الحوار بين المسلمين... سلعة إعلام الإثارة
الحوار بين المسلمين... سلعة إعلام الإثارة
صلاح الدين أرقه دان
تابعت بكثير من الضيق والحرج ليالي معدودات برنامج احدى الفضائيات المغمورة، وموضوعه (الحوار بين السنة والشيعة)، ولم يكن سبب ضيقي (الحوار) نفسه، وانما أسلوبه ومفرداته وطريقة ادارته، فالاسلام أكبر وأوسع من أن يضعه البعض داخل مربع (الاثارة) ليكون سلعة تجذب شريحة معينة من المشاهدين في وقت يعيش فيه العالم الاسلامي أحد أحلك ظروفه، وما يحيط به ويقع عليه مدعاة الى وقفة تأمل نحو تجميع الصف لا تفريقه، والبحث عن أسباب اللقاء لا احياء أسباب الشقاق.
و(الحوار) أحد مفردات الدعوة الاسلامية البارزة، استخدمه النبي (صلى الله عليه وسلم) ودعا اليه، فقد فتح (صلى الله عليه وسلم) كل الأبواب أمام الناس من متريثين وخصوم، من العرب وغيرهم، استقبلهم في بيته في مكة المكرمة، وفي مسجده بالمدينة، وقصدهم في نواديهم وأماكن تجمعهم، ودخل مِدْراس اليهود، ووقف وجهاً لوجه أمام أحبارهم، كما فعل مع قساوسة نجران ووفودهم اليه، وبادر بارسال الرسل والدعاة بالكتب الى ملوك عصره وأمرائه,
وعرف المسلمون الحوار طوال عهودهم، في زمن الخلافة الراشدة والأموية والعباسية، وفي دولهم المختلفة، في مصر الفاطمية، والأندلس الأموية، وصقلية الفراتية، والهند الغزنوية، وتركيا العثمانية, وما زال المسلمون مطالبين بمد أيديهم وفتح عقولهم وتوسعة صدورهم مع مخالفيهم من أهل الأديان للبحث عن خط مشترك يجمع البشرية بعيداً عن تحويل اختلاف الفكر الى عداوات قاتلة وحروب طاحنة,
والمتأمّل في الخطاب الاسلامي، في مراحله الأولى، مرحلة الاستضعاف في مكة، لن يرى كبير فرق بينه وبين الخطاب في مرحلة القوة وبناء الدولة في المدينة المنورة، ففي كلتا المرحلتين اتسم الخطاب الاسلامي بالرحمة وبمد يد التفاهم وبعرض الحلول السلمية والدعوة الى التعايش ونبذ العنف في التعامل بين الجماعة المسلمة والجماعات الأخرى, حتى في حالة الحرب، فان المسلم مطالب بتقديم خيارات السلم والتفاهم السياسي على الخيار العسكري، والخيار العسكري في الاسلام كالكي الذي هو آخر الدواء بعدما يستنفد المعالج كل أسباب العلاج,
وامتدت دولة الاسلام شرقاً وغرباً، وقامت علاقات الخلفاء المتعاقبين مع الصين وبيزنطية وأوروبا على مد وجزر يتعلق بجملة من المعطيات الموضوعية، لم تكن حالة العداء فيها ثابتة ولا حالة الاتفاق فيها دائمة، ولكن القاسم المشترك الذي يراه كل قارئ للخطاب الالهي في الكتاب العزيز والسيرة النبوية الشريفة ومسار الدعوة والدولة الاسلامية يلمس لمس اليد حرص الاسلام على فتح يديه لكل طالب هداية أو تفهم أو تصالح، وهل من تعبير أرشد من قوله تعالى: {قل يا أهل الكتب تعالَوْا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبدَ الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فان تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران/64]، وأعم منها: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فان أسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران/20]، فنداء التفاهم قائم مستمر، ينطلق من الجانب الاسلامي باتجاه الغير، سواء كان هذا الغير من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، أو كان من الأميين وهم كل الآخرين الذين لا ينضوون تحت جناح الاسلام أو أهل الكتاب,
وتبيّن تفاصيل (صحيفة المدينة)، وهي العهد الذي كتبه النبي (صلى الله عليه وسلم) تنظيماً لشؤون المدينة المنورة وهي تضم في جنباتها مزيجاً من الناس، من عرب ويهود، مهاجرين وأنصار، أوس وخزرج، مقيمين ووافدين، كيف يكون التعامل داخل الدولة المسلمة بين الدولة ورعاياها من جهة، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة أخرى، وهو تعامل سبق كل ما عرفته البشرية المعاصرة عن التعايش والتنوع والتعدد وحرية الرأي والمعتقد والهوية الثقافية والحريات السياسية، بمراحل تفتقدها دول تحسب نفسها اليوم معنية بقضية (الانسان) وهي منها بَرَاء,
آلمني أن أرى على الشاشة الفضية مسخاً لقضية الحوار الاسلامي الاسلامي، وكأن الخيار الوحيد أمام المحاور والمشاهد أن يرى في المحاور الآخر خصماً عنيداً لا يستحق الا التمزيق -المادي والمعنوي- بل ان المشاهد غير المسلم سيمتلئ فرحاً وهو يرى اثنين أو أكثر يدعون الانتماء الى دين الاسلام لا يطرحون اسلاماً واحداً، يحرص كل منهم على تكفير صاحبه(!) حتى تطرق النزاع الى صحة القرآن ووحدته واقرار المسلمين به والتزامهم بأحكامه.
لقد سمعت في هذه الحلقات من الكلمات البذيئة ما لم أسمعه من أولاد الأزقة وأبناء الشوارع الخلفية، فأحد المتصلين من دولة خليجية ادعى أنه خطيب منبر حسيني أقذع في كلامه حتى خرج عن كل حد من حدود الأدب واللياقة مخالفاً أدب الاسلام وشيم المنتسبين اليه، وأغرق نفسه في القذف الذي يلقي بصاحبه في النار، ومدير الندوة يعيش عالماً آخر بعيداً كل البعد عن اصلاح الأمر، ولن أتطرق لموقف المحاور الآخر المحسوب على مذهب المتصل، فهو موقف يندى له الجبين,
آلمني أن يجيز الدين الحنيف أن يجتمع في بيت واحد وتحت سقف واحد دينان بزواج المسلم من امرأة من أهل الكتاب، وفي معاصرينا اليوم من لا يرى في مسلم يقلد مذهباً غير مذهبه أهلاً للحوار أو التعايش أو الاعتراف, لقد قرأت في شبابي كتاب (حصوننا مهددة من الداخل) ولكنني أمام هذه القناة عشت بألم وحرقة تكريس تمزيق الأمة والبحث عن نقاط الخلاف، والتكفير والتراشق بالاتهام، تحت عنوان (الحوار) (!) فأين العجب بعد ذلك فيما نحن فيه من واقع لا يدعو الى الفخر ولا الى الاعجاب؟