أسس الحوار في القرآن بين الكفر والإيمان كما ذكرته قصة الرجلين في سورة الكهف

أسس الحوار في القرآن بين الكفر والإيمان كما ذكرته قصة الرجلين في سورة الكهف
بحث مقدم من
الدكتور : أبو بكر علي الصديق
الأستاذ المشارك في جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا
للمشاركة في مؤتمر: الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي المزمع عقده في
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة / الإمارات
الاثنين والثلاثاء 28 – 30 ربيع الأول 1428 هـ الموافق 16 – 18 / 4 / 2007 م
شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا
تلفون جوال 009715159001
فاكس : 0097167438888
ص . ب : 346 عجمان الإمارات
البريد الألكتروني : : ajac.baker@ajman.ac.ae

المقدمة
الحمد لله الذي خلق الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، والصلاة والسلام على رسول الله، خير من دعا إلى دين الله، ليوحِّد الناس ويتآلفوا، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بعدهم ممن استناروا بهديه وأصلحوا، وبعد :
فإن البحث عن سبب الحاجة إلى الحوار مع الآخر، يدفع المتأمل لمراجعة التاريخ البشري منذ أقدم العصور، ليتوصل سريعا إلى حقيقة ظاهرة، مفادها أن حياة الناس منذ القديم، شابها اختلاف كبير، تسبب في صراع مرير. ومنشأ ذلك اختلاف العقول حول مفاهيم الحقائق الكبرى، التي تقوم عليها حياة البشر، مثل مفهوم الحق والواجب، والخير والشر، والإيمان والكفر، والحياة والموت، والألوهية والإلحاد، ... وغيرها مما يؤثر مباشرة على تصوراتهم، وينعكس على سلوكهم وتصرفاتهم ، فتفاوت العقول في إدراك هذه المفاهيم، أدى إلى اختلاف الناس وصراعهم وسفك دمائهم ، ولعل هذه النتيجة هي التي تنبأت بها الملائكة الكرام منذ اللحظة الأولى، التي أخبرهم الله تعالى بأنه سيخلق في الأرض كائناً متميزا هو الإنسان .
فقد قضت حكمة الله تعالى منذ الأزل، أن يعمر هذه الأرض، ويخلق فيها الإنسان، فلما أخبر ملائكته بذلك، استشفوا من خلال علمهم بأسرار خلقه، وما استودع فيه من ميزات وملكات، أنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فقالوا كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدِّس لك ... " فقد أدركوا من خلال علومهم النورانية، حول طبائع هذا المخلوق وتكوينه الجسدي والعقلي والنطقي، أنه قابل لفعل الخير والشر على السواء، وهذا يمكنه من الخروج من الطبع إلى الاكتساب، ومن الطاعة إلى المعصية ، ويدفعه للتفكير بالنفع والضر، والصلاح والفساد، وهذا الاختلاف القائم في النفس البشرية من حيث المستودعات التكوينية -خاصة الفكرية منها- تؤدي إلى اختلاف الناس حول أمور كثيرة وخطيرة، مثل المفاهيم التي سبقت الإشارة إليها، مما يستدعي تنظيم حوارات حولها بين الناس يتولى كل طرف عرض ما لديه من فكر على الطرف الآخر، بأسلوب حكيم، وكلمة طيبة، وحجة ظاهرة بعيدا عن التعصب والشجار، والعنف وسفك الدم، الذي يشكّل أكبر مظهر للإفساد في الأرض .
وتحقيقا لمبدأ الحوار بين الناس، خصَّ الله تعالى هذا الإنسان بنعم عظيمة، تمثلت في نعمة العقل واللسان ونعمة الرسالة، فبواسطة العقل واللسان يستطيع الإنسان أن يناقش غيره، ويحاوره في أموره، ويشرح قضاياه، ويبين معتقداته، ويدلّل على أحقيتها، ويدافع عنها، ومن خلال هذا الحوار قد تتوصل الأطراف إلى الاتفاق، وقد يبقى الاختلاف في وجهات النظر قائما .
وقد اهتم الإسلام بموضوع الحوار مع الآخر اهتماما كبيرا، فحدّد ضوابطه وأرسى شروطه وشرّع أساليبه ووجه أهدافه، ورفع في مكانته عندما أضفى عليه حُلَّة حضارية، تلزم الناس بأن يحترم بعضهم بعضا، ويتجنبوا أسباب الصراع، لأن طبيعة الحوار تجعله يتسع لكل معاني التخاطب والتفاهم والسؤال والجواب بين الناس ، وهذه الأمور تتجلى لنا عند التأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، التي بينت أساليب النبي الكريم في حواره مع الناس، عندما دعاهم إلى رسالته أفرادا وجماعات، والتي انتظمت ضمن القاعدة القرآنية المستفادة من قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " ، وقوله : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..." ، وقوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ..." .
فإذا استوفى الحوار هذه الخصائص، كان حوارا هادئا وهادفا، يمكّن أطرافه من الوصول إلى الحق والإنصاف، بعيداً عن التعصب والانفعال، الناشئ من رغبة أحد الأطراف في السيطرة على الطرف الآخر .
فالحوار خير وسيلة للتفاهم بين الناس، خاصة في هذه الفترة التي تشهد صراعا مريرا فيما بين الحضارات الإنسانية من جهة، وبينها وبين الإسلام من جهة أخرى، مما يحتم فتح باب الحوار على مصراعيه لبحث كل القضايا الخطيرة، المتعلقة بالعقائد والأديان بصفة عامة، علما بأن الإسلام يدعو أتباعه لحوار الآخرين بالتي هي أحسن، تأمينا لوصول نور الهداية إلى غير المسلمين، فإن أصرَّ الآخرون على موقفهم، فسماحة الإسلام تتسع للجميع، ولا يجوز إكراههم على الدخول في الإسلام، عملاً بقوله تعالى : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ... "
المبحث الأول : بين يدي قصة الرجلين:
أ- المحور الموضوعي لسورة الكهف :
سورة الكهف مكية بإجماع أقوال المفسرين كما قال ابن عطية في تفسيره : " وهذه السورة مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن فرقة، أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: جرزا، والأول أصح " .
وأما محورها الموضوعي الذي تدور موضوعاتها حوله، فهو العقيدة الصحيحة، القائمة على الفكر والنظر الصحيح، والمؤيد بالحجة والبرهان، والداعي لتصحيح نظرة الإنسان إلى القيم الحقيقية، على ضوء تلك العقيدة الصحيحة . فقد ابتدأت السورة الكريمة بإبراز العقيدة السليمة، من خلال إعلانها عن وحدانية الله تعالى، ونبذ كل مظاهر الشرك ، وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " . وفي ختام السورة تكرر هذا المعنى في قوله تعالى : " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " .
ونظرا لأهمية هذه القضية، فإنها تكررت مرات في هذه السورة الكريمة، ففي قصة أصحاب الكهف، يأتي الإعلان عن وحدانية الله تعالى، والتبرؤ من الشرك، على ألسنة أولئك الفتية المؤمنين عندما قالوا : " ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهة لقد قلنا إذا شططا، هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بَيِّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ، وفي نهاية قصتهم يأتي التعقيب عليها بقوله تعالى : " مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا "
وفي قصة الرجل الكافر صاحب الجنتين يقول له صاحبه المؤمن وهو يحاوره: " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " .
وفي التعقيب على هذه القصة يأتي قوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا، هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " ، وفي يوم القيامة تبرز لنا السورة مشهدا لفضيحة المشركين حيث يقول تعالى : " ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا " وفي موضع آخر وضحت السورة مصير المشركين يوم القيامة فقال تعالى : " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا " .
ولترسيخ عقيدة التوحيد ونبذ الشرك، أبرزت السورة الكريمة أهمية النظر والتأمل، الذي يحركه الفكر السليم، المؤيَّد بالأدلة والبراهين الساطعة، التي تكشف حجب الغفلة والجهل عن العقل، فلا يؤمن بعقيدة ولا يسلِّم بها دون دليل أو برهان، لذلك أنكرت السورة الكريمة على النصارى عقيدتهم المنحرفة التي نسبت لله ـ تعالى ـ الصاحبة والولد، دون سند من علم أو عقل ، قال تعالى : " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ، مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " ، وهؤلاء الفتية المؤمنين أصحاب الكهف، يعيبون قومهم المشركين، لاعتقادهم وجود آلهة مع الله ـ تعالى ـ دون أن يأتوا على ذلك بدليل أو برهان من علم، قال تعالى : " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " .
فالسورة الكريمة دعت الناس إلى اعتناق العقيدة الصحيحة المؤيدة بالحجة والبرهان، والمستندة إلى العقل والعلم ، ثم دعت بعد ذلك إلى تصحيح نظرة الإنسان إلى القيم، على ضوء تلك العقيدة، فالقيم الحقيقية يكون مردّها إلى الإيمان والعمل الصالح، وكل ما عداها قيم أرضية رخيصة، صائرة إلى زوال، وكل ما على الأرض من مظاهر الزينة إنما هو محض ابتلاء واختبار ومصيره إلى الزوال ، قال تعالى : " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " .
وعلى أساس هذه القيم النبيلة، يأتي موقف أصحاب الكهف لافتا، حيث اعتزلوا قومهم، وفرّوا بإيمانهم، وآثروا العيش في كهف، بعيدا عن زينة الدنيا، قال تعالى : " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " .
وتحقيقا لهذه القيم، يأتي الخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ليصبّر نفسه مع فقراء المؤمنين، بعيدا عن زينة الدنيا وأهلها المتكبرين الغافلين، فيقول تعالى : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " .
وتأتي قصة الرجل صاحب الجنتين، يتألق فيها موقف المؤمن، المعتز بإيمانه، الشامخ أمام فتنة المال والجاه، فينبري لصاحبه الكافر يحاوره مذكرا ومحذرا وقائلا له : " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " ، ثم يأتي التعقيب على هذه القصة، تمثيلا للحياة الدنيا وزينتها الزابلة الزائلة، فيقول تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا " ، ثم تقارن السورة الكريمة بين القيم الزائفة الزائلة وبين القيم الحقيقية الباقية فيقول تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " .
وتأتي قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح، لتظهر قيمة التواضع في حياة العلماء، وأنه فوق كل ذي علم عليم، وكذلك قصة ذي القرنين، صاحب القدرات الخارقة، الذي لم ينسَ فضل ربه عليه، ولم يقصِّر في طاعته لمولاه ، وعندما يتقدم القوم إليه بمال ليبني لهم سدا يحول بينهم وبين فساد قوم يأجوج ومأجوج، يردّ عليهم مالهم، ويذكّرهم بنعمة الله عليه، فيقول : " ما مكّني فيه ربي خير" ، وعندما يتم بناء السدَّ، يسند الأمر ويرجع الفضل في ذلك إلى الله تعالى، فيقول : " هذا رحمة من ربي " .
وفي ختام السورة تأتي المقارنة بين مصير أتباع القيم الزائفة والقيم الحقيقية يوم القيامة ، فأخسر الناس في ذلك اليوم العصيب، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، فهؤلاء لا وزن لهم عند الله تعالى ولا قيمة ، وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعا، وأما الذين آمنوا وعملوا لصالحات فأولئك كانت لهم جنات الفردوس نزلا، جزاء لهم على ما قدموه لأنفسهم من خير، بمحافظتهم على القيم الأصيلة التي حثَّ عليها القرآن الكريم .

ب- المناسبة بين آيات قصة الرجل صاحب الجنتين وما قبلها :
تبين لنا مما سبق أن سورة الكهف من أعظم سور القرآن الكريم التي اهتمت بموضوع القِيَم في حياة البشر، فدعت إلى التزام الحقيقية الأصيلة، القائمة على الاعتزاز بالإيمان بالله ـ تعالى ـ والعمل الصالح، الذي يرفع درجات صاحبه عند الله ـ تعالى ـ وهذا يستدعي مجاهدة كبيرة لنفسه، تدفعه للترفع عن كثير من مظاهر زينة الحياة الدنيا، ومقاومة بريقها المخادع، الذي يزيّن له الانصراف عن القيم الأصيلة، وهذا المعنى وضحته سورة الكهف غاية الوضوح، عندما بيّنت أنَّ كل ما على الأرض زينة لها، ليتم ابتلاء الإنسان وامتحانه بين تلك المظاهر من الزينة البراقة، التي تبهر الأبصار، وبين القيم الحقيقية النابعة من الإيمان بالله ، قال تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " ، ولكن تلك الزينة مصيرها إلى الزوال ، وتبقى القيم الحقيقية ثابتة ترفع أصحابها المتمسكين بها، مما يجعلهم يتحملون في سبيل الثبات عليها، كل مكروه للنفس من ألم وحرمان وشظف العيش وقسوة الحياة الدنيا، كما فعل أصحاب الكهف، الذين آثروا التضحية والعيش في كهف مهجور بعيداً عن مظاهر الزينة الزائفة في الحياة الدنيا، وهذا المعنى نلحظه في سبب نزول قوله تعالى : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ..الآية .
ويظهر لنا من خلال استعراضنا لتاريخ تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لرسالته، أن أشراف قريش طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين، من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمانهم، أو أن يجعل لهم مجلسا خاصا، غير مجلس هؤلاء الفقراء، لأن جبابهم تفوح منها روائح منتنة تؤذي أولئك السادة من قريش، فأنزل الله تعالى قوله لرسوله : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين " .
ويبدو لنا كذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدَّم له سادة قريش هذا العرض، طمع في إيمانهم، فحدثته نفسه بما طلبوا إليه، فأنزل الله تعالى إليه قوله تعالى : " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ..." الآية . وفي هذا المعنى قال ابن عطية :
" سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل : من أهل مكة، وقيل: عيينة بن حصن وأصحابه، والأول أصوب، لأن السورة مكية، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه، وقالوا: إن ريح جباتهم تؤذينا، فنزلت الآية بسبب ذلك. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم، وجلس بينهم، وقال : الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه ... وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذويهم قالوا ما ذكر فنزلت الآية في ذلك " .
وهذا ما فصَّله القرطبي حيث قال : " في قول الله عز وجل: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " إلى قوله : " فتكون من الظالمين "، قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا، تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال : نعم . قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا، قال : فدعا بصحيفة ودعا عليا رضي الله عنه، ليكتب ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين " ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ثم قال: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " ، قال فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عزَّ وجل " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة ..." .
وقد بين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لطلب المشركين، فقد روى مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقَّاص، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ..." .

ج- الغاية من ضرب الأمثال في القرآن :
من المفيد قبل أن نشرع في بيان جوانب قصة الرجل صاحب الجنتين، التي جعلها الله مثلا، أن نبين الحكمة من ضرب الأمثال التي استخدمها القرآن الكريم كثيرا، وقد عُني علماؤنا بالأمثال عناية كبيرة، دفعت بعضهم لإفرادها بالتأليف، كما فعل أبو الحسن الماوردي ، ومنهم من عقد لها بابا خاصا، كما فعل السيوطي في الإتقان، والزركشي في البرهان، وابن القيم في كتاب أعلام الموقعين .
وقد أورد السيوطي في الإتقان فوائد ضرب الأمثال في القرآن، فقال : " ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة : التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص، لأنها أثبت في الأذهان، لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد ، وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله. قال تعالى: " وضربنا لكم الأمثال " فامتن علينا بذلك لما تضمنته من الفوائد " .
وقال الزركشي في برهانه : " والأمثال تصور المعاني تَصَوُرَ الأشخاص، فإن الأشخاص والأعيان أثبت فى الأذهان، لاستعانة الذهن فيها بالحواس، بخلاف المعاني المعقولة، فإنها مجردة عن الحس، ولذلك دقَّت، ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل، إلا بأن يكون المثل المضروب مجربا مسلما عند السامع، وفى ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يخفى، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب، فالمُرَغَّب فى الإيمان مثلاً، إذا مُثّل له بالنور، تأكَّد فى قلبه المقصود، والمُزَهَّد فى الكفر، إذا مُثل له بالظلمة، تأكّد قبحه فى نفسه، وفيه أيضا تبكيت الخصم، وقد أكثر تعالى فى القرآن وفى سائر كتبه من الأمثال " .

د – حقيقة المثل الوارد في القصَّة بين الواقع والخيال :
اختلف المفسرون في حقيقة هذا المثل الوارد في قصة الرجلين من حيث الوقوع وعدمه، فقال ابن عطية : " وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجودا، وعلى ذلك فسَّره أكثرُ أهلِِ هذا التأويل، ويحتمل أن يكون مضروبا بمن هذه صفته، وإن لم يقع ذلك في وجود قط، والأول أظهر. وروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيدا وتزوج وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعات الله عزّ وجلّ حتى افتقر، والتقيا ففخر الغني ووبخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة " .
وقال ابن عاشور مرجحا واقعية هذا المثل : " والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله : " قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " الخ ، فقد جاء ( قال ) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله : " ولم تكن فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " أن يكون هذا المثل قصة معلومة، ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية " .

هـ- الهدف من القصة : تأتي قصة الرجلين والجنتين بعد سياق قصة أصحاب الكهف، التي انتصر فيها أولئك الفتية لإيمانهم، فآثروا القيم الحقيقية الباقية، على القيم الزائلة المتمثلة بزينة الحياة الدنيا، وبعدها جاء أمر الله تعالى لرسوله بلزوم أولئك المؤمنين الصادقين المتوجهين بدعائهم إلى الله، وأن لا يستجيب لرغبة أشراف قريش في إقصائهم عن مجلسه، ثم جاء البيان لمصير كل من الفريقين يوم القيامة، من عذاب للمشركين المغرورين، ومن نعيم مقيم للمؤمنين المتواضعين، وبعد ذلك ضرب الله تعالى مثلا للفريقين بقصة رجلين، كان أحدهما مشركا مغرورا مفتونا بزخارف الدنيا وزينتها، والآخر مؤمنا صادقا مؤثرا متاع الآخرة على متاع الحياة الدنيا، فقام بواجب النصيحة لصاحبه الكافر، فحاوره وذكره، وحذَّره من عاقبة كفره وغروره، فأصرَّ على عناده وغروره، فأزال الله عنه النّعم ، وأحاطه بالعذاب .
فالقصة تهدف بمثالها إلى المقارنة بين القيم الزائلة والقيم الباقية، " وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الدنيا، والنفس المعتزة بالله، وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس، صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة، ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه، وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه، الذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، موجبة لحمده وذكره، لا لجحوده وكفره " .

المبحث الثاني : منهج الكافر في حواره مع المؤمن ورصد آثاره النفسية والعقدية .
من المفيد قبل أن نشرع في بيان منهج الكافر في حواره مع صاحبه المؤمن، أن نحدِّد مفهوم الحوار كما ورد في معاجمنا اللغوية، " فالمحاورة : المجاوبة. والتحاور: التجاوب. وتقول: كلمته فما أحار إليّ جوابا، وما رجع إليّ حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا، أي: ما ردّ جوابا، واستحاره أي: استنطقه، والمحاورة والحوار: المرادَّة في الكلام، ومنه التحاور " .
فالمحاورة : مراجعة المنطق والكلام بين المتخاطبين، يعبَّر كلٌّ منهما عن آرائه وأفكاره، وتتضح من خلالها آثار، تكشف غالبا عن معالم شخصيته ومعتقداته .
والرجل الكافر في قصتنا، يشكّل نموذجاً متكرراً لطائفة من الناس فتنها المال، وبهرتها زينة الحياة الدنيا، فزاغ بصرها، وعميت بصيرتها ، لأن تلك الزينة تعدُّ أكبر مظاهر الابتلاء والاختبار للنفس البشرية، وهذه الحقيقة صرَّحت بها سورة الكهف في بدايتها، حيث قال تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " ، ونتيجة لهذا الابتلاء تتميز مواقف الناس أمام زخرف الحياة الدنيا، فالنفوس الضعيفة سرعان ما تتهاوى أمام تلك الزخارف، وتنشغل بها حتى تنسى فضل الله عليها، وتنسب ما هي فيه من نعمة إلى قوتها وعلمها وعبقريتها، ويقف على رأس هذه الطائفة الجاحدة لفضل الله عليها قارون، فعندما نصحه المؤمنون من قومه، وذكروه بفضل الله عليه، قائلين له : " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين " ، قال : " إنما أوتيته على علم عندي ..." وهذا الموقف تكرر من الرجل صاحب الجنتين في قصتنا الذي قال لصاحبه المؤمن عندما نصحه: " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " وهذا الموقف يتكرر في كل الأزمان ومن كل الأجيال طالما أن هناك أشخاص مفتونون بزخارف الدنيا، وأما المؤمنون الذين أحكموا صلتهم بالله، وأدركوا حقيقة الغاية التي أرسلوا لتحقيقها، وعرفوا طبيعة الامتحان الذي يخضعون له،- خاصَّة فيما يتعلق بمتاع الحياة الدنيا- فهؤلاء ينظرون إلى ذلك المتاع أنه وسيلة مُسَخَّرة لغايتهم الكبرى، وهي تحقيق العبودية الحقيقية لله تعالى، ومن هنا فإنهم لا يفتنون بها، ويرون فيها فضلا من الله عليهم، يستدعي حمداً وشكرا.
وقبل أن نرصد الآثار السلبية للفتنة بالمال على النفس البشرية من خلال قصة الرجل صاحب الجنتين، لابد من تقديم وصف مختصر لحالة الغنى التي عاشها هذا الرجل، كما ذكرها القرآن الكريم، ووضحتها أقوال المفسرين الواردة في هذه القصة .
فقد أنعم الله عليه بجنتين لا بجنة واحدة ، حوتا داخلهما كل مظاهر الخير والنماء، يقول ابن عطية في وصف ذلك: " تأمل هذه الهيئة التي ذكر الله، فإن المرء لا يكاد يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس، جنتا عنب أحاط بهما نخل، بينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب، والماء الغيل يسقى جميع ذلك من النهر، الذي قد جمّل هذا المنظر، وعظم النفع، وقرب الكد، وأغنى عن النواضح وغيرها " .
ويقول الزمخشري في تصوير ذلك المتاع من خلال وصفه للجنتين : " وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جعلنا لأحدهما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ "، بستانين من كروم " وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ "، وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة، " وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا "، جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بماء وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب، فجعله أفضل ما يسقى به وهو السيح بالنهر الجاري فيها، والأكل الثمر " وَلَمْ تَظْلِمِ منه شيئا " ولم تنقص " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ " أي أنواع من المال من ثَمر ماله إذا كثر، وعن مجاهد: الذهب والفضة، أي كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكناً من عمارة الأرض كيف شاء ، " وَأَعَزُّ نَفَراً " يعني أنصاراً وحشماً وقيل أولاداً ذكوراً، لأنهم ينفرون معه دون الإناث " .
وهناك تعبيرات لافتة في تصوير معنى النماء في تلك الجنتين ذكرها ابن عطية في تفسيره لآيات القصة فقال: " قوله تعالى : " كلتا الجنتين آتت أكلها " والمعنى : أثمرت الجنتان إثمارا كثيرا حتى أشبهت المعطي من عنده، ومعنى " ولم تظلم منه شيئا " لم تنقص منه، أي من أكلها شيئا أي : لم تنقصه عن مقدار ما تعطيه الأشجار في حال الخصب، ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف والتقدير: ولم تظلم من مقدار أمثاله، واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خبرهما، وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتهما، بحيث إذا لم تأت الجنتان بما هو مترقب منهما، أشبهتا من حَرَم ذا حق حقه فظلمه، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار " .

محاورة الكافر مع المؤمن وبيان آثارها النفسية والعقدية :
وأمام هذه الصورة الحافلة بأصناف المتاع الوافر، يقف هذا الرجل مزهوا بنفسه، فيختال أمام صاحبه المؤمن الفقير، الذي حرص على محاورته بالوعظ، وتقبيح الركون إلى الدنيا، وتذكيره بالله تعالى، ولكنه ردّ على حوار صاحبه له بقوله : " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " وهذه العبارة كانت المقولة الأولى في محاورته لصاحبه، وهذا يدل على وجود صفة الغرور التي أصابت هذا الرجل، فدفعته للتعالي والترفع على فقراء الناس ، وهذه أبرز الآثار التي تظهر على النفس المفتونة بكثرة المال. ويظهر الغرور في أقبح صوره في ردّ هذا المغرور على صاحبه، الذي حاوره ووعظه في الإيمان والعمل الصالح، فراجعه الكلام بالفخر والتطاول عليه، شأن أهل الغطرسة والنقائص الذين يقابلون النصيحة الخالصة بازدراء الآخرين وانتقاصهم، وإظهار أنفسهم بمظهر العظمة والكبرياء . " يقول الرازي : " وحاصل الكلام : أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله، ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله، فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة، فقال : " وَدَخَلَ جَنَّتَهُ " وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال " .
وأما المقولة الثانية في حوار الكافر مع صاحبه المؤمن، فهو ما قاله عندما دخل جنته، وهو ظالم لنفسه ، قال تعالى : " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وقد بين صاحب الكشاف سبب ظلمه لنفسه فقال : " وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ " وهو معجب بما أوتي، مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم إخباره عن نفسه بالشك في بيدودة جنته، لطول أمله، واستيلاء الحرص عليه، وتمادي غفلته، واغتراره بالمهلة، وإطراحه النظر في عواقب أمثاله وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه " .
وقد عبّر عن هذا المعنى أبو حيان فقال : " وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يُري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن، "وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ " جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه، مغتر بما ملكه، شاك في نفاد ما حوله، وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه، والظاهر أن الإشارة بقوله " هَذِهِ " إلى الجنة التي دخلها، وعنى بالأبد أبد حياته، وذلك لطول أمله، وتمادي غفلته، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم، فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة " .
فهذا الكافر يعتقد أنه من المستحيل أن تباد جنته، ويستبعد وجود قوة مَّا تستطيع إبادتها وإزالتها ويبدو أن هذا الموقف جاء رداً على قول صاحبه المؤمن، عندما حذَّره من زوالها، وأرشده إلى أسباب بقائها بقوله : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " وإنما قال مقالته هذه لما استولى عليه من طول الأمل، وشدة الحرص على متاع الدنيا، والتمادي في الغفلة الناشئة من طول المهلة وسبوغ النعمة .
ثم جاءت مقالته الثالثة التي عبَّر فيها عن عقيدته، فأعلن كفره الصريح باليوم الآخر، قائلا : " وما أظن الساعة قائمة "، وهذا إنكار للبعث صراحة ، ثم تمادى في غيه وغروره، فنطق مقولته الرابعة فقال: " ولئن رددت إلى ربي " " على ضرب المثل ، " لأجدن خيرا منها منقلبا" أي: ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء، فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس وأبخسهم حظا من العقل، فأي تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه، الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه " فإثبات أن وصفه الظلم في حال دخوله الذي جرى منه من القول ما جرى يدل على تمرده وعناده " .
ويبدو أن هذا الكافر قد تدرج بكفره وطغيانه، نتيجة لبطره وقصر نظره، وقد أحسن البقاعي في تفسيره، عندما قدَّم تحليلا نفسيا عميقا ودقيقا لهذه الحالة، فقال في تفسير هذه الآية : " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " قال : " ولما كان الإنسان مجبولا على غلبة الرجاء عليه, فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤال ما يربيه, ويثبت أصوله ويقويه, اضمحل الخوف، فلم يزل يتضاءل حتى يتلاشى، فكان عدماً، فقال تعالى حاكيا عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسما :( ولئن رددت) أي ردني راد ( إلى ربي) المحسن إليّ في هذه الدار في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك( لأجدن خيرا منها) أي هذه الجنة, ( منقلبا) أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه, لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي, وهو وصف لي غير منفك في الدارين, وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به, فكأنه قيل: إن هذا لفي عداد البهائم حيث قصر النظر على الجزئيات, ولم يجوز أن يكون التمويل استدراجا " .
وهذا يدل على وجود اختلال كبير في موازين القيم عند هذه الطائفة المفتونة بزينة الحياة الدنيا،
فآفة الغرور التي أصابتهم، تخيل لذوي المال والجاه والسلطان، أن القيم التي كانوا يتعاملون بها في الدنيا الفانية، ستنتقل معهم إلى الدار الآخرة، وتكون لهم حظوة في الملأ الأعلى كما كانت حظوتهم في الأرض .

المبحث الثالث: منهج المؤمن في حواره مع الكافر ورصد آثاره النفسية والعقدية.

انتهت محاورة الرجل الكافر صاحب الجنتين بمقالاتها الأربعة مع صاحبه المؤمن، والتي لخَّص فيها نظرته للحياة الدنيا، وما توقعه من جزاء في الآخرة إن كان ثم جزاء، وأما صاحبه المؤمن الفقير الذي لا جنة له ولا ثمر، ولا مال ولا نفر، فهو معتز بإيمانه بربه، الذي ذلَّت له الرقاب، وعنت له الوجوه، وخشعت لعظمته القلوب، فهو يتصدى لصاحبه، يحاوره منكرا عليه مقالاته، ومصححا له قيَمَه ومعتقداته، ومحذَّراً من زوال نعمته وجناته .
وعند التأمل في مضمون حوار المؤمن مع صاحبه الكافر، والأساليب التي استخدمها في ذلك الحوار يمكن حصرها في أربعة هي :
1- الإنكار :
فقد ابتدأ المؤمن حواره مع صاحبه، منكرا عليه كفره بربه، وجحوده يوم المعاد، قائلا : " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " ، والملاحظ في هذا الحوار أنه ابتدأ بأخطر موضوعات العقيدة المتعلقة بالإيمان بالله واليوم الآخر، والتي يهدف المؤمن من حواره فيها أن يدلل للكافر على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره، رغم أدلته الواضحة وبراهينه القاطعة فالذي أوجد الإنسان من العدم، وخلقه أطوارا من تراب إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة ... ثم سواه إنسانا سويا، قادر على بعثه ونشره يوم المعاد، وفي هذا المعنى يقول السعدي في تفسير هذه الآية :" أكفرت بالذي خلقك من تراب " " أي : قال له صاحبه المؤمن ناصحا له ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا، " من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة والمعقولة، وبذلك يسَّر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، وتجهل نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيراً من جنتك، هذا مما لا ينبغي ولا يليق " .
وأسلوب الإنكار على الكفار من أفضل أساليب الحوار، في مسائل العقائد إن خلا من العنف والشدّ بين الأطراف، واحتوى على الأدلة العقلية كما رأينا في حوار المؤمن مع صاحبه الكافر،الذي حشد مزيدا من الأدلة المقنعة ليسهل على صاحبة رؤية الحق والاهتداء إلى الرشد، وهذا الأسلوب استخدمه كل الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم لنبذ الشرك وإفراد الله بالعبودية ، فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه منكرا عليه شركه قائلا : " يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا " ، وينكر على قومه شركهم قائلا : " أفرأيتم ما كنتم تعبدون ،أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهديني" ، وهكذا فعل بقية الأنبياء .

وعندما نتأمل في صيغة الإنكار الواردة في حوار المؤمن مع صاحبه الكافر، نجد أن هذا المؤمن أقام الحجة على صاحبه، ليتخلى عن شركه بالله وكفره باليوم الآخر، من خلال إشارته إلى حقيقة تشكل واحدة من بدهيات الفكر الإنساني، ولا يماري بها أحد حتى الكفار أنفسهم، وهي إفراد الله تعالى بمسألة الخلق، فالله تعالى خالق لكل شيء, وهذه الصفة من أبرز مظاهر الربوبية التي يترتب على الاعتراف بها أمران:
1- إفراد الله تعالى بالعبادة ونبذ الشرك .
2- الاعتراف باليوم الآخر.
أما مسألة اعتراف الناس بوحدانية الربوبية خاصة فيما بتعلق بصفة الخلق، فهي حقيقة مسلمة لا يماري بها أحد، إلا حفنة شاذة من الملا حدة الذين انحرفت فطرهم عن مسارها الطبيعي، فأنكروا وجود الله أصلا ، ولكن الكفار أنفسهم يعترفون بخلق الله لهم، قال تعالى: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ..." ، وقال: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ... ، وهذا الاعتراف بوحدة الربوبية عند الناس، مرده إلى ذلك الميثاق القديم المركوز في فطرتهم، وهو ميثاق الفطرة الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " ،
فالذي ينفرد بالخلق لا بد أن يُفرد بالعبادة، وهذه المعادلة تشكِّل أكبر البديهيات العقلية في هذا الوجود، ومع ذلك تعتبر أكبر معضلة واجهت البشرية، وتواجهها إلى قيام الساعة.
فمعظم الناس رغم اعترافهم لله تعالى بصفة الخلق، لكنهم يشركون به ويعبدون معه غيره, لذلك نبه الله عباده إلى هذه الحقيقة عندما قال : " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " ، فالاعتراف بربوبية الله تعالى يستدعي إفراده بالعبودية, وقد عاتب الله تعالى الذين لا يقرنون بين هاتين المقدمتين فقال:( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم, الذي خلقك فسواك فعدلك " .
وأما الحقيقة الثانية التي تترتب على الاعتراف بخلق الله تعالى للإنسان فهي الاعتراف بقدرته تعالى على بعثه في اليوم الآخر، وقد أفاض القرآن الكريم في الربط بين هاتين المسألتين في عشرات الآيات الكريمة : " كما بدأكم تعودون " ، وقال: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ، وقال: " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه, قال من يحيي العظام وهي رميم, قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " .
وهذا الاقتران بين الاعتراف بخلق الله للإنسان والبعث واضح في حوار المؤمن مع صاحبه الكافر، فقوله له : " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلا ، جاء ردا على قول الكافر: " وما أظن الساعة قائمة " .
2- التصريح بالحق وإظهاره :
وأما الأسلوب الثاني الذي ورد في هذه المحاورة بعد إنكار المؤمن على صاحبه إشراكه بالله ، فقد جاء على لسان الرجل المؤمن، عندما صرَّح بالحق الذي يعتقده ويؤمن به، فقال لصاحبه الكافر: " لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " فقد أعلن المؤمن عن اعتقاده الذي يضاد اعتقاد صاحبه " وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة ، وهي : الجملتان الاسميتان ، وضمير الشأن في قوله " لكنا هو الله ربي " وتعريف المسند والمسند إليه في قوله " الله ربي " المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصرا إضافيا بالنسبة لمخاطبه، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله، وما القصر إلا توكيد مضاعف، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله : " ولا أشرك بربي أحدا " .
وهذه المؤكدات جاءت رداً على إنكار الكافر لوحدانية الله تعالى وللبعث بعد الموت ، ومن خلالها جاء تصريحه بغاية الظهور، لأن التصريح بالحق بعد إنكار المنكر أمر واجب، لأنه يقدم البديل الصحيح للناس حتى يتبعوه، وإلا فما قيمة إنكار المنكر إن لم يقترن بتقديم الحق للناس ودعوتهم إليه ؟ ، وهذا ما نلحظه في دعوة الأنبياء مع أقوامهم، فبعد إنكارهم الشرك عليهم، يدعونهم إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى والالتزام بمنهجه، وهذا الإعلان عن الحق قد يكون مشوبا بأخطار ومحاطا بأهوال، تجعل التصريح به مهمة محفوفة بالمخاطر والمكاره، وقد تكلفه حياته كما حدث لكثير من الأنبياء والصالحين .
فالحوار الذي معنا يمثل صورة للصراع الدائر منذ الأزل بين الكفر والإيمان، من خلال هاتين الشخصيتين، والذي يهدف إلى تعليم الناس وإرشادهم إلى أن الغاية الأسمى من الحوار، تتمثل في تقديم الحق للناس بصورة جلية واضحة، لمتابعته والسير عليه، وهذا الهدف لا يتحقق إلا بإنكار المنكر والتصريح بالحق والدعوة إليه بعد بيان سبله وتوضيح أدلته، وهذا ما قام به الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه في قصتنا .
3- التعليم والنصيحة :
ويأتي الأسلوب الثالث في محاورة المؤمن مع صاحبه الكافر، ليقدم لنا نموذجا رائعا للمؤمن الصادق، السالك منهج الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبل النجاة للضالين من البشر، وعدم الحقد على أحد مهما ناله منهم من الإهانة والأذى، وهذا الموقف يدل على صفاء قلوبهم، ونقاء سريرتهم، ورغبتهم الشديدة في إيصال الخير إلى الناس ودفع الأذى عنهم، وإن اختلفوا معهم في أفكارهم، وقد كشفت لنا هذه المحاورة عن معالم نفسية هذا المؤمن النزيهة الطاهرة منذ بدايتها، التي استهلها الكافر بتقريع المؤمن وإهانته عندما قال له: " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " ورغم ذلك حرص المؤمن على هداية صاحبه، فناقشه في العقيدة بأسلوب علمي دقيق، أظهر له من خلاله فساد عقيدة الشرك، وبين له العقيدة الصحيحة، ثم بادر إلى تعليمه ما ينبغي قوله عند دخول الجنة حتى لا تخرب جنته وتزول نعمته، فقال لصاحبه مصرحا له بالتعليم متقدما إليه بالنصيحة قائلا له : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا " يقول البقاعي في تفسير هذه الآيات " أي وهلا حين " دخلت جنتك قلت " ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى ... تاركا الافتخار بها، ومستحضرا لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها، ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى، لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه من الزوال " ما شاء الله " أي الذي له الأمر كله كان ، سواء كان حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا ولذلك أعراها من الجواب ، لا ما يشاؤه غيره ، ولا يشاؤه هو سبحانه ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : " لا قوة " أي لأحد على بستان وغيره " إلا بالله " أي المتوحد بالكمال فلا شريك له، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله، وبراءة العبد منها ، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره ، فلا يخاف من غيره " .
وقوله : " إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا " جاء جوابا عن قول صاحبه الكافر له : " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " وفيه وعظ وإشارة من المؤمن للكافر، بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة ونعمته إلى زوال ، وأن يصير قليل المال في مستقبل الأيام ذا مال كثير .
وقدو ردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، تبين فضل قول " لا قوة إلا بالله "منها ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قالها العبد قال الله عزَّ وجلَّ: أسلم عبدي واستسلم "
وقال القرطبي في تفسير هذه الجملة " لا قوة إلا بالله " : " أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع " .

4- التحذير من زوال النعم :
وأما الأسلوب الأخير الذي ختم به المؤمن حواره مع صاحبه الكافر فكان تحذيره _ إن أصر على شركه – من زوال نعمته وتبدل حاله، ولا شك أن التحذير من عاقبة الأمور السيئة يشكل وسيلة هامة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، لأنه يؤدي إلى إيقاظ القلوب، التي سيطرت عليها الغفلة، التي تنشأ – غالبا – نتيجة لألف الناس العيش الرغيد، حتى يستقر في قلوبهم استحالة تغيير هذا الحال إلى نقيضه، ويشكل التحذير في نفس الوقت دليلاً على سلامة قلوب القائمين به ونقاء سريرتهم، حيث دفعتهم رحمتهم بالناس والحرص على سلامتهم، إلى ذلك التحذير. وهذا المعنى نلحظه في موقف المؤمن من صاحبه الكافر، عندما قال له: " فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا " .
وهذا القول فيه جمع بين الترجي والتحذير، فالمؤمن يرجو ربه أن يؤتيه خيرا من جنة الكافر سواء كان ذلك العطاء في الدنيا أو الآخرة، ويحذِّر في نفس الوقت صاحبه الكافر من حسبان قد يصيب جنته إن أصر على كفره. قال ابن عطية في تفسير الآية: " هذا الترجي ب "عسى" يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعا، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب، وأشد إيلاما لنفسه. والحسبان : العذاب كالبرد والصِر ونحوه. واحد الحسبان حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي أيضا سهام ترمى دفعة بآلة لذلك. والصعيد : وجه الأرض. والزلق : الذي لا تثبت فيه قدم يعني : أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضا قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي فيها، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم " .
وهذا المنهج – التحذير – حرص عليه الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم، عندما حذروا أقوامهم من عاقبة كفرهم، فهذا نوح غليه السلام يقول لقومه محذرا : " يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون " .
المبحث الرابع: عاقبة الكفر والبطر بالنعمة وأثر ذلك على الرجل المشرك:
انتهت المحاورة بين الرجلين المؤمن والكافر، التي بَيَّن كلّ منهما_ من خلالها_ موقفه من الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وحدَّد نظرته إلى القيم عاجلة كانت أو آجلة، ويبدو من سياق الآيات الكريمة التي صورت لنا أحداث هذه القصة الهادفة، أن ذلك التحذير الذي أطلقه المؤمن خلال محاورته لصاحبه الكافر كان مبرراً، لشعوره بقرب نزول العذاب بصاحبه، عقوبة له على كفره وبطره بنعمة ربه، وهذا ما حدث فعلا، فقد جاءه العذاب " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا لبتني لم أشرك بربي أحدا ، ولم يكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ، هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " .
انتهت المحاورة، وتحقق المحذور، وحلَّ العذاب الذي لخصته الآية بهذه الجملة الواحدة " وأحيط بثمره " التي يأتي وقعها على النفس صاعقا مزلزلا، تدع الخيال الإنساني يتصورأي نوع من العذاب نزل من السماء، أو رجفت به الأرض، وكل ذلك محتمل، والآيات الكريمة لم تحدَّد نوع العذاب الذي أصاب ذلك الثمر، فهذا التحديد ليس ضروريا، والأهم من ذلك أن تُبرز الآية مفهوم العذاب المدمّر الذي أتلف كل شيء، وأتى على كامل ذلك المتاع .
إنها لصورة رهيبة، تُظهرها كلمة واحدة، كانت كافية للإجهاز على ذلك المتاع، الذي أفقد الرجل صوابه، فجعله يختال كالطاووس، وينتفش كالديك، وينتفخ كالقربة، ويتعالى ويتكبر على صاحبه المؤمن الفقير، كما تكبر إبليس على آدم من قبل وقال : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ، وهذا الكافر قالها لصاحبه المؤمن : " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " .
إنها كلمة واحدة وضعت نهاية لذلك النعيم الذي رفل به ذلك الرجل، وهي كلمة " أحيط " التي تدلَّ على شدة الأخذ والإحداق والتطويق المفضي إلى الهلاك الشامل الذي أتى على كل شيء ليضع نهاية مريرة لعاقبة الغرور بالقيم الزائلة من متاع الدنيا الذي يجعل أصحابه يفقدون صوابهم ، ويغلقون عقولهم، ويغمضون أعينهم، ويصمون آذانهم، احتجابا من رؤية الحق والاعتراف به فينكرون وجود الله، أو يشركون معه آلهة أخرى،عوضا أن يخصوه بالعبادة، ويتوجهوا إليه بالشكر على ما أولاهم من نعيم ومتاع .
وهناك وقفة لافتة أخرى في هذه الجملة العجيبة، حيث خصَّت الثمر بإحاطة العذاب به، علما بأنه أتى على الشجر والثمر والدواب والعمران، فلمَ خُصَّ الثمر بالذكر دون سائر ذلك المتاع ؟
وللإجابة على هذا السؤال تلمست أقوال المفسرين في معظمهم، فلم أعثر على إجابة واضحة وصريحة ووافية وشافية، لأن أقوالهم وردت في مفهوم الثمر، والتي توزعت بين الذهب والفضة أو الأشجار، أو ثمر الشجر، أوالجتين نفسيهما، ولم أجد واحداً منهم بَيَّن الحكمة من تخصيص إحاطة العذاب بالثمر بالذكر دون سواه مما شمله العذاب .
وفي محاولة متواضعة مني لبيان هذه الحكمة، عدت إلى نفسي مستعرضا أحداث القصة مرة أخرى، ومركزا على عناصر الربط بينها، فالرجل الكافر المغرور بجنتيه المليئتين بكل معاني النماء والبهجة والجمال والحيوية الدافقة، دفعه غروره إلى الكفر بالله، وإنكار الساعة، واستبعاد وجود قوة ما تستطيع إبادة جنته، حيث قال: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا "، ولا شكَّ أن أكثر مرحلة يتعلق بها قلب المزارع بشجره عند إثماره، فالمنظر رائع، والجمال أخَّاذ، والبهجة دافقة ، والأمل كبير، بما سيجنيه صاحب الشجر من ثمر، فعندما يفاجئ العذاب الشجر وهو على تلك الحالة، فإنه يكون أشدُّ إيلاما لصاحبه، وأكثر حرقة في قلبه، فيكون العذاب مضاعفا، ومثل هذا الرجل الكفور المغرور يستحق هذا النوع من العذاب، وهذا المعنى يأتي متناغما مع الآيات التالية التي صَوّرت لنا حسرته وحرقته عند نزول العذاب بثمره، حيث قال تعالى : "فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها " إنه يتحسر ويتحرق ألما على أمرين: أولهما: على ما أنفق من مال وجهد على ذلك الثمر، الذي انتظره بفارغ صبره شوقا إلى رؤيته، ورغبة في تحصيله والانتفاع به . والأمر الثاني: أن هذا الثمر بعد ظهوره وتحققه وتعلق القلب به والأمل بنيله، جاءه العذاب فاستأصله استئصالا، فمنظر خواء الشجر من ثمره بعد تعلق البصر به جد أليم ، ووقع ذلك على النفس شديد ، ولعل هذه الإشارة تبين لنا الحكمة من تخصيص إحاطة العذاب بالثمر دون سواه ، مع العلم أنه أتى شاملا على ممتلكات هذا الرجل الأحمق المغرور .
يقول ابن كثير في قوله تعالى : " وأحيط بثمره " بأمواله أو بثماره على القول الآخر، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته، التي اغتر بها، وألهته عن الله عز وجل " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيه " وقال قتادة يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي أذهبها عليها، ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا " ولم تكن له فئة " أي: عشيرة أو ولد كما أفتخر بهم وأستعز " .
آثار نزول العذاب على الرجل المشرك :
وأمام هذا الحدث الرهيب وقف الرجل المشرك مذهولا، يرقب آثار قدرة الله وجبروته ، الذي انتقم منه، فبدل حاله، وغير مآله في لمح البصر، ولكن هذا الحدث كان بمثابة زلزال عنيف عصف بكيان هذا الرجل، ورجف به، وخلف لديه آثارا نفسية وعقدية مهمة، أما النفسية منها: فهي الندم والتحسر، الذي يجعل صاحبه في غمٍّ مطبق، يغلق عليه فؤاده، ويشعره بألم دائم، على ما فرط منه وارتكبه من أخطاء كانت سببا في وصوله إلى تلك الحالة المزرية، وقد صوَّرت الآيات هذه الحالة صورة رائعة معبرة، عندما أظهرت الرجل وهو يقلِّب كفيه، الذي يكشف عن وجود حالة نفسية عنوانها الندم والتحسر، وقد أشار القرآن إليها بقوله : " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " وقد أحسن أبو حيان في تشخيص هذه الحالة النفسية فقال في تفسير الآية : " وتقليب كفيه ظاهره أنه يُقَلّبُ كَفَّيْهِ ظهراً لبطن، وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته، المتأسف على فقدانه، كما يكنى بقبض الكف، والسقوط في اليد، وقيل يصفق بيده على الأخرى، و" يُقَلّبُ كَفَّيْهِ " ظهر البطن، وقيل: يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عدَّاه تعدية فعل الندم فقال: " عَلَى مَا َأَنفق فِيهَا" كأنه قال: فأصبح نادماً على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة " .
وأما الآثار العقدية التي ترتبت على نزول هذا العذاب، الذي أحدث هزة عنيفة في كيانه، فصحا عقله، وانشرح فؤاده، فوعى الأسباب التي أودت به إلى ذلك المصير المشئوم، والتي حددها بنفسه قائلا: " يا ليتني لم أشرك بربي أحدا "، فالشرك بالله تعالى هو الذي السبب الذي جلب له هذا العذاب، وهذه العبارة تدل على أن هذا الرجل قد تاب إلى الله من شركه، ووعى نصيحة صاحبه المؤمن الذي أنكر عليه شركه عندما قال له: " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " يقول أبو حيان في تفسير هذه الآية : " " وتمنيه انتفاء الشرك، الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة، بعد حلول المصيبة، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم ، لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، قيل: أرسل الله عليها ناراً فأكلتها، فتذكر موعظة أخيه، وعلم أنه أتى من جهة شركة وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركا " .
ويقول السعدي في تفسير قوله تعالى : " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا" أي : لما نزل العذاب بجنته ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا "، فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفسه منتصرا، وكيف ينتصر أو يكون له انتصارا على قضاء الله وقدره ؟، الذي إذا أمضاه وقدره لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه لم يقدروا، ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه أن صاحب هذه الجنة التي أحيط بها تحسنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أرادا الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول، " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " ، أي في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى، وآثر الحياة الدنيا والكرامة لمن آمن وعمل صالحا، وشكر الله ودعا غيره لذلك تبين وتوضح أن الولاية الحق لله وحده، فمن كان مؤمنا به تقيا كان له وليا فأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه ولم يتولاه، خسر دينه ودنياه فثوابه الدينوي والأخروي خير ثواب يرجى ويؤمل " .

المبحث الخامس : مقارنة بين القيم الدنيوية الزائلة والقيم الأخروية الباقية :
ختمت هذه القصة المثيرة بأحداثها, المتحركة بأشخاصها, السريعة بعرض مشاهدها، التي ابتدأت بمشهد ساحر لجنتين حافلتين بكل صور البهجة وصنوف النعم, ورجل يتحرك فيهما بغرور، يتعالى على من كان حظه في الدنيا أقل منه، يشمخ بنفسه ويقول: " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " وتبدأ المحاورة ليتبادل فيها الطرفان نظرتهما حول القيم، ويؤدي المؤمن دوره في نصح هذا الرجل المغرور، ويحذره عاقبة كفره وغروره، فيصرُّ على موقفه، فيأتيه العذاب لينهي صورة المتاع في لمح البصر, وهنا يأتي المشهد الأخير، الذي يبرز فيه هذا الرجل المغرور منكسر القلب، محطَّم الأمل، يتلوى من الحسرة, ويقلِّب كفيه ندما، على ما فاته من نعم، يقلب كفيه كامرأة تنوح على ميتها تلطم خدها, فما أقلَّه من متاع إن كان زواله بهذه السرعة الخاطفة, وما أسرعه من تقلب يحوِّ|ل الرجل الذي امتلأت نفسه غرورا, واشرأبت عنقه تعاليا, يحوله إلى رجل منكسر محطم ذليل، يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وكأنه يبحث عن شيء مفقود.
هذه هي حقيقة متاع الدنيا, وهذه هي دورته.
وهنا يأتي التعقيب على هذه القصة المعبرة، فيضرب الله تعالى مثلا للحياة الدنيا وزينتها وكامل متاعها، فيشبهها بالدورة النباتية، التي تبدأ باختلاط المطر بالنبات، لتنفتح الحياة، ولكن سرعان ما يتحول إلى هشيم يابس تذروه الرياح , وما بين الاختلاط والهشيم تنتشر مساحة الحياة, يقول تعالى :" واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا " .
يقول صاحب الظلال في تصوير رائع لهذا المعنى الوارد في هذه الآية الكريمة : " هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء، فلا يجري ولا يسيل، ولكن يختلط به نبات الأرض, والنبات لا ينمو ولا ينضج, ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح، وما بين ثلاث جمل قصار ينتهي شريط الحياة. ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء : " ماء أنزلناه من السماء" ف " اختلط به نبات الأرض" ف" أصبح هشيما تذروه الرياح" فما أقصرها حياة! وما أهونها حياة!" .
ويقول السعدي في تفسير الآية: " يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا، اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وأن مثل هذه الحياة الدنيا كمثل المطر ينزل على الأرض فيختلط نباتها، أو تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسرِّ الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت، أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيىء أعماله، هنالك يعضِّ الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت ولا بد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل لدار أكلها دائم وظلها ظليل وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه وربحه من خسرانه " .
وختمت الآية بقوله تعالى : " وكان الله على كل شيء مقتدرا " الذي دلّ على كمال قدرة الله فهو قوي مقتدر، يخلق الأشياء وأضدادها، ويرتب أمر إنشائها وإفنائها، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذا العموم يفهم من قوله تعالى : " على كل شيء " .
وفي النهاية تقرر الآيات الموقف الإيماني من القيم ، فالقيم الأرضية التي تتمثل بزينة الحياة الدنيا من مال وولد ومتاع قيم زائلة، فلا ينبغي أن تصرف صاحبها عن مهمته الحقيقية في هذه الأرض، كما فعل الرجل المغرور في قصتنا، ولكن القيم الحقيقية هي القيم الباقية، التي تأتي استجابة لمنهج الله تعالى، ويبقى نفعها وثوابها مدخرا لصاحبها يوم القيامة. قال تعالى : " المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " .
وقد أحسن السعدي في تفسير هذه الآية عندما قال : " ولهذا أخبر تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، أي : ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويُسِره الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله وحقوق عباده، من صلاة وزكاة، وصدقة وحج وعمرة، وتسبيح وتحميد وتهليل، وقراءة وطلب علم نافع، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وصلة رحم وبر الوالدين، وقيام بحق الزوجات والمماليك والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويَجِدُّ في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها، ذكر أن الذي فيها نوعان نوع من زينتها يتمتع به قليلا ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون، ونوع يبقى لصاحبه على الدوام وهي الباقيات الصالحات " .
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين المراد بالباقيات الصالحات منها ما أخرجه أحمد في مسنده عن أبي سَعِيدٍ الخدري عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ قِيلَ وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ قال الْمِلَّةُ قِيلَ وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ قال الْمِلَّةُ قِيلَ وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ قال الْمِلَّةُ قِيلَ وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ قال التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ " .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هن يا رسول الله قال التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله " .
وأخرجه أحمد في رواية عن النعمان بن بشيررضي الله عنه أنه قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ،ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات " .
وأخرجه أحمد بسنده عن الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " جلس عثمان يوما وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مدّ، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات، قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان، قال: هي لا إله إلا الله ،سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .
هذا هو معنى الباقيات الصالحات كما ذهب إليه كبار الصحابة رضي الله عنهم كعثمان وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك سعيد بن جبير وسعيد ابن النسيب وعطاء بن رباح ومجاهد بن جبر وغيرهم من كبار التابعين رحمهم
الله تعالى .
وهذا رأي جمهور المفسرين في المراد بالباقيات الصالحات، وذهب البعض إلى أن المراد بها الصلوات الخمس، والبعض الآخر إلى أن المراد به الكلم الطيب، وذهب آخرون إلى أن المراد عموم العمل الصالح ، ورجح الطبري هذا الرأي فقال : " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال هن جميع أعمال الخير، كالذي روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازي ويثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا بعضا دون بعض في كتاب ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ظن ظان أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد بأن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هن من الباقيات الصالحات، ولم يقل هن جميع الباقيات الصالحات، ولا كل الباقيات الصالحات، وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات، وغيرها من أعمال البر أيضا باقيات صالحات " .
وهذا الاختيار الذي ذهب إليه الإمام الطبري ووافقه عليه ابن عطية, يأتي موافقا تماما مع الهدف الذي ضرب المثل لأجله للحياة الدنيا، وهو التنقيص من قيمة متاعها من مال وولد، والرفع من قيمة العمل الصالح عموما الذي يبقى ثوابه موصولا لصاحبه يوم لقاء ربه، والذي يفتح باب الأمل في حياة أخرى متاعها دائم لا يزول ، وهذا الهدف هو نفسه المستفاد من حوار الرجل المؤمن مع صاحبه الكافر في قصتنا الهادفة .

النتائج والتوصيات
تبين لنا بعد إنجاز هذا البحث مكانة الحوار في الإسلام، وإن كان وروده في سياق قصة، فهذه القصة سبقتها مناسبة، أبرزت قيمة عظيمة من قيم الإسلام، المتعلقة بالتواضع للمؤمنين الضعفاء، والصبر معهم، والاهتمام بهم، وعدم التشاغل عنهم، استجابة لرغبة السادة، وهذه المناسبة تشكِّل عنصرا هاما في التمهيد للقصة، وإبراز الفكرة الأساس التي سيدور حولها الحوار، وقد اتضحت جليا، وأمكن إيجازها في تبادل وجهات النظر حول القيم، وقد أظهر المؤمن بقوة حجته، ورسوخ أدلته الفرق بين القيم الحقيقية الباقية لصاحبها لما بعد الحياة الدنيا، وبين القيم الأرضية سريعة الزوال، وأنه لا ينبغي للعاقل أن ينبهر بتلك القيم القريبة، وينسى القيم العليا، التي يرتبط بها مصيره الدائم يوم القيامة .
والتعقيب على القصة بالمثل الذي ضرب للحياة الدنيا، جاء تأكيدا لهذا التصور الإيماني الرفيع، الذي اختصر متاع الدنيا، بصورة ماء نزل من السماء، فنبت الزرع ويبس وانتهى، وأما الباقيات الصالحات من الأعمال فهي باقية بثوابها، عظيمة بأملها فهي التي تفتح باب الأمل أمام صاحبها رجاء في حياة كريمة هانئة في دار النعيم، التي يعجز الخيال البشري عن تصورها .

وأمام هذه الحقائق المستوحاة من البحث يمكن استنتاج ما يأتي :
1- حوار المسلمين مع الأمم الأخرى واجب شرعي لنشر الإسلام، تحتمه خيرية هذه الأمة ووسطيتها على باقي الأمم.
2- القيم العليا لا تتحقق في واقع الإنسان إلا بوجود العقيدة الصحيحة، القائمة على مبدأ الإيمان بالله واليوم الآخر .
3- الأساس في تكريم الإنسان التزامه بالقيم العليا المستمدة من الإسلام .
4- وجوب الالتزام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدي للأفكار المنحرفة المضللة كما ظهر في موقف الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافر.
5- الأمم الضالة الرافضة لمبدأ الحوار مع الغير، والمغرورة بحضارتها المادية، معرضة لنزول العذاب .
6- أسس الحوار الأمثل مستمدة من القرآن الكريم، كما ظهر لنا في أساليب الحوار الأربعة التي استخدمها المؤمن في حواره مع صاحبه .
7- أساليب الحوار الأربعة السابقة تشكِّل عناصر متكاملة للمحاورة الناجحة مع الآخر.
8- وجوب وضع خطة إستراتيجية متكاملة، تتركز في المؤسسات التربوية والتعليمية لتدريب الناس وتعليمهم أساليب الحوار مع الغير، خاصة الطلاب والأسرة وأفراد المجتمع .
9 – ضرورة إدخال أسس ومبادئ وآداب الحوار مع الغير في المناهج التربوية والتعليمية لأهميتها البالغة في تنشئة الشباب على فن التفاهم مع الغير.
10- ضرورة وضع تشريعات مناسبة تجعل آداب الحوار مع الآخر والاختلاف معه قواعد ملزمة خاصة للإعلاميين والصحفيين والكتاب والمثقفين في الندوات المفتوحة للمشاهدين والمؤتمرات وغيرها من أوجه النشاط الجماهيري.

المراجع:
1- أسباب النزول للوا حدي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1، 1402- 1982
2- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، بيروت، ط1 1416- 1996 ,
3- البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعرفة بيروت ،1391 هـ .
4- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، تحقيق عادل أحمد وآخرون، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1422- 2001 .
5- التحرير والتنوير لابن عاشور، دار سحنون للنشر ، تونس، بدون تاريخ .
6- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، دار الفكر، بيروت ، 1401 هـ.
7- التفسير الكبير للرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421 -2000 .
8- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، تحقيق ابن عثيمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1421 – 2000 .
9- جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري ، دار الفكر، بيروت ، 1405 هـ,
10- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، دار الشعب ، القاهرة ، بدون تاريخ .
11- صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414-1993.
12- صحيح مسلم ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ،بيروت، بدون تاريخ .
13- في ظلال القرآن لسيد قطب، دار الشروق القاهرة ، ط25، 1417- 1996
14- الكشاف عن حقائق التنزبل للزمخشري، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي ، بيروت، بدون تاريخ .
15- لسان العرب لابن منظور، ط1 ، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ .
16- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1413- 1993
17- مسند أحمد بن حنبل ، مؤسسة قرطبة ، مصر، بدون تاريخ .
18- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داوودي ، دار القلم – دمشق ، ط3 ، 1423- 2002 .
19- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط2 ، 1424 -2003 .

الأكثر مشاركة في الفيس بوك