الحوار مع الآخر
الحوار مع الآخر
مفهومه، أهميته، ضوابطه
في
الفكر الإسلامي
إعداد
الأستاذ الدكتور محمد أحمد حسن القضاة
الجامعة الأردنية / كلية الشريعة
مقدم لندوة "الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي"
والتي ستعقد في جامعة الشارقة / كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
من 28-30 ربيع الأول / 1428هـ
الموافق 16-18/4/2007م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين المبعوث رحمة للعالمين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
المقدمة :
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين متباينين في: ألوانهم، وأشكالهم، وعقولهم، وأفئدتهم. فكان من البدهي أي يواجه الفرد في حياته من يخالفه في العقيدة أو الفكر أو الرأي، وإذا ما أراد الفرد الاتصال بمن يخالفه فليس أمامه إلا سبيلان: الأول: القهر والعنف والغلبة، والأخر: الحوار والتخاطب بالتي هي أحسن. ولا ريب أن الإنسان السوي يدفعه عقله وتحركه فطرته إلى نبذ السبيل الأول والنفور منه، وإلى ابتاع السبيل الآخر (الحوار) واللوذ به. وللوقوف على مفهومه، وأهميته، وضوابطه، كان هذا البحث.
من هنا، فإن هذا البحث يلقي الضوء على مفهوم الحوار مع الآخر، وأهمتيه، وضوابطه، والأسس المنهجية للتعامل مع الآخر، وذلك ضمن المباحث التالية:
المبحث الأول: مفهوم الحوار مع الآخرة وأهميته في الفكر الإسلامي.
المبحث الثاني: الأسس المنهجية للتعامل مع الآخر
المبحث الثالث: ضوابط التعامل مع الآخر.
والله أسأل أن يكون هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم، وخدمة لشرعه الحنيف، وان يرقى بمستوى التخاطب بين بني البشر إلى أفق أرحب، ومدى أوسع.
المبحث الأول: مفهوم الحوار مع الآخر وأهميته في الفكر الإسلامي:
المطلب الأول: مفهوم الحوار مع الآخر
نعرض في هذا المطلب لمفهوم الحوار مع الآخر لغة واصطلاحاً، والمصطلحات ذات الصلة، وذلك في الفرعين التاليين:
الفرع الأول: مفهوم الحوار لغة واصطلاحاً
الحوار لغة: "الحَوْرُ: الرجوع... والمحاورة والمَحْوَرة والمَحُورة: الجواب كالتحوير والحَوارِ ويكسر والجيرة والحويرة ومراجعة النطق. وتحاوَرُوا: تراجعوا الكلام بينهم"( ).
الحوار اصطلاحاً: للحوار عدة تعريفات في الاصطلاح، نذكر منها التعريفات التالية:
1. تعريف د. عبد الستار الهيتي: "أسلوب يجري بين طرفي، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره"( ).
2. عرف د. خليل عبد المجيد زيادة المحاورة بأنها: "عرض لوجهتي نظر، أو هي نوع من توضيح خصائص مختلفة لأمرين"( ).
3. تعريف الباحث عبد الله علي العليان: "المجلوبة والمراجعة في المسألة موضوع التخاطب"( ).
4. تعريف د. يوسف الحسن: "هو أن يتبادل المتحاورون من أهل الديانتين، الأفكار، والحقائق والمعلومات والخبرات، التي تزيد من معرفة كل فريق بالآخر بطريقة موضوعية، تبين ما قد يكون بينهما من تلاق أو اختلاف، مع احتفاظ كل طرف بمعتقداته، في جو من الاحترام المتبادل والمعاملة بالتي هي أحسن، بعيداً عن نوازع التشكيك ومقاصد التجريح، بل ما يرجى منه هو إشاعة المودة وروح المسالمة والتفاهم والوئام، والتعاون فيما يقع التوافق فيه من أعمال النفع العام للبشرية"( ).
هذا ويلاحظ أن التعريفات الثلاثة الأولى قد عرفت الحوار تعريفاً عاماً يتسع لصور الحوار وأشكاله المتعددة: كالحوار بين أهل الأديان، أو الحوار بين المذاهب الفكرية أو العقدية أو الفقهية في الدين الواحد، وهذا أولى من الاتجاه الذي سلكه التعريف الرابع حيث جاء تعريفاً خاصاً بالحوار بين الديانتين الإسلامية والنصرانية، فضلاً عن أنه تعريف مطول، وقد عرض لضوابط الحوار وآدابه وهو مما ينبغي خلو التعريف منه. لذا نختار الاتجاه الذي سلكته التعريفات الثلاثة الأولى، وعند استعراضها يتبين أن التعريف الأول كان أبين وأوضح في الدلالة على المراد فيكون هو المختار.
الفرع الثاني: المصطلحات ذات الصلة
تتردد عند ذكر مصطلح الحوار مصطلحات أخرى كالجدل والمناظرة، فما اوجه الاتفاق والاختلاف بين هذه المصطلحات ومصطلح الحوار؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا الفرع:
أولاً: مفهوم الجدل لغة واصطلاحاً وعلاقته بالحوار
الجدل لغة: "جادَلَه: أي خاصمه مُجَادَلَةً وجِدَالاً، والأسمر: الجَدَلُ وهو شدة الخصومة"( ).
الجدل اصطلاحاً: "القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان"( ).
هذا وينقسم الجدل إلى قسمين: ( )
1. الجدل المحمود: وهو ما كان من أجل تقرير الحق. ومنه قوله تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن"( ).
2. الجدل المذموم: وهو الذي يتعلق في تقرير الباطل ويراد به: الجدل على الباطل وطلب المغالبة فيه. ومنه قوله تعالى: "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا"( ).
علاقة الجدل بالحوار: بين الباحث محمد حسين فضل الله أن هناك فرقاً في الاصطلاح اللغوي بين معنى كل من كلمتي الحوار والجدل: "فكلمة الحوار تتسع لكل أساليب التخاطب، سواء كانت منطلقة من وضع لا يوحي بالخلاف أو يوحي به، بينما كلمة (الجدال) تختزن في داخلها معنى الخلاف والشجار، وتحمل في عمقها أيضاً معنى التحدي والصراع، الذي يبتعد عن العدوانية والسادية، لذلك كان التصنيف المتوازن: جدال بالتي هي أحسن، وبغير التي هي أحسن"( ).
ثانياً: مفهوم المناظرة لغة واصطلاحاً وعلاقتها بالحوار
المناظرة لغة: "ناظرة مناظرة: بمعنى جادله مجادله"( )
المناظرة اصطلاحاً: "النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئيين إظهاراً للصواب"( ).
والمناظرة بهذا المعنى تفيد: "المحاورة بين شخصين او فريقيين حول موضوع معين، لكل منهما وجهة نظر تخالف وجهة نظر الفريق الآخر، بحيث يريد إثبات وجهة نظرة وإبطال وجهة نظر خصمه، مع توفر الرغبة الصادقة بظهور الحق والاعتراف به عند ظهوره"( ).
علاقة المناظرة بالحوار: يقول د. خليل زيادة في صدد بيان العلاقة بين الحوار والمناظرة: "الحوار يضم المناظرة وغيرها: يمعنى أن المناظرة فرع من المحاورة، والمحاورة: هي عرض لوجهتي نظر، او هي نوع من توضيح خصائص مختلفة لأمرين، بينما المناظرة محاجة فيها غالب ومغلوب بالحجة والبرهان والدليل وبإفحام الخصم في رأيه، وإبطال حجته، وهي تعتمد بالدرجة الأولى على قوة الحجة بقدر ما تعتمد المحاورة بمفهومها الأوسع على سعة الخيال وحضور البديهة والإلمام التام والشامل بأدق خصائص ما يدور الحوار من حوله من صفات ظاهرة أو خفية، ومما يدرك بالحواس أو يحاط به معنى"( ).
المطلب الثاني: أهمية الحوار في الفكر الإسلامي
للحوار أهميته البالغة في الفكر الإسلامي، ويمكن تجليتها في النقاط التالية:
1. الحوار هو السبيل الأسمى لضبط الاختلاف المذموم (اختلاف التضاد) وتفعيل قيم التعاون والتألف والتكاتف: وبدونه تدخل ساحتنا في أقوى النزاعات ودهاليز الفرقة والتفتت. والقمع والقهر لا ينهي فرقة وتجزئة وإنما يزيدها تأجحاً واشتمالاً. والبديل المتوفر عن الحوار هو الحروب الأهلية وعمليات الإقصاء والتهميش والتمييز والتعصب الأعمى. ولنا في الدول التي ابتليت بالحروب الأهلية خير مثال فالأزمة استفحلت في هذه الدول حينما أغلق باب الحوار وغيبت قيم التسامح والتعددية والمشاركة وحقوق الإنسان( ).
2. الحوار ركيزة أساسية في الدعوة إلى الله تعالى: "فالدعوة في الأساس حوار، والقرآن الكريم كما يقول الكثير من أهل العلم: كتاب حوار بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الضلال، بين الكلمة الصادقة النافعة والكلمة الخبيثة المنحرفة. وقد سرد لنا الكتاب الكريم في العديد من آياته كيف تم الحوار بين الأنبياء وأقوامهم، وهي في الأساس دعوة إلى الحق وإلى الطريق القويم"( ).
3. الحوار ضروري لاكتساب العلم وتلقي المعرفة: وهو السبيل الوحيد لذلك في رحلة عمر الإنسان، إذ بدونه لا يمكن أن تنتقل الخبرات من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة. كما أن الحوار كفيل بأن يجعل الفكر ينبض بالحياة والحركة والتجدد من خلال تواصل عقلين أو مجموعة عقول لإدراك المعلومة أو تمحيصها أو تفهم معانيها( ).
4. الحوار أداة للتفاهم مع الآخرين: ذلك أن الحوار يهدف إلى شرح وجهة نظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر، لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه، ذلك أن التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين ثم إلى تفاهمها( ).
5. يعمل الحوار على إبراز الجوامع المشتركة بين المتحاورين في العقيدة والأخلاق والثقافة( ).
6. يعمل الحوار على تعميق المصالح المشتركة بين المتحاورين( ).
المبحث الثاني: الأسس المنهجية للتعامل مع الآخر
للتعامل مع الآخر أسسه المنهجية التي تحكمه وتضبطه وهي :
الأساس الأول: تحديد مجال التعامل ونطاقه.
لابد أن يكون مجال التعامل ونطاقه محددين واضحين، ليتسنى لكل من المتعاملين العمل في خطى واضحة بينه مستنيرة، ذلك أن عدم وضوح مجال التعامل ونطاقه من شأنه إضاعة الوقت دون طائل وتبديد الطاقة دون فائدة، وعلى العكس من ذلك كلما اتضح مجال التعامل ونطاقه وتحددت معالمه كان ذلك ادعى إلى استغلال الوقت والجهد لأن كلا المتعاملين يعلم مجال تعامله فيصرف جهده إليه ويعلم المواطن التي ليست محلاً لتعامله فلا يصرف جهده إليها.
الأساس الثاني: تحديد آليات التعامل
يقصد بآليات التعامل: مجمل الإجراءات التنظيمية التي تساعد على بلوغ التعامل إلى مسعاه النهائي، وهذه الإجراءات والأدوات يجب أن تكون واضحة ومحددة من خلال الآتي: ( )
1. ضرورة التأكد من صحة المعلومات الواردة في التعامل.
2. ضرورة مناقشة القضايا الواردة في التعامل دون أن يكون في الذهن قرار مسبق أو حكم ثابت أو موقف صارم.
3. ضرورة الاستئناس بذوي الخبرة والمختصين الذين لهم علاقة بموضوع التعامل.
4. استخدام المناهج العلمية والمنطقية أثناء التعامل من خلال التفكير والتحليل والاستنباط، ليكون التعامل عقلانياً ورشيداً.
5. ترتيب عناصر التعامل خطوة خطوة، ابتداء بالمبادئ الجزئية وصولاً إلى الكليات والنتائج الكبرى، التي هي هدف التعامل وغايته.
الأساس الثالث: استناد التعامل إلى معايير يؤمن بها المتعاملان
لابد من استناد التعامل إلى معايير يؤمن بها المتعاملان، فإذا كان التعامل بين مؤمنيين وملحدين كان المعيار هو العقل والحقائق العلمية المتفق على التسليم بها، وإذا كان بين مؤمنيين بوجود الخالق أضيف هذا إلى تلك المعايير، وأضيف إليه أيضاً المحاكمة إلى حقائق دينية يؤمن بها كل من الفريقين، وإذا كان بين منتسبين إلى دين واحد كالإسلام مثلاً كانت المعايير مراجع دينهم الذي به يؤمنون( ).
الأساس الرابع: تحديد الغاية من التعامل
لابد من تحديد الغاية من التعامل، إذ بدون تحديد أهداف ومرامي التعامل لن يصل المتعاملون إلى غايات مرجوة، فتحديد القضايا والأهداف يشكل مدخلاً هاماً لا يحيد عنه طرف من الأطراف، لئلا يكون التعامل دائراً في حلقة مفرغة( ).
الأساس الخامس: العدل والموضوعية
وهما ركيزتان أساسيتان في التعامل مع الآخر، "ففي ظل فقدان العدالة والموضوعية، وغياب المعايير والمقاييس المنضبطة تصبح النظرة الجائرة والأحكام المسبقة في المقياس في التعامل مع الآخر. فعلى سبيل المثال فإن الغرب مع بعض الاستثناء يتبنى مواقف معادية للنهوض الإسلامي، وألغى العدالة والإنصاف في سياساته، واحتلت الأحكام المسبقة القائمة على الاتهام، والتوجس، وعدم اتخاذ موافق عادلة تجاه قضايانا المختلفة( ).
الأساس السادس: الاحترام المتبادل
على المتعاملين أن يتقيدوا فيما بينهم بحسن الخطاب والتزام القول الحسن وتجنب الازدراء والتسفيه، ذلك أن احترام الآخرين من الأمور الإيجابية التي تسهم في إنجاح التعامل والارتفاع به إلى آفاق متقدمة. وهذه الآداب الإيجابية لها من الآثار الطيبة التي تسهم في بلورة معطيات وأسس ناجحة للتعامل يتسم بالانفتاح والقبول لدى كل الأطراف، وهذا الأسلوب أيضاً في اللين والقول الحسن يتجلى في التأدب والصبر والحلم والتودد والنصح والهدوء والرفق في غير علو ولا عناد ولا تعصب ولا تشدد ولا تنطع ولا تطاول ولا كبر وغيرها من الأساليب والطرق الحكيمة في آداب التعامل( ).
المبحث الثالث: ضوابط الحوار مع الآخر
ثمة ضوابط للحوار ينبغي لكل من يتصدى للحوار أن يراعيها ويلتزم بها، وهذه الضوابط هي:
الضابط الأول: تحديد موضوع الحوار
ينبغي بادئ ذي بدء تحديد موضوع الحوار ذلك أن الحوار لا يتحقق من فراغ، وإنما يدور حول موضوع يستحق البحث والمناقشة وتبادل الآراء مع الغير، لأن عدم تحديد موضوع الحوار يجعل عملية التحاور ليست ذي بال ولا طائل منها، بل إنها تتحول من محاورة علمية إلى صيغة كلامية توصل أطرافها إلى اللجاج الذي يقتصر الأمر فيه على النقاش لذاته، ويكون هم المتنافسين إحراز غلبة على الخصم ونيل الشهرة دون هدف علمي منشود( ).
وإن أهم ما ينبغي الاهتمام به في هذا الجانب هو معرفة الطرفين المتحاورين للموضوع المطروح للتحاور، لأن الجهل به وعدم الإطلاع على تفاصيله يحول الحوار إلى أسلوب من أساليب الشتائم والمهاتراث بدلاً من طرح الفكرة المعينة والدفاع عنها، ذلك أن المعرفة التامة بالقضية التي يجري الحوار بشأنها تجعل المحاور يعلم كيف يبدأ الحوار، وكيف يعالج مفرداته، وكيف ينتهي منه، في وضوح الرؤية وهدوء الفكر وقوة الحجة ووداعة الكلمة( ).
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض النماذج البشرية التي وقفت ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوته من دون أن يكون لها علم بها أو إحاطة بعناصرها، إذ قال تعالى: "ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"( )، وقال: "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغية فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير"( )، فهذه الآيات تثبت أن القرآن الكريم يآخذ على كل هؤلاء الذين يخاصمون الأنبياء، أنهم يدخلون في معركة الحوار دون سلاح، لأنهم لا يملكون علماً أو حجة، وليس لديهم إحاطة بالموضوع الذي يتحاورون فيه، مما يجعل حوارهم ورفضهم لنتائجه قضية مزاج، وعقدة نفسية تتحكم بهم فتدفعهم إلى اللف والدوران وإلى التكذيب بلا مبرر، الأمر الذي لا يؤدي إلى أية نتيجة لحساب المعرفة أو لمصلحة الحق"( ).
الضابط الثاني: تحديد الغاية من الحوار
لابد من تحديد الغاية التي يريد المتحاوران الوصول إليها من وراء التحاور، وإذا ما كان الحوار صادقاً ونافعاً فلا بد أن يحدد له هدف يمكن الإشارة إليه صراحة أو ضمناً، ومهما يكن من أمر فإن غايات الحوار لا تخرج عن الغايات التالية( ).
1. الوصول إلى تفسير متفق عليه حول موضوع المحاورة.
2. الرغبة في تخطي حالة العقم الفكري، الذي هو: تجاوز ثقافة البعد الواحد ورفض الأنسياق وراء المذهب المتسلط السائد.
3. الرغبة تخطي حالة الانغلاق الفكري، الذي هو تجاوز التعصب المذهبي أو الفكري او السياسي أو الاجتماعي.
الضابط الثالث: استناد الحوار إلى معايير يؤمن بها الطرفان
من ضوابط الحوار: "أن يستند إلى معايير يؤمن بها الطرفان، فإذا كان حواراً بين مؤمنين وملحدين كان المعيار هو العقل والحقائق العلمية المتفق على التسليم بها، وإذا كان بين مؤمنين وملحدين كان المعيار هو العقل والحقائق العلمية المتفق على التسليم بها، وإذا كان بين مؤمنين بوجود الخالق أضيف هذا إلى تلك المعايير، وأضيف إليه أيضاً المحاكمة إلى حقائق دينية يؤمن بها كل من الفريقين، وإذا كان بين منتسبين إلى دين واحد كالإسلام مثلاً كانت المعايير مراجع دينهم الذي به يؤمنون( ).
الضابط الرابع: التكافؤ والمساواة
في هذا الضابط تتساوى الأطراف المتحاورة من حيث الاعتبار والندية والمساواة والإرادة المشتركة بينها، وهذا التكافؤ مثلاً "لا يقاس بمعايير سياسية أو عسكرية أو اقتصادية... فهذه وتلك تخضع بطبيعتها لتقلبات الظروف والأحوال الدولية... فراجح يومه قد يكون مرجوح عند غيره...! وإنما يقاس التكافؤ في الحقيقة بمقدار ما قدمته حضارة ما لكل الأمم والشعوب من منجزات جزلة كريمة، وبمدى ما أسهمت به في تنمية الوجود الإنساني وتطويره، وإمداده بالقيم الروحية والأخلاقية على مر التاريخ( ).
وهذا الضابط "هو الأجدر بنجاح الحوار وتفعيله، لأنه البديل عن التمايز والتفاوت في مستويات المتحاورين بحيث لا يحس أحدهما بالدوينة: إذ ليس من الطبيعي أن يجري الحوارعلى أساس الأقوى والأضعف أو الأعلى أو الأسفل أو صاحب الحق وغيره حجة باطلة، إلى غيرها من المقابلات المخلة بالتعامل المتوازن. التكافؤ والمساواة في الحوار من هذا المنطلق هما الطريقة الممكنة لبناء مقومات التفاهم والانفتاح على الآخر، بحيث يفهم كل طرف من أطراف الحوار غيره وينفتح على آرائه وأفكاره والتعرف على آلياته في التفكير، ومنطقه الذي يحمله عن الآخر، حتى يمكن إزالة الأحكام المسبقة والأفكار غير الصحيحة لتتقارب الآراء وينجح الحوار بمستوياته العادلة"( ).
الضابط الخامس: الإنطلاق من المبادئ المتفق عليها
حتى يتحقق الحوار الناجح ينبغي الإنطلاق من المبادئ والقضايا المتفق عليها بين الجانبين، أو التي يجب أن توفر مجالاً رحباً للاتفاق وليس الاختلاف، فينطلق الحوار من الموضوعات التي تشغل الإنسانية وتؤرق ضميرها كقضايا محاربة الظلم والعدوان على حقوق الإنسان، وإقرار حق الشعوب في تقرير مصيرها. بعد ذلك يمكن التحاور في الأمور الخلافية وعلى قواعد التقارب والتفاعل وحسن الفهم، والحكمة الثاقبة لخير الإنسانية واستقرارها( ).
الضابط السادس: ان يكون المتحاورن صادقين
لابد أن يكون المتحاورون صادقين مخلصين في الوصول إلى ما أعلنوا من أهداف، لا أن يكون الحوار مجرد وسيلة إلى أغراض أخرى يضمرها أحد المتحاورين أو كلاهما( ).
الضابط السابع: عدم التعصب لفكرة مسبقة
على كل من الطرفين المشاركين بالمحاورة أن يتخلى عن التعصب لوجهة نظر مسبقة وعن التمسك بفكرة يرفض نقضها أو مخالفتها، لأن التمسك بوجهة النظر السابقة يتباين مع منهجية الحوار في تبادل الأفكار وتداول الطروحات وسماع الرأي الآخر، ذلك أن طبيعة الحوار تقتضي الإعلان من الطرفين عن الاستعداد التام للكشف عن الحقيقة والأخذ بها عند ظهورها، سواء أكانت وجهة نظر سابقة، أم وجهة نظر الطرف الآخر الذي يحاوره. وقد أكد القرآن الكريم على هذا المفهوم بصراحة واضحة. وذلك حين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين في محاورته لهم: "وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين"( ).
وفي هذا غاية الابتعاد عن التعصب لفكرة مسبقة، وكمال الرغبة في البحث عن الحقيقة أفّي كانت ومن أين صدرت( ).
الضابط الثامن: إنصاف المحاور
ويراد به: المحافظة على حق الطرف الآخر وإنصافه من كل وجه، بقطع النظر عن صفته أو مركزه العلمي والاجتماعي، لئلا تنقلب المحاورة إلى مكابرة( ). هذا، والمتتبع للحوارات القرآنية يتلمس فيها المساواة بين طرفي الحوار، فعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأن مناظريه على باطل، إلا أن الله تعالى يوجهه إلى افتراض أنه لا يعلم أيهما على هدى، وأيهما في ضلال، كما في قوله تعالى: "قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين"( ). وفي موطن آخر يصرح القرآن الكريم بالمساواة لطرفي الحوار حتى ولو كان ذلك بين فريقين مختلفين في الفكر والعقيدة، كما في قوله: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" ( )، فهذه الآية تقدم دعوة لأن يكون طرفا الحوار على درجة واحدة من المساواة لا يتميز أحدهما عن الآخر وذلك في قوله تعالى: "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، مما يؤكد إنصاف المحاور والمحافظة على حقه( ).
الضابط التاسع: أهلية المحاور
ويقصد به: "أهلية المحاور من حيث العلم والثقافة الواسعة والمعرفة بالقضية المطروحة للحوار، ولابد أن يكون حكيماً فطناً، عالماً بالعصر، فقيهاً في قضايا الفكر وتحولاته، قوياً مستقيماً، عارفاً للدنيا، مدركاً لرسالته الراهنة، فتفتح العقل ذكي الفؤاد، واسع الأفق محيطاً بمعارف عصره على قدر كبير من الثقافة والخبرة والدراية في الأمور التي تطرح للحوار، وبهذا المعنى فإن الحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي والمعركة الحضارية خصوصاً في عصرنا الراهن، وهو أيضاً وسيلة ناجحة من وسائل الدفاع عن المصالح العليا للأمة، وشرح قضاياها، وإبراز اهتماماتها وأهدافها، وتبليغ رسالتها، وإسماع صوتها، وإظهار حقيقتها... إلى غيرها من الأهداف. لذلك فإن أهلية المحاور مسألة مهمة في الحوار"( ).
ومن الخطأ أن يقوم بالدفاع عن الحق من لا أهلية له في هذا الجانب( ) و "إذا كان من الحق الا يمنع صاحب الحق فمن الحق ألا يعطي هذا الحق لمن لا يتسحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً"( ).
الضابط العاشر: سلامة اللغة وحسن الأسلوب
على المحاور أن يكون لسانه مقوماً وكلامه بليغاً من غير تقعر أو تشدق، وإنما يسلك الأسلوب السهل بعيداً عن الكلام المبتذل، وهذا ادعى لأن يفهمه الناس وينجذبوا إلى حديثه. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الأنبياء كانوا على درجة عالية من البلاغة وحسن الأسلوب، وما ذلك إلا ليعينه حسن البيان على تبليغ دعوتهم وحوارهم لأقوامهم، قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"( )، وهذا موسى عليه السلام يطلب من الله تنعالة أن يعينه في إفهام الناس من جهة البيان "قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي"( )، وقد حكى القرآن الكريم عن موسى –عليه السلام- ما يشير صراحة إلى أهمية الفصاحة والبيان: "وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي رِدْءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون، قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بأياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون"( ).
وقد أكدت السنة أن البيان له تأثيره على المسامع، فقد روى البخارس عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"( ).
وجاء في حديث آخر: "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له. بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها. أو ليتركها"( ).
فهذه النصوص من الكتاب والسنة توجه كل محاور إلى ضرورة الاعتناء باللغة وحسن الأسلوب حين التحاور( ).
الضابط الحادي عشر: الالتزام بآداب الحوار
على كلا المتحاورين الالتزام بآداب الحوار وهي:
أولاً: عفة اللسان
من آداب الحديث أن لا يتجاوز المتكلم في مدح ولا يسرف في ذم، لذا على المحاور أن لا يبالغ في الذم فهو طريق الشر والرذيلة، ولا يسرف في المديح والثناء، لأن المبالغة فيه ملق ومهانة. وإن أقبح الصفات أن يتنزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيء العبارة، فقد قيل لرسول الله (ص) "يا رسول الله ادع على المشركين، قال: "إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة"( ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لرسول الله صلى عليه وسلم): "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"( ). فعلى المتحاورين أن يرجعوا إلى أداب الإسلام في الحوار بدل أن ينصب بعض الناس أنفسهم أو صياء على الأمة وعقولها، فيتهمون هذا ويغسقون ذاك، ويشيعون الخوف من المشاركة في الفكر وابداء الرأي، حتى توقف بعض العلماء عن الخوض في كثير مما يحتاج إليه الناس من اجتهاد، وأقفلت بسبب ذلك أبواب الحوار بالتي هي أحسن لتفتح بدلاً عنها أبواب الصراع والشغب"( ).
ثانياً: حسن الصمت
من آداب الحوار: "حسن الإنصات والاستماع وتجنب المقاطعة بإعطاء الفرصة الكافية للآخر، ليطرح وجهة نظره والتفاعل أيضاً مع ما يقوله، فعدم الاستماع الجيد يدفع الآخرين إلى تجاهل الذين يتجاهلون حديثهم وهكذا. وهذه مشكلة أخلاقية وسلوكية تنتشر في الكثير من المجتمعات، حيث تهدد الحوار وربما تقوضه من الانطلاق الإيجابي بين المتحاورين أو الذين يسعون إلى الحوار الصادق الجاد"( ).
ولا شك أن فضيلة الاستماع للآخر لها إيجابياتها الكثيرة في الحوار وهذا لا يعني "الاستماع السلبي: أي أن تصبح متلقياً غير متفاعل مع ما هو قادم من الآخر، وبالتالي كأنه أمر لا يعنيك، في حين أنك عندما تستمع إليه بشكل إيجابي ومتفاعل، فإن درجة وحجم التأثر والتأثير على الطرف المقابل ستكون باستمرار أعلى وأكبر الأمر الذي يجعل عملية هدر الطاقات ولا سيما النافعة منها في أقل نسبة ممكنة"( ).
ثالثاً: احترام شخصية المحاور
ويتحقق ذلك من خلال الأمور التالية ( ):
1. اهتمام المحاور بالطرف الآخر اهتماماً ودياً وذلك بالانتباه لكلامه، وعدم تجاهله، او الانشغال عنه بشخص أو موضوع آخر.
2. تلافي تحقير الطرف الآخر، أو اللجوء إلى النقد الشخصي فيما يخص سيرته الفردية أو العائلية، وتجنب استخدام اليد دفعاً أو تهديداً.
3. فسح المجال أمام الطرف الآخر للدفاع عن وجهة نظره كاملة، والتعامل مع أفكاره بصدر ورحب عن طريق إتاحة الوقت الكافي لعرضها وبيانها.
بذلك يكون من آداب الحوار احترام أدمية الإنسان وإنسانيته، بصرف النظر عن الاختلاف في الرأي والتباين في الفكرة والتباعد في وجهات النظر.
رابعاً: الحوار بهدوء وروية
وذلك لأن الانفعال والتوتر النفسي في الحوار يفضي بالنتيجة إلى فشل المحاورة وعدم الافادة منها، فلا حاجة للاستمرار فيها، بل إن من ضرر المحاورة التي يسودها الانفعال يكون أكثر من نفعها.
من هنا لابد أن يكون الحوار مبنياً على المرونة والتسامح، فقد يكون المحاور على خطأ في الفكرة أو المعلومة التي يطرحها، ولكن المرونة والهدوء يعملان على استمرار الحوار واستكمال موضوعاته، أما التوتر والتعصب فهي امور لا تشجع على الحوار ولا تخدم أهدافه، وإذا ما جرى الحوار في ظل تلك الأجواء فمصيره إلى الإخفاق والفشل وحتى يتحقق ذلك ينبغي على المحاور أن يكون صوته هادئاً دون ارتفاع أو صراخ، لئلا ينقلب الحوار إلى مهاترات كلامية عقيمة( ).
خامساً: الالتزام بالوقت المحدد
على كلا المتحاورين الالتزام بالوقت المحدد في الحوار والمناقشة عند كل طرف من الأطراف، لأن هذا الالتزام يجعل الطرف الآخر إيجابياً في استجابة وتفهمه، وهو في نفس الوقت عدل في تقسيم الوقت وتوزيعه بين المتحاورين، بطرح وجهة نظرهم، وما يريدون شرحه وبيانه، وإلا حصل التململ والضجر وعدم القبول بسبب هذه الإطالة او الاستطراد في الحديث دون إعطاء الطرف الآخر الفرصة أو الدخول في صلب القضية المطروحة في الحوار مباشرة.
وهذا يرجع لأسباب عدة منها: ان البعض يعجب بنفسه وقدراته، كما يعتقد، لذلك تراه يطيل في الحديث، ويتوسع في الشرح، ويعدد مناقبه ومسيرته وخبراته...، وهذا الأسلوب لا يسهم في إنجاح الحوار بل إنه ربما يجهض مسارات الحوار، بهذه الأنانية المفرطة.
والبعض الآخر يحب الشهرة والمديح، ويترصد نظرات الحضور وملامحهم، لعله يجد التقدير والثناء والإعجاب، أو ربما ليقال عنه: إنه رجل يملك المعرفة والعلم والقدرة على الحديث والنقاش الواسع دون توقف او تعلثم...
والبعض من الناس كذلك يعتقد أنه عندما ما يطيل في الحديث ويتوسع في الشرح، أنه يأتي بالجديد الذي لم يطلع عليه الحضور أو لم يسمعوه طيلة حياتهم، ولهذا يزداد نشوة في الكلام، ويقحم الكلمات في غير محلها أو مسارها ويطرح الآراء غير الدقيقة أو التي ليست هي مجال الحوار، وهذا أمر طبيعي، لأن كثرة الكلام والإطالة غير المستحبة تجلب الأخطاء لأنهما بلا منهجية أو هي أقرب إلى الاستعراض الكلامي الممجوج.
وفي هذا الصدد نقول: إم عدم الالتزام بالوقت المحدد في الحوار فيه سلبية مقيتة وهي قلة المبالاة بالناس وعلمهم ووقتهم، حيث لا مراعاة لهؤلاء الذين يجلسون معه ويستمعون إليه، وربما كان بعضهم أعلم منه، واكثر قدرة على الحديث والشرح بأضعاف مضاعفة مما شرحه مع الفارق العلمي الذي ربما يتفوقون به عليه، لكنهم لم يجاوره في هذا الأسلوب غير المستحب.
فالالتزام بالوقت المحدد بين الأطراف المتحاورة هو أحد الطرق والوسائل الإيجابية للحوار، بل هو من آداب الحوار التي يجب الالتزام به مسبقاً( ).
من هنا، لابد أن يسعى المتحاورن إلى ما يريدون بشكل مباشر، وذلك من خلال استبعاد الكلام غير المنضبط بضوابط القضية المطروحة أو الإطالة من غير الدخول في صلب الموضوع في الحوار مباشرة، وقطع المداخلات الجانبية الاستعراضية والمظهرية( ).
الضابط الثاني عشر: التسليم للحق والاعتراف بالصواب بعد قيام الحجة والبرهان
من ضوابط الحوار: التسليم للحق والاعتراف بالصواب بعد قيام الحجة والبرهان من أحد المتحاورين وعدم التعصب للرأي الذي ثبت خطؤه( ).
ولهذا فإن من أصول الحوار أن يوطن المحاور نفسه على الرضا والاقتناع والتسليم للحق الذي ظهر في الحوار على لسان الآخر. وعليه أن يستيقن ان الآراء والأفكار ليست ملكاً لأحد او جنس او طائفة، والصواب ليس حكراً على أحد بعينه، وإن من الخطأ البين ان يظن أحد ان الحق لا يغار عليه إلا هو، ولا يحبه إلا هو ، ولا يدافع عنه إلا هو، ولا يخلص له إلا هو( ).
هذا، والتعصب للرأي مع وجود الحجة والبرهان ينشئ العصبية المقيتة والاعتقاد الخاطئ بامتلاك الحقيقية، لذلك توجهت الخطابات الشرعية ضد هذا المفهوم السلبي واعتبرته متجاوزاً للحق والعدل، وقد ورد في القرآن الكريم ذم العصبية ووصفها بالمقيتة كما في قوله تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية"( )، وقوله تعالى: "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً"( )، وقوله تعالى على لسان فرعون: "أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين"( )، إلى غير ذلك من الآيات التي تنهى عن العصبية( ).
الضابط الثالث عشر: ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج
ليكون الختام مسكاً من خلال التزام الجميع بما تعاهدوا عليه في بداية الحوار من الإنصاف والرجوع للحق إذا ظهر، وذلك على افتراض أن الحوار سار وفق أسس الحوار وضوابطه، وإذا ما رفض المحاور الحجج العقلية بأن لم يقتنع بها أو تمادى في تعصبه ولم يخضع للحق فإنه بهذا يمارس حقاً أصيلاً كفله له سبحانه وتعالى، وسيكون مسؤولاً عن ذلك أمام الله تعالى. وهنا ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ او دون حاجة إلى التوتر والانفعال: قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلية"( )، ولا حاجة لأن يتابع الخصم على ما بدور منه من إساءات أثناء الحوار، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل مع الآخرين( ): "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"( ).
الخاتمة :
يمكن صياغة أهم نتائج هذا البحث وخلاصته في النقاط التالية :
1. الحوار: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.
2. كلمة الحوار تتسع لكل أساليب التخاطب، سواء أكانت منطلقة من وضع لا يوحي بالخلاف أم يوحي به. بينما كلمة الجدال تختزن في داخلها معنى الخلاف والشجار، وتحمل في عمقها أيضاً معنى التحدي والصراع.
3. الحوار يضم المناظرة وغيرها: بمعنى أن المناظرة فرع من المحاورة، والمحاورة: هي عرض لوجهتي نظر، أو هي نوع من توضيح خصائص مختلفة لأمرين. بينما المناظرة محاجة فيها غالب ومغلوب بالحجة والبرهان بإقحام الخصم في رأيه وإبطال حجتنه، وهي تعتمد بالدرجة الأولى على قوة الحجة بقدر ما تعتمد المحاورة بمفهومها الأوسع على سعة الخيال وحضور البديهة والإلمام التام بخصائص ما يدور الحوار من حوله من صفات ظاهرة أو خفية
4. للحوار أهميته البالغة في الفكر الإسلامي: فهو السبيل الأسمى لضبط الاختلاف المذموم وتفعيل قيم التعاون والتألف، وهو ركيزة أساسية في الدعوة إلى لله تعالى، وهو السبيل لاكتساب العلم وتلقي المعرفة، كما انه أداة للتفاهم مع الآخرين، ويعمل على إبراز الجوامع المشتركة بين المتحاورين في الأخلاق والعقيدة والثقافة، كما يعمل على تعميق المصالح المشتركة بين المتحاورين.
5. للتعامل مع الآخر اسسه المنهجية التي تحكمه وتضبطه وهي: تحديد مجال التعامل ونطاقه وآلياته والغاية منه، واستناد التعامل إلى معايير يؤمن بها المتعاملان، والعدل والموضوعية، والاحترام المتبادل.
6. ثمة ضوابط للحوار ينبغي لكل من يتصدى للحوار أن يراعيها ويلتزم بها وهي: تحديد موضوع الحوار والغاية منه، استناد الحوار إلى معايير يؤمن بها الطرفان، التكافؤ والمساواة، الانطلاق من المبادئ المتفق عليها، أن يكون المتحاورون صادقين، عدم التعصب لفكرة مسبقة، إنصاف المحاور، أهلية المحاور، سلامة اللغة وحسن الأسلوب، الالتزام بآداب الحوار، التسليم للحق والاعتراف بالصواب بعد قيام الحجة والبرهان، ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج.
المصادر والمراجع :
1. الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية المسمى الصحاح، دار إحياء التراث الع ربي، بيروت، ط1، 1419هـ، 1999.
2. الجرجاني، علي بن محمد، التعريفات، تحقيق د. عبد المنعم الحفني، دار الرشاد، القاهرة.
3. السماك، محمد، ثقافة الحوار في الإسلام: حرية الاختيار وحق الاختلاف، بحث في الإنترنت، بتاريخ 8/1/1428.
4. فراج، خالد خميس، ثقافة الحوار من منظور إسلامي، بحث في الإنترنت، بتاريخ 8/1/1428.
5. الحسن، يوسف، الحوار الإسلامي المسيحي الفرص والتحديات، المجتمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 1997.
6. العليان، عبد الله علي، حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين رؤية إسلامية للحوار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004م.
7. الهيتي، عبد الستار إبراهيم، الحوار الذات والآخر، ضمن سلسلة كتاب الأمة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 2004م، المحرم 1425هـ، السنة الرابعة والعشرون، العدد99.
8. إدريس، جعفر شيخ، الحوار مجادلة جادة لا مداهنة، مقال في مجلة البيان، السنة الثامنة عشرة، العدد 190، جمادي الآخرة، 1424هـ، أغسطتس ، 2003م، تصدر عن المنتدى الإسلامي.
9. زيادة، خليل عبد المجيد، الحوار والمناظرة في القرآن الكريم، دار المنار.
10. البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت، 1415هـ 1995م، مطبوع مع فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
11. مسلم، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، دار الخير، دمشق، بيروت، ط1، 1414هـ:، 1994م، مطبوع مع شرح صحيح مسلم للنووي،.
12. الشمالي، ياسر، ضوابط الحوار وأسسه.
13. فضل الله، محمد حسين، في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، دار الملاك، ط1، 1414هـ، 1994م.
14. الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط6، 1419هـ، 1998م.
15. الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، المطبعة الأميرية، القاهرة، ط4، 1921م.