الإسلام و الغرب: حوار أم صراع؟ !
الإسلام و الغرب: حوار أم صراع؟ !
طه جابر علواني
ورقة عمل قدمت في إطار الملتقى الدّولي المنظم من قبل المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر من 24 إلى 26 مارس 2003م ، تحت عنوان (شروط الحوار المثمر بين الثقافات و الحضارات)
* حوار الحضارات:
"الحوار" مفهوم بناه القرآن المجيد-أولا- في حضارتنا، و غرسه في تصورنا و في رؤيتنا الكلية، و جعله جزءا من بنائنا العقلي و النفسي بحيث لم يعد ممكنا تصوّر الاستغناء عنه في أي جانب من جوانب الفكر والتصوّر و السلوك.
و "المحاورة" و الحوار: المرادّة في الكلام، فكأن موضوع التحاور يظل مترددا بين المتحاورين حتى ينتهيا فيه إلى اتفاق. و لأن "العقل" إذا رجع إليه يحسم تلك الحيرة، فلذلك التردد قيل للعقل "أحوَر" (1) و سيأتي مزيد توضيح له.
أما "الحضارات" فهي جمع "حضارة" و للحضارة معنيان؛ معنى لغوي و آخر اصطلاحي.
* تعريف الحضارة لغة:
فالحضارة –بكسر الحاء و فتحها- تعني الإقامة في الحضر، و أن مظاهر الرقي العلمي و الفني و الأدبي و الاجتماعي في الحضر(2). و أورد صاحب القاموس المحيط أن معناها ضد (غاب)، و الحاضرة و الحضارة (و يفتح) خلاف البادية(3). و جاء في لسان العرب مجموعة المعاني التالية:
الحضور نقيض المغيب و الغيبة. و بمعنى "عنده"، تقول: كنا بحضرة ماء، و رجل حاضر. قرب الشيء: الحضرة، و تقول: كنت بحضرة الدار. الحضر خلاف البدو، و الحضارة الإقامة في الحضر. الحاضرة: الحي العظيم(4).
هذا في اللغة العربية و أما في اللغة الإنكليزية فكلمة حضارة (civilization) مشتقة من كلمة (civilas) في اللاتينية بمعنى المدينة، أو من (civis) بمعنى مساكن المدينة، أو من (civilis) بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة حيث تقوم الحياة الحضرية عادة في المدن(5).
و يستخدم بعض العلماء في مقابل كلمة حضارة كلمة (culture) التي تعرف في العربية بلفظ "الثقافة". و هذا الأخير من ناحية اشتقاقه اللغوي مأخوذ من اللاتينية، و يراد به إصلاح الشيء و تهذيبه و إعداده للاستعمال، و من هنا قالوا: (agriculture) أي إصلاح الأرض و زراعتها. أي أن الثقافة فن تهذيب العقل... و من ثم فإن لفظ (culture) يفيد طريقة شعب ما في الحياة، و مجموعة أنظمته و كذلك نظرته إلى الحياة و الكون(6).
* تعريف الحضارة اصطلاحا:
ظهرت تعريفات متعددة و متنوعة لـ "ظاهرة الحضارة"، و صبغت هذه التعاريف بصبغة التخصص و تأثرت بزاوية التناول التي يعتمدها الباحث في دراسته، فظهرت للحضارة تعاريف أنثروبولوجية و فلسفية و تاريخية و حضارية. و بنيت مناهج لدراسة الحضارة؛ منها المنهج الوصفي و منها التاريخي السردي، و منها المنهج التحليلي و الوظيفي، و بعضها اتسم بالنقد و محاولة التركيب. و أما على مستوى التقويم الفكري فهناك تعاريف ولدت ضمن إطار الوعي العقدي الغربي، و أخرى صيغت استجابة للنموذج الكوني التوحيدي(7).
ذهب (ول ديورانت) المؤرخ و المفكر الأمريكي صاحب موسوعة "قصة الحضارة" إلى أن الحضارة هي "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. و الحضارة تتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، و النظم السياسية، و التقاليد الخلقية، و متابعة العلوم و الفنون، و هي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب و القلق(8).
و يعرفها ألبرت شفيتزر بأنها "التقدم الروحي و المادي للأفراد و الجماهير على السواء(9).
و يعزو آرنولد توينبي في كتبه "دراسة التاريخ" جوهر الحضارة إلى الدين و يرى أنها "حصيلة عمل الإنسان في الحقل الاجتماعي و المناقبي و هي حركة صاعدة، و ليست وقائع ثابتة و جامدة. إنها رحلة حياتية مستمرة لا تقف على ميناء ما"(10).
هذا بالنسبة لبعض المفكرين الغربيين، و أما بالنسبة لعلماء المسلمين فلهم كذلك تعاريف متنوعة للحضارة نذكر منها:
يعرف ابن خلدون الحضارة بأنها "نهاية العمران و خروجه إلى الفساد و نهاية الشر و البعد عن الخير... فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها، و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها"(11).
و يقول فيها مالك بن نبي: "إنها مجموع الشروط الأخلاقية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده؛ منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له" (12).
و أما سيد قطب فيقول بأن "الإسلام هو الحضارة" ويضيف موضحا الأسس التي تقوم عليها هذه الحضارة و هي "العبودية لله وحده، و التجمع على أصل العقيدة، و استعلاء إنسانية الإنسان عن المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته... و حرمة الأسرة، و الخلافة في الأرض على عهد الله و شروطه، و تحكيم منهج الله و شريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة"(13).
و يذهب أبو الأعلى المودودي إلى أن الحضارة هي "مجموعة المناهج و القوانين التي قررها الله سبحانه و تعالى لكل هذه الشؤون و الشعب المختلفة لحياة الإنسان"(14).
* حوار بين من و من؟
الحوار المقترح هو حوار بين "الحضارة الإسلامية العربية" و بين "الحضارة الغربية" المهيمنة على عالم اليوم. و حين نقول: "الحضارة الإسلامية العربية" لأن هذه الحضارة قد امتلكت المقومات الحضارية قبل نشأتها الأولى و أثناء بنائها و سيرورتها، و احتوت على خصائصها العمرانية –التي سنلمح إن شاء الله إلى بعضها- بذلك التداخل المتميز بين العربية و الإسلام الذي جعل منها حضارة تأليف لا تدابر، و حضارة احتواء و استقطاب دون تسلّط، و حضارة جمع دون دمج أو هيمنة، وحضارة سلام و أمن لا استعلاء فيها و لا استقواء، و حضارة إصلاح و عمران لا تخريب فيها و لا إفساد، و هي تؤمّن للمنتمين إليها كرامتهم دون النظر إلى أية فوارق؛ لأنها منذ البداية وضعت سائر الفوارق في إطار التنوع الداعي إلى التعارف و التآلف حتى صارت حضارة عمرانية عديمة النظير. فهي حضارة بنيت على
* دعائم الحضارة الإسلامية:
"التوحيد" فكان التوحيد جوهرها و أساسها، و من منطلق التوحيد توجهت نحو "الحقيقة الذاتية للإنسان"(15) فاعتبرت الإنسان بوصفه إنسانا مجرّدا عن كل وصف لاحق لإنسانيته كفئا للإنسان، و هو "بإنسانيته" مركز الكون، و المستخلف في الأرض و المكلف بحمل أمانة العمران فيها، الذي سخّر الكون –كله- له، و مكنّه الخالق العظيم بذلك من الوفاء بالعهد و القيام بمهمة الاستخلاف، و حمل أمانة العمران و الاختيار. فالحقائق –كلها- المتصلة بالمادة و بما ورائها هي في متناوله يستطيع الوصول إليها بمداركه العديدة، و وسائله المتنوعة فهي حضارة عمرانية إنسانية.
إن "التوحيد" و "التزكية" باعتبارها أعلى القيم الحاكمة التي جاء القرآن المجيد بها قد قادا إلى إيجاد إنسان رسالي قد اكتسب وضعا منسجما مع ذاته، جعله آمنا على نفسه، مدركا لدوره، عالما بغايات وجوده، مطمئنا إلى رزقه الحسن، و إلى أن ما ينفقه سوف يحصل له على البدائل، فهو ينفق منه سرا و جهرا، يأمر بالعدل (النحل:75-76)، و هو على صراط مستقيم يسلكه في مسيرة مباركة لتحقيق "العمران" باعتباره القيمة الإسلامية العليا الثالثة التي تقف بجانب التوحيد و التزكية؛ فالتوحيد حق الله على العباد الذي ينعكس على مختلف جوانب النشاط الإنساني بالانسجام و التوافق، و تحقيق الأمن مع النفس و مع الغير، و التأليف بين الإنسان و الكون، و إيقاظ الفطرة الإنسانية السويّة، و إنماء القدرة على النظر العقلي(16).
و "التزكية" مؤهِّل الإنسان الأساس لتحقيق العمران و بناء الحضارة، فبدون التزكية لا يتحقق فلاح، و لا يحصل نجاح، و لا تنبثق حضارة حقيقية، و لا يقوم بناء. و أما "العمران" فهو حق الطبيعة التي هي ميدان العمران، و مجال الفعل الإنساني الحضاري و غيره.
و حضارتنا "الإسلامية العربية" بهذه القيم العليا و بانعكاساتها على الإنسان بمدركاته و وسائل إدراكه، و بتأثيرها على غاياته و مقاصده و وعيه و سلوكه و تكوينه العقلي و النفسي: تفارق سائر الحضارات الأخرى التي عرفتها البشرية، خاصة تلك الحضارات ذات المضمون العرقي أو العنصري و القومي؛ لأنها –كلها- تنشأ حين تنشأ في صراع و لا تنمو و لا تزدهر –إن هي ازدهرت- إلا في غمار الصراع لتحقق تسلّط الجماعة العرقية أو العنصرية أو القومية و علّوها في الأرض و هيمنتها على من عداها حتى و لو اقتضى ذلك إهدار حقوق الآخرين و تدميرهم إذا لزم الأمر.
* اللغة و الحضارة:
و قد يقول قائل: لماذا الإصرار على وصف حضارتنا بـ"العربية" إضافة إلى "الإسلامية"؟
و لمثل هذا السائل نقول: إن العربية و العروبة –في نظرنا- إطار لمجموعة من القيم الثقافية تتخذ من اللغة العربية مظهرا خارجيا لها يعكس تلك القيم الثقافية، و يعبر عنها، و يحتضن مفاهيمها و مصطلحاتها و منطقها. و لقد واكبت العربية الإسلام في انتشاره؛ فسارت معه حيث سار –تقريبا-، و دخلت معه حيث دخل –بنسب مختلفة-، و صارت الوسيلة الأساس في تعبير الإسلام عن نفسه و قيمه. كما صار الإسلام مضمونها و مدلولها، و معناها و مغزاها منذ أن بدأ نزول القرآن المجيد بها.
* الإسلام و الشعوب الأميّة:
و الإسلام باعتباره مضمونا لا يمكن أن يقف عند حدود الأوعية اللغوية، إذ هو أوسع منها، و أيسر في انطلاقه و استيعابه و تجاوزه، و لذلك فإنه بعد استيعابه لمنطقة "التجوال الإبراهيمي"، و ضمه الجزيرة العربية، و جعله من الأميين العرب أهل كتاب تجاوزهم بعالميته إلى شعوب أميّة أخرى تمهيدا لانطلاقه باتجاه العالمية الشاملة. و هنا استطاع القرآن الكريم حمل العربية و الإسلام معا لينطلق بهما في العالم الفسيح، و إذا بالشعوب الأمية كلها من عرب و كرد و فرس و بربر و هنود تقبل على الإسلام، و تحتضن القرآن، و تأخذ من العربية قدرا يجعلها قادرة على قراءة القرآن و الاهتداء بهديه، يتجاوز هذا القدر أحيانا تلك الحدود ليخترق لغات تلك الشعوب بنسب مختلفة، أو ليكون لغة النخبة الثقافية، فتكونت دائرة أوسع من الدائرة العربية، و هي الدائرة التي عرفت فيما بعد بـ"دار الإسلام" و يطلق عليها البعض اليوم "العالم الإسلامي" الذي أوجد القرآن و العربية التي نطق بها بين أقطاره من المشتركات و الروابط.
* الأمة و الحضارة:
ووسائل التجانس و مقومات العمران و التمدن و الحضارة ما جعل منها "أمة" بمعنى الكلمة بعد أن منحها سائر مقومات الأمة. و لم يكن عسيرا بعد أن قامت الأمة أن تنبثق تلك الحضارة الزاهرة –الحضارة العربية الإسلامية- التي أعطت للبشرية كلها، لا للمسلمين –وحدهم- و لا للعرب بمفردهم تلك القيم العليا الحاكمة التي كانت البشرية و لا تزال في احتياج إليها.
فلولاها لما تمكن الإنسان من تكوين الإنسان المؤهّل لتحقيق العمران، أي الرؤية الكلية للإنسان و الكون و الحياة. هذه الرؤية الكلية تعالج لدى الإنسان ما كان يسميه فلاسفة الأمس بـ"العقدة الكبرى"، و يسميه علماء و فلاسفة الوقت بالأجوبة عن "الأسئلة النهائية"، و هذه الأسئلة النهائية أو العقدة الكبرى إذا لم يصل الإنسان فيها إلى برد اليقين و الجواب الشافي المطابق للوجود الخارجي و للوجود الذهني كذلك، فإن الإنسان لن يكون قادرا على الانطلاق بكل طاقاته في هذه الحياة، و لن يكون قادرا على إدراك حقيقة فعله و قيمته و أثره و مآله، و لن يكون قادرا على تصوّر قيمة نفسه و إطلاقية إنسانيته، و إدراك انتمائه و امتداده عبر الزمان و المكان ليصل بأبيه آدم و أصله، و ليدرك –بعد ذلك- عهده مع الله في عالم أمره: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (الأعراف: 172-173)، و يدرك غاية استخلافه: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (البقرة:30)، و انتمائه على الأرض و ما فيها و ما عليها: إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (الأحزاب:72)، و ابتلائه: الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا و هو العزيز الغفور (الملك: 2).
هذه كلها أمور لا يمكن أن يصل الإنسان فيها إلى التصور الدقيق بدون الإجابة على سائر الأسئلة المتعلقة بـ"الله و الإنسان و العالم". إن الإجابة عن هذه الأسئلة النهائية هي التي تمكّن الإنسان من صناعة عالم غيبه، و هو أمر في غاية الأهمية لتحقيق الاستقامة العقلية و النفسية ثم السلوكية له، و مساعدته على بناء شخصيته العمرانية، و من ثم تحقيق الفعل العمراني.
* الأفول الحضاري الإسلامي و الحوار:
على ضوء هذه القيم التي ذكّرنا بها تمّ تكوين الفرد المسلم تكوينا صحيحا من فجر الإسلام و بدايات ظهوره في مكة المكرمة، ثم في تكوين المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة، و به بدأ تشكيل الأمة و ظهورها، و لم يكن لهذا المجتمع الأول ما يمكن تسميته بثقافة أو حضارة أو عمران بمعانيها المعروفة اليوم، لكن الإسلام بما أحدثه من تغيير في عقولهم و أنفسهم و في أفرادهم و مجتمعهم قد وضع الأسس منذ ذلك الوقت لانبثاق الحضارة و العمران الإسلامي، و لظهور الثقافة الإسلامية. فلولا التكوّن الفردي في مكة و البناء الاجتماعي في المدينة لما برزت تلك الحضارة السامقة و لا قام ذلك العمران الذي تفيأ الناس ظلاله في دمشق و بغداد و القاهرة و الأندلس و القيروان و قرطبة و خراسان و سمرقند و استانبول و غيرها.
لكن هذه الحضارة السامقة و العمران الشامخ قد بدأت مسيرة التراجع بعد تلك الانطلاقة عندما افترق القرآن و السلطان، فلم يعد القرآن مصدر تربية الأفراد الأول؛ عقلا و نفسا و خلقا و سلوكا. و بذلك لم يعد ممكنا تكوين المجتمع به، و لا إقامة البنيان الثقافي عليه.
"لقد كان العامل التربوي القرآني هو الذي كوّن الفرد في البدء؛ عقلا و نفسا و خلقا و سلوكا، فكان ذلك العامل التربوي هو الأساس المتين في توليد الحضارة و قيام العمران و تكوين المجتمع الأمثل، و التمهيد للثقافة لتتناول عناصر المعرفة المطلوبة للبناء الحضاري و تؤلّف بينها: فقامت الحضارة على ذلك الأساس المتين"(17). ثم تراجعت وذوت فيها الثقافة، و انتشرت فيها البدع، و سادت فيها "عقلية العوام، و طبيعة القطيع، نفسية العبيد"(18). و لقد استمرت الحالة بالتدهور حتى لم تعد محاولات التجديد تحقق من أهدافها شيئا حتى تفترسه تلك الآفات الراسخة، فأعضل الداء و عز الدواء، و طمع فيها من لا يدفع عن نفسه. و ما من مصلح من المصلحين عبر التاريخ إلا وصف من أمراض الأمة ما وصف حتى بلغ الحال في زماننا هذا مستوى يرشح الأمة إلى الدخول في "سنة الاستبدال".
* حوار أم صراع؟
حين رشح بعض الكاتبين الغربيين "الحضارة الإسلامية" الآفلة للدخول في صراع مع "الحضارة الغربية" الصاعدة المتعالية اغتر بذلك الجاهلون، و توهموا أن الأمر جد، و ليس من قبيل بالونات الاختبار، أو الحديث الهازل، و إظهاره بمظهر الحديث الجاد. فأخذ البعض ينادي باستبدال "الصراع" بـ"الحوار" و كأنه يريد أن يقول لذلك الغربي المتعالي المتغطرس: لا داعي للصراع، فأنا أفضّل الحوار عليه. و ظن ذلك المخذول أن الغربي لم يدرك بعد أنه قد انتهى منذ أمد طويل، و ذهبت ريحه حتى إنه لم يعد –في نظر الغربي- إلا دمية يعبث بها، و في أحسن أحواله هو أشبه بكيس الملاكمة الذي يتمرن الملاكمون على الضرب فيه.
* لابد من التفريق بين الإسلام و المسلمين:
لذلك فقد كان مجرد وضع المسلمين في مقابلة الغرب أمرا لافتا للنظر. و لعل من وضع المسلمين في مقابلة الغرب كان يتصور –صوابا أو خطأ- افتراض تطابق تام بين الإسلام و المسلمين الذين يدينون به، أو يحملون اسمه بحكم الاعتقاد و التديّن، أو بحكم الجغرافيا أو التاريخ بحيث لم يتوقع تصور اختلاف جذري أو ذي أهمية تذكر بين الإسلام و المسلمين.
و هذا أمر فيه نظر كبير؛ فليس من اليسير قبوله على إطلاقه لأن التاريخ قد شهد حالات فصام عديدة بين الإسلام و المسلمين على مستويات مختلفة. و تاريخنا الحديث من تلك الفترات التي يتعذر فيها ادعاء التطابق بين الإسلام و المسلمين، و هنا يفرض علينا البحث أن نحدد –بدقة- مرادنا بالإسلام؛ أ هو الدين الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء، و تكامل على أيدي الأنبياء من بعده من ذرية إسحاق و إسماعيل حتى ختم و استوت دعائمه و قوائمه و تمت كلماته على يدي خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و آله و سلم و على سائر النبيين من قبله و آلهم و أتباعهم أجمعين؟ أم هو تلك المنطقة التي عرفت تاريخيا بمنطقة "التجوال الإبراهيمي" التي دخلت فيما بعد بدار الإسلام؟ أو هو تلك الكتلة البشرية الممتدة على محور طنجة-جاكرتا و ما يلحق بها من أقليات تعيش خارج مواقع تلك الكتلة؟ أم هو تلك الشعوب الأمية التي ارتقت بها رسالة محمد بن عبد الله –صلى الله عليه و آله و سلم- إلى مستوى الشعوب الكتابية فتجاوزت أميتها مثل العرب و الفرس و الكرد و البربر و الهنود و الوثنيين من الروم و من إليهم؟ كل ذلك وارد و ممكن و يحتمله المصطلح على سبيل الحقيقة في بعضه، و على سبيل المجاز في البعض الآخر. و لكن من الواضح أن المقصود في سائر أدبيات عصرنا –خاصة حين تتم المقابلة بين الإسلام و الغرب- هو المسلمون الذين تحولوا قبل و بعد عام 1924م. من القرن الماضي إلى كيانات مستقلة تجاوزت خمسين كيانا أنهم هم المرادون بهذه الثنائية (الإسلام و الغرب).
* الغرب و الحوار:
تفترض العناوين التي يتداولها المتكلمون و الكاتبون تحت (حوار الحضارات) أن الحوار أو الصراع أو التعامل بكل أنواعه مع الغرب باعتباره غربا واحدا، و كيانا واحدا، و تاريخا واحدا، و جغرافية واحدة، و لذلك فإن العقل يستدعي على الفور الصراعات الطويلة بين الدولة الإسلامية و الدولة البيزنطية، ثم الحروب الصليبية، ثم المسألة الشرقية، ثم الاستعمار الأوروبي الحديث، ثم سائر الصدامات و الاحتكامات التي قامت في أي جزء من بلاد المسلمين و أي جزء آخر من بلاد الغربيين؛ فذلك كله يمكن أن يشمل بعنوان "الشرق و الغرب" أو "الإسلام و الغرب" و هذا أمر فيه من عدم الدقة، و التجاوز أو التجوّز و التساهل الشيء الكثير.
* عودة إلى الحوار في تاريخنا:
أما "الحوار" –في تاريخنا- فالمسلمون يفهمونه –في الإطار المعرفي- باعتباره بحثا عن الحقيقة أو الصواب، و ذلك بأن يكون المتحاوران قد التقيا على ذلك الهدف؛ ألا و هو الوصول إلى الحقيقة أو الصواب، كما التقيا على التمسك بقواعد و آداب الحوار، و التزم كل منهما بالنتيجة التي يوصل إليها الحوار، بقطع النظر عن كون تلك النتيجة في صالحه أو صالح محاوره الآخر، و كذلك كون الطرفين اتفقا على مرجعيّة معترف بها من الطرفين للرجوع إليها في حسم الاختلاف بينهما: و إلا فإن الحوار يتحول إلى لجج لا ينتهي، و خصومة لا تقف عند حد ذلك؛ لأن المسلمين يعدّون الحقيقة أمرا ثابتا، و المتحاورون والمجتهدون يبحثون عن ذلك الأمر الواحد الثابت الكامن، و قد يوفّقون للوصول إليه و قد يخطئونه، و هم معذرون إذا أخطأوا بعد بذل الجهد المناسب. و الإحساس بالقناعة و الرضا من الباحث المجتهد يتأتّى إذا اقتنع ببذل كل ما في طاقته من وسع يجعله يشعر بأنه قد أصاب الحقيقة يقينا أو غلب على الظن إصابتها بقطع النظر عن الحقيقة –كما هي في الواقع و نفس الأمر. و قد أسس القرآن المجيد للحوار و أصّل له- كما ذكرنا سابقا- و اعتبره من أهم الوسائل للوصول إلى الهدى و إلى الحق، و علّم النبي –صلى الله عليه و آله و سلم- كيفيّة ممارسته، و ممارسة سائر آدابه و أصوله و قواعده، و مارسه علماء الأصلين عندنا (أصول الدين و أصول الفقه) و توسّعوا في ذلك حتى صار فنّا أو علما من العلوم له موضوعه و مصادره و غاياته و مسائله و موارده، و على دعائم هذا الفن قام علم "الجدل" و علم "الخلافيات" أو "الفقه المقارن" و علم "آداب البحث و المناظرة" و غيرها من تراث نعتز و نفخر به.
و أما "الغرب" فأهل العلم و الفكر فيه لم يكونوا بعيدين عن هذا التصوّر كثيرا، فقد عرّفه تيتلر M. Teitler بأنه "طريقة إقناع تشوبها الكرامة في تعامل كافة الأطراف الذين و إن اختلفت آراؤهم، فإن مصلحة مشتركة تجمعهم؛ هي البحث عن أكبر قدر ممكن من الحقيقة التي يمكن لعقل أن يتوصل إليها عبر جوّ الثقة و الاحترام المتبادل."
* بين التفاوض و الحوار لدى السياسيين:
أما السياسيون الغربيون فلا يرون الحوار بالرؤية التي تتسم بها رؤية العلماء و المفكرين؛ فالحوار لدى السياسيين يغلب عليه مفهوم ليّ ذراع الخصم، و استخدام كل ما تسمح به لغة السياسة من التواء في الخطاب و لحنه و فحواه و ما إليها، و لا يقتضي أن ينظر المحاور إلى من يحاوره بثقة أو باحترام، أو رغبة صادقة في الوصول إلى حل، بل يغلب عليه أن يحاول القوي الاستبداد –بقدر ما يستطيع- بالضعيف، و أخذ كل ما يمكن أن يؤخذ منه مع محاولة إيجاد شعور لديه بأنه أعطى ما أعطى مختارا، و لم يكن في الحقيقة إلا مكرها أوهم بأنه مختار. هذه طبيعة الحوار بين الأقوياء و الضعفاء، فهي أقرب إلى القصة القائلة بأن صيادين قد قررا عقد شركة بينهما في كل ما يصطادانه، فاصطاد الضعيف منهما غزالا، واصطاد القوي أرنبا، و قرر الضعيف الالتزام بالاتفاق و أعلن الرضى بنصف الغزال الذي اصطاده و نصف الأرنب الذي اصطاده شريكه، لكن الشريك القوي قرر الاستحواذ على الغزال كله، فقال لصاحبه و هو يحاوره: إن كنت تريد الأرنب فخذه، و إن كنت تريد الغزال أو نصفه فخذ الأرنب كله ! أما الغزال فلا سبيل لك إليه كله أو نصفه. و أمام هذا التجني لم يجد الضعيف بدا من النزول عند رغبة الشريك القوي؛ ذلك أن القوي يعرف ما يريد سواء شاركه الضعيف في تلك المعرفة أم لم يشاركه فيها، و إحساسه بالقوة و الاستغناء يدفعه إلى الاستبداد و الطغيان، فتلك طبيعة إنسانية، و سنة من سنن الاجتماع: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى (العلق:6-7) و لذلك كانت كلمة "الله أكبر" و ترديدها صباح مساء كلمة ضرورية، لا في الإطار التعبدي وحده، بل في الإطار المعرفي كذلك و في سائر أطر التعامل، أما من لا يؤمن بالله، أو يؤمن أنه "الأكبر" أو يؤمن بذلك لكنه لا يؤمن باليوم الآخر، أو يؤمن به و لكن بطريقة مضطربة فإن الوسيلة الأساسية لتقليل نسبة الاستبداد و الطغيان عنده أن تكون أقوى منه –على الأقل- أو أن تكون قادرا على النيل منه.
* التوازن في القوى من أهم شروط الحوار:
لا ينبغي للضعيف أن يتوهم أنه يصلح أن يكون طرفا في حوار و هو في حالة ضعفه، فلا بد له قبل الحوار أن يتجاوز حالة الضعف، و أن يحقق توازنا و لو في حدود معينة مع الطرف الذي يرشح نفسه للحوار معه، فذلك "التوازن" ضروري للضعيف لبلوغ مستوى الشريك في الحوار، فإذا توازنت القوى كان هناك مجال للحوار، أما إذا لم يتحقق و لو قدر ضئيل من التوازن فويل للضعيف من القوي، و ويل للفقير من الغني، و ويل و ويل.
إن الغرب يعرف قيمة التوازن، يعرف أنه الضمانة الوحيدة للسلام؛ سواء أكان توازن الرعب بأن تملك –باعتبارك طرفا- ترسانة من الأسلحة و وسائل الدمار الشامل، من مثل الأسلحة النووية و البيولوجية و الكيماوية. و يعرف أنه إذا ضغط عليك فقد تلجأ إليها، إذ لديك القدرة على تصنيعها و حمايتها و المحافظة عليها و استعمالها عند الحاجة. فهنا –فقط- يقوم ما يعرف بـ"توازن النمور" أو "الأسود". فالنمر إذا رأى نمرا مثله أو أسدا فإنه سرعان ما ينصرف دون مشاكل أو عراك، لكنه لا ينصرف عن حمار وحشي أو غزال طيب اللحم أو بقرة أو أرنب، خاصة إذا كان جائعا ! و من هنا عرف العصر الحديث مبدأ "التوازن". توازن الرعب و الخوف المتبادل وسيلة للسلام، فهم يدعون إلى السلام في ذات الوقت الذي يصنعون فيه أسلحة الدمار الشامل و يسيرون فيهما –معا- في وقت واحد لإيجاد حالة التوازن: توازن الردع/ توازن الأسود و النمور. فهل يملك العرب و المسلمون القدرة على التوازن مع الغرب بعامة، أو مع الغرب الأمريكي بخاصة؟ لا. و هل تملك أوروبا التوازن مع العملاق الأمريكي؟ الجواب: لا. و مثل ذلك يقال عن اليابان و الصين و روسيا وغيرها. و من هنا يصبح مفهوما قول الرئيس بوش: "إنه لا مجال لأي بلد في العالم أن يقف من حربنا على الإرهاب موقف المتفرّج؛ لأنه لم يعد هناك سوى موقفين: معنا أو مع الإرهاب" و لذلك سارعت الجهات المختلفة العربية و الإسلامية و غيرها و بدرجات متفاوتة إلى رفض الإرهاب و شجبه، و ذلك أضعف الإيمان، أو إلى مبايعة الرئيس بوش قائدا عالميا لحملة "محاربة الإرهاب" و لو دون تحديد لمفهوم الإرهاب(19). ففي هذه الحالة تتراجع قضية "الحوار" و تأرز إلى جحر كما تأرز الحية إلى جحرها.
و هذا ما يحدث في عالم اليوم؛ فنحن أمام حالة عالمية تكررت في تاريخ البشرية مرتين، و هذه هي الثالثة –وهي: أن تظهر قوة بشرية واحدة تستأثر بالقطبية و قيادة العالم و تفرض قيمها على العالم كله و هما: العالمية الهيلينية بقيادة الاسكندر و العالمية الرومانية. أما العالمية الإسلامية الأولى فإن تجربتها مغايرة تماما، فهي المرة الأولى التي لم تتكرر في التاريخ أن تقوم "الأمة القطب" فيها بفتح نسقها ليتسع للبشرية –كلها- إلا من أبى، و هذا النسق يعطي للجميع فرصا متكافئة في الانضمام إليه، و رفض ذلك إن شاء. و هذا الذي يأبى لا يسمح له بأن ينسحق، بل يعمل القطب نفسه على إقامته بجواره و تسويته به لتستمر "سنة التدافع" أو حالة التوازن في أداء دورها الحيوي فلا يسقط القطب تحت عوامل الاسترخاء و الترهل، و لا تنهار الأطراف تحت عوامل الاستبداد و التحكم. فكانت المعاهدات بأنواعها والاتفاقات أحيانا مقابل الحزية، و عقد الذمة –الذي يسوي بين القوة الأعظم في العالم و المتعاقدين معها، أو بدونه كل ذلك يحول القطب إلى مسؤول مسؤولية مباشرة عن أمن و استقرار و حماية الأطراف الأخرى –كما لو كانت جزءا من كيان القطب ذاته.
أما الحالة الراهنة للعالم فإنها حالة فريدة، و خطيرة في الوقت ذاته، و خطرها على القطب المنفرد ذاته لا يقل عن خطورته على الأطراف الأخرى في العالم و في مقدمته المسلمون. فهل يمكن أن يكون هناك حوار؟ و ما طبيعة ذلك الحوار و شكله؟ و كيف يمكن تحقيقه؟ و ما نتائجه؟ و هل من بديل عنه؟ هذه الأسئلة و غيرها تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها و إيجاد وعي كامل بحقائقها و مقاصدها.
فإذا أردنا أن نجيب بكلمة واحدة فنقول: لا. لا يمكن أن يقوم –والعرب و المسلمون في وضعهم المتهالك هذا- حوار فلسطيني إسرائيلي، و لا حوار عربي إسرائيلي، و لا عربي أمريكي، و لا إسلامي أمريكي –قبل أن يعيد العرب و المسلمون بناء أنفسهم، و يخرجوا من عالم ما قبل الثورات العقلية و الصناعية و التقنية ليقفوا في عالم اليوم فيمتلكون مقدراته، و يشعروا الآخرين أنهم قادرون على أن يكونوا أطراف حوار. فإن لم يفعلوا، و تسرعوا، و توهموا أن الطرف الآخر يمكن أن يعتد بهم أو يعتبرهم أطراف حوار فإنهم سوف يدركون و لو بعد فوات الآوان أن الحوار –إذا صحت تسميته بذلك- إنما هو حوار الذئب مع الحملان، أو الثعالب مع الدجاج ينتهي دائما بأكل الذئب للحمل أو الثعلب للدجاجة، و يكون الحوار مجرد فاتح شهية.
* النشأة المعاصرة لفكرة حوار الحضارات:
من الصعب تحديد تاريخ دقيق لهذا الذي صار يعرف في أيامنا هذه بـ"حوار الحضارات" لكننا بشيء من التجوّز و التساهل يمكننا أن نربط بين قيام "عصبة الأمم" و انتهائها و عجزها عن الحيلولة دون وقوع الحرب العالمية الثانية. ثم قيام "الأمم المتحدة" و نشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلقد أحس العالم –كله- المنتصر و المغلوب بالحاجة الماسة إلى تحقيق سلام و بناء أمن عالمي.
لقد ظن (هيغل) و غيره أن "فتح نابليون" لأوروبا كان "نهاية التاريخ" و بلوغ البشرية القمة بقيادة أوروبا أو "الغرب" الذي كانت تمثله آنذاك، و أنه لم يصنع بعد ذلك التاريخ تاريخ، لكن خاب فأل هيغل و غيره، فالحروب الصغيرة لم تنقطع، و في النصف الأول من القرن العشرين وحده قامت حربان كونيتان شكلت كل منهما تهديدا للعالم –كله- و لم تلبث أن نشبت –بعدها- "الحرب الباردة" التي لم تنته إلا بتفكيك الاتحاد السوفيتي.
و استمرت الحروب الصغيرة و لم تتوقف، و لم تستطع الأمم المتحدة و لا غيرها من إحلال الحوار محل الصراع في سائر القضايا الساخنة التي شهدها العالم. و إذا حدث شيء فإنما هي مفاوضات لا حوار.
و حين نبحث عن فكرة "الحوار" و كيف راجت في العالم الإسلامي حتى بادر إلى تبنّيها كثير من القادة، و روجت لها منظمة المؤتمر الإسلامي، و دعا إليها كثير من الأكاديميين و المفكرين، و عقدت بعض المؤتمرات حولها –نجد أنها راجت لأن كثيرا من المسلمين يظنون أن خصومة الغرب لهم خصومة مبنية على جهل الغرب بهم، و أن الحوار سوف يعرّف الغرب بالإسلام و المسلمين، و من التعارف سيكون التآلف و التعاون، و ينتهي الصراع. فالحوار سيبني جسورا كما أن البعض ظنوا أن الترويج لفكرة الحوار سيقابل الترويج لفكرة الصراع، و لعله يهزمها، و كأن الصراع و أفكار الصراع طارئة متحولة في الشخصية الغربية يمكن إيقافها بذلك الشكل البسيط. و هنا لا بد أن نذكر بأن الشرط الأساسي لبدء أي حوار هو الاستعداد الدائم لدى الأطراف المتحاورة لقبول نتائج الحوار. أما حين لا يكون هذا الاستعداد متوافرا فإن الحوار –آنذاك- يكون مجرد محاولة من الطرف الأقوى لإقناع مواطنيه و غيرهم إن أمكن بشرعية فعله و عدالته بعد ذلك، و أنه قد أعطى لخصمه الفرص المناسبة لتلافي الصراع، و لكن ذلك الخصم عنيد –مهما كان ضعيفا- و كان مصرا على موقفه، و كأن الحرب التي سيشنها –بعد ذلك- فرضها عليه ذلك الضعيف فرضا في حين أن الضعيف كان يتمنى فرصة الإفلات من تلك القبضة و التخلص من مصير قاتم لا يخفى عليه. و يمكن التمثيل لهذا النوع من الحوارات بحوارات السلطة الفلسطينية مع الحكومة العبرية، و حوارات حكومة حزب البعث العراقي مع أمريكا، و غير هذا مما يطلق عليه طمسا للحقائق "حوار". و يستطيع المراقب لهذا النوع من الحوارات أن يجسد الكثير من النماذج. فإذا قام بتحليلها فإنه سيكتشف الكثير من خصائص الحضارة الغربية، و الفكر الذي يقود حركتها، و الرؤية الكلية الكامنة وراء منظومة القيم التي تفسر الكثير من إجراءاتها.
* نحو أبعاد معرفية لحوار الحضارات:
إن الحديث المكرر المعاد الذي يكثر تداوله في العالم الإسلامي عن حوار الحضارات، و يتنادى الناس لعقد اللقاءات و الندوات حوله. و تنادي بعض القيادات السياسية الإسلامية بالإلحاح في المطالبة به، و تكريس مبادئه هو حوار من طرف واحد يريد أن يعطي لنفسه صفة الشريك في صناعة و صياغة القرار العالمي و إعادة صياغة بناء خارطة الأرض، و كلا الأمرين لا تتوافر في العالم الإسلامي –كله- شروطهما و لا أسبابهما، و لا أي مقوم من مقومات القيام بهما، إلا إذا اعتبرنا حالة "الانفعال" و صفة "المفعول به" من تلك المقومات. و هذا ما لا يراه أحد من المنتمين إلى الدوائر الفكرية، لذلك صار الحديث عن حوار الحضارات يمثل حالة بالغة التعبير عن عمق الأزمة التي يعيشها الفكر العربي و الإسلامي(20) إضافة إلى النظم. و تتجلى هذه الأزمة في حالة التبعية الظاهرة المتمثلة في نقل الأطر النظرية الفكرية و تبنيها بصورة أيديولوجية، أو في التبعية الكامنة التي تتمثل في فكر المقاربات و المقارنات في القرن التاسع عشر. و جوهر الأزمة أن من يحدد الإشكالات، و يثير القضايا، ويحدد أجندة البحث و الاهتمام، و أولويات التفكير يقع خارج البيئة الفكرية و الاجتماعية العربية و الإسلامية، و يتحرك في إطار نموذج معرفي ومعطيات اجتماعية و تاريخية و مصالح اقتصادية و سياسية و قيم و أهداف مختلفة، إن لم تكن متعارضة متناقضة مع تلك التي يتحرك في إطارها الباحث و المفكر العربي و المسلم، فإنها لا تلتقي معها بأي حال من الأحوال.
و قد ارتبطت قضية الحوار بين الحضارات في طرحها الأخير بما أثير حول مقالة صموئيل هنتنجتون(21) عن نفس الموضوع –التي كانت مقالة ثم تحولت إلى كتاب، و كتب حول موضوعه بعد ذلك آلاف الصفحات خاصة في الغرب، و من ثم بدأ العقل المسلم و العربي ينشغل بهذه القضية و بدأت تستحوذ على أولوياته دون أن يكون ذلك نابعا من إحساس عربي إسلامي بضرورة الحوار مثلا، أو كونه ضرورة اجتماعية، أو إشكالية فكرية، أو مصلحة سياسية للمجتمعات العربية و الإسلامية، و دون أن ينبع الطرح من داخل هذه المجتمعات، بل جاء من خارجها و ألقي عليها. و قد حاول هذا العقل العربي المسلم أن يقدم إجابات عن سؤال لم يفكر فيه و لم ينبع منه، و لم يمثل إشكالية فكرية ملّحة- على الأقل في المرحلة الراهنة لهذه المجتمعات العربية الإسلامية إذا ما قيس بما يواجه هذه المجتمعات من قضايا و تحديات أخرى حتى في أذهان أصحاب بعض المبادرات في الموضوع.
و بغضّ النظر عن موضوع هذه القضية في إطار أولويات الاهتمام في الفكر العربي المعاصر، فإنه ينبغي التأكيد على أن الاهتمام بها حاليا يعكس حالة من ردود الأفعال، و ليس الأفعال، و يعبر عن وضعية معينة تُصنع فيها الإشكالات خارج الحدود و يتم تصديرها. فبعد أن كانت تقدم إلينا الحلول سابقة التجهيز، أصبحت الآن، و مع التطور الفكري في الوطن العربي تقدم إلينا الإشكاليات كما هي فننشغل بقضايا لم تكن نابعة من ذواتنا أو معبرة عن همومنا و اهتماماتنا؛ و لذلك فإن التركيز على نقد محاولات الانشغال بهذه القضية لا ينبغي النظر إليه على أنه مصادرة على المطلوب، أو دعوة لغلق باب الحوار حول القضية، و لكنه فقط لإثارة الانتباه إلى قضية معرفية أكثر خطورة و أهمية ينبغي التركيز عليها و التيقظ لها، و إثارة الانتباه إليها.
و بعد هذه الملاحظة الأولية يمكن الإشارة إلى جملة نقاط:
أولا: حوار الحضارات و الحوار العربي الأوروبي:
في أعقاب حرب رمضان/ أكتوبر 1973 برزت فكرة الحوار العربي الأوروبي، و عقدت مجموعة من اللقاءات بين مفكرين و سياسيين عرب و أوروبيين، و صدرت عدة دراسات حول الموضوع. أهمها دراسة (روجيه جارودي) الذي دعا الغرب إلى التخلي عن غروره و غطرسته، و دعوته إلى إنشاء حوار مع الحضارات الأخرى، و بخاصة "حضارة القرآن" التي لا شك –عند جارودي-أن الحوار معها سوف يعود على الغرب و حضارته بفوائد لا تحصى، أقلها تخليص العالم من مركزية الغرب و أبعاده الأحادية، و إخراج الغرب ذاته من سجن مركزيته التي سجن نفسه بها إلى آفاق الثقافة العالمية. و اتهم جارودي الغرب بأنه قد هدم حضارات أسمى من حضارته بكثير، خاصة في علاقة تلك الحضارات بالطبيعة و المجتمع و القضايا الإلهية. و اتهم غرور الغرب العرقي الذي جعله يتوهم أن منابع حضارته تكمن في الإغريقية و الرومانية و النصرانية وحدها، فلم يلتفت إلى أن هذه المنابع نفسها لم تكن لتوجد لولا البيئات الحضارية الخصبة في آسيا وإفريقيا. و أن الغرب أنجب الرأسمالية والاستعمار اللذين أضرا بالبشرية كلها. و أكد أن التفوق الغربي لم يكن تفوقا ثقافيا، بل هو تفوق تقني أدى إلى العدوان على الثقافات و الحضارات الأخرى.
و قد اعتبر جارودي أن "حوار الحضارات" المخرج الأساس للغرب لتجديد ذاته و الخروج من أزماته؛ إذ إن الحوار –من وجهة نظره- و ليس الصراع هو الذي يمكن أن يولد مشروعا كونيا يخلق نسيجا ثقافيا و اجتماعيا جديدا على مستوى العالم ليدخل الناس في السلم كافة. و الطريف في دعوة جارودي إلى حوار الحضارات أنه حمّل الغرب ذاته مسؤولية تجديد نفسه و إعادة صناعة كل شيء فيه بحسب القواعد التي تنسجم مع الحضارات الأخرى. و تلته دراسة للعالم الدكتور حامد ربيع، و دراسة أخرى للدكتور أحمد صدقي الدجاني (22)، و في كليهما نجد دعوة مماثلة لدعوة جارودي من ناحية التأكيد على العرب بأن يعيدوا تجديد ما بلي أو تقادم من حضارتهم، و أن يحسنوا فهم الآخرين ليكونوا قادرين على إنشاء حوار حضاري جاد، أو ليصبحوا في مستوى شريك حضاري قادر على الحوار. و قد تركز هدف الحوار في حينه –إضافة إلى ذلك- على قضايا سياسية و حضارية و فكرية متعددة.
و لكن الدعوات الثلاث لم تلق من الغرب أو من العالم الإسلامي قدرا يلحظ من الاهتمام إذا ما قيس بمقدار الزخم الذي أحاط مقولة صموئيل هنتنجتون؛ و ذلك لأن الطرف الأوروبي كان يقصد بالحوار أهدافا سياسية و اقتصادية ينافس بها الولايات المتحدة على نفوذها في المنطقة فتحول الحوار إلى صيغة تفاوضية و لم يعد حوارا معرفيا فكريا حضاريا.
كذلك تعددت لقاءات و ندوات الحوار الإسلامي المسيحي أو الإسلامي الكاثوليكي، و لم يحطها أيضا زخم إعلامي أو اهتمام عربي، و لم تلق اهتماما يتوازى مع أهميتها؛ و لعل ذلك يعود بالأساس إلى عاملين أساسيين، أولهما: أن الغرب الآن يطلق مقولة "حوار الحضارات" و هي تتضمن في جوهرها صدام و صراع الحضارات و يمهد لذلك، و قد كشفت أحداث سبتمبر عن ذلك. و ثانيهما: أن حوار الحضارات في طرحه الأخير يتسق مع المعطيات التاريخية و السياسية و الاستراتيجية للعالم الغربي بعد انتهاء الشيوعية، و بعد تطهير البيت الأوروبي من الانقسام الأيديولوجي ما بين شيوعية و رأسمالية، و التحول إلى محاولة صنع أعداء من خارج النسق الحضاري الغربي خصوصا في حوض حضارة الإسلام.
و هذا يؤكد مرة أخرى على أن القضية التي قد تم طرحها ليس فقط في غير أوانها بالنسبة لنا، و إنما أيضا على غير وجهها و بغير مضمونها.
ثانيا: حوار فكري أم تفاوض سياسي:
إن مفهوم الحوار ينصرف إلى أحد معنيين، أولهما: يعنى منهاجية فلسفية أساسها قرع الحجة بالحجة، و اتخاذ موقف المعارضة المنطقية بغية الكشف عن الحقيقة، و قد كان هذا طابع الدراسات التي أشرنا إليها. و على العكس يثير المعنى الثاني مفاهيم التفاوض السياسي الدولي التي تحكمها عناصر القوة و ليس الحق، و تهدف إلى تحقيق الغلبة التي هي طريق تحقيق المصلحة –في العقل الغربي- و ليس الوصول إلى الحقيقة أو تجليتها.
و من خلال هذين المفهومين يمكن طرح تساؤل أساسي هو: أي حوار حضاري يطلب العرب و المسلمون اليوم؟ أهو حوار يقصد الوصول إلى الحقيقة والانصياع لها بعد إقرارها؟ أم هو عمل يحقق مصالح معينة لطرف، و يفرضها بمنطق و حق القوة و ليس بقوة الحق؟ و هو الموقف الغربي الذي شجبه غارودي.
و هنا نجد أن من الضروري أن يخفف العرب و المسلمون من الدعوة إلى الحوار الإسلامي الغربي إلى الحوار الإسلامي الإسلامي، و تحديد المقصد من الحوار و أهدافه، و مدى إمكانية تحقيق هذه الأهداف، و مدى استعداد و قدرة أطراف الحوار على الالتزام بنتائج الحوار و تفعيلها؛ إذا لا يمكن أن يتم التحاور إلا بين أطراف على حد أدنى من الندية و التساوي في القوة و التكافؤ في الوزن، و الاستعداد لقبول نتائج الحوار و الالتزام بها. و ما لم يصفّ المسلمون ما بينهم و يوجدوا صيغا للتفاهم تجعلهم قادرين على توحيد مواقفهم فإنهم لن يكونوا قادرين على الحوار المجدي مع الغرب الأوروبي، و لا مع الغرب الأمريكي. كذلك ينبغي تحديد أي النمطين من الحوار نريد؟ أهو حوار الحضارات باعتبارها حضارات و أنساقا ثقافية و فكرية و عقائدية و قيما و معايير و رؤية للعالم و الإنسان و الكون و الحياة و خالق هذا الكون و واهب الحياة؟ أم هو حوار بمعنى التفاوض بين نظم سياسية و تكتُّلات إقليميّة أو أحلاف عسكرية؟ أو هو طلب للحوار من عاجز أو غير راغب بعمل شيء غير الجلوس على طاولة كلام لتحقيق الرضى عن النفس حتى لو انتهت بمزيد من التنازلات؟
فالناظر في مفهوم الحضارات –كما يعبر عنها معظم مفكري الغرب- يجد تداخلا بين الفكري الثقافي الديني من ناحية، وبين السياسي الاقتصادي الاستراتيجي من ناحية أخرى بصورة تجعل من الأبعاد الأولى محددات للتمايز بين الحضارات، ولكنها ليست غايات أو مقاصد في ذاتها، بل هي معطيات، و تحدد الفواصل و الغايات فقط التي ينبغي أن تنصبَّ أساس على الأبعاد الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية. و كأن الحوار ينبغي أن يتم بين المختلفين حضاريا بالمعنى الثقافي الاعتقادي بقصد تحقيق أهداف سياسية و اقتصادية، و بهذا يتداخل الحوار مع التفاوض، و يتم اختزال مفهوم الحضارة في أبعاد السياسة الذرائعية، و طبقا لهذا المفهوم ظهرت معظم الكتابات التي تعلقت بهذا الموضوع –إن لم يكن كلها-.
و من هنا فإنه لا بد من التأكيد على ما ينبغي أن نركز عليه من مفاهيم الحوار و الحضارة بالمعنى الذي ينبثق من تقاليدنا الفكرية و أنساقنا المعرفية. أما التفاوض السياسي فله مجاله البحثي و خطابه الفكري الخاص به، و كذلك له رجاله و المتخصصون فيه.
ثالثا: أهم القضايا الأساسية لحوار الحضارات:
حتى يمكن الحديث عن حوار حضارات بالمعنى الحقيقي، بعيدا عن المصالح السياسية لقوى أو لدول معينة، و بعيدا كذلك عن الانسياق وراء أطروحات قد لا تعبر عن حاجات إنسانية حقيقية، و حتى يمكن تأسيس هذا الحوار على قواعد معرفية مستقيمة: ينبغي التركيز على القضايا التالية:
1- إن مفهوم الحوار في هذا السياق ينصرف إلى المعنى المتعلّق بالتحاور و الاختلاف حول الأفكار و القيم و المعايير، و الأنماط المعرفية و المنهجية، و قواعد السلوك والثقافة، وإن هدف هذا الحوار هو الوصول إلى الحقيقة و اعتبارها ضالة للمتحاورين كافة ينبغي البحث و التفتيش عنها و الانصياع لها عندما توجد و تعرف.
2- إن الحضارة ينبغي أن يتم تحديدها في قواعدها وأسسها الفكرية الثابتة، التي تتضمن رؤية للعالم تحدد الموقف من الإله و الإنسان و الكون و الحياة، بما يعنيه ذلك من تحديد الموقف من المسخرات في الكون و البيئة، و كذلك الموقف من "الآخر" المنضوي تحت حضارة أخرى.
3- إن الاختلاف بين الحضارات سنة من سنن الله في الكون، و أنّه لا ينبغي و لا يمكن أن يزال، و من ثم لا ينبغي السعي لتذويب الفوارق و الاختلافات و لذلك خلقهم(هود:119)، و إن هذا الاختلاف و التعدد و التنوع غايته التعارف و التعايش و تبادل المنافع و تحقيق العمران.
4- إن لكل إنسان، و من ثم لكل أمة و حضارة حق الاختيار و حريته، و من ثم ينبغي أن يحرر الإنسان من القهر و الإجبار أو الإكراه بأي طريق من الطرق، و منها: تزييف الوعي أو الغزو الفكري أو غسيل الدماغ أو فرض النظم و الأنساق الثقافية. و لا بد أن يؤسس الاختيار على اقتناع الأمم و الشعوب في تمتعها بحرية الاختيار؛ لا اختيارات القادة وحدهم و لتحقيق مصالحهم السياسية،بل اختيارات الأمم نفسها.
5- إن الفواصل الحقيقية بين الحضارات تكمن في النظم المعرفية و الأنساق العقائدية و رؤى العالم و المبادئ الأساسية، و إن المنجزات المادية و النظم الإدارية هي نتيجة لذلك، و ليست أساسا له، و من ثم ينبغي أن يتم التحاور حول الأسس و الفواصل الحقيقية، لا حول الثمرات و النتائج.
6- إن التعاون و التعايش و المحاورة بين المختلفين هي وسيلة للجنس البشري لتحقيق الأمن و السلام اللذين يحققان العمران، و ليس التصارع و التقاتل، و من ثم لا ينبغي النظر إلى "الآخر" على أنه عدو ينبغي قهره، و لكن على أنه إنسان مكرم ينبغي التعامل معه بصورة تحقق حريته و كرامته، ولا بد أن تخضع للحوار مبادئ الأمم و الحضارات التي تتنافى و هذه القواعد، لإدخال التعديلات التي تجعل الحوار ممكنا.
7- إن رسالة الإسلام ليست رسالة قومية، و لا عنصرية،و لا إقليمية، و من ثم لا ينبغي تجسيدها في قوم محصورين أو إقليم معين، و لكن لها تجليات متعددة و متنوعة. فإذا نظر إلى الإسلام باعتباره حضارة تحاور الحضارات الأخرى فينبغي ألا تنحصر في قضايا الشرق الأوسط أو العالم العربي، و لكن لا بد أن تشمل جميع الجماعات و المجتمعات الإسلامية في أي مكان، و تكون قواعد الحوار ممثلة للجذور المعرفية و الأغصان الثقافية التي قامت هذه الحضارة عليها باعتبارها حضارة إسلامية.
8- إن الإسلام لم يعرف في تاريخه مفاهيم التصادم الحضاري أو الحروب الحضارية –كما هي عادة الغرب- و لكنه اقتصر فقط على الأبعاد العسكرية التي تقف فقط عند حرب و قتال الجيوش. فلم يعرف تاريخ الإسلام المقاطعة الاقتصادية، أو حصار المجتمعات، أو تجويع الأطفال و النساء، أو منع الدواء عن المرضى، بل على العكس كان المسلمون طوال تاريخهم يقومون بتأمين طرق التجارة الموصلة لأوروبا. كذلك لم يعرف تاريخ الإسلام إبادة الحضارات أو الشعوب أو الثقافات، و لكنه عرف مبادئ إصلاح و تكييف الثقافات المختلفة، و الحفاظ عليها و تطعيمها بالقيم العليا الحاكمة، أعني: التوحيد و التزكية والعمران. و لذلك نجد التعدد في الملبس و المسكن و العمران صورة واضحة داخل حضارة الإسلام لا تكاد تجد لها مثيلا في أي حضارة أخرى، إذ المهم في حضارة الإسلام تحقيق وحدة العقيدة، و عنها تنبثق وحدة المشاعر و الأفكار ثم المصالح.
9- إن حوار الحضارات يعني الاعتراف بأن هناك حضارات متعددة، و ليست حضارة عالمية واحدة نسخت سائر الحضارات السابقة عليها، و من ثم فلا بد من إعادة النظر في المناهج و النظريات و العلوم الناتجة عن حضارات عالمنا المعاصر كلها، و ليس فقط ما ينتج عن الحضارة العالمية المركزية –التي يزعم البعض أنها خلاصة التطور البشري و نهايته. و طالما أن الحضارات الأخرى لم تزل قائمة وينبغي أن تدخل في حوار مع الحضارة المركزية فلا بد من التخلي عن تلك الصراعات الفكرية، مثل: "نهاية التاريخ" سواء أجاءت من هيجل أو تلامذته، أو من فوكوياما. و كذلك لا بد من تصحيح مسار تلك العلوم، لأن تلك العلوم و المناهج و النظريات ستكون موضوعا للتحاور، و من ثم لا ينبغي الانطلاق من معطيات الحضارة الغربية كقاعدة أساسية مسلمة، و بذلك يكون من الضروري تطوير العلوم و المناهج و النظريات الخاصة بحضارتنا الإسلامية النابعة من مصادرنا المعرفية المتمثلة في القرآن الكريم و بيانه من السنة المطهرة، ثم تطوير المناهج للتعامل مع تراثنا و مع العلوم النابعة من الحضارات الأخرى حتى نستفيد منها دون الوقوع في خصوصياتها و تحيزاتها التي قد تتعاكس مع أنساقنا المعرفية و القيمية و العقائدية و إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير الأنفال:73. فحوار الحضارات أكبر من نداء يطلق، أو كلمة يؤذن بها من يشاء، أو شعار يرفع، أو مؤتمر للكلام يعقد. إنها –معرفيا- أعمق و أصعب و أشد من ذلك.
تلك هي أهم القضايا المعرفية التي ينبغي أن ينصرف الاهتمام إليها قبل الانخراط في حوار حقيقي للحضارات، و بدونها سيكون الأمر تفاوضا سياسيا ينبغي أن يوكل إلى رجال السياسة و الدبلوماسية، و ليس لأرباب القرطاس و القلم. فهل من سبيل لقيام حوار إسلامي إسلامي يمكن أن يعاد به بناء مفهوم "الأمة القطب" و لو بعد حين؟ ! نرجو ذلك و نتمناه، و الله وليّ ذلك و القادر عليه.
* د. طه جابر العلواني : رئيس جامعة العلوم الإسلامية و الاجتماعية –الولايات المتحدة الأمريكية-
الهوامش:
1- راجع: المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مادة (حَور)، و تاج العروس شرح القاموس، و المصباح المنير، و مختار الصحاح، و التعريفات للجرجاني.
2- المعجم الوسيط، مادة (حضر).
3- القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادة (حضر)
4- لسان العرب، ابن منظور الإفريقي، مادة (حضر)
5- أحمد محمود صبحي، في فلسفة الحضارة، الإسكندرية، مؤسسة الثقافة الجامعية، دت، ص 3.
6- المرجع السابق، ص 4.
7- ينظر في ذلك: أحمد محمود صبحي،في فلسفة الحضارة، مرجع سابق. يوسف الحوراني، الإنسان و الحضارة، بيروت، المكتبة العصرية، ط 2، 1973م. سليمان الخطيب، أسس مفهوم الحضارة في الإسلام، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، ط 1، 1986م. عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، أسس الحضارة الإسلامية و وسائلها، بيروت، دار القلم، ط2، 1980م, و دراسة عبد العزيز برغوت، قانون الحضارة في ضوء الخصائص المعرفية للرسالة الخاتمة، رسالة ماجستير، ط خاصة، 1995م.
8- ول ديورانت، قصة الحضارة، نشر: جامعة الدول العربية، 1957م.1/4
9- ألبرت شفيتزر، فلسفة الحضارة، القاهرة، مطبعة مصر، دت، ص 35-37
10- نقلا عن فلسفة الحضارة، ص 267.
11- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، دار نهضة مصر، ط 3، دت، ص 475و 888. و نحن نخالف ابن خلدون بالتفريق بين "العمران" و "الحضارة". فإن "العمران" عندنا حضارة تلاحظ القيم الإلهية الثابتة التي من أجلها خلق الله البشر واستخلفها واستعمرهم الأرض؛ و لذلك جعلناه ثالث القيم الحاكمة: التوحيد و التزكية والعمران. فالتوحيد حق الله على العباد، و التزكية أهم مؤهلات الاستخلاف، و العمران قوام الأرض و حقها و حياتها، و بدونها تكون الأرض مواتا.
12- مالك بن نبي، آفاق جزائرية، القاهرة، مكتبة عمار،ط 2، 1971م. ص38. و هذا فيه ما في تعريف ابن خلدون.
13- سيد قطب، معالم على الطريق، القاهرة، دار الشروق، دط، 1981م. ص 118و 127. و نحن نشارك الشهيد سيد قطب بما ذهب إليه، لكننا نسمي ما توافر فيه ما ذكر بـ "العمران" لا بـ "الحضارة".
14- نقلا عن مقدمات في فهم الحضارة الإسلامية، ص 17. تعريف المودودي قريب من تعريف الشهيد سيد قطب، و يقترب جدا من مفهومنا في "العمران".
15- روح الحضارة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، ص 19.
16- و هذه –كلها- من مقومات الحضارة المرتبطة بالقيم و من أدواتها و وسائلها في الوقت ذاته، و بذلك يكون ما أراده ابن عاشور بالحضارة هو ما أسميناه بـ"العمران"، و يمكن تسميته بـ"التمدن" كذلك مع ملاحظة الارتباط بالقيم.
17- ابن عاشور، روح الحضارة الإسلامية، ص 39.
18- أطلق المعتزلة على مخالفيهم ذلك، فكانوا يصفون بها الفرق المنتقدة لهم التي تلقبهم بـ"المعتزلة" بدلا من "أهل العدل و التوحيد" و هو اللقب الذي اختاروه لأنفسهم، و شاعت العبارة الأولى بينهم بحيث نجدها في كتب عامة أصوليّيهم عندما يناقشون المسائل المختلف فيها. و أكثر الجاحظ في كتبه من ترديد ذلك، خاصة في كتابه (الحيوان) راجع كتاب محمد كرد علي (أمراء البيان) في ترجمته للجاحظ، 2/293. و مع ما في العبارة من قسوة فإنها عبارة صادقة في وصف حالة الأمة اليوم.
19- لحد الآن لم يصدر تعريف محدد لـ"الإرهاب" بأي لغة من لغات الأقوياء، و لم نر أحدا منهم وضع رسما للإرهاب. فهو مفهوم سائل يسقطه الأقوياء على الضعفاء للبطش بهم و محو آثارهم متمتعين بكل ما يحتاجون إليه من "شرعية دولية" و "شفافية سياسية" !!
20- أنظر في الأزمة الفكرية:
- العلواني، طه جابر. الأزمة الفكرية المعاصرة: تشخيص و مقترحات علاج، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2، 1992م.
- أبو سليمان، عبد الحميد. أزمة العقل المسلم. فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1991م.
انظر مقال صموئيل هنتنجتون، صراع الحضارات، نشر مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، صيف حزيران/ يونيو 1993م. و ترجم في القاهرة بعنوان: الإسلام و الغرب: آفاق الصدام. ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، 1995م.
21- انظر مقال صموئيل هنتنجتون، صراع الحضارات، نشر مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، صيف حزيران/ يونيو 1993م. و ترجم
22- انظر في ذلك:
- ربيع، حامد. الحوار العربي الأوروبي و استراتيجية التعامل مع الدول الكبرى. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات و النشر، 1980م.
المصدر: المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر
http://www.alwihdah.com/identity-and-citizenship/relationship-with-other/2010-04-26-2386.htm