من التدافع إلى التعارف
من التدافع إلى التعارف
أحمد العبادي
الحديث عن الحوار في القرآن هو حديث مبارك من شأنه أن يضع البشرية على سكة الفعل الحضاري المنشود الذي يجعل ولد آدم قادرين بالفعل على الإنجاز الذي من أجله ذرؤوا في هذه الأرض لكي يعبدوا الله عزّ و جلّ و لا يشركوا به شيئاً و لا تصدق فيهم رؤية الملائكة حين قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك .
الحوار آلية أساسية في السير قدماً بالبشرية نحو تحقيق مشروعها الكامل الذي يتحقق عبر الزمن .
الحوار مسألة ينثّ بها القرآن الكريم و ينبع من جميع أجزائه و أحزابه و سوره و سياقاته . و الحوار هو العملية التي تشكل المرقاة من مرحلة التدافع " و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " إلى مرحلة التعارف " و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا "
لقد عاش أقوام في الأدغال و تفقهوا في التعامل مع الأرض في جانبها المتوحش و اكتسبوا خبرة و حكمة بفعل عيشهم في هذه الأدغال . و هناك قوم فيهم كثرة في العدد – كاليابان – عاشوا في أرض ضيقة غير أليفة فهي تميد بهم و تكثر فيها الزلازل فاكتسبوا حكمة معينة بفعل عيشهم في ذلك المكان . و هناك آخرون عاشوا في مناطق باردة ، و آخرون عاشوا في مناطق حارة ، و آخرون عندهم التوابل و آخرون ليست عندهم ، و آخرون ينبت في أرضهم نوع من الخشب يمكنهم من صناعة العجلات و آخرون ليس عندهم ذلك ، و آخرون عندهم نوع من الدواب تختلف عن دواب غيرهم فهم يتعلمون من ذلك أشياء مختلفة ، فالتعارف إذن هي مسألة تمكن البشرية من تجسير الصلات فيما بينهم و تمكنهم جميعاً إن أرادوا و ابتغوا إلى ذلك السبل المناسبة و اللائقة من الإرتقاء من مرحلة التدافع إلى مرحلة التعارف .
حين يتحدث الله سبحانه و تعالى عن التدافع يتحدث عنه باعتباره سنّة لا تتخلف و جزء من طبيعة الإجتماع البشري ، لكن حين يتحدث عن التعارف يتحدث عنه بصيغة الأمر :
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا ً وقبائل لـتـعـارفــوا "
فاللام للعلة و الغائية ، فمن أدرك حكمة التنوع في الخلق و علته و غايته كان عليه أن يسعى لإمتلاك مقدمات و أخلاقيات التعارف الذي لا يمكن أن يتم بدون حوار .
وجاءت سورة الحجرات لتسجل كثيراً من آليات الحوار و مقدمات الحوار للوصول إلى التعارف .
لقد بدأت السورة بخطاب المؤمنين : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله . . . فادعاء امتلاك المعرفة و ادعاء امتلاك الحق بكل ما يحمله هذا الإدعاء من تبجح و تطاول ، يقطع الطريق على امكانية الفهم و التلقي عن الله و رسوله من ناحية ، و من ثمّ يمنع بدء أي حوار جاد ، و أي جدوى من الحوار و الحديث مع من لا يعرف التواضع و لا يفتح قلبه للفهم و لا يعترف للمخالف بإمكانية الصواب ؟
و أما خفض الصوت فإذا كان من ناحية يعبر عن احترام مقام القيادة و مقام النبوة فإنه بلا شك يمثل في مجال التواصل خلقاً حضارياً ينأى بالمتحاورين عن هياج المشاعر و العواطف و يعينهم على التركيز على المعاني و الحجة و البرهان و نقاط الإتفاق .
و لا يخفى ما لخلق الصبر و الروية و عدم الإستعجال من أثر على امتلاك مقدمات التحاور و القدرة على الإستماع و الفهم .
و أما منهجية التثبت و التحقيق و عدم الجري وراء الإشاعات و الظنون ، فهي في حقيقتها الركيزة الأساسية للمحاورة و التواصل و تبادل الآراء و تقليب وجهات النظر . فمنهجية التثبت و التحقيق تزرع الثقة وتساهم في هدم الحواجز بين المتحاورين لتأخذ عملية الإقناع و البيان مداها .
و تأتي التوصية بمحاولة الإصلاح و الإنحياز للعدل و مواجهة البغي لتؤكد على امتلاك العقلية القادرة على التبصر في حقائق الخلاف بين الناس و تحري إمكانيات تحقيق العدل والقسط ، و لا يخفى ما لهذه العقلية من أثر كبير على امتلاك مهارات المحاورة و الإتصال .
ثم تأتي الإدانة للسخرية و التهكم و اللمز و التنابز بالألقاب لتضع الإحترام المتبادل كأساس للتواصل و الحوار و المناقشة بعيداً عن آليات التكبر و العجب و آليات استخدام اشعاعات الحرمان ضد الأفكار و الأشخاص .
حتى إذا وصل السياق إلى ذم الغيبة – و الغيبة هي ذكر أخيك بما فيه مما يكره – شبهها بأكل اللحم الميت " لا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " لكي يصل بالبشرية تربية بخصوص الغيبة إلى درجة من القرف و النفور تشبه النفور من اللحم البشري الميت . و هذه مرحلة و مستوىً لا يمكن بلوغه إلا إذا اُخذت النفس بالتربية الصارمة و بالتدريب الجادّ .
إن تجاوز مرحلة التدافع إلى مرحلة التعارف لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الآليات التي استعرضتها سورة الحجرات كمقدمة للتعارف و مقدمة للحوار الذي يمثل الخطوة الأولى على طريق التعارف .
إنّ التعارف يمكننا من استغلال الوجهات المختلفة المتوجهة جميعاً إلى قبلة واحدة ، فلكل باحث عن الحق نصيب يقل أو يكثر من الصواب ، واختلاف الوجهة لايضر كما لو كنا حول الكعبة نتوجه نحو قبلة واحدة ، فكذلك إذا نظرنا إلى مسألة التعارف و آليات التعارف باعتبارها اختلافاً في الوجهة و نشداناً للحق ، فلا بد من استعمال الآليات التربوية التي تمر من مرحلة القول إلى مرحلة التربية على الفعل حتى نصل إلى حقيقة التعارف ، و هذا تحدي مفروض على البشرية .
إننا اليوم في أوطاننا و خارج أوطاننا نعاني من حرج الصدر تجاه الآخر و تجاه الرأي الآخر ، نعاني من سيادة مرحلة التدافع و عدم رؤية الروزنة و النافذة التي ترتقي بنا إلى مرحلة التعارف ، لا لشيء إلا لأننا لم نسود القرآن و لم نستنطق القرآن بالقدر الكافي و هذه هي آلية الطرد إلى أعلى، نظرنا إلى القرآن باعتباره مقدساً فطردناه نحو الرفوف في حين أن القرآن جاء ليُفهَم و يُتدبر ، فرب العزّة يقول لائماً للبشر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " إذ لا حجة للبشر أن لا يتدبروا القرآن و هو ميسر " ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر " لكي نستنطقه و نستهدي به نحو التي هي أقوم كما قال جلّ و علا عن هذا القرآن .
إن مسألة الحوار لها جمالياتها التي تستشف من النظر في طريقة القرآن ، لكن هناك واجبات تلقى على عاتقنا بعد الاستبصار و الوعي لهذه الجماليات و هي واجبات التطبيق و واجبات النهوض لرفع ظن الملائكة بالبشر و معانقة ظن الله سبحانه " إني أعلم ما لا تعلمون " حتى لا نسفك الدماء و لا نفسد في الأرض ، فهذا الإفساد و هذا السفك يبدأ من الضيق بالآخر و الضيق ذرعاً برأي الآخر .
فلا بد من الإلتفات إلى هذا الأفق من النظر.
المصدر: مجلة الرشاد العدد 15 (يوليو 2003)