حوارنا مع أنفسنا أصبح الجهاد الأكبر
حوارنا مع أنفسنا أصبح الجهاد الأكبر
فهمي هويدي
هذا موسم الدعوة الى الحوار مع الآخر، إذ منذ بدأت الحملة العسكرية الاميركية على افغانستان نشطت بشكل مواز دعوات الحوار مع الأطراف الغربية تارة، ومع غير المسلمين تارة أخرى، وهي دعوات لايخلو بعضها من براءة وصدق، بينما يشتم المرء من بعضها الآخر انها محاولات للتسكين أو امتصاص غضب المثقفين، أو استكشاف مواقفهم والتعرف على آرائهم وملاحظاتهم، لكي تتم التعبئة السائدة للحملة العسكرية على نحو أفضل.
وليس من شك في ان القوة التي أصبح يحتلها الاعلام في زماننا، وتأثيره الفعال بالتالي على الرأي العام، مع ما يستصحبه ذلك من ضغوط على القرار السياسي، هذه العوامل لها دورها في الجهود الحثيثة التي تبذل لتطويق نتائج البحث الاعلامي الخارج عن السيطرة، كما انني لست أشك في أن تسيُّد ندوات «الحوار» التي تدعى إليها النخب الثقافية هذه الايام، يدخل في إطار تلك الجهود بصورة أو أخرى، اذ رغم التعليمات التي صدرت لأجهزة الاعلام المختلفة ـ غربية وشرقية ـ باتباع نهج معين في تغطية اخبار الحملة العسكرية، يصورها بحسبانها مواجهة بين «الأشرار» القابعين في الجبال والكهوف، و«الاخيار» الذين يسعون الى تخليص العالم من إرهابهم، أقول رغم ذلك فان الأمور سارت على غير ما يشتهي الذين اصدروا تلك التعليمات، فالمراسلون الصحافيون الذين يعملون لحساب الصحف العربية والغربية عرباً كانوا أم أجانب، نقلوا الصورة كما هي في أغلب الأحوال، من دون تدخل في حظوظ الأشرار والأخيار، كما انه يحسب لقناة «الجزيرة» انها نقلت بقدر معتبر من الحياد وجهات نظر الطرفين، ووضعتهما بين يدي المشاهد، لكي يعرف قبل ان يحكم أو يتحيز.
لقد انتهى العهد الذي كانت الجهات المعنية تستطيع فيه السيطرة على الادراك العام، عن طريق المنع والاجازة، والتعتيم على ما تشاء وتسليط الأضواء على ما تشاء، وازاء انكشاف الساحة على ذلك النحو، فان التنافس على كسب الرأي العام صار أشد، ولا شك ان مسارعة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الى الرد تلفزيونياً وكتابة على البيان الذي بثه اسامة بن لادن عبر محطة «الجزيرة»، تعد دليلاً قوياً على أهمية البث الاعلامي، وادراك المسؤولين في الدول ان تصريحاتهم وبياناتهم لم تعد وحدها التي تشكل الرأي العام، وان هناك عناصر أخرى تسهم بقدر أكبر في ذلك التشكيل، ومن ثم فعليهم ان يستخدموها ويتفاعلوا معها سواء لكي يصلوا الى عقول الجماهير، أو لكي يصوبوا الانطباعات التي يتركها البث المتعدد في مداركهم.
مخاطبة النخب المثقفة، التي يظن انها تسهم بصورة أو أخرى في تشكيل الادراك العام أصبحت هذه الأيام هدفاً للعديد من المؤسسات الغربية والمنظمات الدولية، ولان الطرف الآخر «الشهير» منسوب الى الاسلام، فالتركيز شديد على الاسلاميين الذين يصنفون في مربع الاعتدال، والذين يقفون ضد العنف واستخدام السلاح، فهؤلاء مطلوبون بإلحاح للحوار، مرة حول فكرة صراع الحضارات واحتمالات تصادمها أو تفاهمها، ومرة حول الموقف من الغرب وثقافته ومشروعه، ومرة ثالثة حول دور الأقليات المسلمة في مجتمع غير مسلم، ومرة رابعة لتحرير المشترك والمختلف عليه بين المسلمين والمسيحيين، وخامسة لمناقشة صورة الاسلام في الغرب والعكس! لا أعرف أحداً من الناشطين الاسلاميين في المجال الثقافي إلا وجدته مدعواً الى بعض هذه الحوارات أو كلها، وبالنسبة لي فأمامي دعوات من ست جهات مختلفة تدور حول فكرة الحوار مع الآخر، دعت إليها خلال الشهرين المقبلين مؤسسات ومنظمات محلية أو هيئات دولية في نيويورك وواشنطن ولندن والرباط والدوحة ودمشق.
قلت ان لهذه الدعوات أهدافاً متعددة، تتراوح بين البراءة ونقيضها، ولا تتوفر للمرء دائماً امكانية تحديد طبيعة تلك الاهداف، على الأقل قبل المشاركة في الحوار والاستماع الى ما يطرح فيه من أسئلة وما يلقى من أجوبة، لكن أجد مثل هذه الحوارات معنية دائماً، من حيث انها اذا لم تساعد على تقريب وجهات النظر بين المشاركين، فانها تهيىء الفرصة لكي يفهم الواحد منا كيف يفكر الآخرون وكيف يعبرون عن أنفسهم.
ولست هنا بصدد التقليل من نتائج تلك اللقاءات التي حضرت بعضاً منها حتى الآن في روما وفيينا وبيروت، لان ما يهمني في اللحظة الراهنة شيء آخر، لايتعلق بالحوار بين الحضارات ولا بالحوار الاسلامي ـ المسيحي، وإنما يتعلق بالحوار العربي ـ العربي، والاسلامي ـ الاسلامي بوجه أخص. يدعوني الى ذلك ـ ويؤرقني حقاً ـ انني زرت في الاسبوع الماضي عاصمتين عربيتين، ورتب لي بعض الاصدقاء لقاءات مع نماذج من المثقفين في كل عاصمة، تراوحت اعدادهم في كل مرة بين 15 و25 شخصاً، وطلب مني ـ من باب اكرام الضيف لا أكثر ـ ان أحدث المجتمعين عن رؤيتي للاحداث الراهنة وتداعياتها، ثم اعطيت الفرصة بعد ذلك لكل واحد كي يدلي بدلوه في الموضوع.
ما فوجئت به في اللقاءين ان ثمة خلافات واسعة بين المتحدثين في قراءة الواقع وتحليله، وان الخلاف الاسلامي الاسلامي في عمق وحدة الخلاف العلماني الاسلامي، حتى قلت في أحد اللقاءين انني أشعر بغربة شديدة ازاء الكثير مما سمعت، وان شعوري بالصدمة لا يقل عن شعوري بالغربة.
وقبل ان اتطرق الى عناوين الموضوعات التي وجدت الخلاف في شأنها واسعاً بين المتحدثين، أنبه الى ان حديث الاختلاف هذا ينبغي ان يستقبل بقدر من الحذر، كما انه يتعذر تعميمه، خصوصاً في ظل ذلك التعتيم الذي يحيط بتضاريس وخريطة الرأي العام في العالم العربي، الأمر الذي لا يمكن الباحث من أن يعرف على وجه التقريب أين يقف الناس، وهم مع ماذا أو ضد ماذا، لذلك فانني لا استطيع ان اقول ان ما سمعته يعبر عن الرأي العام في هذا البلد أو ذاك، وغاية ما يمكن أن أقوله باطمئنان انه يعبر عن رأي شريحة المثقفين الذين التقيتهم في تلك الأمسيات.
لقد وجدت اننا مختلفون في مجمل النظر الى الآخر الغربي بوجه عام، وهل الاساس في العلاقة هو القبول والتعايش، أم النفور والاشتباك، ورأيت اننا مختلفون ايضاً حول تكييف ما يجري، وهل هو عدوان يستحق التجريم أم انه جولة في حرب معلنة لها أفعالها وردود أفعالها، وهل هو صراع بين الاسلام والكفر، أم انه صراع مصالح وصراع حضاري، وجدت اننا مختلفون أيضاً حول حدود وطبيعة المواطنة، وما هي حدود التزامات المسلم في مجتمع غير مسلم، والعكس، وما هو موقف المسلم من الحرب غير العادلة، سواء تلك التي يشنها بلد مسلم ضد بلد مسلم آخر، أو تلك التي تنشب بين بلد غير مسلم وآخر مسلم.
لاحظت أيضاً ان الخلاف امتد الى تشخيص الأزمة الراهنة، الأمر الذي استتبع خلافاً آخر حول المربع الذي ينبغي ان يقف فيه المسلمون في الوقت الراهن، وان ادركت ان ذلك الخلاف واقع بين الاسلاميين والاسلاميين، وان هناك خلافاً آخر مماثلا حول أمور أخرى بين الاسلاميين والعلمانيين، فانني اشفقت على مستقبل أمتنا، وخشيت ان تتضاءل فرص تفاؤلنا بذلك المستقبل، اذا استمرت تلك الخلافات تراوح مكانها.
يتمكن الشعور بالأزمة من الواحد منا حين يلاحظ ان جسور الحوار ممتدة، وفرصه متاحة كل حين مع الأغراب الأبعدين، بينما هي متعثرة أو مقطوعة مع الاشقاء الأقربين، وهذا الانسداد في قنوات الحوار الداخلي له خطورته البالغة على مستقبل العمل العام، حتى ازعم انه أحد مصادر التطرف الموجود في مجتمعاتنا، لان حبال الحوار حين تنقطع، وتجد الاطراف المختلفة انها تحدث نفسها بأكثر مما تحاور الآخرين، فان ذلك يغدو باعثاً على الانكفاء وعلى تغيير صورة الآخر ونفي فكرة وجوده بمضي الوقت، وكما لايخفى فتلك ظروف وأجواء مواتية تماماً للشطط والانحراف.
هذا الذي وقعت عليه بعض من تجليات أزمة غيبة الحوار في عالمنا العربي، التي لا حل لها إلا بفتح النوافذ والأبواب ورفع القيود المفتوحة على منابر التعبير، لا لكي يتنفس الناس هواء صحياً ومنعشاً فحسب، ولا لكي يقتنع الجميع بأن ثمة أملا في تغيير الواقع والنهوض به، واستخدام الوسائل السلمية دون حاجة الى عنف من أي نوع، ولكن أيضاً لتوفير قدر من الاجماع القومي حول القضايا المصيرية، من شؤون الاوطان الى شجون الأمة، وازعم في هذا الصدد اننا لن نستطيع ان نتقدم اذا ظل حوارنا مقصوراً على غيرنا، دون ان نقطع شوطاً في الحوار مع أنفسنا، ومن أسف ان خبراتنا المتعاقبة أثبتت لنا ان الأولى أيسر من الثانية، وان جهادنا مع الأولين هو الأصغر، أما جهادنا مع اخوتنا الأقربين فهو الأكبر.
المصدر: الشرق الأوسط - 4 نوفمبر 2001