضد الإسلام والإسلاميين ، ومثلها الاتهام بالتعصب أو الإرهاب وغير ذلك بكثير. * إشكالات الجالية:

 

بالنسبة إلى الإشكالات الأولى فإن أطرافاً كثيرة من ممثلي الجالية المحددة ، بما في ذلك الدولة المتجذرة فيها ، ذوو علاقة بالموضوع ، ومن ثم لا بد من إيجاد نهج يوحد المواقف عند النقاط الأساسية ، أي : تهم مجمل المهاجرين المعنيين. وهذا ما يتطلب من القوى والأفراد والجمعيات الأكثر وعياً أن تبادر إلى اتباع سياسات لتوحيد الموقف وطرح النقاط المشتركة التي تهم الجميع ، دون أن تقحم الخلافيات الداخلية فتطغى. لأن ثمة مصلحة مشتركة للجميع في حل الإشكالات التي تواجه الجالية عموماً ، لا سيما فيما يتعلق بالقوانين التي يمكن أن تسن ضدها ، أو ما يمكن أن تتعرض له من مضايقات أو تمييز أو تضييق أو اعتداءات.

 

وهذه كلها طريقها الحوار ، ثم الحوار ، ثم الحوار ، سواء أكان داخل صفوف المهاجرين لتوحيد المواقف ومنع العداوات والصراعات الداخلية الضارة من كل الأوجه ، أم كان مع المجتمع المضيف من خلال المسلك العام ، أو عبر الحوار مع ممثليه ، أو كان مع السلطات المعنية.

 

هنا أيضاً لا بد من إبداء إيجابية عالية في الدعوة للحوار ، وفي إدارته ، وفي تحديد النقاط المشتركة ، وفي تجنب نقاط الاشتعال والمضرة والخلاف. وهو إذا ما نجح فسيعود بالخير على البلد المضيف وأهله ودولته ، كما يعود بالخير على مجموع المهاجرين ، ومن ثم يترك أثره الإيجابي على الدعوة نفسها ، كما على بناء حياة داخلية ملتزمة إسلامياً ، متعايشة مع الحالة السائدة غير متصادمة بها. * إشكالات تواجه الملتزمين إسلامياً:

 

أما على المستوى الثاني ؛ فيمس العلاقات بالمجتمع والدولةالمعنية ، بالنسبة إلى الملتزمين إسلامياً في مسلكهم وحياتهم ، كما بالنسبة إلى القوة الفاعلة سياسياً أو اجتماعياً أو دعوياً وذات مرجعية إسلامية.

 

هنا تزداد أهمية الإيجابية بالدعوة إلى الحوار الذي يستهدف التعايش والتعاون ، وسحب فتيل البغضاء والعداوة والتأزيم. وهو ما يحتاج إلى الإصرار عليه مهما وصل الاستفزاز من جانب بعض الأطراف المقابلة التي تستهدف دفع بعض القوى إلى طريق ردود الأفعال المدمرة والمتهورة والمسيئة ، وهو ما يتطلب التحلي بالآيات القرآنية التي تدعو إلى الصبر وكظم الغيظ والحكمة ، وعدم الاستجابة للاستفزاز ، والتحلي بالمواقف والمسالك التي تعلي من شأن المسلم وتنقل الصراع من ميدان الحرب إلى ميدان الحوار ، ومن ميدان الحمق والجهالة إلى ميدان الحكمة والعقل.

 

ولعل حسن توجيه الخطاب والحرص على عدم الازدواجية فيه ، وقطع السبيل على كل موقف أو مسلك يغذي تهم التعصب ، أو الانعزالية أو الإرهاب ، أو الابتعاد عن العصر ، يخدمان الإسلام والمصلحة العامة للمسلمين.

 

على أن من المهم أن يكون المنطلق أساساً حين تصبح مواطناً أو مقيماً هو الالتزام بتعهدك في احترام قوانين البلد الذي هاجرت إليه ، واحترام عادات أهله وتقاليدهم ، فكل وثيقة وقعت عليها وأنت تطلب الهجرة ، أو الإقامة أوالمواطنة ، هي بمثابة العهد { إن العهد كان مسؤولا } بل عندما تصبح مواطناً فإن عليك أن تنخرط في الحياة العامة ، وتتبنى سياسات من مرجعية إسلامية تحقق خيراً ومصلحة الناس والدولة. ولعل أولى درجات ما يجب أن تتقيد به هو أن تلتزم الحياد حين لا تستطيع أن تحدد موقفاً إيجابياً ، لكن في كل الحالات يجب أن ترفض الأفكار والسياسات التي قد تحولك إلى ما يشبه الطابور الخامس.

 

أما أعلى درجات الموقف الأفضل فهو : أن تتمكن من خلال مرجعيتك الإسلامية أن تتقدم باقتراحات وسياسات إذا ما نفذت تعود بالخير على البلد الذي أصبحت من مواطنيه.

 

إن نظرة متفحصة لوضع المسلمين في المجتمعات الغربية ، وما يحيط بهم من مؤامرات لتهجيرهم أو لتأزيم حياتهم واضطهادهم ، تفترض أن تعالج الإشكالات المختلفة التي تعترض حياتهم بأعلى درجات الفهم لها وللواقع المحيط بها ، وعندئذ يمكن للإسلام فقهاً وفكراً أن يعطي الإجابات الصحيحة عن مختلف الأسئلة. المهم : حسن قراءة ما يعترض من إشكالات وحسن قراءة الواقع المحلي في البلد المعني ، وحسن قراءة الواقع العالمي وواقع البلاد العربية والإسلامية عموماً. وإذا ما تحقق ذلك فستثبت المرجعية الإسلامية أنها أفضل ما يعطي الإجابات الصحيحة عن أسئلة عصرنا المختلفة. * الأستاذ منير شفيق : كاتب فلسطيني

¯ نص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ منير شفيق في الملتقى السنوي الثاني والعشرين بالمركز الإسلامي في آخن - ألمانيا

 

المصدر: مجلة الرائد العدد 205

http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1570.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك