هل العهد القديم كلمة الله

هل العهد القـديم
كلـمة الـلـه ؟
د. منقذ بن محمود السقار

مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع أنبياء الله المرسلين، وعلى نبينا محمد ، صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين.
وبعد:
مازال الصادقون في كل عصر وجيل يبحثون عن الهدى والنور، وقد أرسل الله رسله، حاملين للهدى والبينات والنور إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44)،  وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدّقاً لما بين يديه من التّوراة وهدًى وموعظةً للمتّقين  (المائدة: 46).
ثم جاء القرآن الكريم، الكتاب الخاتم أيضاً للدلالة على النور والهدى  يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثيرٍ قد جاءكم من اللّه نورٌ وكتابٌ مبينٌ  يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ  (المائدة: 15-16).
إلا أن كتب الله المنـزلة على الأنبياء السابقين فُقدت بسبب ظروف كتابتها وطريقة حفظها، وتعرضت للتحريف والضياع، فضلّ البشر وتاهوا عن الهدى والنور.
وتوارث الناس كتباً بديلة نُسبت إلى الله، لكنها كتب خالية - إلا قليلاً - من الهدى والنور ، فقد حملت هذه الأسفار المكتوبة في طياتها ضعف البشر وجهلهم، فجاءت هذه الكتابات متناقضة غاصّة بالكثير مما لا يرتضي العقلاء نسبته إلى الله ووحيه القويم.
وهذا لا يمنع أن يكون في هذه الأسفار بعض أثارة من هدي الأنبياء وبقايا من وحي السماء، لكنها كما أسلفت غارت في بحور من تخليط البشر وتحريفهم.
هذا مجمل إيمان المسلمين في الكتب السابقة، فهم يؤمنون بالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه، لكنهم يرفضون أن يقال عن أسفار العهد القديم، أنها كلمة الله، وإن حوت بعض كلمته وهديه.
أما النصارى واليهود فهم يؤمنون بقدسية هذه الأسفار، ويعتبرونها كلمة الله التي سطرها أنبياؤه، وتناقلها اليهود عبر تاريخهم الطويل.
وإزاء هذا الاختلاف الكبير بين موقفي الفريقين من أسفار العهد القديم، نطرح سؤالنا الهام: "هل العهد القديم كلمة الله؟"
وهو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذه الحلقة من السلسلة التي نتقدم بها للذين مازالوا يبحثون عن الهدى والنور من أهل الكتاب.
وقد نهجتُ في هذه السلسلة منهج الغوص في طيات الكتب المقدسة عند النصارى، لأبحث من خلال الركام الكبير من الباطل عن أثارة الحق الذي نطقت به الأنبياء، لأقيم من خلاله الحجة على أولئك الذين يؤمنون بقدسية هذه الكتب.
وقد أيدت ما بين يدي من نصوص بأقوال علماء الكنيسة، ومجامعها ومؤسساتها، كما استأنست بأقوال أحرار الفكر الغربيين الذين أنطقتهم الحقيقة بشيء من الإجابات التي نبحث عنها في هذه السلسلة، سلسلة الهدى والنور.
والله أسأل أن يهدينا جميعاً لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة – شعبان – 1423هـ
mongiz@maktoob.com

معتقد المسلمين في توراة موسى عليه السلام

تبين آيات القرآن الكريم بجلاء موقف المسلمين من التوراة التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، إذ يخبرنا القرآن أنها وحي الله وكتابه وهديه الذي أنزله هدى ونوراً لبني إسرائيل  إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا  (المائدة: 44)، وأنزل التوراة والإنجيل  من قبل هدى للناس  (آل عمران: 3-4).
ويقول تعالى مخاطباً المؤمنين، داعياً إياهم إلى الإيمان والتصديق بكل ما أنزل على الأنبياء السابقين: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون  (البقرة: 136), ويقول واصفاً المؤمنين: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله (البقرة: 285).
وقد ذكر القرآن الكريم أن الله وكل إلى أهل الكتاب حفظ كتابهم بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء  (المائدة: 44)، لكن هل كان بنو إسرائيل أمناء على الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم؟
القرآن يخبرنا أن اليهود قد امتدت أيديهم إلى الكتاب تتلاعب بمضامينه ومعانيه ، فذكر أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به (المائدة: 13).
كما أخبرنا الله تعالى أنهم كتموا بعضاً مما أنزل الله عليهم ، وأن الله بعث نبيه ومعه بيان كثير مما أخفوه ، ناهيك عما تجاوزه، فلم يظهره يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير  (المائدة: 15).
ثم كانت إحدى أكبر مساوئهم أنهم كانوا يكتبون كتباً من عندهم، ثم ينسبونها إلى الله عز وجل فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (البقرة: 79)، وقال:  وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (آل عمران: 78).
ووضح النبي  هذا المعتقد حين قال: ((إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً، فاتبعوه، وتركوا التوراة)).( )
واستقر هذا المعنى في نفوس الصحابة والمؤمنين بعدهم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنـزل على رسول الله  أحدثُ، تقرؤونه محضاً لم يُشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً). ( )
ولا يمنع هذا من صحة بعض مواضع في التوراة، لما فيها من آثار الأنبياء، ففي التوراة حق وباطل كما أخبر الله ورسوله. ومن النصوص التي أشارت إلى وجود شيء من الحق في كتبهم ألبسوه بالباطل والزور قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون  (آل عمران: 71)، وكذا قوله: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43)، وذلك في مسألة رجم الزاني، وهو مذكور في سفر التثنية، حيث يقول: " إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنـزع الشر من وسطك" (التثنية 22/22-23).
وفي صحيح البخاري أن رسول الله  قال: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إليكم )). ( )
وعلل سبب عدم التكذيب بوجود حق وصدق في كتبهم، حيث قال كما في رواية أبي داود : ((ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه)). ( )
وعليه فنحن نؤمن بتوراة موسى كل الإيمان، ونؤمن بأنها حرفت ولم تحفظ، وأن القوم أخفوا شيئاً، وكتبوا أشياء، وضاع منهم الكثير، وما بين يديهم لا يخلو من بعض الحق.
وكثيراً ما نرى النصارى يستشهدون على صحة كتبهم بما جاء في القرآن من ثناء على كتاب موسى عليه السلام ، مدعين أنها توثق الأسفار التي بين يديهم، فهل أعجزتهم الحيل أم ضاقت بهم السبل ، إنهم يرومون توثيق هذه الكتب والأسفار بنصوص القرآن والسنة التي نطقت بتحريفهم.
لذا نراهم يقتطعون النصوص القرآنية اعتسافاً، فيوردون بعضها ويتغافلون عن الكثير مما لا يخدم فكرتهم، إنها طريقتهم دوماً أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض (البقرة: 85)، وهم بذلك كما وصف الله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله (آل عمران: 7).
وعند جمع هذه النصوص في مكان واحد يستبين الحق ويستبصر الباحث عن الحق صراط الله المستقيم.
فمما يثبت أن هذه الأسفار ليست توراة موسى أن القرآن نسب إلى أسفار موسى الكثير من المعاني التي نفتقدها في النصوص الحالية، ومن ذلك قوله:  إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقّاً في التّوراة والإنجيل والقرآن (التوبة: 111)، ولا وجود لهذا المعنى في العهد القديم ولا الجديد.
ومثله قوله تعالى:  بل تؤثرون الحياة الدّنيا  والآخرة خير وأبقى  إنّ هذا لفي الصّحف الأولى  صحف إبراهيم وموسى  (الأعلى: 16-19)، فهذا المعنى لا وجود له في صحف الأسفار المنسوبة لموسى والتي تخلو من الحديث عن الآخرة والقيامة، فضلاً عن المقارنة بينها وبين الدنيا.
ومثله نفتقد في الأسفار الحالية ما نسبه الله إلى توراته وإنجيله في سورة الأعراف من حديث عن النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات  الّذين يتّبعون الرّسول النّبي الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم  (الأعراف: 157).
وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن ، ونفتقدها في الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى اليوم، وذلك مؤذن ببطلان استدلالهم بالقرآن على توثيق ما في أيديهم من الكتب، إذ توثيق القرآن ومدحه، إنما هما لكتاب الله ووحيه، وليس للمحرف من كتبهم، والمنسوب زوراً إلى الله عز وجل.

أسفار العهد القديم

التوراة التي يؤمن بها اليهود والنصارى تتكون من أقسام عدة :
أ ) الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى والتي يقابلها عند المسلمين : التوراة. وهي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية.
ويجدر التنبيه إلى أن فرقة السامريين اليهودية لا تؤمن بما سوى الأسفار الخمسة من توراتها السامرية، كما سيأتي بيانه.
ب) الأسفار التاريخية، وهي أسفار منسوبة لعدد من الأنبياء الذين عاصروا هذه المراحل التاريخية من حياة بني إسرائيل، وعددها اثني عشر: (سفر يشوع، سفر القضاة، سفر راعوث، سفر صموئيل الأول، سفر صموئيل الثاني، سفر الملوك الأول، سفر الملوك الثاني، سفر أخبار الأيام الأول، سفر أخبار الأيام الثاني، سفر عزرا، سفر نحميا، سفر أستير).
ج) أسفار الشعر والحكمة، وهي خمسة أسفار: (سفر أيوب، سفر المزامير، سفر الأمثال، سفر الجامعة، سفر نشيد الإنشاد)، وتنسب هذه المجموعة في غالبها إلى داود وسليمان، ومن المزامير ما ينسب إلى آخرين مجهولين يدعون بني قورح وأساف وإيثان (23 مزموراً)، ومنها المزامير اليتيمة (51 مزموراً)، ولا يعرف قائلها.
د) الأسفار النبوية، وتتكون من سبعة عشر سفراً، وهي : (سفر إشعيا، سفر إرميا، سفر مراثي إرميا، سفر حزقيال، سفر دانيال، سفر هوشع، سفر يؤئيل، سفر عاموس، سفر عوبديا، سفر يونان، سفر ميخا، سفر ناحوم، سفر حبقوق، سفر صفينا، سفر زكريا، سفر حجي، سفر ملاخي). وتسمى الأسفار الستة الأولى أسفار الأنبياء الكبار، والبقية الأنبياء الصغار.
هـ) أسفار الأبوكريفا السبعة، وهي: ( باروخ، طوبيا، يهوديت، الحكمة، يشوع بن سيراخ، المكابيين الأول، المكابيين الثاني). يسميها البعض الأسفار الخفية، وكانت موضع ارتياب بعض آباء الكنيسة الأوائل ، فالقديس جيروم ترجم أسفار الأبوكريفا إلى اللاتينية، لكنه لم يضفها إلى الأسفار القانونية، لكن غيره قبلها، واجتمعت الفرق المسيحية على قبولها في مجمعي هيبو (393م) وقرطاجة (397م)، وبقيت كذلك حتى القرن السادس عشر الميلادي. ( )
وفي ذلك القرن (16م) ظهر البرتستانت، فرفضوا الإيمان بقانونية هذه الأسفار تبعاً لليهود ( )، وأما الأرثوذكس والكاثوليك فقد تمسكوا بها، وإن كان البعض يطبعونها منفردة في بعض النسخ الحديثة حرصاً على الوحدة الدينية للمذاهب النصرانية.
وقد أقر قانونية هذه الأسفار جميعاً مجمع "ترنت" الكاثوليكي سنة 1545 - 1563م، والأرثوذكس في مجمع "بيت المقدس" سنة 1672م.
ويجدر بالذكر أن بعض الكنائس المسيحية تزيد أسفاراً أخرى إلى الكتاب المقدس، كالكنيسة الأثيوبية التي تقول عنها دائرة المعارف الكتابية: "فعلاوة على الأسفار القانونية المعترف بها، فإنهم يقبلون راعي هرماس وقوانين المجامع ورسائل أكليمندس، والمكابيين وطوبيا ويهوديت والحكمة ويشوع بن سيراخ وباروخ، وأسفار أسدراس الأربعة، وصعود إشعياء، وسفر آدم ويوسف بن جوريون وأخنوخ واليوبيل".( )
وكذلك فإن الرسالة المنسوبة للنبي إرمياء كانت معتبرة عند الآباء الأوائل للكنيسة، وقد حوتها أهم المخطوطات اليونانية [الفاتيكانية والسكندرية] وأقدم الترجمات كالسبعينية اليونانية، والبشيطة السريانية، والقبطية والأثيوبية، بل نقلت دائرة المعارف الكتابية أن "الآباء اليونانيين الأوائل يميلون - بوجه عام - إلى اعتبار الرسالة جزءاً من الأسفار القانونية، لذلك تذكر في قوائم الأسفار القانونية لأوريجانوس وأبيفانيوس وكيرلس الأورشليمي وأثناسيوس، وعليه فقد اعترف بها رسمياً في مجمع لاودكية (360م)" ( )، ولكن هذه الرسالة اعتبرت فيما بعد من أسفار الأبوكريفا المدرجة زيفاً في الكتاب المقدس.
ويطلق النصارى _ لا اليهود _ على الأجزاء الأربعة السالف ذكرها اسم العهد القديم، وتسمى أيضاً الكتب والناموس، ويطلق اسم التوراة على الأجزاء الثلاثة الأخيرة تجوزاً.
يرجع أصل هذه التسمية إلى بولس، حين سمى التوراة بالعهد القديم في قوله: " عند قراءة العهد العتيق " (كورنثوس (2) 3/14). لتصبح الأناجيل والرسائل الملحقة هي العهد الجديد. ( )
- وقد تم تقسيم أسفار العهد القديم إلى إصحاحات في سنة 1200م على يد أُسقف كانتربري الأسقف ستيفن لانجتون (ت 1228م).
ثم رقمت جمل الإصحاحات في الطبعة الباريسية الصادرة عام 1551م.
وأما ترتيب الأسفار فقد أعيد غير مرة، وكان قد أقر له ترتيب في مجمع روما 382م، ثم عدل في ترنت 1546م، ولهذا التغيير علاقة قوية بقيمة الأسفار وأهميتها ودرجة ثبوتها.
- ولا يؤمن اليهود ولا النصارى بالإلهام الحرفي للكتاب المقدس، بل يعتقدون أن كلاً من كتبة الأسفار قد كتب بأسلوبه كما ألهمه الروح القدس، فهم "لم يتكلموا باسمهم الشخصي، ولم ينهلوا من نبع معرفتهم الشخصية، ولم يعلنوا للناس أفكارهم وآراءهم الخاصة .. الروح القدس أوحى لكتاب الأسفار المقدسة ما كتبوا، وأرشدهم فيما كتبوا، ولكن الروح لم يمح شخصياتهم، بل كتب كل بأسلوبه الخاص" ( )، يقول بطرس: " كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (بطرس (2) 1/20 - 21 ).
- وعن أصحاب هذه الأسفار وكتبتها الأصليين تقول كنيسة دميانة: " لقد كتب العهد القديم في فترة 2500 سنة قبل الميلاد بواسطة أربعين كاتباً، يختلفون في صفاتهم، فمنهم الفلاسفة مثل موسى النبي، ومنهم الراعي البسيط جامع الجميز مثل عاموس، والقائد الحربي يشوع، وساقي الملك نحميا، ومنهم إشعيا رجل القصور، ودانيال رئيس الوزراء، وسليمان الملك صاحب الحكمة....
كما اختلف الكُتاب عن بعضهم في ظروف تسجيل الوحي الإلهي، فموسى سجل أسفاره في البرية، وأما إرمياء فسجلها في ظلمة الجب، وأما داود النبي فكتب مزاميره عند سفوح التلال، وهو يرعى خرافه ... ورغم هذا نجد أن الكتاب المقدس يمتاز بوحدة ترابطية عجيبة لا تناقض فيها ولا خلل".( )
ويضيف محررو قاموس الكتاب المقدس: " والكتاب أصل الإيمان المسيحي ومصدره، وهو خال من الأخطاء والزلل، وفيه كل ما يختص بالإيمان والحياة الروحية ... أوحى الله بكلمته إلى أنبياء ورسل نطقوا بها حسب اصطلاحات اللغات البشرية، فكان الكاتب الملهَم أما أن يكتب بنفسه ما يوحى به إليه، وأما أن يمليه على كاتب يكتبه له، إلا أنه لم يصل إلينا بعد شيء من النسخ الأصلية التي كتبها هؤلاء الملهمون أو كُتّابهم..". ( )
فمعتقد النصارى في هذه الكتب - كما رأيتَ – أنها تحمل كلمة الله، وأنه كتبها أنبياء الله بإلهام من الروح القدس، وهذه الدعاوى هي ما سنحاول دراسته والتوثق من صحته في هذه الحلقة من سلسلة الهدى والنور.

لمحات من تاريخ بني إسرائيل

وقبل أن نشرع في إبطال نسبة الأسفار إلى الأنبياء نرى أنه يلزمنا أن نستعرض - ولو سريعاً - أبرز المحطات المهمة في تاريخ بني إسرائيل كما تذكرها التوراة والمراجع التي أفادت منها.
يبدأ تاريخ بني إسرائيل بأبيهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد سمي يعقوب فيما بعد "إسرائيل "، ورزق اثني عشر من الولد، وكل واحد منهم ولَد أمة تسمى سبطاً ينسب إليه، فأسباط إسرائيل هم ذرية يعقوب من أبنائه الإثني عشر، وقد دخل يعقوب وأبناؤه مصر إبان سيطرة الهكسوس عليها، فعاشوا فيها، ولما أخرج الهكسوس من مصر، أذل المصريون بني إسرائيل وساموهم أصناف العذاب.
ثم بعث الله فيهم موسى عليه السلام فاستنقذهم من أسر فرعون وذله، وقادهم باتجاه الأرض المقدسة، فجبُنوا عن دخولها، وبقوا في التيه في سيناء أربعين سنة توفي فيها موسى وهارون.
ثم قاد يشوع ( وصي موسى ) بني إسرائيل فأدخلهم الأرض المقدسة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبعد وفاته تفرق بنو إسرائيل إلى مجموعات متناثرة يحكمها عدد من القضاة، واستمر ذلك زهاء قرن ونصف.
ثم اختار لهم النبي صموئيل شاول ( طالوت ) ملكاً، فحكمهم عشر سنين، ثم ملك بعده داود ثم ابنه سليمان الذي توفي عام 922 ق. م، وولي بعده ابنه رحبعام، وثار عليه يربعام بن ناباط، وتبعه عشرة من الأسباط، وكونوا دولة شمالية سميت: مملكة إسرائيل، وعاصمتها شكيم ( نابلس ) وبقيت حتى عام 722 ق. م حيث قضى عليها الآشوريون، وحكموا تلك البلاد.
وأما المملكة الجنوبية (يهوذا)، فعاصمتها أورشليم، فبقي الملك فيها في ذرية سليمان حتى جاء بختنصر عام 586 ق. م، فقتل ملكها صدقيا، وأحرق أورشليم وهيكلها، وسبى سكانها إلى بابل، فبقوا هناك حتى أعادهم الملك الفارسي قورش سنة 538 ق. م، ثم بقوا في فلسطين في ظل اليونان ثم الرومان الذين دخلوا أورشليم عام 64 ق. م، واستمرت سيطرتهم على فلسطين حتى ظهور الإسلام.

النصوص التوراتية الحالية

وصل إلى أيدينا ثلاث نصوص مختلفة للتوراة، ولا نتحدث هنا عن ثلاث ترجمات، بل نعني أنه توجد نصوص ثلاثة يستقل بعضها عن بعض.
وهذه النصوص هي:
1- الترجمة اليونانية (السبعينية)، والتي كانت نسخها المختلفة أساساً لنسخة القديس جيروم (الفولجاتا) التي ترجمها – مع بعض التعديلات من الأصول العبرانية – إلى اللغة اللاتينية في أواخر القرن الرابع (386م)، وعنها أخذ الكاثوليك والأرثوذكس توراتهم.
2- العبرانية المعتبرة عند اليهود والبرتستانت.
3- السامرية المعتبرة عند طائفة السامريين من اليهود فقط.
وهذه النصوص متشابهة في عمودها الفقري، لكنها مختلفة ومتناقضة في بعض التفاصيل الدقيقة، كما ثمة فرقان كبيران يجدر أن ننبه لهما، أولهما: أن الترجمة اليونانية تزيد أسفار الأبوكريفا السبعة عن العبرية، وثانيهما: أنهما تزيدان معاً عن التوراة السامرية، والتي لا تعترف إلا بالأسفار الخمسة.

صور من الاختلاف بين النصوص التوراتية
وقد تحدث النقاد عن صور الاختلاف بين هذه النصوص، وطبقاً للموسوعة البريطانية فإن النص السامري يختلف عن النص اليوناني ( في الأسفار الخمسة ) بما يزيد على أربعة آلاف اختلاف، ويختلف عن النص العبري القياسي بما يربو على ستة آلاف اختلاف. ( )
ونذكر بعض هذه الاختلافات للتمثيل، لا الحصر:
- مما زادت به التوراة الكاثوليكية على العبرية البروتسنتية ما جاء في سفر الخروج حين الحديث عن أبناء موسى من زوجته صفورة المديانية، حيث ذكر النصان ولادة جرشوم ابن موسى، ثم انفرد النص الكاثوليكي، فقال: "وولدت أيضاً غلاماً ثانياً ، ودعا اسمه العازر ، فقال : من أجل أن إله أبي أعانني وخلصني من يد فرعون" ( الخروج 2/22 )، وهذه الفقرة غير موجودة في التوراة العبرانية التي يؤمن بها اليهود والبرتستانت.
- ومثلها قول إبراهيم في النص اليوناني الذي أثبتته نسخة الرهبانية اليسوعية: "الرب إله السماء وإله الأرض الذي أخذني من بيت أبي" (التكوين 24/7)، وقوله: "وإله الأرض" محذوف من نسخة البرتستانت، التي تعتمد النص العبري فقط.
- وكذلك حذف النص البرتستانتي العبري عبارة " وبقي إسحاق صامتاً "، من السياق الوارد في النص اليوناني، وهو: "باركني أنا أيضاً يا أبي، وبقي إسحاق صامتاً، ورفع عيسو صوته " (التكوين 27/38).
- وأيضاً لما تحدثت الأسفار التوراتية عن اغتصاب أمنون لأخته ثامار حسب مشورة الحكيم جداً يوناداب، وبلغ الخبر داود، تقول التوراة العبرانية، وهي تصف شعوره: " لما سمع الملك داود بجميع هذه الأمور اغتاظ جداً" (صموئيل (2) 13/21)، ثم تنتقل لوصف شعور أبشالوم بن داود.
أما التوراة الكاثوليكية الأرثوذكسية فتقول : "فاغتاظ جداً ، ولكنه لم يُحزن نفس أمنون ابنه، لأنه كان يحبه، إذ كان بكره" ، وهذه العبارة أسقطتها النسخة العبرانية، ولعلها رأت أن من المحال أن يقابل أب خبر اغتصاب ابنه لأخته بمثل هذا البرود، وبمثل هذا التعليل البارد.
- وينتهي سفر إستير في توراة اليهود والبرتستانت العبرانية في الإصحاح (10/3)، لكنه يستمر تسع صفحات في التوراة الكاثوليكية ، وينتهي في الإصحاح (16/24)، وأما نسخة الرهبانية اليسوعية فقد اكتفت بإضافة صفحتين: أولاهما: أضافها على الإصحاح العاشر، والثانية: أضافها في الفقرة الأولى من الإصحاح الخامس.
- وكذا ينتهي سفر دانيال في التوراة العبرانية عند نهاية الإصحاح الثاني عشر، فيما يمتد السفر في التوراة الكاثوليكية ليشمل إصحاحين آخرين لم يسجلهما النص العبري، الذي أهمل أيضاً صلاة عزريا، والتي تربو على ثلاث صفحات، ومحلها الإصحاح الثالث من السفر، فيما بين الفقرتين 23 و24 من الإصحاح العبراني.
- ومن الاختلافات بين توراة الكاثوليك والبرتستانت ما جاء في سياق طلب موسى من الله أن يردف معه أخاه هارون نبياً، فيجعل النص العبراني كلام موسى مجافياً للأدب، فقد قال موسى للرب: "استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل ، فحمي غضب الرب على موسى " ( الخروج 4/14 - 15)، لكن النص الكاثوليكي يقدم صورة محسنة لخطاب موسى للرب، فيقول: " رحماك يا رب، ابعث من أنت باعثه "، لكن الأدب الجم الذي ذكروه لم يمنع من حلول السخط على موسى، إذ يكمل النص الكاثوليكي فيقول: "فاتقد غضب الرب على موسى".
- وتدخل كاتبو النص اليوناني ثانية بغرض إصلاحه وتصحيحه في سياق قصة خيانة أبشالوم لأبيه داود، فقد كتب العبرانيون أنه " وفي نهاية أربعين سنة [أي من عودته من جشور] قال أبشالوم للملك: دعني فأذهب وأوفي نذري الذي نذرته للرب" (صموئيل (2) 15/7)، فقوله: "أربعين سنة" عبارة غير صحيحة، فإن "بعض الدارسين يرى أن الأصح أن نقرأ (صموئيل (2) 15/7) على أنها أربع سنوات كما جاءت في النسخ السريانية والسبعينية، وليست أربعين سنة "( ) ، ففي النسخ التي تتبع النص السبعيني اليوناني - كالترجمة العربية المشتركة والرهبانية اليسوعية - النص هكذا "وبعد انقضاء أربع سنوات قال أبشالوم للملك: دعني أنطلق إلى حبرون لأوفي نذري الذي نذرته للرب"، وهكذا يطرح السؤال نفسه: من الذي أعطى مترجمي السبعينية وغيرهم الحق في تصحيح أخطاء كلمة الله؟
- ومنها ما ذكرته التوراة العبرانية عن نبي الله أيوب ، أنه قال: "وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله" (أيوب 19/26)، فالنص يتحدث عن فناء جلد أيوب، وأنه سيرى الله لكن لا بجسده ، وهذه المعاني تغاير تماماً ما جاء في التوراة الكاثوليكية، حيث تقول: "وبعد أن تلبس هذه الأعضاء بجلدي، ومن جسدي أعاين الله" فالجلد لن يفنى ، بل سيلبس الأعضاء، وهو سيعاين الله ويراه بجسده، وهكذا فالنصان متناقضان، فأيهما هو كلمة الله؟
- ومن الاختلافات أيضاً ما جاء في النصين العبراني واليوناني عن قصة أهل قرية بيتمش الذين رأوا تابوت الرب، فعاقبهم بقتل ما يربو على خمسين ألف من أهل تلك القرية البائسة، كما يذكر ذلك النص العبراني، حين يقول: " ضرب أهل بيتمش، لأنهم نظروا إلى تابوت الرب، وضَرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلاً، فناح الشعب، لأن الرب ضرب الشعب ضربة عظيمة " (صموئيل (1) 6/19).
لكن هذا الرقم الكبير للقتلى أقضّ مضاجع كتاب النص اليوناني، فأنقصوه من خمسين ألف إلى سبعين شخصاً فقط، حيث يقول نص الكاثوليك: " وضرب الرب أهل بيت شمس، لأنهم نظروا إلى تابوت الرب، وقَتل من الشعب سبعين رجلاً، وكانوا خمسين ألف رجل، فناح الشعب، لأن الرب ضرب هذا الشعب هذه الضربة العظيمة ... " (الملوك (1) 6/19)، ومثله في الترجمة العربية المشتركة التي جعلت القتلى سبعين، حذفت من النص أي ذكر للخمسين ألف، فقالت: "وضرب الرب أهل بيت شمس، لأنهم نظروا إلى تابوت العهد، فمات منهم سبعون رجلاً، فناحوا لهذه الضربة".
- ويتحدث سفر صموئيل عن ألقانة بن يروحام الأفرايمي، وعما أعطاه لزوجتيه حنّة وفننّة من الأنصبة، فيقول النص العبري: "وأما حنّة فأعطاها نصيب اثنين، لأنه كان يحب حنّة" (صموئيل (1) 1/5)، وأما النص اليوناني والنسخ التي تعتمد عليه (كالترجمة العربية المشتركة)، فقد اكتشفوا خطأً في النص فأصلحوه، فقالوا: "وأما حنّة فيعطيها حصة واحدة، مع أنه كان يحبها".
- ويتحدث سفر الأيام عن أشحور، فيذكر النص العبري أنه ولِد بعد وفاة أبيه حصرون في مدينة كالب أفراته، وأن أمه هي أبياه، فيقول: "وبعد وفاة حصرون في كالب أفراتة ولدت له أبيّاه امرأة حصرون أشحور" (الأيام (1) 2/24).
لكن النص السبعيني يختلف تماماً في قراءته، فقد جعل اسم أم أشحور أفراته، وليس أبياه، وعليه لم يعد (أفراته) اسماً لمكان، كما جعل أشحور ابناً لكالب بن حصرون، فتحول اسم (كالب) إلى اسم رجل بعد أن كان اسماً لمكان، تقول دائرة المعارف الكتابية : " وترد هذه الفقرة في الترجمة السبعينية على النحو التالي: (وبعد موت حصرون ذهب كالب إلى أفراتة امرأة حصرون أبيه، فولدت له أشحور)". ( )
وأما الترجمة العربية المشتركة فلمحرريها رأي آخر، وهو أن كالب تزوج ابنة أفراته، وليس أفراته زوجة أبيه: "وبعد وفاة حصرون تزوج كالب ابنة أفراتة امرأة أبيه، فولدت له أشحور "، فأي هذه القراءات المتنافرة هو القراءة الصحيحة لما كتبه كاتب سفر الأيام!؟
- مما زادت به التوراة السامرية، وهو غير موجود في العبرية واليونانية " كانت كل أيام سام ستمائة سنة ومات " (التكوين 11/11 ).
- وأيضاً جاء في العبرانية " وقال قابيل لهابيل أخيه، ولما صارا في الحقل قام قابيل " (التكوين 4/8 ) ولم يذكر فيه مقال قابيل، بينما جاء النص تاماً في التوراة السامرية والكاثوليكية، وفيه "قال: نخرج إلى الحقل ".
- ومما زادت به العبرانية واليونانية عن التوراة السامرية الآيات العشر الأُوَل في الإصحاح الثلاثين من سفر الخروج، وقد بدأ الإصحاح الثلاثون في السامرية بالفقرة 11 .
- ومن زيادات السامرية عن العبرانية والكاثوليكية الأرثوذكسية ما وقع بين الفقرتين 10 - 11 من ( العدد 10)، وفيه: "قال الرب مخاطباً موسى: إنكم جلستم في هذا الجبل كثيراً، فارجعوا، وهلموا إلى جبل الأمورانيين وما يليه إلى العرباء، وإلى أماكن الطور والأسفل قبالة التيمن، وإلى شط البحر أرض الكنعانيين ولبنان، وإلى النهر الأكبر نهر الفرات، هُوذا أعطيتكم فادخلوا، ورِثوا الأرض التي حلف الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطيكم إياها، ولخلفكم من بعدكم" (العدد 10/10)، فهذا النص لا أثر له في التوراة العبرانية واليونانية.
- ومثله ما وقع في ( الخروج 11 ) بين الفقرتين 3 - 4، وهو محذوف من هذا الموضع في النسخة العبرانية والنسخة الكاثوليكية الأرثوذكسية، وفيه: "وقال موسى لفرعون : الرب يقول : إسرائيل ابني، بل بكري، فقلت لك : أطلق ابني ليعبدني، وأنت أبيت أن تطلقه، ها أنا سأقتل ابنك بكرك " ( الخروج 11/7)، وفي العبرانية واليونانية مثله، ولكن في (الخروج 9/1 - 3 ).
- ومن صور الاختلاف بين نسخ التوراة الخلاف المشهور بين السامريين والعبرانيين في الجبل المقدس الذي أمر الله ببناء الهيكل فيه، فالعبرانيون يقولون : جبل عيبال، لقوله :" تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال " ( التثنية 27/4 )، وفي السامرية والترجمة اللاتينية والنسخ الكاثوليكية التي اعتمدت عليها أن الجبل جرزيم، ففيها: "تقيمون الحجارة هذه التي أنا موصيكم اليوم في جبل جرزيم".
- وعند دراسة أعمار الآباء في الإصحاح الخامس من سفر التكوين حسب العبرانية يفهم منه أن طوفان نوح حصل بعد 1656 سنة من خلق آدم، فيما تجعله اليونانية سنة 2262، والسامرية 1307. فكيف يجمع بين النصوص الثلاثة ؟
- ثم حسب النص العبراني فإن ميلاد المسيح سنة 4004 من خلق آدم، وهو في اليونانية سنة 5872، وفي السامرية 4700. وقد جرى في هذه المواضع المتعلقة بأعمار الآباء الأوائل التوفيق بين النص اليوناني والعبراني، باعتماد النص الذي ترجمه جيروم (الفولجاتا) في الطبعات الحديثة من التوراة الأرثوذكسية الكاثوليكية.
- ومثله الخلاف في مقدار الزمن بين الطوفان وولادة إبراهيم، فإنه في العبرانية 292 سنة، وهو في اليونانية 1072 سنة، وفي السامرية 932 سنة. ( )
ولا تتوقف صور الاختلاف بين التوراتين عند هذه الصور، بل تصل إلى التناقض السافر والتضاد التام، ومن ذلك قول سفر أيوب: "والله لا ينتبه إلى الظلم" (أيوب 24/12)، وكلمة (الظلم) غيرتها الترجمة السريانية إلى (الصلاة)، واعتمدت هذه الترجمة الرهبانية اليسوعية، فالنص فيها: "والله لا يلتفت إلى الصلاة". ونبه محققوها في الحاشية إلى اعتمادها النص السرياني، وذكرت أن الكلمة العبرانية المستخدمة هي (الحماقة)، فأي هذه الكلمات أوحاها الله (الصلاة أو الظلم أو الحماقة).
ومثله ما جاء في المزامير: "قدموا للرب مجداً وعزاً" (المزمور 29/1)، والنص كما نقلت الرهبانية اليسوعية في هامشها أنه في الترجمتين اليونانية واللاتينية: "قدموا للرب صغار الكباش"، فأي تناسب بين المجد والعز وبين صغار الكباش أو حتى كبارها!
ويترنم كاتب المزمور (102)، فيقول: "اليوم كله عيّرني أعدائي، الحنقون عليّ حلفوا عليّ" (102/9)، واعتماداً على النص اليوناني استبدلت الرهبانية اليسوعية قوله: "حلفوا علي" بقولها: "يلعنونني" ، وأشارت إلى أنه في الترجمة السريانية: "الذين كانوا يمدحونني"، فأي هذه المعاني المتنافرة هو كلمة الله؟ وهل أعداء المترنم حلفوا عليه أم لعنوه أم مدحوه؟
وفي المزمور (118) يقول المترنم عن أعدائه: "أحاطوا بي مثل النحل، انطفأوا كنار الشوك" (المزمور 118/12)، وهو في النسخة اليونانية: "اشتعلوا"، كما بينت الرهبانية اليسوعية في حاشيتها، وشتان شتان بين الاشتعال والانطفاء، فما رأيكم يا معاشر العقلاء؟!
وحسب سفر أيوب العبراني، فإن زوجة النبي أيوب قالت له بعد ما أصابه القرح: "أنت متمسك بعدُ بكمالك، بارك الله ومُت" (أيوب 2/9)، بينما يذكر النص اليوناني الذي نقلت عنه الرهبانية اليسوعية أنها قالت: "أإلى الآن متمسك بكمالك، جدِّف على الله ومُت"، ومن المعلوم أن التجديف والبركة نقيضان، فهل طالبت زوجها بالتجديف على الله أم طلب البركة منه، أيهما كتبه الملهم بوحي الروح القدس؟ ( )
وبعد هذا نقرأ في آخر أسفار الكتاب وعيداً شديداً لأولئك الذين يزيدون وينقصون في كلمة الله "لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب، إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة " (الرؤيا 22/18-19)، فهل سيزيد الله الضربات المكتوبة على الكاثوليك والأرثوذكس الذين زادوا في كتابهم أسفار الأبوكريفا السبعة وغيرها مما زادوه في الكتاب ، أم أن الله سيحذف أسماء البرتستانت من سفر الحياة لما حذفوه من كلمة الله التي يصر المؤمنون بها من الفريقين على أنها لا تزول ولا تتبدل " وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (إشعيا 40/8)!.
ولنا أن نقول: أي هذه النصوص المختلفة كلمة الله؟ وما الدليل الذي يقدم توراة العبرانيين (البروتستانت واليهود) على توراة السامريين أو على توراة الأرثوذكس والكاثوليك اليونانية أو اللاتينية المترجمة عنها، فيجعل هذه مقدسة وتلك محرفة؟  قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين  (البقرة:111).
وأخيراً، نتساءل: هل يمكن أن نستعيد النص الأصلي للتوراة من خلال الجمع بين هذه النصوص المختلفة، وتجيبنا مقدمة الرهبانية اليسوعية في مدخلها للكتاب المقدس: " أي صيغة من النص تختار؟ أو بعبارة أخرى: كيف الوصول إلى نص عبري يكون أقرب نص ممكن إلى الأصل؟...
الحل العلمي الحقيقي يفرض علينا أن نعامل الكتاب المقدس كما نعامل جميع مؤلفات الحضارة القديمة، أي أن نضع شجرة النسب لكل ما نملكه من الشهود، بعد أن نكون قد درسنا بدقة فائقة مجمل القراءات المختلفة: النص المسوري ، ومختلف نصوص قمران ، والتوراة السامرية ، والترجمات اليونانية السبعينية ، وغير السبعينية ، وترجمات الترجوم الآرامية ، والترجمات السريانية ، والترجمات اللاتينية القديمة ... الخ، وبهذه المقارنات كلها نستطيع أن نستعيد النموذج الأصلي الكامن في أساس جميع الشهود، والذي يرقى عادة إلى حوالي القرن الرابع قبل المسيح ".
إن غاية ما يمكن أن نصل إليه فيما لو جمعنا كل هذه النصوص، أن نوفق في الوصول إلى نص يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، أي إلى نص كتب بعد موسى بألف سنة، أما استعادة النص الذي كتبه موسى عليه السلام فدونه خرط القتاد.

مخطوطات الكتاب المقدس

يفتخر النصارى اليوم بوجود الآلاف من المخطوطات للكتاب المقدس تملأ جنبات المكتبات العالمية وتزين خزائنها، وهو أمر صحيح لا مراء فيه ولا ريبة، لكن المفاجأة أن هذه الآلاف من المخطوطات لا يعرف كاتبها، ولا يدرى عن مدى موثوقيته وأمانته وتمكنه من عمله.
ويفجأنا أن نعلم أيضاً أن هذه المخطوطات لا يوجد فيها مخطوطان متطابقان، ونكتفي هنا بنقل شهادات ثلاث: أولها جاء في مقدمة الكتاب المقدس لشهود يهوه، وذلك في قولها: " في أثناء نسخ المخطوطات الأصلية باليد تدخّل عنصر الضعف الإنساني، ولذلك فلا توجد من بين آلاف النسخ الموجودة اليوم باللغة الأصلية نسختان متطابقتان ".
كما ننقل شهادة فريدريك جرانت في كتابه " الأناجيل أصلها، ونموها " حيث يقول: " إن أول نص مطبوع من العهد كان ذلك الذي قام به إرازموس عام 1516م، وقبل هذا التاريخ كان يحفظ النص في مخطوطات نسختها أيدٍ مجهدة لكتبة كثيرين، ويوجد اليوم من هذه المخطوطات 4700 ما بين قصاصات من ورق إلى مخطوطات كاملة على رقائق من الجلد أو القماش.
إن نصوص جميع هذه المخطوطات تختلف اختلافاً كبيراً، ولا يمكننا الاعتقاد بأن أياً منها نجا من الخطأ ... إن أغلب النسخ الموجودة من جميع الأحجام قد تعرضت لتغييرات أخرى على أيدي المصححين الذين لم يكن عملهم دائماً إعادة القراءة الصحيحة ".( )
وثالث هذه الشهادات صدرت عن دائرة المعارف الأمريكية، إذ تقول: "لم يصلنا أي نسخة بخط المؤلف الأصلي لكتب العهد القديم، أما النصوص التي بين أيدينا، فقد نقلتها إلينا أجيال عديدة من الكتبة والنساخ، ولدينا شواهد وفيرة تبين أن الكتبة قد غيروا - بقصد أو دون قصد منهم - في الوثائق والأسفار، التي كان عملهم الرئيسي هو كتابتها ونقلها.
وقد حدث التغيير دون قصد حين أخطؤوا في قراءة بعض الكلمات ... كذلك حين كانوا ينسخون الكلمة أو السطر مرتين، وأحياناً ينسون كتابة كلمات بل فقرات بأكملها.
وأما تغييرهم في النص الأصلي عن قصد فقد مارسوه مع فقرات كاملة، حين كانوا يتصورون أنها كتبت خطأ في الصورة التي بين أيديهم، كما كانوا يحذفون بعض الكلمات أو الفقرات، أو يضيفون على النص الأصلي فقرات توضيحية..
ولا يوجد سبب يدعو للافتراض بأن أسفار العهد القديم لم تتعرض للأنواع العادية من الفساد في عملية النسخ، على الأقل في الفترة التي سبقت اعتبارها أسفاراً مقدسة ".( )
وقام مجموعة من العلماء وكبار القسس في ألمانيا في القرن التاسع عشر بجمع كل المخطوطات اليونانية في العالم كله، وقارنوا بينها سطراً سطراً، فوجدوا فيها مائتي ألف اختلاف، كما أعلن مدير المعهد المختص بذلك في جامعة ميونيخ الأستاذ بريستل.
ويزداد أمر هذه المخطوطات سوءاً إذا علمنا أن موسى عليه السلام عاش في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فيما أقدم المخطوطات التوراتية يعود لما بعد ميلاد المسيح – إذا استثنينا مخطوطات قمران المكتشفة حديثاً والتي تعود للقرن الثاني قبل الميلاد - أي أن بين هذه المخطوطات وبين موسى ما يقارب الستة عشر قرناً فقط؟!
ولبيان هذا نذكر أقدم المخطوطات الكتابية، ونوضح أقدم تاريخ مفترض لكتابتها.
- مخطوطات قمران والمكتشفة حديثاً، وترجع للقرن الثاني والثالث قبل الميلاد. واكتشفت عام 1947م بجوار البحر الميت. وما يزال الغموض يلف حقيقة هذه النصوص التي لم يعلن عن محتواها حتى الآن.
- مخطوطة بردي جون ريلندز، وفيها ما يساوي الخمس صفحات من سفر التثنية، وقد كتبت في القرن الثاني قبل الميلاد.
- مخطوطة شيستر بيتي التي عثر عليها العلامة الإنجليزي بيني عام 1929م، وتتضمن أجزاء من تسعة أسفار من أسفار العهد القديم، وقد كتبت بين القرنين الثاني والرابع الميلاديين.
- مخطوطات برلين التي يعتقد أنها كتبت في القرن الميلادي الثالث، وتضم مخطوطة فيها أجزاء من سفر التكوين، وأخرى حملت إلينا أسفار الأنبياء الاثني عشر، وثالثة تضم بعض المزامير وسفر الأمثال.
- مخطوطة الفاتيكان (محفوظة في الفاتيكان)، وتعتبرها مقدمة الرهبانية اليسوعية أجلّ المخطوطات اليونانية لأنها تحوي العهد القديم كاملاً، وقد عثر عليها عام 1481م، وتعود إلى القرن الرابع الميلادي.
- مخطوطة الإسكندرية، وقد حفظت هذه النسخة في المتحف البريطاني في لندن، وتعود إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي، وقيل أكثر من ذلك.
- المخطوطة السينائية، وتعود للقرن الرابع أو الخامس الميلادي، وتضم أجزاء من سفر التكوين وأسفاراً من أسفار الأنبياء والحكمة، إضافة إلى أسفار الأبوكريفا. ( )
وكمثال لما ذكره جرانت ودائرة المعارف البريطانية وغيرهما من إضافات النساخ وأخطائهم نسوق بعض الأمثلة:
- ونبدأ بما جاء في سفر صموئيل من إدراج للناسخ وسهو في مكان إدراجه، حيث يقول متحدثاً عن قصة ذهاب شاول وغلامه إلى النبي صموئيل: " فعاد الغلام وأجاب شاولَ، وقال: هوذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة، فأعطيه لرجل الله، فيخبرنا عن طريقنا، سابقاً في إسرائيل هكذا كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً: الرائي، فقال شاول لغلامه: كلامك حسن، هلم نذهب، فذهبا إلى المدينة التي فيها رجل الله، وفيما هما صاعدان في مطلع المدينة صادفا فتيات خارجات لاستقاء الماء، فقالا لهنّ: أهنا الرائي؟ فأجبنهما وقلن: نعم، هوذا هو أمامكما" (صموئيل (1) 9/8-12).
فالتوضيح لمعنى الرائي، وأنها لفظة قديمة بمعنى النبي، هذا التوضيح ليس من كاتب السفر صموئيل (كما يقولون)، بل هو من توضيح الناسخ الذي أدرك الغموض الذي سيواجهه قارئ السفر بعد أن اندثر استخدام كلمة (الرائي) منذ زمن بعيد.
هذا وقد اندثرت هذه الكلمة بعد صموئيل بوقت بعيد، إذ نراها مستعملة أيام الملك عزيا، حيث قال أمصيا للنبي عاموس: "فقال أمصيا لعاموس: أيها الرائي، اذهب اهرب إلى أرض يهوذا" (عاموس 7/12).
فكيف أضحت هذه الزيادة من الناسخ جزءاً من الوحي وفقرة من فقرات من الكتاب المقدس؟
ومن المهم أيضاً أن نلاحظ أن هذا المقطع المدرج من الناسخ لم يرد في موضعه الصحيح، بل ظهر في الفقرة التاسعة بلا مقدمات ولا معنى، وسببه أن الناسخ قفز قلمه سطرين، ووضع إضافته قبل مجيء محلها، فالمفروض أن يكون بعد ورود كلمة الرائي، عند الفقرة العاشرة، فالنص لابد وأن يعاد ترتيب عباراته، ليستقيم المعنى، فيكون كالتالي: " فذهبا إلى المدينة التي فيها رجل الله، وفيما هما صاعدان في مطلع المدينة صادفا فتيات خارجات لاستقاء الماء، فقالا لهنّ: أهنا الرائي؟ (سابقاً في إسرائيل هكذا كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً: الرائي)، فأجبنهما وقلن: نعم، هوذا هو أمامكما"، وبهذا فقط يستقيم النص المدرج من الناسخ مع بقية عبارات السفر.
- وفي ثنايا سفر صموئيل الأول وردت كلمة الجلجال مرتين، فأخطأت عين الناسخ الأولى منهما، فأثبت الثانية فقط، وسها عن الأولى وما بعدها في السياق، يقول: " وقام صموئيل، وصعد من الجلجال إلى جبعة بنيامين" (صموئيل (1) 13/15)، وقد تنبه المترجم اليوناني إلى وجود السقط فأثبته، وهو في نسخة الرهبانية اليسوعية هكذا: " وقام صموئيل، وصعد من الجلجال، ليمضي في سبيله، وصعد بقية الشعب وراء شاول لملاقاة الشعب المحارب، وذهب من الجلجال إلى جبع بنيامين".
- ومثله سواء بسواء صنع الناسخ في سفر الملوك، حين تكررت في السياق كلمة (فأرسل) مرتين، فأثبت الثانية منهما فقط، وحذف ما بينها وبين الأولى، وذلك في قوله: "هرب إلى خيمة الرب وها هو بجانب المذبح، فأرسل سليمان بناياهو بن يهوياداع" (الملوك (1) 2/29)، وقد تنبه محققو الرهبانية اليسوعية للسقط فأكملوه ، فالنص حسب نسختهم: "هرب إلى خيمة الرب، وأنه بجانب المذبح، فأرسل سليمان إلى يوآب قائلاً: ما بالك هربت إلى المذبح؟ فقال يوآب: لأني خفت من وجهك، فهربت إلى الرب. فأرسل سليمان الملك بنايا بن يوباداع".
- كما أخطأ الناسخ في قراءة كلمة، فتغير معنى النص وسياقه بسبب خطئه، ففي سفر صموئيل يقول: "وكان داود يتوق إلى الخروج إلى أبشالوم، لأنه تعزّى عن أمنون حيث إنه مات" (صموئيل (2) 13/39)، وليس في الأصل كلمة (داود)، بل كلمة (روح)، التي تشبهها في صورة الكتابة، وقد نبهت الرهبانية اليسوعية على هذا الخطأ، وصححته، وغيرت السياق بموجبه، فأضحى النص فيها: "وكف روح الملك عن الغضب على أبشالوم، لأنه تعزى عن موت أمنون".
- ومما أخطأ النساخ في قراءته ما جاء في مقدمة سفر نشيد الإنشاد، فقالوا: "أنا سوداء وجميلة، يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان" (نشيد 1/5)، فإيراد كلمة سليمان خطأ من الناسخ، فالكلمة الأصلية كما في نسخة الرهبانية اليسوعية هي : "كخيام قيدار، كسرادق سلمى".
وبينوا في الهامش سبب التغيير فقالوا: "في النص العبري (سليمان)، سلمى وقيدار قبيلتان من البدو العرب، والفارق في قراءة (سلمى) و (سليمان) هو التحريك". لقد تنبهوا للخطأ فأصلحوه، فيما بقي الملايين من الناس يقرؤون العبارة خطأ، ويظنون أن الله قال: "كشقق سليمان"، و هي في الحقيقة عن قبيلة سلمى العربية، لا سليمان.
- ومن أخطاء النُّساخ نسبتهم يهوناثان إلى منسى: "كان يهوناثان ابن جرشوم بن منسّى هو وبنوه كهنة لسبط الدانيين" (القضاة 18/30)، والصحيح أنه حفيد موسى عليه السلام المذكور في (الأيام (1) 23/15)، وأن كلمة منسى خطأ ناسخ، وقد تنبه الآباء اليسوعيون لهذا الخطأ، فأصلحوه في نسختهم الرهبانية اليسوعية، فقالوا: "وكان يوناثان بن جرشوم بن موسى...".
- ومن أغلاط النساخ قول كاتب سفر القضاة " كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين" (القضاة 3/8)، فالملك كوشان لم يكن ملكاً على أرام النهرين الواقعة في سوريا والعراق، بل كان ملكاً على مملكة أدوم الواقعة في الأردن جنوب البحر الميت. ( )
وقد تنبه محققو الرهبانية اليسوعية للخطأ، فصححوه "كوشان رشعتايم ملك أدوم"، وكتبوا في الحاشية: "في النص العبري "ملك أرام النهرين"، والراجح أنه قد وقع التباس بين أرام وأدوم".
وهذا اللبس بين أدوم وأرام تكرر في مواضع أخرى (انظر: الملوك (2) 3/26، الملوك (2) 16/6، الأيام (2) 20/2)، وقد تنبه الآباء اليسوعيون في نسخة الرهبانية اليسوعية إلى الخلل في هذه المواضع، فأصلحوه، وكذا صنع محققو الترجمة العربية المشتركة، بينما بقي المؤمنون باستحالة وجود خطأ في الكتاب يقرؤون نسخاً أخرى من الكتاب من غير أن يتنبهوا إلى القراءات الخاطئة التي وقع فيها نساخ مخطوطات الكتاب المقدس، الذين كثيراً ما أخطؤوا بقراءة بعض الحروف، لتختلف المعاني، ويضيع على المؤمنين بها الصحيح.
- وليس من كبير عجب أن تخلط النسخ بين أرام وأدوم، لكن العجب ان يكون ذلك في نسخة واحدة، ففي حديث حديث سفر صموئيل عن حروب داود يقول: " وهذه أيضاً قدسها الملك داود للرب مع الفضة والذهب الذي قدسه من جميع الشعوب الذين أخضعهم من أرام ومن موآب ومن بني عمون " (صموئيل (2) 8/11-12)، فتحدث السفر عن خضوع أرام، بينما يقول سفر الأيام: " وهذه أيضا قدسها الملك داود للرب مع الفضة والذهب الذي أخذه من كل الأمم من أدوم ومن موآب ومن بني عمون " (الأيام (1) 18/11)، فذكر خضوع أدوم، فأيهما الصحيح أرام أم أدوم؟ ومن المسؤول عن هذا الخلط؟
- ويتحدث المزمور 106 عن بني إسرائيل، فيصفهم بأنهم: "تمردوا عند البحر، بحر سوف " (المزمور 106/7)، وهي قراءة خاطئة صححتها نسخة الرهبانية اليسوعية، فجعلت النص: "تمردوا على العلي، عند بحر سوف"، ونبهوا في الحاشية على أنها في الأصل العبري: "على البحر"، وأنهم أجروا تغييراً طفيفاً على الكلمة ليصلوا إلى القراءة الصحيحة، وهي قراءة لا علاقة لها من ناحية المعنى بالقراءة السابقة.
إن قراءات النساخ الخاطئة أو المصححة للنص أوجدت المئات من الاختلافات في قراءة النص النصوص التوراتية، ومنه ما جاء في مدح سبط نفتالي: "نفتالي أيلة مُسيَّبة، يعطي أقوالاً حسنة"، فالجملة الأخيرة يراها محققو الرهبانية اليسوعية غير أكيدة المعنى، ويستبدلونها بقولهم: "تلد شودان ظريفة".
- وكذا اختلفت القراءات وهي تنقل عن داود ما أضمره في نفسه من الشر لنابال، فقد قال عنه: "كافأني شراً بدل خير، هكذا يصنع الله لأعداء داود، وهكذا يزيد" (صموئيل (1) 25/21-22)، بينما النص في نسخة الرهبانية اليسوعية: " كافأني شراً بدل خير، كذا يصنع الله بداود، وكذا يزيد "، والقراءتان تتخالفان، فإحداهما تتحدث عن داود، والأخرى عن أعدائه.
- ومثله في قول ناثان لداود عن خطيئته المزعومة مع أمراة أوريا الحثي: " من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون، فالابن المولود لك يموت " (صموئيل (2) 12/14)، والنص مختلف في نسخة الرهبانية اليسوعية، ففيها: "إنك بهذا الأمر أهنت الرب إهانة شديدة، فالابن الذي يولد لك يموت"، فالقراءة الأولى تتحدث عن سبب عقوبة داود، وهو شماتة أعداء الرب بخطيئته، ولا يرد لهؤلاء الأعداء ذكر وفق القراءة الثانية التي تتحدث عن إهانة للرب – وحاشا لله – بسبب هذه الخطيئة.
- وأحياناً يضيف الناسخ ملاحظة ليذكِّر بها نفسه، فتصبح هذه الملاحظة جزءاً من وحي الله، كما في قوله: "فمي يحدِّث بعدلِك، اليوم كله بخلاصك، لأني لا أعرف لها أعداداً" (المزمور 71/15)، فقوله: "لا أعرف له أعداداً" من كلام الناسخ، وترجمته الصحيحة كما نقلت الرهبانية اليسوعية "لم أفهم الأحرف"، وقد حذفته من النص، وقالت في هامشها: "لاشك أن هذه العبارة تعليق لناسخ لم يفهم الكلمة".
ونتساءل هنا كيف يبرر أولئك المؤمنون بقدسية الأسفار مثل هذا الأخطاء وتلك الاختلافات والزيادات، ومتى سيصلحها القائمون على تنقيح الكتاب المقدس؟ وإلى أن يتم توحيدها نتساءل: أي هذه القراءات المختلفة يعتبر - بحق - وحي الله وكلمته؟!

إبطال نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى عليه السلام

يزعم اليهود والنصارى أن موسى  كتب الأسفار الخمسة، يقول القس سويجارت في مناظرته التلفزيونية للعلامة ديدات: " ونحن نعتقد أن موسى كتب ما يسمى بالأسفار الخمسة، تلك الكتب الخمسة الأولى باستثناء الترانيم القليلة، وسفر التثنية، وربما يكون قد كتب هذا أيضاً، لأننا نعلم أن للرب من القدرة، بحيث يوحي إلى موسى بالضبط الكيفية التي يموت بها، ويوحي إليه بدقة الهيئة التي تكون عليها جنازته، وهذا ليس بمعضل على الرب". ( )
وليس من دليل يؤيد هذا الزعم سوى ما ذكرته النصوص التوراتية والإنجيلية.
لكن عند الرجوع إلى هذه الأسفار والتمعن فيها يتبين أنها كتبت بعد موسى عليه السلام بوقت طويل، وفيما يلي بعض هذه الأدلة:

قصر توراة موسى بالنسبة إلى التوراة الحالية
- تحدثت أسفار العهد القديم عن توراة موسى، في سفر التثنية " وكتب موسى هذه التوراة، وسلمها للكهنة بين لاوي حاملي تابوت عهد الرب " ( التثنية 31/9 - 10 ) وكان ينبغي أن تكون نهاية التوراة هنا، ولكن الذي نراه أنه جاء بعدها ثلاث إصحاحات، والمفروض أن التوراة سلمت للكهنة من بني لاوي، مما دل على أن المكتوب من قبل موسى ليس النص الذي يحكي القصة.
- أن توراة موسى قصيرة، فيما أسفاره الخمسة تبلغ 400 صفحة، والذي كتبه موسى قصير جداً بالنسبة إلى الأسفار الخمسة، فقد أمر موسى بجمع بني إسرائيل نساءً وأطفالاً ورجالاً، بل وحتى الغريب المار بأرضهم، أمر بجمعهم كل سبع سنين في عيد المظال لتقرأ عليهم التوراة (انظر التثنية 31/9 - 12)، ولو كانت بالطول الذي بين أيدينا اليوم لشق سماع هؤلاء جميعاً وعسُر طول مكثهم لسماعها.
ومن الدلائل على قصر توراة موسى أنه أمر بكتابتها على جدران المذبح " فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة، وتشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ... وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشاً جيداً " (التثنية 27/2 - 8 ) وقد عمل بالوصية وصي موسى يشوع فكتبها على حجارة المذبح.
وبعد إتمام البناء قرأ يشوع التوراة على الجموع، وهي له تسمع " كتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى ... بعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة .. لم تكن كلمة في كل ما أمر به موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل النساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم " ( يشوع 8/32 - 35).

تناقض سفر يشوع مع الأسفار الخمسة
- ومما يؤكد أن التوراة التي كتبها موسى ليست الأسفار الخمسة : مخالفة يشوع وصي موسى لما جاء فيها، ولو كان يعرفها أو يعتقد صدقها لما خالفها، فإما أن يقال بأن سفر يشوع مزور، أو لا تصح نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى.
وبيان هذه المسألة أن موسى قال: " كلمني الرب قائلاً : أنت مار بتخم مؤاب بعار، فمتى اقتربت إلى اتجاه بني عمون لا تعادوهم، ولا تهجموا عليهم، لأني لا أعطيك من أرض بني عمون ميراثاً، لأني لبني لوط قد أعطيتهم ميراثاً " ( التثنية 2/16 - 20 ) فكان أمر الله لموسى في حق أرض عمون أن لا يأخذ منها شيئاً.
ولكن يشوع في سفره ينسب إلى موسى أنه قسم أرض بني عمون، يقول: " وأعطى موسى لسبط جاد بني جاد حسب عشائرهم، فكان تخمهم بعزير، وكل مدن جلعاد، ونصف أرض بني عمون إلى عير، وعير التي هي أمام ربّة ... هذا نصيب بني جاد " ( يشوع 13/24 - 28 )، فقد زعم سفر يشوع أن الله أعطى موسى نصف أرض بني عمون، وهو مخالف لما أمر الله به موسى.
فلو كانت هذه الأسفار توراة موسى لما نسب يشوع إلى موسى هذه المخالفة الصريحة لأمر الله بتقسيم أرض عمون.

أحداث ذكرتها التوراة، وقد حصلت بعد وفاة موسى
كما أن التوراة ذكرت أحداثاً حصلت بعد وفاة موسى في سيناء، مما دل على أنها كتبت بعده، ومنها:
- تقول التوراة : " وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة، حتى جاؤوا إلى أرض عامرة، أكلوا المن حتى جاءوا إلى أرض كنعان " ( خروج 16/35 )، فكاتب السفر أدرك انقطاع المنّ عن بني إسرائيل، وعرف أن مدة أكلهم للمنّ كانت أربعين سنة.
وهو أمر لم يدركه موسى عليه السلام، فقد انقطع المنّ زمن يشوع وبعد وفاة موسى بزمن ليس بقليل، ففي سفر يشوع " فحل بنو إسرائيل في الجلجال .. في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض .. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض " ( يشوع 5/10 - 12 ). فكيف يتحدث موسى عن أمر حدث بعد وفاته، وذلك حين دخلوا الأرض المقدسة مع النبي يشوع، ومن المهم التنبيه إلى أن الخبر عن الماضي، وليس إخباراً بالغيب والمستقبل ، لذا لا يمكننا أن نعتبره نبوءة من موسى عليه السلام.
- ثم إن سفر العدد يصف المنّ لقارئيه، فمن المؤكد أنه يحدثهم عما لم يروه ، ومن العجيب أن ينسب هذا الوصف إلى موسى، إذ ما الذي يدعوه لوصف المنّ وطعمه وطريقة طهيه لمن يصنعه ويأكله من معاصريه، يقول السفر: " وأما المنّ فكان كبزر الكزبرة، ومنظره كمنظر المقل، كان الشعب يطوفون ليلتقطوه، ثم يطحنونه بالرحى، أو يدقونه في الهاون، ويطبخونه في القدور، ويعملونه ملّات، وكان طعمه كطعم قطائف بزيت" (العدد 11/7-8) و(انظر الخروج 16/31)، إنه شاهد آخر ببراءة موسى من كتابة هذه الأسفار.
- ويذكر سفر العدد ما يُشعِر بأن الكاتب قد كتبه بعد جلاء بني إسرائيل من برية سيناء ودخولهم فلسطين فيقول: " ولما كان بنو إسرائيل في البرية، وجدوا رجلاً يحتطب في السبت " (العدد 15/32)، فالكاتب ليس في البرية حتماً. أي ليس موسى عليه السلام، فإنه قد مات في البرية قبل دخول الأرض المقدسة.
- ومن أدلة براءة موسى من هذه الأسفار قول التوراة: " وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب" (التثنية 2/12) والنص يفيد أن الكاتب قد أدرك دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة، وهو ما حصل بعد وفاة موسى عليه السلام.
- ومثله في قول التوراة، والمفترض أن الكاتب هو موسى " اجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلّوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض (فلسطين)" ( التكوين 12/5 - 6)، فالكاتب أدرك خروج الكنعانيين من الأرض بعد دخول بني إسرائيل، فهو ليس موسى.
- ونحوه قول كاتب الأسفار: "وكان الكنعانيون والفرزّيون حينئذ ساكنين في الأرض" (التكوين 13/7 )، وهذا النص جعلته نسخة الرهبانية اليسوعية بين قوسين للإيهام بأنه ملحق بالسياق، والصحيح أصالته ، وأن السفر متأخر التأليف.
- ونحوه في قوله: " وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملكَ ملِكٌ لبني إسرائيل" ( التكوين 36/31 )، فالكاتب قد أدرك عهد الملكية الذي كان بعد موسى بأربعة قرون.
وقد أقر المحقق آدم كلارك بوقوع التحريف في هذا النص، وقال: " غالب ظني أن موسى ما كتب هذه الآية، والآيات التي بعدها إلى التاسعة والثلاثين .. وأظن ظناً قوياً قريباً من اليقين أن هذه الآيات كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة، فظن الناقل أنها جزء من المتن فأدخلها فيه " ( )، ولم يبين دليله الذي دفعه لهذا الظن الذي قارب اليقين، لكن هذا التبرير من كلارك يفضي إلى الشك بجملة الكتاب المقدس، إذ كما جاز للناسخ أن يدخل في المتن هنا ما ليس فيه، فإنه يجوز وقوع ذلك في سائر الكتاب ..
- لكن الطامة الكبرى والداهية العظمى أن يذكر خبر وفاة موسى عليه السلام وندب نبي إسرائيل له، وذلك في أسفار تنسب إلى موسى، فقد جاء في سفر التثنية " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل في عربات مؤاب ثلاثين يوماً، فكمُلت أيام بكاء مناحة موسى " (التثنية 34/5 - 8)، والملاحظ دوماً أنه حديث عن الماضي البعيد، وليس إخباراً عن المستقبل.
ومما لا تقبل نسبته إلى موسى في الأسفار الخمسة ما جاء فيها من ثناء على موسى باستخدام صيغة الغائب، وهذا الثناء هو بالحقيقة شهادات من الغير له، فلا يعقل أن يقول موسى عن نفسه: "موسى رجلاً حليماً جداً أكثر من جميع الناس " ( العدد 12/3 ).
ولا أن يقول: " موسى رجل الله" (التثنية 33/1).
وكذا قوله: " الرجل موسى كان عظيماً جداً في أرض مصر .... " ( الخروج 11/3)، فمثل هذه الشهادات لا يليق أن تصدر عنه، إنما هي من غيره.
مسميات ظهرت بعد موسى
وتذكر الأسفار الخمسة أسماء كثيرة لمسميات لم يعرفها بنو إسرائيل إلا بعد موسى، ولم تسم بهذه الأسماء إلا بعد قرون من وفاة موسى، فكيف ذكرتها توراة موسى إذاً ؟
- ومنها " وتبعهم إلى دان " ( التكوين 14/14 ) وقد سميت بهذا الاسم في عهد القضاة، أي بعد موسى بما يربو على مائة سنة، يقول سفر القضاة: " وجاؤوا إلى لايش ... ودعوا اسم المدينة دان، باسم دان أبيهم " ( القضاة 18/27 - 29 ).
- ونحوه ما جاء في التكوين وفيه "لأني قد سرقت من أرض العبرانيين " ( التكوين 40/15 )، ولم تسم فلسطين بهذا الاسم في عهد موسى، إذ لم يدخل العبرانيون إليها بعد.
- ومثله " وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا قرية أربع، التي هي حبرون "
( التكوين 35/27 )، ولم تسم حبرون ( الخليل ) بهذا الاسم إلا في عهد يشوع، كما ورد في سفره "فباركه يشوع، وأعطى حبرون لكالب ... واسم حبرون قبلاً قرية أربع، الرجل الأعظم في العناقيين" (يشوع 14/13 - 15 )، فالكاتب لسفر التكوين أدرك دخول يشوع لفلسطين، ورأى تغيير اسم المدينة من أربع إلى حبرون.
وهذا ما يقوله علماء الكتاب المقدس المتحررون من قوانين الكنيسة، وأما العلماء المحافظون فينقل لنا القس صموئيل أنهم يرون "أن الإشارات السابقة لا تزيد عن كونها إضافة توضيحية عند النسخ ثانية عبر المراحل الزمنية المتعاقبة بواسطة الناسخ نفسه، وبالوحي المقدس".( ) فهم يعترفون بأنها من إضافات النساخ، لكن هؤلاء النساخ لم يصنعوا ذلك من أنفسهم، بل فعلوه بالوحي المقدس! فهم أيضاً ممن يوحى إليه.!! فالمهم عندهم أن "يظل موسى كاتباً لسفر التكوين".( )

اعترافات مثيرة
وبعد هذا كله كان لابد من أن يعترف أهل الإنصاف من أهل الكتاب بعدم صحة نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى، وقد كان من أوائل من فعل ذلك منهم، ابن عزرا الحبر اليهودي الغرناطي (تـ 1167م) حين ألغز اعترافه ببراءة موسى من هذه الأسفار ، وذلك لمخافته القتل والاضطهاد فقال في شرحه لسفر التثنية: " فيما وراء نهر الأردن ... لو كنت تعرف سر الإثني عشر .. كتب موسى شريعته أيضاً ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل الله ... ها هوذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة " ولم يجرؤ ابن عزرا على كشف الحقيقة فألغزها.
وقد فسر اليهودي الناقد اسبينوزا قول ابن عزرا بأنه أراد بأن موسى لم يكتب التوراة لأن موسى لم يعبر النهر، ثم سفر موسى قد نقش على اثني عشر حجراً بخط واضح، فحجمه ليس بحجم التوراة، ثم لا يصح أن تقول التوراة بأن موسى كتب التوراة، ثم كيف يذكر أن الكنعانيين كانوا حينئذ على الأرض ؟، فهذا لا يكون إلا بعد طردهم منها، وأما جبل الله فسمي بهذا الاسم بعد قرون من موسى، وسرير عوج الحديدي جاء ذكره في التثنية (3/11-12) بما يدل على أنه كتب بعده بزمن طويل.
ويعترف أيضاً في القرن التاسع عشر القس نورتن بعدم صحة نسبة الأسفار إلى موسى فيقول: "التوراة جعلية يقيناً، ليست من تصنيف موسى". ( )
وفي مدخل طبعة للكتاب المقدس باللغة الانجليزية صدرت عام 1971م سجل محررو الطبعة تشككاً في إلصاق الأسفار بموسى فقالوا: " مؤلفه موسى على الأغلب ".
وفي مدخل التوراة الكاثوليكية نقرأ: "ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون بعده، بل يجب القول بأن هناك ازدياداً تدريجياً سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية "، ومثله في المدخل الفرنسي للكتاب المقدس.
وتقول دائرة معارف القرن التاسع عشر : " العلم العصري، ولاسيما النقد الألماني قد أثبت بعد أبحاث مستفيضة في الآثار القديمة، والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى عليه السلام، وإنما هي من عمل أحبار لم يذكروا أسماءهم عليها، وألفوها على التعاقب معتمدين في تأليفها على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل ".
ويقول نولدكه في كتابه "اللغات السامية": " جمعت التوراة بعد موسى بتسعمائة سنة، واستغرق تأليفها وجمعها زمناً متطاولاً تعرضت حياله للزيادة والنقص، وإنه من العسير أن نجد كلمة متكاملة في التوراة مما جاء به موسى. ( )
فهل يقال بعد ذلك : هذه الأسفار الخمسة من كلام موسى أو أنها وحي الله إلى نبيه موسى؟
وصدق جارودي في كتابه " إسرائيل والصهيونية السياسية " حين قال: " ليس هناك عالم من علماء التوراة وتفسيرها لا يقر بأن أقدم نصوص التوراة قد ألف وكتب على الأكثر في عهد سليمان، وهذه النصوص ليست إلا تجميعاً لروايات شفهية، وإذا التزمنا بمعايير الموضوعية التاريخية كان علينا الإقرار بأن هذه الروايات التي تتحدث عن ملاحم مرت عليها قرون ليست أكثر تاريخية - بالمعنى الدقيق للكلمة - من الإلياذة أو الرامايانا".

إبطال نسبة أسفار الأنبياء إليهم

لا يملك اليهود ولا النصارى أي دليل – ولو كان ضعيفاً - يثبت صحة نسبة الأسفار المقدسة إلى أصحابها، إذ هذه الكتب خالية من الأسانيد التي توثقها.
بل إن الأدلة تثبت عكس ذلك، وهو يتضح فيما نعرض من النصوص والشهادات التي تبطل نسبة أسفار العهد القديم إلى الأنبياء عليهم السلام، ولسوف نكتفي بعرض بعض الشهادات عن بعض الأسفار، ونترك للقارئ الكريم أن يقيس الغائب من الأسفار على الشاهد منها.

سفر يشوع
تنسب الدراسات التقليدية هذا السفر إلى النبي يشوع بن نون وصي موسى عليه السلام، لكن القراءة المتأنية لهذا السفر تكشف عن تأخر تاريخ كتابته عن يشوع بسنين طويلة، فقد جاء فيه خبر موت يشوع " مات يشوع بن نون عبد الرب ابن مائة وعشر سنين، فدفنوه في تخم ملكه " (يشوع 24/29 - 30 ).
ويذكر سفر يشوع أحداثاً حصلت بعد موته كتعظيم بني إسرائيل له بعد وفاته، بقاء شيوخهم على العهد في عصر القضاة بعده " وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع والذين عرفوا كل عمل الرب الذي عمله لإسرائيل" (يشوع 24/31)، والسفر برمته يتحدث عن يشوع بضمير الغائب. (انظر 8/35، 6/27 ).
ومن الأدلة التي نسردها سريعاً لنؤكد أن يشوع ليس بكاتب السفر المنسوب إليه أن سفر يشوع ذكر مراراً قرية دبير التي حاربها يشوع، ومن ذلك قوله: "ثم رجع يشوع وكل إسرائيل معه إلى دبير وحاربها" (يشوع 10/38)، وكذا قوله : "وصعد التخم إلى دبير من وادي عخور" (يشوع 15/ 7)، وغيرها من المواضع.
وهذا الاسم لم يطلق على هذه القرية إلا بعد وفاة يشوع، فقد كان اسمها في عهد يشوع قرية سفر، وتغير في عهد القضاة "واسم دبير قبلاً قرية سفر" (القضاة 1/11).
كما نجد في مواضع كثيرة أن كاتب السفر يخبرنا ببقاء بعض المسميات التي سميت في عهد يشوع وأنها لم تتغير بتقادم الأيام وتصرم السنين، ومن المؤكد أن يشوع ليس القائل، إذ هذه المسميات ظهرت في عصره، وليس من المعتاد تغير أسماء المدن في وقت قريب، يقول سفر يشوع: "فدعي اسم ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم" (يشوع 5/9)، أي ما زال اسمه كذلك إلى زمن كتابة السفر.
ومثله قوله: " وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه، ولذلك دعي اسم ذلك المكان وادي عخور إلى هذا اليوم" (يشوع 7/26).
وقد اعترف بمجهولية كاتب هذا السفر الناقد اليهودي اسبينوزا، وبه أقرت مقدمة الكاثوليك للكتاب المقدس، حيث تقول: "لكن المؤلف المقدس الذي نجهل اسمه وعصره ...".
وأما محررو قاموس الكتاب المقدس ينقل لنا عدداً من الأسماء المقترحة لكتابة هذا السفر، فيقول: "كاتب هذا السفر مجهول، ولكنه قد نسب إلى أشخاص متعددين، غير أن كثيرين يتمسكون بالاعتقاد المقبول عند اليهود والكتاب المسيحيين الأولين، وهو أن يشوع نفسه كاتب السفر .. وظنَّ كالفن أن كاتبه هو اليعازر بن هارون، وزعم آخرون أنه فيدحاس أو صموئيل، أو إرميا".( )
وننبه على أن جميع هذه الاقتراحات تخرصات وظنون لا دليل عليها، لكن أرجحها أن السفر مجهول الكاتب، فكيف ينسب إلى الله ووحيه كتاب لا يعرف من قائله؟!

سفر القضاة
ويتحدث السفر عن الفترة التي تلت يشوع والتي سبقت الملكية، وهي فترة مبكرة من تاريخ بني إسرائيل، ونسبه التقليد اليهودي إلى النبي صموئيل آخر قضاة بني إسرائيل.
ولكن السفر يحوي ما يدل على أنه كتب في عهد الملوك فقد جاء فيه " في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل " ( القضاة 21/25 ).
ونحوه يقول السفر: " وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل " ( القضاة 17/6 )، مما يفهم منه أن الكاتب قد أدرك الملكية، وليس قاضياً يعيش في عصر القضاة.
وتذكر مقدمة السفر أن كاتبه " يحتمل أن يكون صموئيل "، فهو مجرد احتمال يوافق عليه القس وليم مارش، ويضيف إليه احتمالات أخرى، حيث يرى - كما نقل عنه العلامة رحمة الله الهندي - أن كاتب السفر مجهول وأنه ينسب إلى صموئيل أو عزرا، كما يحتمل أن كل قاض كتب في زمان ولايته .
ويقول مؤلفو المدخل إلى الكتاب المقدس: " لسنا نعلم من هو كاتب السفر، ومن المحتمل أن تكون مادته قد جمعت وصُنِّفت من واقع سجلات العصر، في زمن لاحق لزمن القضاة، وهو يذكر ثلاث مرات هذه العبارة "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل" ( 17/6 ، 18/1 ، 21/25)، مما يدفعنا إلى الظن بأن مادة السفر قد تم جمعها وضمها إلى بعضها بعد قيام الملكية في إسرائيل".( )
يقول الأب لوفيفر: إن سفر القضاة أعيدت كتابته وعدلت مرات كثيرة قبل أن يصل إلى صيغته النهائية، وإن أحداثه التاريخية تعوزها الدقة . ( )
ولم يخبرنا لوفيفر إن كان يعتقد بعصمة وإلهامية كل أولئك المجهولين الذين أسهموا في كتابة السفر وتنقيحه، وإذا لم يكن كذلك فكيف أضحت زياداتهم وتعديلاتهم جزءاً من وحي الله؟

سفر راعوث
وهذا السفر يحكي قصة راعوث المؤابية التي تزوجت إسرائيلياً ، ثم مات عنها زوجها ثم تزوجها بوعز فولدت له عوبيد جد داود ، ولا يعرف بالتحديد من هو مؤلف هذه القصة.
لذلك يقول القس وليم مارش عن كاتب هذا السفر: " مجهول " ، ويضيف جورج بوست: "لا يمكن الجزم بزمان هذه القصة ، ولا بمعرفة مؤلفها .. نسب بعضهم كتابتها إلى صموئيل، وآخرون إلى حزقيا وآخرون إلى عزرا ... "، وتقول مقدمة السفر عن الكاتب: " ليس معروفاً بالتحديد ".
وفي مقدمة السفر في التفسير التطبيقي"الكاتب: غير معروف، ويعتقد البعض أنه صموئيل، وإن كان السفر في طياته ما يدل على أنه كتب بهد وفاته".( )
وأما مقدمة السفر في التوراة الكاثوليكية فترى أن كاتبه المجهول قد عاش في زمن متأخر "اللغة ذاتها في النص العبري تشير إلى حداثة عهده الذي يعود إلى ما بعد السبي البابلي".( )
وأما القس منيس عبد النور فلا يرى أي حرج في نسبة هذا السفر المجهول المؤلف إلى الله، لأن "تحديد اسم كاتب السفر ليس مسألة جوهرية في تقرير قانونية السفر، ولا في أنه وحي الله".( )

سفرا صموئيل ( الأول والثاني )
وينسب السفران إلى النبي صموئيل، لكن السفر الأول منهما يذكر وفاة النبي صموئيل ودفنه "فمات صموئيل، فاجتمع إسرائيل، وندبوه، ودفنوه " ( صموئيل (1) 25/1 ) فمن الذي أكمل السفر الأول؟ ومن كتب السفر الثاني ؟
يقول منقحو الكتاب المقدس الذي راجعه القسيس فانت السكرتير العام لجمعية الكتاب المقدس بنيويورك عن مؤلف السفرين: " مجهول، ويحتمل أن يكون عزرا هو الذي كتبه وراجعه".
ويقول محررو طبعة 1971م الإنجليزية في مدخلهم: " مؤلفه : صموئيل على الاحتمال "، وقال آخرون الكاتب إرمياء، لكن مقدمة النسخة الكاثوليكية تعتبره "رأي صبياني، على أنه من المحتمل أن يكون المؤلف أحد تلاميذ إرميا".( )
وأما مؤلفو التفسير التطبيقي، فيقولون في مقدمة السفر: "الكاتب: غير معروف، وقد رأى البعض أن زابود بن ناثان هو الكاتب (الملوك (1) 4/5). ( )

سفرا عزرا ونحميا
ويتحدث السفران عن حياة بني إسرائيل بعد السبي ، ويفترض أن كاتبيهما هما عزرا ونحميا، لكن يرجح الباحثون أن كاتبهما وكاتب سفر الأيام واحد ، وأن الكتابة كانت حوالي سنة 300 ق.م ، وممن يرجح تأخر كتابة السفر عن عزرا ونحميا المحققون توري وهوشر وموننكل.
فنحميا كان معاصراً للسبي البابلي، لكن كاتب السفر يتحدث فيه عن يشوع اللاوي الراجع في سبي بابل، فيقول: " وهؤلاء هم الكهنة واللاويون الذين صعدوا مع زربابل بن شألتيئيل ويشوع" (نحميا 12/1)، ثم يذكر أن من بين الراجعين من السبي مع زربابل يشوع اللاوي، فيقول: "واللاويون: يشوع وبنوي وقدميئيل.." (نحميا 12/8)، لكن كاتب سفر نحميا يحدثنا عن الجيل الخامس ليشوع اللاوي، فيقول: "يشوع ولد يوياقيم ، ويوياقيم ولد ألياشيب، وألياشيب ولد يوياداع، ويوياداع ولد يوناثان ، ويوناثان ولد يدوع " ( نحميا 12/10 - 11 )، وهذا لا يمكن نسبته إلى نحميا، الذي عاد من السبي، فيما السفر يتحدث عن الجيل الخامس لأبناء العائدين من السبي.
وعليه فكاتب السفر عاش على أقل تقدير في الجيل الخامس من الرجوع البابلي . فمن هو هذا الكاتب؟
يجيب المدخل الفرنسي: " جرت العادة بأن تنسب مجموعة الأخبار وعزرا ونحميا إلى كاتب واحد لا يعرف اسمه، يقال له : محرر الأخبار " .
ويقول القس وليم مارش: " كاتب السفر حسب تقليد اليهود هو عزرا ، وهذا قول أكثر رجال الكنيسة المسيحية أيضاً ، غير أن بعض العلماء حديثاً يقولون: إن كاتباً اسمه مجهول كتب سفر عزرا وكتب أيضاً سفر نحميا". ( )
سفر إستير
وفي هذا السفر يتصور الخيالُ اليهودي ملكةَ فارس يهودية وذات نفوذ تستخدمه لصالح الشعب اليهودي . ولم يذكر اسم الله في هذا السفر أبداً، وتبرر ذلك مقدمة السفر في التوراة الكاثوليكية فتقول عن النص العبراني منه: "لربما كان ذلك خشية أن ترافق اسم الله هتافات وتظاهرات غير لائقة من قبل سامعين في نشوة من الأفراح، وهذا أمر مضر بالاحترام الواجب لاسم الله" ولا أدري لماذا لم يُحترَز عن ذكر اسم الله في سفر نشيد الإنشاد، وهو أيضاً مجموعة من الأغاني الغرامية؟
وعن مؤلفه يقول الدكتور سمعان كلهون في كتابه " مرشد الطالبين " : " مجهول "، ويقول الدكتور بوست : " ينسب البعض تأليف هذا السفر إلى عزرا ، وآخرون إلى كاهن يدعى يهوياقيم، والبعض ينسبونه إلى أعضاء المجمع العظيم ، على أن الأكثرين ينسبونه إلى مردخاي ".
أما مقدمة السفر الكاثوليكي فترى تأخر تأليفه "فقد يرجع إلى الجيل الثاني قبل المسيح" .
وقد شكك البعض في قانونية السفر، وحذفه مليتو أسقف سارديس عام 170م (صاحب اول قائمة مسيحية لأسفار العهد القديم) من قائمته للأسفار المقدسة التي ذكرها في كتابه "الخلاصة"، ومثله صنع القديس أثناسيوس في قائمته، وعلى نهجهما مشى مارتن لوثر الذي رفض لوثر اعتبار السفر ضمن الأسفار الموحى بها كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس ( )، بل قال عنه: " ليت هذا السفر لم يوجد ".
وفي النسخة اليونانية التي يعتمدها الكاثوليك زيادات غير موجودة في النسخة العبرانية، مثل حلم مردوخاي وصلواته وسوى ذلك ، وقصد المترجمون إلى اليونانية بهذه الزيادات إضفاء صفة دينية على السفر العبري الذي ليس فيه ما يشير إلى أنه نص ديني، كما صرحت المقدمة الكاثوليكية للسفر .
يقول محررو قاموس الكتاب المقدس: " لا يوجد تناسق أو انسجام بين السفر في العبرية وبين هذه الزيادات ، بل إن هناك تناقضاً بينها ، فتذكر هذه الإضافات أن ملك الفرس في ذلك الحين هو ارتزركسيس بدلاً من روكسيس، وتذكر أن هامان كان مقدونياً بدلاً من كونه فارسياً ". ( )

سفر أيوب
من المفترض أن يكون هذا السفر من كتابة النبي أيوب، لكن جاء في وسط السفر ما يدل على أن كاتباً آخر غير أيوب قد تدخل فيه، ففي نهاية الإصحاح 31 يقول: " تمت أقوال أيوب " (أيوب 31/40 ) من غير أن ينتهي السفر حينذاك، بل استمر بعده أحد عشر إصحاحاً تحدثت عن أيوب.
وفي نهاية السفر " وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة ورأى بنيه، وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات أيوب شيخاً وشبعان الأيام " ( أيوب 42/16 - 17 )، فهل هذا أيضاً من كتابة أيوب؟
ويرى الدكتور صموئيل شولتز أن تاريخ كتابة هذا السفر مجهول ، وكذلك زمن الخلفية التاريخية واسم المؤلف.
أما المقدمة الكاثوليكية للسفر فتحاول تحديد زمن التأليف، فترى أن "كاتب هذا السفر يأتي بعد إرميا، وقد استلهمه (أي من إرمياء) وبعد حزقيال، وهو سابق دون شك للعهد الإغريقي، وأغلب الظن أنه من أبناء الجيل الخامس". ( )
وأما محررو قاموس الكتاب المقدس فيحاولون من جهتهم تعريفنا بالكاتب المجهول وزمن تأليفه لهذا السفر فيقولون: "ويعتقد أن الكاتب من أهل فلسطين، ولا يمكن تعيين تاريخ كتابة السفر على وجه التحقيق، وقد ظن بعض النقاد أنه كُتب في عصر إرميا، وظن آخرون أنه كتب بعد السبي .. إلا أن غيرهم يظنون أنه كتب في القرن الرابع قبل الميلاد .. يحتمل أنه يرجع إلى الألف الثانية قبل الميلاد"، فما الذي يختاره القارئ من هذه التواريخ التي تحيرنا لتباعدها، لكنها على كل حال تتفق على أن هذا الكاتب مجهول. ( )
ويحسن أن ننبه هنا إلى أن النسخة الكاثوليكية اليونانية لسفر أيوب تنقص ما يقرب من خُمُس السفر المذكور في النسخة العبرانية .

سفر المزامير
يحوي سفر المزامير مائة وخمسين مزموراً تنسب إلى مؤلفين مختلفين، إذ ينسب إلى النبي داود ثلاثة وسبعون مزموراً، وإلى موسى مزمور واحد، وإلى أساف اثنا عشر مزموراً، وينسب إلى بني قورح تسعة مزامير، ومزموران إلى سليمان، وآخر إلى ايثان، وتسمى المزامير الباقية (51 مزموراً) بالمزامير اليتيمة لأنه لا يعرف قائلها!!!
فكيف وصفت بالوحي؟ وهل كان بنو قورح أيضاً أنبياء؟ وهل كان أساف كبير المغنيين في بلاط داود نبياً؟ وما أدلة نبوة هؤلاء؟ إن أحداً لا يملك إجابة عن هذه الأسئلة.
والمتأمل في المزامير يدرك بوضوح كبير أن المزامير تعود إلى ما بعد داود وسليمان، وتحديداً إلى القرن السادس قبل الميلاد، إلى أيام السبي البابلي، وذلك يظهر من أمثلة متعددة.
منها ما جاء في المزمور التاسع والسبعين والمنسوب لآساف كبير المغنيين في بلاط الملك داود، حيث يقول: " اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك، ونجسوا هيكل قدسك، وجعلوا أورشليم أكواماً، دفعوا جثث عبيدك طعاماً لطيور السماء " (79/1 - 2 ).
ومثله في قوله: " الرب يبني أورشليم، يجمع منفى إسرائيل يشفي المنكسري القلوب، ويجبر كسرهم " (147/4).
ومثله " على أنهار بابل جلسنا ... بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون ... لأنه هناك سألنا الذين سبونا (بعد السبي البابلي) كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون" (137/1).... وغيرها.
وهذه الأمثلة تثبت أن كتابة المزامير تأخرت عن داود ما لا يقل عن أربعة قرون، وعليه فلا تصح نسبتها إليه أو إلى معاصريه.
لكن الكنيسة تصر على أنها من وحي الله، فلديها دليل غريب، فإن هذه المزامير "تستعمل اليوم في عبادة الكنيسة المسيحية، وتناسب ذوق جميع الطوائف على حد سواء، ولعل هذا دليل على كونها موحى بها من الله". ( )

سفر ( الأمثال ) و ( الجامعة ) و ( نشيد الإنشاد )
وتنسب الأسفار الثلاثة حسب التقليد الكنسي واليهودي إلى النبي سليمان عليه السلام .
لكن التأمل في سفر الأمثال يظهر فقرات لا تصح نسبتها إلى سليمان ، فقراءتها تظهر أن لها أكثر من كاتب بدليل تكرار أكثر من مائة مثل باللفظ أو بالمعنى كما في (18/8 و 26/22 و19/24).
وقد نص السفر على أن بعض هذه الأمثال لسليمان، فقد بدأ بقوله: " أمثال سليمان بن دواد ملك إسرائيل " (1/1) ثم عاد في الإصحاح العاشر، فأكد عليه.
وكذا في الإصحاح الخامس والعشرين يؤكد أن سليمان هو قائل هذا السفر، ويضيف بأن الذي نقلها عنه هم رجال الملك حزقيا، فيقول: " هذه أيضاً أمثال سليمان التي نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا " ( 25/1).
ولا نعرف من هم رجال حزقيا، ولا كيف وصلت إليهم كلمات النبي سليمان، وهل هم أيضاً أنبياء، علماً بأن حزقيا هو الملك الثاني عشر بعد سليمان؟
وفي الإصحاح الثلاثين تنسب مجموعة الأمثال إلى غير سليمان، ففيه " كلام أجور ابن منقية مسا" ( أمثال 30/1 ) ولا يذكر السفر نبوته ولا إلهاميته، بل يقول أجور عن نفسه: "إني أبلد من كل إنسان، وليس لي فهم إنسان" (الأمثال 30/1).
وفي الإصحاح الذي يليه " كلام لموئيل ملك مسّا، علمته إياه أمه " ( 31/1 )، ولا يذكر لنا السفر كيف اعتبر هذا الذي علمته أمه من الوحي؟
ويقول المدخل للآباء اليسوعيين (التوراة الكاثوليكية): "السفر ليس بكامله من تأليف هذا الملك، وهو يسند إلى مجموعتين مهمتين .. المجموعة المركبة قد اكتملت دون شك بشكلها النهائي بعد السبي .. يستحيل تحديد أصل هذه المجموعات حتى المسندة منها إلى سليمان .. إن عدداً كبيراً من هذه الأمثال لا صفة دينية لها البتة ".
وأما مؤلفو المدخل إلى الكتاب المقدس، فيرون أن السفر من إنتاج عدد غير معلوم من المؤلفين المجهولين، وقد علم من السفر أسماء ثلاثة منهم فقط، يقول المدخل: " اشترك في كتابة سفر الأمثال العديد من الكتَّاب منهم ثلاثة مذكورون فيه بالاسم وهم: سليمان وآجور ولموئيل، وهناك قسم واحد من السفر على الأقل مجهول الكاتب". ( )
وأما سفر الجامعة فقد جاء في أوله: " كلام الجامعة بن داود الملك في أورشليم " ( 1/1 ) وفي موضع آخر يقول: " أنا الجامعة، كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم " (1/12).
وليس في ملوك بني إسرائيل من اسمه الجامعة، وقد ذكروا في أيام (1) 3/1 -22 ، لذلك ينسبه الكهنوتيون إلى سليمان ،ولا يصح هذا لأنه يقول: " رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم ، وموضع العدل هناك الجور ... " ( 3/16).
ومثل هذه الصورة التشاؤمية لا يمكن أن تصدر عن النبي سليمان الملك الذي يملك رفع الحق وتثبيته، ومثله " ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس ، فهُوَذا دموع المظلومين ، ولا معز لهم من يد ظالميهم " ( 4/1 )، ومثله كثير ، فالسفر يحمل صورة تشاؤمية لا يمكن أن تصدر عن نبي ملك.
وأما سفر نشيد الإنشاد فهو أشد الأسفار إثارة ، وقد تعرض لتردد كثير حتى قُبل وأضيف للكتاب المقدس ، ويرى المحققون أنه يعود إلى القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد، وإن اشتمل على بعض الأغاني القديمة جداً .
يقول عنه المدخل الفرنسي: " إن هذا الكتاب الصغير يمثل مسألة من أشد الأمور المتنازع عليها في نصوص الكتاب المقدس ، فما معنى تلك القصيدة أو تلك المجموعة من القصائد الغزلية في العهد القديم .. لا نجد فيه أي مفتاح للسيرة . من الذي ألفه ؟ وفي أي تاريخ ؟ ولماذا ألف ؟ .. من الواضح أن مؤلفه ليس سليمان "، ويضيف فيلسيان شالي: "أما الأعمال الأخرى فقد نشأت عن مختلف المؤمنين من غير الذين تعزى إليهم تقليدياً، وعلى سبيل المثال فإن نشيد الإنشاد بالتأكيد ليس من عمل سليمان". ( )
وعن هذا السفر يقول مدخله في التوراة الكاثوليكية : " لا يقرأ نشيد الإنشاد إلا القليل من المؤمنين ، لأنه لا يلائمهم كثيراً "، ويقول وشتن: " إنه غناء فسقي فليُخرج من الكتب المقدسة "، وقال العالم وارد الكاثوليكي عنه: " غناء نجس ".( )

سفر إشعيا
وينسب السفر إلى النبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد، فقد عاصر الملك عزيا ثم يوثام ثم أحاز ثم حزقيا، ولكن السفر يتحدث عن الفترة الممتدة بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد مما يؤكد أن ثمة كاتباً أو كاتبِين قد كتبوا ذلك بعد إشعيا، ومن أمثلة ذلك حديثه عن بابل الدولة العظيمة وتنبؤه بإنهيارها.
وأيضاً حديثه عن كورش الفارسي الذي ردّ اليهود من السبي (انظر 44/28 - 45/1).
كما يتحدث عن رجوع المسبيين والشروع في بناء الهيكل في الإصحاحات 56 – 66، لذا يقول العالم الألماني أستاهلن: " لا يمكن أن يكون الباب الأربعون وما بعده حتى الباب السادس والستين من تصنيف إشعيا".( )
لذا تنقل لنا مقدمة السفر الكاثوليكي أن "عدداً متزايداً من الشراح الكاثوليك يعتبرون اليوم أن عمل إشعيا قد تابعه أنبياء آخرون، لهم ما له من الأهمية، لكنهم لم يخلِّفوا لنا أسماءهم".

سفر إرمياء
أما سفر إرمياء فإن تقاليد الكنيسة تنسبه إلى النبي إرمياء، ولا تصح هذه النسبة، إذ هو من عمل عدة مؤلفين، بدليل تناقضه في ذكر الحادثة الواحدة، ومن ذلك تناقضه في طريقة القبض على إرمياء وسجنه (انظر: إرمياء 37/11 - 15 و 38/6 – 13).
كما يحمل السفر اعترافاً بزيادة لغير إرمياء ففيه " فأخذ إرمياء درجاً آخر، ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا، كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار، وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله " ( 36/33 ).
وفي موضع آخر " إلى هنا كلام إرمياء " ( 51/64 )، ومع ذلك يستمر السفر، فمن الذي أكمله؟

خاتمة جامعة
ونختم مع اعتراف مهم يسجله مدخل التوراة الكاثوليكية وفيه: " صدرت جميع هذه الكتب عن أناس مقتنعين بأن الله دعاهم لتكوين شعب يحتل مكاناً في التاريخ ... ظل عدد كبير منهم مجهولاً.. معظم عملهم مستوحى من تقاليد الجماعة، وقبل أن تتخذ كتبهم صيغتها النهائية انتشرت زمناً طويلاً بين الشعب، وهي تحمل آثار ردود فعل القراء في شكل تنقيحات وتعليقات، وحتى في شكل إعادة صياغة بعض النصوص إلى حد هام أو قليل الأهمية، لا بل أحدث الأسفار ما هي إلا تفسير وتحديث لكتب قديمة ".
وقد صدق موريس فورن حين قال: " لو سألنا في أي وقت جمع كل كتاب من كتب التوراة ، وفي أي حال ، وظروف ؟ وبأقلام من كتب ؟ لا نجد أحداً يجيبنا عن تلك الأسئلة وما شابهها إلا بأجوبة متباينة متخالفة جداً ...
والملخص أن المذاهب العلمية الجديدة ترفض أغلب أقوال علماء النقل التي هي أساس اعتقاد النصارى واليهود ، وتقوض بنيان ادعاء السابقين، وتبرئ الأنبياء من تلك الكتابات " .
ويواصل فيقول: " ما الحيلة ونحن من مائة سنة حيارى بين أسانيد يمحو بعضها بعضاً ، فالحديث يناقض سابقه ، والسابق ينافي الأسبق ، وقد تتناقض أجزاء الدليل الواحد .. وأيِسنا من الوصول إلى معرفة صاحب الكتاب الحقيقي ".( )
إذاً هذه الأسفار مجهولة المؤلف، لا تصح نسبتها إلى الأنبياء، بل هي من عمل الشعب اليهودي طوال عصور التاريخ اليهودي، وقد استلهموا هذه الكتابات من تقاليدهم، لا من الله ووحيه، وكل ذلك شاهد على أن هذه الأسفار ليست كلمة الله، فما أدرانا ما هو حال هؤلاء المؤلفين المجهولين؟ هل كانوا مؤمنين أمناء أم متهمين تركوا بصمات تلاعبهم - في الكتاب - واضحة لكل ذي عينين.
هل يقبل العقلاء صكوك بيع أو شراء أو ائتمان أصدرها مجهولون في قضايا دنيوية بسيطة تتعلق بحفنة من الدولارات؟ وإذا كانوا لا يقبلونها، فكيف يقبلون روايات المجاهيل في قضية يتعلق فيها مصير المليارات من بني الإنسان؟!.
وصدق الله حين قال:  فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون  (البقرة: 79).

حفظ التوراة (الأسفار الخمسة)

- تلقى موسى من الله وهو على جبل الطور لوحين من الحجارة كتبهما الله لبني إسرائيل تذكاراً " وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل، وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم" ( الخروج 24/12)، وقد كتب في اللوحين الوصايا العشر ( انظر الخروج 20/1 - 17 ) و ( التثنية 5/5 - 23 ).
- أمر موسى بوضع اللوحين في تابوت العهد، "وفي التابوت تضع الشهادة التي أعطيك" (الخروج 25/21).
- أوصى موسى بني إسرائيل بأن تقرأ التوراة على جميع بني إسرائيل كل سبع سنوات "وفي نهاية السبع سنين في ميعاد سنة الإبراء في المكان الذي تختاره تقرأ هذه التوراة أمام كل إسرائيل في مسامعهم " ( التثنية 31/9 - 11).
وقال للّاويين: " خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهداً عليكم، لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة، هوذا وأنا بعد حتى معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب، فكيف بالحري بعد موتي .. لأني عارف بعد موتي تفسدون وتزيغون " ( التثنية 31/24 - 30 ).
- أعاد يشوع كتابة التوراة، فكتبها على أحجار المذبح بحروف واضحة " كتب هناك على الحجارة نسخة توارة موسى .. وبعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب كل ما كتب في سفر التوراة، ولم تكن كلمة من كل ما أمر به موسى لم يقرأ يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم " ( يشوع 8/30-35 ).
ومما سبق علمنا أن التوراة كتبها موسى، وأمر بوضعها في تابوت عهد الرب بين لوحي الحجر، وأمر أن تقرأ على بني إسرائيل كل سبع سنين.

ضياع التوراة (الأسفار الخمسة)

بدأ ضياع التوراة كما تحدث سفر ( صموئيل (1) 4/11 ) عند فقدهم للتابوت في معركة مع الفلسطينيين، ثم عاد إليهم بعد سبعة شهور، ولما فتحوا التابوت " لم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى " ( الملوك (1) 8/9 ).
كما تعرض بيت المقدس لغزو عام 945 ق. م من قبل شيشق ملك مصر، وكان هذا الغزو كفيلاً بفقد كل ما في الهيكل من نسخ التوراة " وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب، وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء " ( الملوك (1) 14/25 - 26 ).
ثم فقدت التوراة سنين طويلة، ولم توجد لها باقية، إذ عاد بنو إسرائيل إلى الوثنية، ولم يعد للتوراة ذكر.
ثم في عام 622 ق. م، وبعد ثمان عشرة سنة من حكم الملك يوشيا الذي أراد أن يعيد بني إسرائيل إلى عبادة الله، ادعى الكاهن حلقيا أنه وجد سفر الشريعة، وقال: " قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب .. فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه " ( الملوك (2) 22/8-11 ).
ولم تبين النصوص ما الذي وجده حلقيا بعد هذه السنين ؟ هل وجد لوحي الحجر أم ما كتبه موسى، أم أن المقصود بسفر الشريعة هو سفر التثنية أو سفر اللاويين المختصين بالشرائع؟ ( )
وفي عام 605 ق. م تسلط الملك بختنصر على بيت المقدس، فنهب وسلب وأحرق وسبا عشرة آلاف من أهلها. (انظر الملوك (2) 24/11 - 15).
ثم في عام 586 ق. م عاد بختنصر إلى أورشليم " وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار " ( الملوك (2) 25/9 ).
وهنا فقدت توراة حلقيا كما يشهد بذلك علماء أهل الكتاب، يقول كليمني اسكندريانوس: "إن الكتب السماوية ضاعت، فألهم عزرا أن يكتبها مرة أخرى ".
ويؤكده محررو قاموس الكتاب المقدس بقولهم: "مما لا شك فيه أن معظم الأسفار المقدسة أُتلف أو فُقد في عصر الارتداد عن الله والاضطهاد في مدة حكم الملك منسي".( )
ويقول القس الدكتور صموئيل يوسف: "اعتقد آباء الكنيسة الاولى ومنهم إيريناوس وترتليان وكليمندس السكندري وجيروم بأن موسى هو كاتب الأسفار الخمسة، وذهبوا إلى الاعتقاد أيضاً أن هذه الأسفار أحرقها نبوخذ نصر وقت محاصرته اورشليم، فأعاد عزرا كتابتها من جديد بإلهام من الروح القدس".( )
ويحكي سفر نحميا عن حالة الفرح العارم التي أصابت بني إسرائيل لما كتب لهم عزرا التوراة المفقودة " ونحميا أي الترشاثا وعزرا الكاهن الكاتب واللاويون المفهمون الشعب قالوا لجميع الشعب: هذا اليوم مقدس للرب إلهكم، لا تنوحوا ولا تبكوا، لأن جميع الشعب بكوا حين سمعوا كلام الشريعة ... وكان اللاويون يسكتون كل الشعب قائلين: اسكتوا لأن اليوم مقدس، فلا تحزنوا ... وفي اليوم الثاني اجتمع رؤوس آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة " (نحميا 8/9-14).
يقول إيريناوس: "عندما أبيدت الأسفار المقدسة وعاد اليهود إلى وطنهم بعد سبعين سنة؛ ألهم عزرا الكاهن لاستعادة كل كلام الأنبياء السابقين ويعيد إلى الشعب شريعة موسى".( )
ويقول تهيوفلكت: " إن الكتب المقدسة انعدمت رأساً، فأوجدها عزرا مرة أخرى بالإلهام ".
وقد كتب عزرا هذه الكتب وهو في سبي بابل، فقد سماه ملك فارس بعزرا الكاتب، حيث قال: "من ارتحشستا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل" (عزرا 7/12).
ويسهب سفر عزرا في الحديث عن مهارات عزرا وإمكاناته التي يسرت له كتابة الأسفار المقدسة: " عزرا هذا صعد من بابل، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل ... لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب، والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء.. عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء" (عزرا 7/5 - 10).
والمتأمل في النص السابق يلحظ ما يدفع قول القائلين بنبوة عزرا أو إلهاميته، حيث سماه الكاهن، ولم يسمه النبي، ولو كان نبياً لما حسن تسميته بالكاهن، كما أشار السفر إلى مهارة عزرا الشخصية، وهي أيضاً خلاف ما عهد في الأنبياء الذين يعدهم الله لحمل كتبه، فالنبوة عطاء ومنحة إلهية، وليست كسباً شخصياً لعزرا أو غيره.
هل الأسفار الخمسة الحالية هي توراة عزرا، وإلا فمن الذي كتبها؟

رأينا زعم البعض أن عزرا قد أعاد كتابة التوراة بإلهام من الله، وهو أحد مزاعم كثيرة يتعلق بها الغريق، وهو يصارع في الأنفاس الأخيرة.
إذ لا يمكن الجزم بأن التوراة الموجودة (الأسفار الخمسة) من كتابة عزرا لأمور من أهمها وجود تناقضات فيها وأخطاء لا يقع فيها كاتب واحد. وحين نقول ذلك فإنا لا نمانع أن يكون عزرا قد قام بالتوليف بين الروايات التي وصلت إليه.
ولكن الدليل الأهم الذي يمنع أن يكون عزرا هو الكاتب، ذلكم الفحص الدقيق والعلمي الذي قام به المحققون النصارى عبر دراسات طويلة، والذي يؤكد أن هذه الأسفار لها كتبة يربون على المائة، وينتمون إلى أربع مدارس ظهرت في القرنين الثامن والتاسع قبل الميلاد في مملكتي إسرائيل ويهوذا. وتسمى هذه الدراسات نظرية المصادر الأربعة.
وقد تبلورت هذه النظرية بعد سلسلة من الدراسات، بدأت بدراسة جان استروك عام 1753م، وقد نشرها من غير أن يجرؤ على ذكر اسمه، وسار على خطاه الباحث اينهورن وذلك في سنة 1780 - 1783م، وأيضاً إيلجن في عام 1798م، ثم العالم كار داود الجن 1834م، ثم هرمن هوبفلد في عام 1853، ثم العالم لودز عام 1941م.
وقد أضحت هذه النظرية مسلمة عند العلماء المحققين، يقول إسرائيل لودز في مقدمة كتابه "نشأة التقدم في القرن الثامن" ( dec origins au milieu du 8 siecle): "وقد انتهى هذا الجهد العظيم إلى بعض النتائج المقبولة في خطوطها الكبرى بما يشبه الإجماع". ( )
كما اعترف بنظرية المصادر الأربعة مدخل الكاثوليك للكتاب المقدس.
وتتلخص نظرية المصادر الأربعة أنه ثمة أربع مدارس مختلفة ساهمت في كتابة التوراة، ثم ضمت نصوص هذه المدارس إلى بعضها، وكوِّن نص موحد لا يخلو من كثير من التناقضات والأخطاء.
وهذه المصادر الأربعة، هي:
1 ) المصدر الأول : ( اليهوي )
وكتب نصه فيما بين القرن العاشر والثامن قبل الميلاد، ورجح البعض أنه في التاسع قبل الميلاد وقد كانت كتابته في مملكة يهوذا الجنوبية.
ولغة هذا النص قديمة فجة، تتحدث عن الله بصورة بشرية سيئة، ويتحدث هذا النص عن بدء الخلق ويمتد إلى موت يعقوب، ويظهر فيه الشعور القومي، وسيطرة إسرائيل على كنعان، وشغله الشاغل التأكيد على وعد الله لإسرائيل بأرض كنعان.
ويطغى هذا النص في سفر التكوين، ويشترك مع الثاني والرابع في سفري الخروج والعدد.
وأهم ما يميز هذا النص تسميته الإله ( يهوَه ).
2 ) المصدر الثاني : ( الألوهيمي )
وهو متأخر عن المصدر الأول في زمن كتابته، إذ يرجع للقرن الثامن أو السابع قبل الميلاد، وكتب هذا النص عن الإله، وجنّبه النشاطات البشرية، ويظهره بصفات مهيبة نسبياً.
ويركز النص على الأحداث الخاصة بإبراهيم ويعقوب ويوسف، وهذا المصدر موجود في الأسفار الثلاثة (التكوين والخروج والعدد)، ويعود إلى هذا المصدر والمصدر الأول معظمُ سفري التكوين والخروج.
وأهم ما يميز هذا النص تسميته الإله ( ألوهيم ).
3 ) المصدر الثالث : ( سفر التثنية )
وقد عمل هذا المصدر في سفر التثنية فقط، وبه سمي، ويعود تاريخه للقرن الثامن أو السابع قبل الميلاد، ولغة هذا المصدر خطابية داعية لاتباع الشريعة، وتطبيق العهد، ويكثر فيه " اسمع يا إسرائيل"، ويمتلئ بالتشريعات، وغايته تركيز عبادة يهوه في مكان خاص هو أورشليم.
وقد خضع سفر التثنية لإصلاحات متأخرة جداً يمكن الوقوف عليها بمقارنة السفر مع بقية الأسفار الأربعة.
4 ) المصدر الرابع : ( الكهنوتي ).
ويعود تاريخ كتابته لما بعد النفي البابلي، أي للقرن السادس قبل الميلاد، وهو من عمل بعض الأحبار. وموضوعه ذكر الشرائع والتعاليم الطقسية، وكيفية تطبيق تعاليم الدين.
ويتميز مكتوب هذا المصدر أنه يذكر الخبر ونقيضه بحسب كاتبه من الكهان (انظر العدد 4/3، والعدد 8/24)، ويستخدم هذا المصدر اسم: ألوهيم وهو يتحدث عن الله.
ولهذا المصدر دور كبير في سفري اللاويين والعدد، كما شارك قليلاً في سفري التكوين والخروج.
وقد بين الأب دوفو أرقام الفقرات التي تتبع النص الألوهيمي، وتلك التي تتبع النص اليهوي، في كل سفر من الأسفار الخمسة.
ويقول الأب دوفو : " لقد تكونت أسفار موسى الخمسة من أقوال موروثة لأمم مختلفة، جمعها محررون وضعوا تارة ما جمعوا جنباً إلى جنب، وطوراً غيروا من شكل هذه الروايات بهدف إيجاد وحدة مركبة، تاركين للعين أموراً غير معقولة، وأخرى متنافرة .... ".
وأما المطران كيرلس سليم بسترس رئيس أساقفة بعلبك وتوابعها للروم الكاثوليك، فينقل لنا إجماع العلماء على صحة نظرية المصادر، فيقول: "إن علماء الكتاب المقدس يجمعون اليوم على أن هذه الرواية تضمّ في الواقع روايتين مختلفتين: رواية أولى تعود إلى القرن السادس قبل المسيح (التكوين 1/1 - 4:2)، وقد كتبت في محيط كهنوتي في اثناء جلاء بابل ؛ ورواية ثانية أقدم من الأولى ترجع إلى القرن العاشر قبل المسيح، وضعها كتبة وحكماء من بلاط سليمان الملك (التكوين 4/2 – 25). وبعد العودة من جلاء بابل جمعت الروايتان، ودُوِّنتا الواحدة تلو الأخرى في الفصلين الأوّلين من سفر التكوين". ( )
وتقول دائرة المعارف البريطانية : " إن أسفار العهد القديم كتبت في عصور مختلفة، وبأيدي كتاب مختلفين ذوي ثقافات مختلفة متباينة ".
ويرجح ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" أن هذه الروايات قد امتزجت، وأخذت صيغتها النهائية سنة 300 ق. م، فيقول: "إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هو سفر التكوين، وقد كتب بعضه في يهوذا، وبعضه في إسرائيل، ثم تمّ التوفيق بين ما كتب هنا وهناك بعد سقوط الدولتين. والرأي الغالب أن أسفار التوراة الخمسة اتخذت شكلها النهائي حوالي عام 300 ق.م".
لكن آخرين من العلماء قالوا بأن الأسفار الخمسة أخذت وضعها النهائي سنة 400 ق. م، بينما امتدت بقية أسفار العهد القديم إلى سنة 200 ق. م. ( )

الوثنيات القديمة والتوراة :

اعتمد كُتاب الأسفار من اليهود على ثقافات الأمم الوثنية المجاورة لبني إسرائيل، بل كادت بعض سطورهم أن تكون نقلاً حرفياً لما في تلك الكتابات.
فالكثير من القصص التوراتية انتحلها كُتاب العهد القديم من أساطير الأمم السابقة لبني إسرائيل، وظهر صداها واضحاً في أسفار العهد القديم.
ومن ذلك ما ذكره سفر التكوين عن مضاجعة لوط. ( انظر التكوين 19/30 - 37) والتي انتحلها العهد القديم وكتابه المجهولون من أسطورة مصرية ذكرها شوقي عبد الحكيم في كتابه “أساطير وفلكلور العالم العربي “.
وتتحدث الأسطورة عن إلهة الموت "أفروديت" التي كانت تتمنى أن تنجب طفلاً من أخيها الأكبر أوزوريس، فأسكرته وضاجعته، فولدت منه الإله أنوييس.
وأما سفر إستير والذي يذكر قصة إستير وابن عمها مردخاي، وانتقامها من هامان وزير ملك فارس أحشويرس، فالقصة مشابهة لما جاء في التراث البابلي في ملحمة البابليين والعيلميين، ولكل بطل من أبطال القصة التوراتية مقابل في الأسطورة البابلية.
فإستير اليهودية هي عشتر البابلية، وهامان هو إله العيليميين، ومردخاي هو مردوك البابلي.
ومما يؤكد هذا الاقتباس أن التاريخ الفارسي لا يذكر شيئاً عن أبطال القصة التوراتية وخاصة إستير والملكة فشني. ( )
وأما المزامير فتتشابه مع الأناشيد والتراتيل المصرية وغيرها، فالعالم أرمان في بحثه القيم " مصدر مصري لأمثال سليمان " والذي قدمه عام 1924م، وتابعه فيه العالم برستيد، فإنهما يريان بأن المزمور 104 منقول بشكل شبه حرفي من نشيد أخناتون الكبير، وخاصة الفقرات (20- 30).
وهذا ما أكدته دائرة المعارف الكتابية حيث تقول: "البحث الأركيولوجي في بابل وفي مصر قد كشف عن أناشيد متقدمة ... كما أن الكشف عن آداب الكنعانيين في أوغاريت ... قد أمدنا بقصائد هامة مشابهة للمزامير منذ عصر موسى".( )
كما يرى المحققون أن المزمور التاسع والعشرين مقتبس عن قصيدة من أوغاريت " للبعل " مع استبدال اسم " البعل " باسم " يهوه.
وأما المزمور 19 فمقدمته هي الابتهالات عينها التي كانت تقدم لإله الشمس. ( )
وأما سفر نشيد الإنشاد فيرى ول ديورانت أنه من وضع شعراء عبرانيين تأثروا بالروح الهيلينية التي وصلت مع غزو الإسكندر، وقد يكون السفر مأخوذاً من آداب مصرية بدليل أن العاشقين كان يخاطب أحدهما الآخر : أخي. أختي، وهو أسلوب مصري قديم. ( )
ويؤكد العالمان أرمان وبرستيد أن سفر الأمثال منقول بشكل فاضح من كتاب " الحكم " لأمنحوبي المصري القديم، وكان قد قسم كتابه إلى ثلاثين فصلاً، واشتهر باسم " ثلاثون فصلاً من الحكمة " ونقل كاتب السفر التوراتي هذه الحكم مع تغيير بسيط في ألفاظها.
ويذكر مصطفى محمود في كتابه "التوراة" بعضاً من صور التشابه، إذ يقول أمنحوبي: " الكاتب الماهر في وظيفته سيجد نفسه أهلاً للعمل في رجال البلاط " ويقول سفر الأمثال ناقلاً عنه: " أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله، إنه يقف أمام الملوك " ( الأمثال 22/29 ).
وأيضاً يقول أمنحوبي: " لا تصاحب رجلاً حاد الطبع، ولا ترغب في محادثته "، وفي سفر الأمثال: "لا تستصحب غضوباً، ومع رجل ساخط لا تجيء " ( الأمثال 22/24 ). ( )
وأما سفر الجامعة فلا يمكن أن يصدر من نبي للروح التشاؤمية والنظرة السوداوية التي تسيطر على كاتبه الذي اقتبس من الأساطير البابلية، ومنها أن الآلهة نصحت جلجامش بقولها: "أي جلجامش، املأ بطنك، وكن مرحاً بالليل والنهار، بالليل والنهار كن مبتهجاً، راضياً، طهر ثيابك، واغسل رأسك بالماء، وألق بالك إلى الصغير الذي يمسك بيدك. واستمتع بالزوجة التي تضمها إلى صدرك ".
ويشبه هذا ما جاء في سفر الجامعة وفيه " اذهب. كُل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب طيب، لأن الله منذ زمان قد رضي عن عملك، لتكن ثيابك في كل حين بيضاء، ولا يعوز رأسك الدهن، إلتذّ عيشاً مع المرأة التي أحببتها " ( الجامعة 9/ 7 ). ( )
كما نقل كُتّاب التوراة قصة الطوفان من السومريين، وتعود مخطوطاتهم إلى 3000 ق.م، حيث يتشابه العمود الثالث والرابع من اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش كما أوردهما فراس سواح في كتابه " كنوز الأعماق قراءة في ملحمة جلجامش"، حيث جاء في الملحمة: "وما أن لاحت تباشير الصباح، حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء ... اقتلع أريجال الدعائم، ثم أتى ننورتا، وفتح السدود ... بلغت ثورة حدد تخوم السماء، أحالت كل نور إلى ظلمة، والأرض [الفسيحة] قد تحطمت [ كما الجرة ]، ثارت العاصفة يوماً (كاملاً)، تزايدت سرعاتها حتى حجبت الجبال، أتت على الناس، (حصدتهم) كما الحرب، عميَّ الأخ عن أخيه، وبات أهل السماء لا يرون الأرض، حتى الآلهة ذعرت من هول الطوفان ... ستة أيام وست ليال، الرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض.
ومع حلول اليوم السابع. العاصفة والطوفان، التي داهمت كجيش، خفت شدتها، هدأ البحر وسكنت العاصفة وتراجع الطوفان ... واستقرت السفينة على جبل نصير ... أتيت بحمامة وأطلقتها ... طارت الحمامة بعيداً ثم عادت إليَّ ... أتيت بغراب وأطلقته ... طار الغراب بعيداً، فلما رأى الماء قد انحسر، حام وحط وأكل. ولم يعد".
وهذه المقتطفات من الملحمة تشبه كثيراً ما جاء في قصة الطوفان في سفر التكوين، حيث جاء فيه: "وتعاظمت المياه وتكاثرت جداً على الأرض. فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض. فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء. فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً. وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه.
واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وأرسل الغراب. فخرج متردداً حتى نشفت المياه عن الأرض ... ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها. فرجعت إليه إلى الفلك. لأن مياهاً كانت على وجه كل الأرض، فمدّ يده وأخذها، وأدخلها عنده إلى الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيام أخر، وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضاً" (التكوين 7/18- 8/12).
وقد قارب الحقيقة صبري جرجس حين وصف التوراة في كتابه " التراث اليهودي الصهيوني" بأنها "لا تكاد تزيد عن كونها مجموعة من الخرافات والقصص التي صيغت في جو أسطوري حافل بالإثارة، مجافٍ للعقل والمنطق، غاص بالمتناقضات، مشبع بالسخف....". ( )
ويعترف بأثر هذه الأمم على التوراة المدخلُ الفرنسي للتوراة، فيقول: " لم يتردد مؤلفو الكتاب المقدس وهم يرون بداية العالم والبشرية أن يستقوا معلوماتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من تقاليد الشرق الأدنى القديم، ولاسيما من تقاليد ما بين النهرين ومصر والمنطقة الفينيقية الكنعانية ".
وأما المطران كيرلس سليم بسترس رئيس أساقفة بعلبك فيقول: : "إذا كانت رواية حوادث إبراهيم على جانب كبير من الموضوعية التاريخية، فالفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين هي مجموعة أساطير استقاها الشعب اليهودي من آداب الشعوب المجاورة ولا سيمَا الأدب البابلي .. لقد تأثرت كتابة واضعي الأسفار المقدسة لكلا التاريخين ليس بالآداب المجاورة فحسب، بل أيضاً بما اختبروه في حياة شعبهم طيلة الزمن الذي دوّنوا فيه تلك الأسفار".( )
ويقول فيلسيان شالي: "ألف بعض الإسرائيليين تعظيماً لإلههم - منذ القرن العاشر حتى السابع – مجموعة الأساطير التي ستوضع بعد ذلك في كتابهم المقدس، مثل خلق العالم والإنسان، والجنة المفقودة، والطوفان، وكثير من عناصر هذه الأساطير مستعار من البلاد التي كانت إسرائيل على صلة بها، أي من مصر وبابل خاصة".( )
وتتشابه كثيراً الشرائع التوراتية مع قوانين حمورابي، الذي سبق ظهور اليهود وكتبهم بعدة قرون، وصور التشابه كثيرة، حتى يخيل للناظر إلى كثرتها أن التوراة بشرائعها نسخة من قوانين حمورابي الوثني، ومن صور التشابه ما جاء في الأسفار بخصوص الثور النطاح: " إذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً. ولكن إن كان ثوراً نطاحاً من قبل، وقد أُشهد على صاحبه ولم يضبطه، فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يرجم، وصاحبه يقتل أيضاً... إن نطح الثور عبداً أو أمة. يعطى سيدُه ثلاثين شاقل فضة، والثور يرجم" (الخروج 21/ 28- 32).
ويقابل ذلك ما جاء في قوانين حمورابي" مادة 250 -252 " وفيه: ( إذا نطح ثور أثناء سيره في الشارع رجلاً فقتله، فلا وجه لتقديم مطالبات من أي نوع. أما إذا كان الثور ناطحاً من قبل، وتبينت لصاحبه هذه الحقيقة، ومع ذلك لم يكسر قرونه أو يربطه، فإذا نطح هذا الثور رجلاً حراً فقتله، فعلى صاحب الثور أن يدفع ثلاثين شاقلاً من الفضة. أما إذا نطح عبداً فيعطى سيده عشرين شاقلاً من الفضة).
ومثله التشابه بين (الخروج 22/ 7 ) والمادة 124 من حمورابي. وكذا التشابه بين (الخروج 22/ 10- 12) والمواد 244- 246- 266 من قوانين حمورابي، وكذا (الخروج 21/ 18- 19 ) والذي يشبه المادة 206 من شريعة حمورابي، في حين يتشابه (الخروج 21: 22 ) مع مادة 209 من شريعة حمورابي.
وتعقب دائرة المعارف الكتابية: " وهكذا نجد العديد من المشابهات في المواضيع والأحكام، بين شريعة موسى وقوانين حمورابي ... لا نستطيع الجزم بأن التوافقات التي عرضناها قد جاءت نتيجة مصادفة عشوائية ... وعندما اتصل الإسرائيليون بالحضارة البابلية بعد دخولهم إلى أرض كنعان، كان من الطبيعي أن يستخدموا ما أفرزته تلك الحضارة، مما وجدوه فيها نافعاً لهم".( )

قانونية التوراة (قدسيتها)

وإذا كانت التوراة نتاج عمل العشرات من المؤلفين الذين اجتهدوا في تسجيل تاريخ بني إسرائيل، ولم يَدُر بخلدهم أن تعتبر كتاباتهم مقدسة، إذ لو خطر على بالهم لصاغوها بطريقة أخرى..
إذا كان الأمر كذلك، فمتى اكتسبت هذه النصوص قداستها؟ وهل تم ذلك لجميع أسفارها معاً أو أنه تم بالتدريج؟
وفي الإجابة نقول: من الطبيعي عندما نتحدث عن كتاب إلهي أنّا لا نحتاج إلى الحديث عن قانونيته، إذ هو يستمدها من مصدره الإلهي، ويكتسبها منذ اللحظات الأولى التي ينزله الله فيها إلى البشر، وهذا الأمر لم يحدث مع الأسفار التوراتية التي احتاجت إلى قرارات بشرية تقدسها، فالأسفار الخمسة أقرت في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وتحديداً في عام 398 ق م ، حين اعترفت الامبرطورية الفارسية بناموس اليهود حسبما جاء في دائرة المعارف الأمريكية.
ويقول اسبينوزا : " يظهر بوضوح أنه لم تكن هناك مجموعة مقننة من الكتب المقدسة قبل عصر المكابيين ( أي القرن الثاني قبل الميلاد )، أما الكتب المقننة الآن فقد اختارها فريسيو الهيكل الثاني بعد أن أعاد بناءه عزرا " الكاتب ".
وهذا الاختيار من الفريسيين في ذلك العهد لم يكن بموافقة طوائف اليهودية المختلفة، يقول اسبينوزا : " فقد اختارها الفريسيون في ذلك العهد من بين كثير غيرها، وذلك بقرار منهم وحدهم".
وقد كان مما أقره فريسيو العهد الثاني برأي اسبينوزا الأسفار الخمسة مضافاً إليها ما يسمى بأسفار الأنبياء وهي ( يشوع - القضاة - صموئيل - الملوك ).
ولم تعتبر هذه المجموعة معادلة لسلطة الأسفار الخمسة، ورغم ذلك ألحقت بها، وقد كان ينظر إليها على أنها شروح وامتداد للأسفار الخمسة. ( )
وفي عام 90م عقد الفريسيون مجمعاً في جامينيا، وقرروا اعتبار بعض الأسفار أسفاراً قانونية وهي: المزامير - الأمثال - نشيد الإنشاد - راعوث، دانيال، أيوب، عزرا، نحميا، الأيام ...)، واعتبروا هذه القائمة نهائية، ورفضوا ما عداها من الأسفار، وقد بلغ عدد هذه الأسفار ستاً وثلاثين سفراً.
يقول القس إلياس مقار: " وقد استلمت الكنيسة المسيحية من اليهود أسفار العهد القديم التي قررها اليهود في مجمع " جامينيا " عام 90م ".
ولم تكن هذه القائمة محل اتفاق بين اليهود، فمثلاً كان الفريسيون يعتبرون سفر دانيال قانونياً، فيما لم يعتبره الصدوقيون كذلك( ) ، بينما كان لجماعة قمران أسفار كثيرة لم ترد في القائمة القانونية، منها أخنوخ واليوبيلات وغيرها، والأسفار التي لم تدخل في القائمة كانت خمساً وثلاثين سفراً كما عددها تشارلز في مقدمة كتابه: " أبوكريفا ".
وفي مجمع "نيقية" 325م أقر المجتمعون النصارى سفر يهوديت فقط، وأبقوا ثمانية أسفار مشكوكاً فيها. وفي مجمع "لوديسيا" 364م أقر المجتمعون سفراً آخر هو سفر أستير، وفي 397م عقد مجمع "قرطاجة" بحضور أكستاين، فأضاف المجمع للقائمة ستة أسفار هي (الحكمة، وطوبيا، وباروخ، ويشوع بن سيراخ، والمكابيين الأول، والثاني )، واعتبر المجتمعون سفر باروخ جزءاً من إرميا، ثم فصلوهما في مجمع " ترلو" 692م، وأصبحت هذه الأسفار متفقاً عليها عند جمهور النصارى إلى حين ظهور البرتستانت في القرن السادس عشر. ( )
ولا تزال الكنيسة الأثيوبية تعتقد بقانونية بعض الأسفار "فإنهم يقبلون راعي هرماس وقوانين المجامع ورسائل أكليمندس، والمكابيين وطوبيا ويهوديت والحكمة ويشوع بن سيراخ وباروخ، وأسفار أسدراس الأربعة ، وصعود إشعياء، وسفر آدم ويوسف بن جوريون وأخنوخ واليوبيل".( )
فيما اعتبر جمهور الآباء الأوائل رسالة إرميا - المرفوضة اليوم - جزءاً من كلمة الله الموحى بها، كما صنع أوريجانوس عند تفسيره للمزمور الأول ، فقد أوردها وغيره ضمن قائمة الأسفار القانونية، ثم رفضتها المجامع فيما بعد. ( )
ومن ذلك كله نستطيع القول إن هذه الكتب قد كتبها القوم بأيديهم، ثم نسبوها إلى الله، وأعطتها المجامع البشرية صفة القداسة.

نقد متن العهد القديم

يقول بولس: " كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر " ( تيموثاوس (2) 3/16 )، وهو كلام جيد ومقياس لا بأس فيه للحكم على الكتاب المقدس، إذ لا يقبل أن ينسب إلى الله كلام هذر لا نفع فيه ولا فائدة، فضلاً عن الكلام الساقط الذي يُشيع الرذيلة والانحراف السلوكي أو الإيماني.
ولنبدأ بتطبيق المقياس على نظرة التوراة إلى الله ثم إلى أنبيائه ثم إلى الأخلاق، ونرى إن كانت الأسفار صالحة للتأديب والتهذيب والتعليم.
من الطبيعي عندما نتحدث عن كتاب ينسب إلى الله عز وجل أن نجده مفعماً بالحديث عن الله وصفاته وأنبيائه ودينه وصور عبادته، وعن الجنة والنار داريْ جزائه..
لكن التوراة هي بحق كتاب تاريخ لبني إسرائيل، ويفتقد القارئ في أسفارها الحديثَ عن الله إلا فيما يتعلق بالناحية التاريخية، فماذا تقول التوراة عن الله وأنبيائه واليوم الآخر؟

الله وصفاته في العهد القديم
تتحدث الأسفار التوراتية في أماكن متفرقة عن الله العظيم بما يليق بجلاله وعظمته، ومن ذلك قولها: " اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك " (التثنية 6/4 - 5 )، وتذكر أيضاً الرب لا يرى " حقا أنت إله محتجب، يا إله إسرائيل " ( إشعيا 45/15)، وقد قال الله لموسى: " لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش " ( الخروج 33/19 - 20 ).
والله عز وجل ليس كمثله شيء، وفي ذلك يقول موسى: " ليس مثل الله " ( التثنية 34/36 )، ويقول سليمان: " أيها الرب إله إسرائيل، لا إله مثلك في السماء والأرض " ( الأيام (2) 6/14).
وهو حي جل وعلا إلى الأبد " وأقول حي أنا إلى الأبد " ( التثنية 32/40 ) إلى غير ذلك من الصفات الكاملة الحسنة التي تذكرها التوراة لله العظيم، ومما لا ريب أن في هذه الفقرات أثارة الأنبياء، وبقايا وحي السماء في أسفار العهد القديم.
لكن التوراة في مواضع لا تعد – لكثرتها - تتحدث عن الله، فتجعله كائناً بشرياً، وتصفه بصفات البشر، وتصفه بنقصهم، بل وأخطائهم وضلالهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل هو إله أم إنسان؟
إله أم إنسان؟
يتحدث سفر التكوين عن خلق الله الإنسان على صورته وشبهه " وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا " ( التكوين 1/26 )، وفي أكبر كنائس الكاثوليك في روما ( كنيسة " سانت بيتر") رسم الرسام مايكل أنجلو صورة لله تشبه البشر.
وتتحدث النصوص عن صور التشابه كما رسمها كتبة العهد القديم، ومن ذلك ما جاء في رؤيا دانيال أن له رأساً، شعره أبيض " وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، شعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار " ( دانيال 7/9 ).
وله عينان وأجفان " عيناه تنظران، أجفانه تمتحن بني آدم " ( المزمور 11/4 ).
وله شفتان " شفتاه ممتلئتان سخطاً، ولسانه كنار آكلة، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرقبة " (إشعيا 30/27 - 28 ).
وله رجلان ترى " نـزل وضباب تحت رجليه " ( المزمور 18/9 )، و" لما صعد موسى وهارون وناراب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل رأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه حلية من العقيق الأزرق الشفاف، كالسماء في النقاء، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل " ( الخروج 24/9 - 11).
وأيضاً له فم وأنف يخرج منهما دخان ونار" صعد دخان من أنفه، ونار من فمه " ( المزمور 18/9).
وألوهيته وعظمته لا تمنع من ركوبه الملائكة في تنقلاته، كما لا تمنع أن يكون له أذنان "وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي دخل أذنيه، فارتجت الأرض وارتعدت، أسس السماوات ارتعدت وارتجت، لأنه غضب، صعد دخان من أنفه، ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه، طأطأ السماوات ونـزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب، وطار، ورئي على أجنحة الريح... " (صموئيل (2) 22/7 - 11 )، والكروب كما في قاموس الكتاب المقدس هم نوع من الملائكة، وقد ذكر سفر حزقيال أن لكل واحد منهم وجهان أحدهما على شكل وجه إنسان والآخر على شكل وجه شبل (انظر حزقيال 41/18).
وقد تكرر ركوبه على الكروبيم " ومجد إله إسرائيل صعد عن الكروب الذي كان عليه إلى عتبة البيت" (حزقيال 9/3).
ولما أصبح ركوبه على الكروبيم فعلاً معتاداً له – جلّ وعز-، ناجاه الملك حزقيا مثنياً عليه بهذا الفعل: "صلى حزقيا أمام الرب، وقال: أيها الرب إله إسرائيل، الجالس فوق الكروبيم، أنت هو الإله وحدك لكل ممالك الأرض، أنت صنعت السماء والأرض" (الملوك (2) 19/15).
وهكذا فإن إسرائيل لودز في كتابه "نشأة التقدم في القرن الثامن" ( dec origins au milieu du 8 siecle) يرى أن: "التصور الطبيعي ليهوه .. تصور أحيائي، وعلى صورة الإنسان، ويبدو أن يهوه يملك نوعاً من الجسم الروحاني، وعلى كل حال؛ فإن له أعضاء شبيهة بأعضاء الإنسان، كالعيون والآذان والفم والخياشيم والأيدي والقلب والأحشاء .. له بشكل خاص عقل وعواطف شبيهة بمثيلاتها لدى الإنسان، ويتميز بشكل خاص بعنف الغضب إذا أسيء إليه".( )
أفعال الإله البشرية
وتحكي أسفار العهد القديم عن أفعال بشرية تنسبها إلى الله، وهي فرع من عقيدتهم المجسِّمة لله، ومن ذلك أن الله يمشي، ولكن على شوامخ الجبال " فإنه هو ذا الرب يخرج من مكانه، وينـزل ويمشي على شوامخ الأرض .. كل هذا من أجل إثم يعقوب " ( ميخا 1/3 - 5 ).
ومنه حديث الأسفار عن مشي الله في الجنة، وسماع آدم لوقع خطواته: "وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ... فنادى الربُّ الإلهُ آدمَ، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان، فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟" (التكوين 3/8).
ويزور الربُ إبراهيمَ - تعالى الله عن ذلك - ويأكل عنده زبداً ولبناً " وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض ... ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله، ووضعه قدامهم، وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا ... وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم " (التكوين 18/1 - 23 ).
وفي موضع آخر تذكر الأسفار أن الرب ظهر ليعقوب، وصارعه حتى الفجر: " فدعا يعقوب اسم المكان:" فينئيل " قائلاً : لأني نظرت الله وجهاً لوجه، ونجيت نفسي " ( التكوين 32/30 ).
ولما أغضبه مريم وهارون " فنـزل الرب في عمود سحاب، ووقف في باب الخيمة ... فقال اسمعا لكلامي .. فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز " ( العدد 12/5 - 8 ).
وفي موضع آخر رآه موسى "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (الخروج 33/11).
وللمزيد من صور رؤية الله انظر (إشعيا 6/1 – 11).
ويذكر سفر التكوين أن الله رضي عن نوح وقومه بعد أن شم رائحة شواء المحرقات التي قدمها نوح على المذبح " وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا.... " ( التكوين 8/20 - 21).
ونقرأ في رؤيا حزقيال أن الله دخل الهيكل من باب، وأمر بإغلاقه إلى الأبد " فقال لي الرب : هذا الباب يكون مغلقاً لا يفتح، ولا يدخل منه إنسان، لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقاً " (حزقيال 44/2).
هل يعجز الإله أو يجهل؟
كما وتنسب النصوص إلى الله أفعالاً كتلك التي تصدر عن البشر بسبب جِبلتهم وضعفهم الذي خلقهم الله عليه، ومن ذلك عجز الإله عند مصارعة يعقوب، يقول سفر التكوين: " فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حقّ فخذه، فانخلع حقّ فخذ يعقوب في مصارعته معه.
وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر،فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب: فقال: لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب، بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوبُ وقال: أخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه" ( التكوين 32/24 - 32 ). فقد صارع يعقوب الله وقدر عليه! ومعنى كلمة فينئيل وجه الله.
وتعليقاً على النص يقول محققو نسخة الرهبانية اليسوعية: "المقصود من هذه الرواية الغامضة هو الصراع الجسدي، أي صراع مع الله، يبدو فيه يعقوب الغالب أولاً، لكنه حين عرف طبيعة خصمه السامية اغتصب بركته ، مع العلم أن النص يتجنب اسم الرب".
ولئن كان النص التوراتي يستنكف في هذا الموضع عن التصريح باسم المصارع الذي غلبه يعقوب فإنه يصرح باسمه في موضع آخر من سفر التكوين، فيقول: " وظهر الله ليعقوب أيضاً حين جاء من فدّان أرام وباركه، وقال له الله: اسمك يعقوب، لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يكون اسمك إسرائيل" (التكوين 35/9-10).
ومن العجز أيضاً قوله: "وكان الرب مع يهوذا، فملك الجبل، ولم يطرد سكان الوادي، لأن لهم مركبات من حديد " ( القضاة 1/19 )، فكان ذلك سبباً لعجزه عنهم، فكيف يكون الحال مع الأسلحة الحديثة المتطورة، وهل يعجز الإله عن حرب الدول التي تملك هذه الأسلحة!؟
كما تنسب التوراة إلى الله العظيم التعب، فهو حسب أسفارها رب يحتاج للراحة، فيسكن في مساكن متعددة " وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح " ( التكوين 2/1 ) "هكذا قال الرب.. أين البيت الذي تبنون لي ؟ وأين مكان راحتي ؟ " ( إشعيا 66/1 ).
كما تنسب التوراة إلى الرب - جل وعلا - الجهل والقصور والضعف، ومن ذلك أنه لما أراد معاقبة المصريين " كلم الرب موسى وهارون ... فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين. أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم، وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر " ( الخروج 12/1 - 13 ).
فجعل الدم علامة على البيوت الإسرائيلية حتى لا يهلكها مع بقية البيوت، فهل يحتاج الرب العليم لمثل هذه العلامة حتى يفرق بين بيوت المصريين وبيوت الإسرائيليين؟
وتتحدث التوراة عن الله وكأن آدم قد قهره حين أكل من شجرة المعرفة والتفرقة بين الخير والشر، وكأنه خلقنا ولم يرد منا أن نميز الخير من الشر، ثم خاف وخشي أن يأكل آدم من شجرة الحياة، فيصبح كالرب من الخالدين، فأقام حرساً من الملائكة في طريق هذه الشجرة " أوصى الربُ الإلهُ آدمَ قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها .... وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفاً الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان، وأقام شرقيَّ جنة عدن الكروبيمَ، ولهيبَ سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة" (التكوين 2/17- 3/23)، ومثل هذا التصور عن الله غير مقبول، فالسفر يصوره حريصاً على جهل الإنسان، خائفاً من تعلمه ثم من خلوده إذا فاجأه وأكل من شجرة الحياة.
ومرة أخرى تذكر التوراة أن الله خاف من اجتماع البشر وتآلفهم وعزمهم على بناء برج عظيم رأسه في السماء، فنـزل وبددهم قبل أن يحققوا غايتهم "قالوا: هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسماً، لئلا نتبدد على وجه كل الأرض، فنـزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذَيْن كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هوذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننـزل ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفّوا عن بنيان المدينة" (التكوين 11/4-8)، فهل يعقل أن خالق السماوات والأرض، الرب العظيم يخشى من تمام هذا البرج، فيسعى لتفريق البشر قبل أن يصل برجهم السماء، وهنا نتساءل عن الطول الذي كان سيصل إليه بناء البشر قبل آلاف السنين، بل نتساءل: أوَلا يعلم الرب أن البشر يعجزون عن مناطحة السحاب فضلاً عن قرع أبواب السماء!
ومثله في العجز والنقص المنسوب إلى الله العظيم ما تذكره التوراة من أن الرب بعد ما أغرق الأرض بالطوفان زمن نوح قال لنوح ومن معه: "أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه الطوفان ... وضعت قوسي في السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض .... فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقاً أبدياً..." ( التكوين 9/11 - 17)، فجعل قوس قزح علامة تذكره بالميثاق الذي ضربه لنوح ومن معه.
وكما يفيد البشر من مشورة بعضهم لقصورهم عن إدراك عواقب الأمور، أيضاً تذكر التوراة أن الرب شاور الملكين اللذين رافقاه في ذهابه إلى إبراهيم ثم لوط " فقال الرب : هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله ؟" أي في قوم لوط.
ثم ما كان منه إلا أن قال: " أنـزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخهم الآتي إلي، وإلا فأعلم " (أي ما أصنع بهم) ( التكوين 18/17 - 21 ).
وتنسب التوراة إلى الله الندم على أمور صنعها، والندم فرع عن الجهل، ومن ذلك " ندمت على أني جعلت شاول ملكاً، لأنه رجع من ورائي، ولم يقم كلامي " (صموئيل (1) 15/10).
وتذكر التوراة أنه لما عبد بنو إسرائيل العجل غضب الرب عليهم " وقال الرب لموسى.. فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم "، فكان من جواب موسى أن قال: " ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك. اذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك، وقلت لهم : أكثر نسلكم كنجوم السماء، وأعطي نسلكم كل هذه الأرض التي تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد، فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه " ( الخروج 32/9 - 14 ).
وفي مرة أخرى " كان الرب مع القاضي، وخلصهم من يد أعدائهم، كل أيام القاضي، لأن الرب ندم من أجل أنينهم " ( القضاة 2/18 ).
ومثله ندم الرب بعد أن قتل مقتلة كبيرة في بني إسرائيل، فقد "جعل الرب وبأ في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب - من دان إلى بئر سبع - سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر، وقال للملاك المهلِك الشعب: كفى، الآن رد يدك" (صموئيل (2) 24/15-16).
وكانت التوراة قد نسبت قبلُ الندم والحزن إلى الله في زمن نوح، وذلك حين رأى شرور الإنسان، فقد: "رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: ... لأني حزنت أني عملتهم" (التكوين 6/5-7) ومثل هذا الندم في الأسفار كثير (انظر إرميا 26/19، 42/11، عاموس 7/6، التكوين 18 /20).

هل يأمر الله بمثل هذا؟
كما تذكر التوراة أن الله أمر أوامر غريبة يظهر لمن تدبرها مقدار العبث فيها والذي ينـزه عنه الله جل وعلا.
ومن ذلك أن الله أراد أن يصور حال بني إسرائيل معه وإدبارهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام ، فأمر نبيه باتخاذ جومر الزانية زوجة تنجب له من غيره أبناء زنا " أول ما كلم الرب هوشع قال له : اذهب خذ لنفسك امرأة زنا وأولاد زنا، لأن الأرض قد زنت زنىً تاركة الرب " ( هوشع 1/2 )، وفي موضع آخر " وقال الرب لي : اذهب أيضاً أحببِ امرأةً، حبيبةَ صاحبٍ وزانية، كمحبة الرب لبني إسرائيل، وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى" ( هوشع 3/1).
تقول مقدمة السفر في نسخة الرهبانية اليسوعية: "في جرأة هوشع النبي ما يدهش، فإنه يجسد في حياته الخاصة تجسيداً رمزياً ما من علاقات بين الرب وشعبه الخائن .. كان ولا يزال زواج هوشع أكثر الأمور جدلاً في التفسير الكتابي .. ولا يرجح على كل حال أننا أمام مجرد استعارة .. ليس زواج هوشع خيالاً، بل رمز، ولذلك فمن شبه المستحيل وغير المفيد أن نهتدي إلى الحدث التاريخي الذي فيه، إنه عمل نبوي، مثل تلك الأعمال التي قام بها الأنبياء (راجع إشعيا 20/1-6، وأعمال الرسل 21/10-14)، والتي يفسرونها هم بأنفسهم ".
فهل يأمر الرب بمثل هذا ليصور لبني إسرائيل حالهم مع الله، هل يأمر الله بفعل الفاحشة ليعلمنا درساً في الأمانة، إن نسبة الأمر بهذه الفاحشة إلى الشيطان أليق وأولى من الرب العظيم.
ومثل هذه القصة ما تنسبه التوراة إلى الله من أمره لنبيه إشعياء بالتعري، ولماذا؟ لكي يري بني إسرائيل ما ينتظرهم من الهوان والذل والعري على يد ملك آشور " تكلم الرب عن يد إشعياء بن آموص قائلاً: اذهب وحل المسح عن حقويك، واخلع حذاءك عن رجليك، ففعل هكذا، ومشى معري وحافياً.
فقال الرب: كما مشى عبدي إشعياء معرىً وحافياً ثلاث سنين آية وأعجوبة على مصر وعلى كوش، هكذا يسوق ملك أشور سبي مصر وجلاء كوش، الفتيان والشيوخ، عراة وحفاة، ومكشوفي الأستاه خزياً لمصر " ( إشعياء 20/2 - 4).
يقول التفسير التطبيقي تعليقاً على هذه الفقرة: "كان أمر الله لإشعياء أن يتجول عارياً لمدة ثلاث سنوات ، وهو اختبار مُذِل، فقد كان الله يستخدم إشعياء لبيان ما ستختبره مصر وكوش من إذلال على يد آشور، ولكن كانت الرسالة في الواقع ليهوذا".( )
وهكذا فإن رؤية بني إسرائيل لنبيهم عرياناً ثلاث سنين درس كبير وعظة بالغة! أمَا من وسيلة للإيضاح أفضل من هذه الوسيلة العارية؟ فهل يعقل هذا؟ هل يأمر الرب نبيه بالتعري ثلاث سنين؟
ويذكر سفر حزقيال أن الله أمر نبيه حزقيال بأوامر كثيرة منها أنه أمره وبني إسرائيل أن يأكلوا كعك الشعير مخبوزاً مع فضلات الإنسان، ولما صعب الأمر على حزقيال، خصه وسمح له أن يخبز كعكة الشعير مع فضلات البقر، بدلاً من فضلات الإنسان.
والنص بتمامه: " وتأكل كعكاً من الشعير، على الخرء الذي يخرج من الإنسان، تخبزه أمام عيونهم. وقال الرب : هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم.
فقلت: آه يا سيد، الرب، ها نفسي لم تتنجس، ومن صباي إلى الآن لم أكل ميتة أو فريسة، ولا دخل فمي لحم نجس، فقال لي: انظر. قد جعلت لك خثي البقر بدل خرء الإنسان، فتصنع خبزك عليه " ( حزقيال 4/12 - 15 ).
وتحدثنا النصوص التوراتية كيف يقذف الله – تعالى عن ذلك- الروث الحيواني في وجوه عصاة بني إسرائيل: "قال رب الجنود: فإني أرسل عليكم اللعن، وألعن بركاتكم، بل قد لعنتها، لأنكم لستم جاعلين في القلب، هانذا أنتهر لكم الزرع، وأمد الفرث على وجوهكم فرث أعيادكم، فتنـزعون معه، فتعلمون أني أرسلت إليكم هذه الوصية" (ملاخي 2/2-4)، فمثل هذا لا يقبل ولو كان في باب الاستعارة والمجاز.
وتتحدث الأسفار أن الله أمر بني إسرائيل بسرقة أصحابهم من المصريين، وأنه شارك بهذا الغش عندما أمال قلوب المصريين إلى الموافقة على إعارة بني إسرائيل ما يطلبونه من ذهب وجواهر وثياب فتقول: " ثم قال الرب لموسى: ضربة واحدة أجلب على فرعون وعلى مصر بعد ذلك، يطلقكم من هنا، وعندما يطلقكم يطردكم طرداً من هنا، بالتمام تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه وكل امرأة من صاحبتها، أمتعة فضة وأمتعة ذهب، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين ... وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى طلبوا من المصريين أمتعة من فضة وأمتعة ذهباً وثياباً، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين" (الخروج 11/1- 12/36).
وتتحدث الأسفار عن الرب وهو يأمر بالإغواء والكذب، ويبحث عمن يرشده إلى طريقة لإغواء آخاب "فقال الرب: من يغوي أخاب، فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟ فقال هذا: هكذا وقال ذاك: هكذا. ثم خرج الروح، ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه. وقال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه. فقال: إنك تغويه وتقتدر. فاخرج وافعل هكذا" (الملوك (1) 22/20-22).
وتصور الأسفار في موضع آخر استجابة الرب لدعاء نبيه ونصرته لأوليائه، تصوره بصورة ساذجة، ينظر إلى يدي موسى وهو يدعوه، فإذا هوت يداه تعباً هزم بني إسرائيل، وإذا أجهد نفسه أو أعانه الآخرون على رفعها، نصره وأيده، فتقول: "وأما موسى وهارون وحور، فصعدوا على رأس التلّة، وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلِب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلِب، فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا [أي هارون وحور] حجراً، ووضعاه تحته فجلس عليه، ودعم هارون وحور يديه، الواحد من هنا، والآخر من هناك، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس، فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف" (الخروج 17/10-13)، فهل هذا هو ما يحمل الرب على نصرة أنبيائه وأوليائه؟
ويتحدث سفر العدد عن شريعة غريبة يكتشف الرجل بموجبها خيانة زوجته أو براءتها، ألا وهو شرب ماء اللعنة المر الممزوج بغبار البيت، فإن ورمت بطنها وسقطت فخذها، فهي مذنبة، وإن قدر لها النجاة من هذا الماء الغريب، فإنها تكون بريئة.
ودعونا نتأمل طقوس هذا الاختبار الغريب، يقول سفر العدد: "يأتي الرجل بامرأته إلى الكاهن، ويأتي بقربانها معها عشر الإيفة من طحين شعير، لا يصبّ عليه زيتاً، ولا يجعل عليه لباناً ... فيقدّمها الكاهن ويوقفها أمام الرب، ويأخذ الكاهن ماء مقدساً في إناء خزف، ويأخذ الكاهن من الغبار الذي في أرض المسكن، ويجعل في الماء، ويوقف الكاهن المرأة أمام الرب، ويكشف رأس المرأة، ويجعل في يديها تقدمة التذكار التي هي تقدمة الغيرة، وفي يد الكاهن يكون ماء اللعنة المرّ.
ويستحلف الكاهن المرأة ويقول لها: إن كان لم يضطجع معك رجل، وإن كنت لم تزيغي إلى نجاسة من تحت رجلك، فكوني بريئة من ماء اللعنة هذا المرّ .. يستحلف الكاهن المرأة بحلف اللعنة ويقول الكاهن للمرأة: يجعلك الرب لعنة وحلفاً بين شعبك بأن يجعل الرب فخذك ساقطة وبطنك وارماً، ويدخل ماء اللعنة هذا في أحشائك لورم البطن ولإسقاط الفخذ.فتقول المرأة: آمين آمين.
ويكتب الكاهن هذه اللعنات في الكتاب ثم يمحوها في الماء المرّ، ويسقي المرأة ماء اللعنة المرّ ، فيدخل فيها ماء اللعنة للمرارة .. ومتى سقاها الماء فإن كانت قد تنجست وخانت رجلها يدخل فيها ماء اللعنة للمرارة، فيرم بطنها وتسقط فخذها، فتصير المرأة لعنة في وسط شعبها، وإن لم تكن المرأة قد تنجست، بل كانت طاهرة تتبرأ وتحبل بزرع، هذه شريعة الغيرة، إذا زاغت امرأة من تحت رجلها وتنجست" (العدد 5/16-29)، فهل يأمر الرب العليم بمثل هذا؟ وهل هذه طريقة منصفة أو كافية في إثبات طهارة أو تلاعب النساء؟ وماذا لو مرضت المرأة وانتفخت بطنها بسبب هذا الماء الغريب وما ألقي فيه، لا بسبب لعناته، هل نعتبرها آثمة مذنبة، فتخرج للحرق أو الجلد أو الرجم؟
ومن غريب تشريعات العهد القديم إزدراؤه للمراة الحائض واعتبارها مباءة ومجمعاً للنجاسة، يتنجس بسببها كل من لمسها "وإذا كانت امرأة لها سيل، وكان سيلها دماً في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من مسّها يكون نجساً إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً، وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجساً إلى المساء، وكل من مسّ متاعاً تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء، وإن كان على الفراش أو على المتاع الذي هي جالسة عليه عندما يمسّه يكون نجساً إلى المساء .. وإذا كانت امرأة يسيل سيل دمها أياماً كثيرة في غير وقت طمثها، أو إذا سال بعد طمثها، فتكون كل أيام سيلان نجاستها كما في أيام طمثها، إنها نجسة، كل فراش تضطجع عليه كل أيام سيلها يكون لها كفراش طمثها، وكل الأمتعة التي تجلس عليها تكون نجسة كنجاسة طمثها، وكل من مسّهنّ يكون نجساً، فيغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء" (اللاويين 15/19-27)، ويتساءل المرء لم كل هذا؟ ما الذي ارتكبته المرأة عند حيضها حتى تكون في هذه المنزلة الوضيعة؟!
ومن غرائب العهد القديم – ولا تنقضي غرائبه – شريعة رجم الثور القاتل ، بل ورجم صاحبه إن كان يعلم أن ثوره نطاح، يقول سفر الخروج: "وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات، يرجم الثور، ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً، ولكن إن كان ثوراً نطّاحاً من قبل، وقد أُشهد على صاحبه، ولم يضبطه، فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يرجم، وصاحبه أيضاً يقتل" (الخروج 21/28-29)، فما ذنب صاحب الثور ليؤخذ بجريرة ثوره، سواء بسواء، قد قصر - ولا ريب - لكن ذلك لا يستحق قتله بحال من الأحوال.
ويتحدث سفر اللاويين عن أحكام مريض البرص وكيفية التطهر منه، ثم ينتقل للحديث عن البرص الذي يصيب الثياب والجدران، ويفصّل في ذكر طريقة التخلص من البرص بمساعدة الكاهن خشية انتقال عدوى المرض إلى ثياب أخرى وجدران أخر، يقول السفر: "يأتي الذي له البيت ويخبر الكاهن قائلاً: قد ظهر لي شبه ضربة في البيت، فيأمر الكاهن أن يفرغوا البيت قبل دخول الكاهن.. وإذا الضربة في حيطان البيت نقر ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحمرة ومنظرها أعمق من الحائط، يخرج الكاهن من البيت إلى باب البيت ويغلق البيت سبعة أيام.
فإذا رجع الكاهن في اليوم السابع ورأى وإذا الضربة قد امتدّت في حيطان البيت يأمر الكاهن أن يقلعوا الحجارة التي فيها الضربة ويطرحوها خارج المدينة في مكان نجس، ويقشر البيت من داخل حواليه، ويطرحون التراب الذي يقشرونه خارج المدينة في مكان نجس، ويأخذون حجارة أخرى ويدخلونها في مكان الحجارة ويأخذ تراباً آخر ويطيّن البيت، فإن رجعت الضربة وأفرخت في البيت بعد قلع الحجارة وقشر البيت وتطيينه، وأتى الكاهن ورأى وإذا الضربة قد امتدّت في البيت فهي برص مفسد (أي: معدٍ كما في تراجم أخرى) في البيت، إنه نجس، فيهدم البيت، حجارته وأخشابه وكل تراب البيت ويخرجها إلى خارج المدينة، إلى مكان نجس، ومن دخل إلى البيت في كل أيام انغلاقه يكون نجساً إلى المساء، ومن نام في البيت يغسل ثيابه، ومن أكل في البيت يغسل ثيابه " (اللاويين 14/35 -47)، ونعجب ونسأل كيف يمكن تطبيق هذا التشريع لو ظهر البرص المعدي في ناطحة سحاب، هل ستهدم ويحمل حديدها وحجارتها إلى خارج المدينة!
ومثل هذا الهراء ورد حين الحديث عن برص الثياب، يقول السفر: "وأما الثوب فإذا كان فيه ضربة برص ثوب صوف أو ثوب كتان، في السدى أو اللحمة من الصوف أو الكتان أو في جلد أو في كل مصنوع من جلد، وكانت الضربة ضاربة إلى الخضرة أو إلى الحمرة في الثوب أو في الجلد في السدى أو اللحمة أو في متاع ما من جلد فإنها ضربة برص، فتعرض على الكاهن، فيرى الكاهن الضربة ويحجز المضروب سبعة أيام، فمتى رأى الضربة في اليوم السابع، إذا كانت الضربة قد امتدّت في الثوب في السدى أو اللحمة أو في الجلد من كل ما يصنع من جلد للعمل، فالضربة برص مفسد (أي: معدٍ كما في ترجمة أخرى)، إنها نجسة فيحرق الثوب أو السدى أو اللحمة من الصوف أو الكتان أو متاع الجلد الذي كانت فيه الضربة لأنها برص مفسد، بالنار يحرق" (اللاويين 13/ 47-51). فأين سمعت الدنيا عن مثل هذه الأمراض وعن مثل هذه الطريقة في علاج الجدران والثياب، تعالى الله عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
ويأمر سفر التثنية الأخ أن يتزوج بأرملة أخيه في بعض الأحوال الاجتماعية ، فإن أبى تحيق به العقوبة التي يقررها السفر، وهي أن تسلبه حذاءه، وتبصق في وجهه، يقول السفر: "وإن لم يرض الرجل أن يأخذ امرأة أخيه تصعد امرأة أخيه إلى الباب إلى الشيوخ، وتقول: قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسماً في إسرائيل، لم يشأ أن يقوم لي بواجب أخي الزوج، فيدعوه شيوخ مدينته ويتكلمون معه، فإن أصر وقال: لا أرضى أن أتخذها، تتقدم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ، وتخلع نعله من رجله، وتبصق في وجهه، وتصرخ، وتقول: هكذا يفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه، فيدعى اسمه في إسرائيل بيت مخلوع النعل" (التثنية 25/7-10)، ومثل هذا التشريع يتضمن الإكراه على الزواج، والبيوت لا تقوم على مثل هذا، وهنا نتساءل كيف لمثل هذا الزواج أن يتم لو كانت أرملة الأخ كبيرة تكبر زوجها الجديد بأربعين سنة مثلاً؟!
كما تتضمن العقوبة بالبصاق وخلع الحذاء لوناً من السخف، يترفع عنه شرع الله ودينه، ويظهر فيه ضعف البشر وسذاجة تفكيرهم.
كما تتحدث الأسفار عن أمر الله بقتل النساء والأطفال والأبرياء، فقد أمر بني إسرائيل بقتل الشعوب التي في فلسطين " وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك، فلا تستبق منهم نسمة ما " ( التثنية 20/16 ).
وقتل الأبرياء من بني إسرائيل لما غضب على داود فقتل الملاك – بأمره - منهم سبعين ألف رجل بلا ذنب أو جريرة، فقال داود: " ها أنا قد أخطأت وأنا أذنبت. وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا ؟ فلتكن يدك علي وعلى بيت أبي" ( صموئيل (2) 24 / 17 ).
وكذا تذكر الأسفار أن الله أمر نبيه يشوع بقتل جميع سكان مدينة عاي، ففعل النبي بحسب الأمر، فحرق المدينة، وأفنى أهلها امتثالاً لهذا الأمر الرهيب: "تمتلكون المدينة ويدفعها الرب إلهكم بيدكم. ويكون عند أخذكم المدينة أنكم تضرمون المدينة بالنار، كقول الرب تفعلون. انظروا. قد أوصيتكم ... ودخلوا المدينة، وأخذوها، وأسرعوا، وأحرقوا المدينة بالنار ... وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية، حيث لحقوهم وسقطوا جميعاً بحد السيف، حتى فنوا ... فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفاً، جميع أهل عاي، ويشوع لم يرد يده التي مدها بالمزراق حتى حرّم جميع سكان عاي. لكن البهائم وغنيمة تلك المدينة نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع. وأحرق يشوع عاي، وجعلها تلاً أبدياً خراباً إلى هذا اليوم" (يشوع 8/8-28).
ثم تزعم الأسفار أن الله بعث نبيه صموئيل إلى الملك شاول يخبره باصطفاء الله له للملك ، ويقول: " هكذا يقول رب الجنود: ... فالآن اذهب، واضرب عماليق، وحرّموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً" (صموئيل (1) 15/2-3)، لقد أمره بقتل وسحق كل أحد من أهل مدينة عماليق، وحتى لا يستثني منهم أحداً أمره بقتل الرضع والأطفال والنساء، بل وحتى الحيوان.
لكن شاول لم يلتزم أمر الرب بدقة "وأمسك أجاج ملك عماليق حيّاً، وحرّم جميع الشعب بحد السيف، وعفا شاول والشعب عن أجاج، وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف، وعن كل الجيد، ولم يرضوا أن يحرّموها. وكل الأملاك المحتقرة والمهزولة حرّموها" (صموئيل (1) 15/8-9)، لقد قتلوا البشر والحيوانات الهزيلة، وعفوا عن الحيوانات القوية، فماذا كان؟ لقد سخط الله على شاول "وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلاً : ندمت على أني قد جعلتُ شاول ملكاً، لأنه رجع من ورائي، ولم يقم كلامي" (صموئيل (1) 15/10-11).
وفسرته روح النبي صموئيل حين استحضرتها العرافة لشاول، فقالت روحه: " لأنك لم تسمع لصوت الرب، ولم تفعل حمو غضبه في عماليق، لذلك قد فعل الرب بك هذا الأمر اليوم" (صموئيل (1) 28/18)، لقد باء بغضب الرب وندمه، لأنه لم يكمل المجزرة إلى آخر فصولها، فهل يأمر الله بمثل هذا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومرة أخرى تتكرر الوصاة - المنسوبة زوراً إلى الرب - بقتل الأطفال ، لكنها هذه المرة مع التأكيد على قتل الأجنة في بطون الأمهات، حتى لا ينجو أولئك الذين لم يروا الدنيا بعد " تجازى السامرة، لأنها قد تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطَّم أطفالهم، والحوامل تشقّ" (هوشع 13/16)، لقد عوقبوا بجريرة آبائهم، فهل يأمر الله بمثل هذا الظلم؟!
وكما رأينا فإن للأطفال نصيباً مستحقاً من القتل والتدمير، وهو حق ما فتئت النصوص تذكر به، ومنه ما ينتظر أطفال بابل فطوبى لمن يقتلهم " يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيكِ جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك، ويضرب بهم الصخرة" (المزمور 137/8-9).
وأما يوم الرب الذي سيصيب بابل، ففي ذلك اليوم " كل من وجد يُطعن، وكل من انحاش يسقط بالسيف، وتحطَّم أطفالهم أمام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتُفضح نساؤهم، ها أنذا أهيج عليهم الماديين الذين لا يعتدون بالفضة، ولا يسرون بالذهب، فتحطِّم القسيُّ الفتيان، ولا يرحمون ثمرة البطن، لا تشفق عيونهم على الأولاد، وتصير بابل بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين؛ كتقليب الله سدوم وعمورة، لا تعمر إلى الأبد" (إشعيا 13/15-20).
وللاطلاع على المزيد من المجازر التي تنسبها أسفار العهد القديم إلى أمر الرب. انظر (حزقيال 9/6-7)، و (العدد 31/14 – 18) و (إرمياء 51/ 20-23)، ويغنيك عن ذلك كله أن تقرأ سفر المجازر المنسوب إلى النبي يشوع، أو أن تقرأ سيرة هتلر والنازيين وما صنعوه من جرائم يندى لها جبين الإنسان ).
ويتكرر الإفساد في الأرض، وينسب الأمر فيه إلى الله: "قال الرب:.. فتضربون كل مدينة محصّنة، وكل مدينة مختارة، وتقطعون كل شجرة طيبة، وتطمّون جميع عيون الماء، وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة .. وهدموا المدن، وكان كل واحد يلقي حجره في كل حقلة جيدة حتى ملأوها، وطمّوا جميع عيون الماء، وقطعوا كل شجرة طيّبة" (الملوك (2) 3/19-25).
ومن الظلم الذي تنسبه التوراة إلى الله حرمان أصحاب العاهات من شرف الدخول في جماعة الرب، وقد كان الأولى تكريمهم لما أصابهم من بلاء، فتنسب التوراة لله أنه أمر " لا يدخل مخصيّ بالرضّ أو مجبوب في جماعة الرب" (التثنية 23/1).
ويطال الحرمان آخرين من أصحاب العاهات، فلا تقبل ذبائحهم، بل ولا يقتربون من مذبح العبادة لأنهم نجس بسبب عيبهم الذي ابتلاهم الله به، فتقول الأسفار: "كلم هارون قائلاً: إذا كان رجل من نسلك في أجيالهم فيه عيب، فلا يتقدم ليقرّب خبز إلهه، لأن كل رجل فيه عيب لا يتقدم، لا رجل أعمى، ولا أعرج، ولا أفطس، ولا زوائدي، ولا رجل فيه كسر رجل أو كسر يد ولا أحدب، ولا أكشم، ولا من في عينه بياض، ولا أجرب، ولا أكلف، ولا مرضوض الخصى، كل رجل فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يتقدم .. وإلى المذبح لا يقترب لأن فيه عيباً، لئلا يدنّس مقدسي، لأني أنا الرب مقدّسهم" (اللاويين 21/ 17-23).
وتستمر الأسفار في طرد الأبرياء من جماعة الرب، ومنهم ابن الزنا، وأبناء العمويين والمؤابيين، حتى الجيل العاشر، وذلك جزاء لهم لتقصير أجدادهم في استقبال بني إسرائيل، فتنسب الأسفار إلى الله قولها: "لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب، لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد، من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خروجكم من مصر، ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور لكي يلعنك" (التثنية 23/1-3).
ومن الشرائع الغريبة لأسفار العهد القديم شريعة كسر عنق الحمار البكر الذي لم يفدَ، فيؤاخذ بجريرة صاحبه وتقصيره في فدائه، يقول سفر الخروج: "لي كل فاتح رحم، وكل ما يولد ذكراً من مواشيك، بكراً من ثور وشاة، وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه، كل بكر من بنيك تفديه" (الخروج 34/19-20)، فهل يأمر الرب بمثل هذا الظلم ومثل هذه القسوة؟
لقد كان هذا الذي ذكرناه بعضاً من أحكام تصفها التوراة نفسها بالفساد، ففي سفر حزقيال: "وأعطيتهم أيضاً فرائض غير صالحة وأحكاماً لا يحيون بها" (حزقيال 20/25)، ويصفها الإنجيل بالعتق والشيخوخة، إذ يقول الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين: " فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله " (عبرانيين 7/18 - 19)، ومقصوده التوراة وشرائعها المختصة بالكهنوت اللاوي.
ويقول مبرراً إلغاء نظام الكهنوت التوراتي: " فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ " ( عبرانيين 8/7 )، وعيبه هو شيخوخته " وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال " (عبرانيين 8/13).

تشبيهات ممجوجة لله في العهد القديم
وجاء في أسفار العهد القديم أن الله يشبه نفسه تشبيهات غريبة ممجوجة، فيشبه نفسه بالحيوان تارة وبالمخمور تارة، ومثل هذه الطريقة لا يرتضيها العقلاء في التعبير عن ذواتهم، فالقارئ الكريم لن يقبل لو شُبه بالحمار بجامع الصبر والجَلد في كليهما، أو بالقطة لما عندها من حنو على أبنائها، أو بالكلب لبالغ وفائه ...
ولكن الكثير من ذلك تنسبه التوراة إلى الله، من ذلك قوله: " فأكون لهم كأسد، أرصد على الطريق كنمر، أصدمهم كدُبّة مثكل، وأشق شغاف قلوبهم، وآكلهم هناك كلبوة، يمزقهم وحش البرية " ( هوشع 13/7 - 8 ).
ومثله التشبيه المنكر لله والذي جاء في سفر هوشع: "فأنا لأفرايم كالعث (الدودة)، ولبيت يهوذا كالسوس" ( هوشع 5/12).
ويشبه سفر ميخا حزن الرب على ما أصاب بني إسرائيل بنواح النعام ونحيب إناث الثعالب، فيقول: " قول الرب الذي صار إلى ميخا ... من أجل ذلك أنوح وأولول، أمشي حافياً وعرياناً، أصنع نحيباً كبنات آوى، ونَوحاً كرعال النعام" (ميخا 1/1-8).
وفي نص آخر تذكر التوراة حزنه على شعبه وعذرائها أورشليم، فيقول للنبي إرميا: وتقول لهم هذه الْكلمة: "لتذرف عيناي دموعاً ليلاً ونهاراً، ولا تكـفّا أبداً، لأنّ العذراء بنت شعبي سحقتْ سحقاً عظيماً" (إرميا 14/ 17).
ويستبد به الحزن إلى حد أن يدعو على نفسه بالويل والثبور " لأنه هكذا قال الرب ... ويل لي من أجل سحقي" (إرميا 10/17).
وفي صورة أخرى مشينة تصور الأسفار التوراتية سخط الله على أعداء بني إسرائيل من المؤابيين والأدوميين بصورة يترفع عن استعمالها كرام الناس وذوو الوقار فيهم، فيقول: "الله قد تكلم بقدسه ... وأفرايم خوذة رأسي، يهوذا صولجاني، موآب مرْحضتي، وعلى أدوم ألْقي حذائي" (المزمور60/6-8)، فجعل - على سبيل الاستعارة والتشبيه - المؤابيين مكاناً لتنظفه من الأقذار للدلالة على سخطه، كما عبر عن سخطه على الأدوميين بإلقاء الحذاء عليهم!
وتستمر المخازي في التشبيهات التوراتية، فتشبه الله عز وجل بالمرأة تارة، وبالزوج تارة، فقد جاء فيها: "لأن بعلك هو صانعك، رب الجنود اسمه .. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح، دعاك ربك" (إشعيا 54/1-6).
وفي موضع آخر أنه قال: "من أجل ذنوبكم طلَّقتُ أمكم" (إشعيا 50/1).
ومثله أن الله خاطب أورشليم " وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك " ( إشعيا 62/5).
ومن سيئ التشبيهات التوراتية تشبيه الله العظيم بالسكران يفيق من سكره، فتقول: " استيقظ الرب كنائم، كجبار معّيط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عاراً أبدياً" (المزمور 78/65).
ومثله في السوء التعبير عن انتقام الله من بني إسرائيل بتسليط ملك أشور عليهم، إذ يشبهه سفر إشعيا تشبيهاً منكراً، فيقول: " في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر، بملك أشور الرأسَ وشعر الرجلين، وتنـزع اللحية أيضاً " ( إشعيا 7/20 ).
فمثل هذه التشبيهات السمجة والتعبيرات السخيفة لا يمكن أن تصدر عن الله العظيم، ولا يليق أن يوصف بها، أوليس من طريقة أفضل يعبر بها الإله عن غضبه أو حبه!!
وكيف لهذه التشبيهات أن تنسب إلى الله، وقد قال منكراً تشبيهه بغيره: "فبمن تشبهون الله، وأي شبه تعادلون به .. فبمن تشبهونني، فأساويه، يقول القدوس" (إشعيا 44/18-25).

الأنبياء في العهد القديم

اصطفى الله عز وجل أنبياءه من بين سائر خلقه، وحباهم بأن جعلهم حملة دينه إلى الناس، وأسبق أقوامهم إليه، وجعل منهم قدوة للعالمين  أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده  (الأنعام:90).
وهذا الذي يقتضيه العقل في هؤلاء الذين اختارهم الله لهداية خلقه، أن يكونوا أحسن الناس سيرة، وأصدقهم طوية ... كيف لا، وقد جاء الحديث في التوراة عن عصمة الكهنة وبراءتهم من الآثام، لأنهم حاملو الشريعة ومبلغوها للناس، وهم - ولا ريب - دون منـزلة الأنبياء ، يقول سفر ملاخي عن لاوي وسبطه: "عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة الحق كانت في فيه، وإثم لم يوجد في شفتيه، سلك معي في السلام والاستقامة، وأرجع كثيرين عن الإثم، لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملاخي 2/5-7).
وتثني التوراة في بعض نصوصها على بعض هؤلاء الأنبياء، فعن داود قال: " أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً " ( صموئيل (2) 7/14 ).
وعن نوح قال: " كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله، وسار نوح مع الله " ( التكوين 6/9).
وعن إبراهيم تقول التوراة بأن الله قال له في المنام: " يا إبرام أنا ترس لك، أجرك كثير جداً " (التكوين 15/1).
وعن إسحاق " وباركه الرب " ( التكوين 26/12 )... إلى غير ذلك.
لكن ذلك كله يضيع في بحر الرذائل التي تلصقها التوراة زوراً بحملة رسالات الله من الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله لبلاغ وحيه.

نوح عليه السلام
تحدثت التوراة عن سُكرِ نبي الله نوح - عليه السلام وحاشاه - وتعريه داخل خبائه، وحينذاك أبصره ابنه الصغير حام، وأخبر أخويه بما رأى فجاءا بظهريهما، وسترا عورة أبيهما الثمِل، فلما أفاق من سكرته وعرف ما فعل ابنه حام الصغير قال : "ملعون كنعان (ابن الجاني حام)، عبد العبيد يكون لإخوته ... وليكن كنعان عبداً لهم ".
والقصة بتمامها: "وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما.
فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان (أب الفلسطينيين الذي لا علاقة له بالحادثة، الذي لم يولد حينذاك)، عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم.
ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام.وليكن كنعان عبدا لهم" ( التكوين 9/25 - 26 )، فبدلاً من أن يوجه ابنه الصغير للتصرف الصحيح مع الوالد حين سكره وعربدته، صب لعناته على كنعان ابن حام، كنعان الذي لعله لم يخلق بعد، فما ذنب هذا الكنعان، بالطبع لا ذنب له إلا أنه سيصبح جدّاً لأهل فلسطين، أعداء اليهود! بل وما ذنب أبيه الذي لم يكن ليستحق هذا كله ؟ وماذا عن الأب الذي شرب الخمر؟ ما الذي يستحقه من عقوبة؟ لماذا لم يعاقبه الرب؟

إبراهيم عليه السلام
وأما إبراهيم خليل الله، فتزعم التوراة أنه أخطأ في حق الله لما أراد إهلاك قوم لوط، وخاطب ربه بأسلوب الناصح الغليظ، بأسلوب لا يقبل عاقل أن يخاطبه به صديقه أو ابنه، فضلاً عن عبده الضعيف "فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم! عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم! حاشا لك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" (التكوين 18/23).

لوط عليه السلام
وأما لوط عليه السلام، النبي الذي حارب الشذوذ، فتذكر التوراة أنه لما أهلك الله قومه لجأ إلى مغارة مع ابنتيه فسقتاه الخمر، وضاجعتاه، ولم يعلم بذلك، وولد من هاتين الفاحشتين عمي ومؤاب، ومنهما انحدر العمويون والمؤابيون أعداء بني إسرائيل، فاسمع إلى السفر : " وصعد لوط من صوغر، وسكن في الجبل وابنتاه معه. لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه.
وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمراً، ونضطجع معه.فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.
وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمراً الليلة أيضاً، فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً. وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها.
فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين (أعداء بني إسرائيل) إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابناً، ودعت اسمه بن عمي.وهو أبو بني عمون (وهم أيضاً أعداء بني إسرائيل) إلى اليوم" ( التكوين 19/30 - 37 ).
ويذكر السفر تبريراً لهذه الفاحشة، أن الكبيرة منهما قالت لأختها: " أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ... نحيي من أبينا نسلاً " (التكوين 19/31 - 32)، فيصور النص الأرض وقد خلت من الرجال، أو أن المغارة سيمكث فيها لوط وابنتاه إلى الأبد، فلا سبيل حينذاك لاستبقاء النسل إلا زنا المحارم!.

يعقوب عليه السلام
وأما يعقوب عليه السلام أصل بني إسرائيل، فهو أيضاً لم يسلم من مخازي التوراة، ولم يشفع له أبوته لهم، فتذكر التوراة أنه سرق البركة من أخيه الأكبر عيسو عندما خدع أباه إسحاق وأشربه الخمر، وأوهمه أنه عيسو، ولم يستطع إسحاق أن يفرق بين ملمس ابنه الأكبر وجلد المعزي الذي وضعه يعقوب على يده. (انظر : التكوين 27/16 - 25 ).
فبارك يعقوب، وهو يظنه عيسو، وقال له: " رائحة ابني كرائحة حقل، قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، وكن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومبارِكوك مباركين" ( التكوين 27/27 - 29 ).
ثم بعد برهة جاء عيسو أباه فاكتشف الخدعة، ولكن بعد فوات الأوان.
وهكذا فالبركة سرقت، وهذا يعتبر كذباً على الله واهب البركة، لا على إسحاق، ويتساءل المسلمون لماذا لم يسترد إسحاق بركته ؟ ثم ما هذه البركة التي تثمر خمراً واستعباداً للشعوب ؟
وهذه البركة لا يبدو لها عظيم أثر في حياة يعقوب، فقد جوزي على خديعته لأبيه، فخدعه خاله لابان، فأدخله على ابنته الكبرى ليئة، فضاجعها، وهي غير التي عقد له عليها (راحيل). أي وقع في الزنا، ولكن من غير عمد. (انظر : التكوين 29/24 ).
وقد رد الصاع لخاله حينما خدعه في غنمه. (انظر: التكوين 30/37 - 42).
ثم لما شاخ اعتدى شكيم على ابنته واغتصبها. (انظر: التكوين 34/2).
ثم زنى أحد أبنائه، وهو يهوذا بكنته ثامار، وأحبلها اثنين من أبنائه. (انظر: التكوين 38/18 ).
ثم اعتدى ابنه البكر رؤابين على بلهة سرية يعقوب، واضطجع معها، ولم يحرك يعقوب ساكناً. (انظر : التكوين 35/21 - 22 ). فأين أثر البركة المسروقة في هذا كله؟

موسى وهارون عليهما السلام
كما تسيء التوراة إلى موسى – عليه السلام - أعظم أنبياء بني إسرائيل، وتذكر كلمات لا يمكن أن تصدر من موسى لما فيها من إساءة أدب مع الله، منها: " فقال موسى للرب : لماذا أسأت إلى عبدك ؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي ؟ ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب ؟ أو لعلي ولدته .. فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً، إن وجدتُ نعمة في عينيك فلا أرى بليتي " (العدد 11/10 - 15)، فهل يتحدث عبد - فضلاً عن نبي - مع ربه بمثل هذا؟
وتذكر التوراة أن موسى في حربه مع أهل مديان - الذين مكث فيهم سنين - أمر بقتلهم شر قتلة، وحين لم ينفذ الجيش أمره " فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب، وقال لهم موسى : هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيّات" ( العدد 31/14 – 18).
ولم يخبر السفر عن طريقة التمييز بين الأبكار وغيرهن، فهل يأمر نبي بمثل هذا ؟!!
وأما هارون القدوس كما في سفر المزامير" هارون قدوس الرب" (المزمور 106/16)، فإن سفر الخروج يفتري عليه، ويتهمه بأنه الذي صنع العجل لبني إسرائيل ليعبدوه، فيقول: "قال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم، وأتوني بها. فنـزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم، وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم، وصوّره بالإزميل، وصنعه عجلا مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (الخروج 32/2-4)، فهل هذا صنيع يصنعه قدوس الرب؟
ثم تذكر التوراة المحرفة أن الله حرم موسى وهارون من دخول الأرض المقدسة لخيانتهما لله وعدم إيمانهما: "فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي، حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها" (العدد 20/12).
وفي موضع آخر يؤكد هذا السبب لحرمانهما من دخول الأرض المباركة، فيقول:" لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل، عند ماء مريبة قادش، في برية صين، إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل" (التثنية 32/51).
وتذكر التوراة في قصة غريبة مبهمة من غير مقدمات لها، ومفادها أن الله أراد قتل موسى وهو في صحراء سيناء، حين كان متجهاً لدعوة فرعون كما أمره الرب، والذي أنقذه من القتل ذكاء زوجته صفورة وسرعة بديهتها، حيث أدركت أن سبب غضب الرب عدم ختان موسى لابنه، فختنته سريعاً، ووضعت غرلته عند رجلي الرب، فنجا موسى من الموت، يقول السفر: "حدث في الطريق في المنـزل أن الرب التقاه، وطلب أن يقتله، فأخذت صفّورة صوّانة، وقطعت غرلة ابنها، ومسّت رجليه، فقالت: إنك عريس دم لي، فانفكّ عنه عندما قالت: عريس دم من أجل الختان " (الخروج 4/24-26)، ولم يبين السفر السبب الصريح لهذه الغضبة الإلهية المزعومة، واكتفى ببيان هذه الطريقة الغريبة في استرضاء الرب.
لكن لعلنا نكتشف السر حين ننقل للقارئ تعليق الآباء اليسوعيين على هذه القصة في حاشية نسخة الرهبانية اليسوعية، حيث يكشف لنا الآباء أن ما حصل من صفورة كان خداعاً للرب، وأنها نجحت في ذلك: "رواية غامضة بسبب اقتضابها وعدم وجود أي سياق في الكلام .. يجوز التكهن والقول بأن قلف موسى يجلب عليه غضب الله، وأن هذا الغضب سكن حين ختنت صفورة ابنها، وتظاهرت بختان موسى، فلمست عورته"، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

يشوع بن نون عليه السلام
وأما يشوع وصي موسى، فإن اسمه يقترن في التوراة بسلسلة من المجازر التي طالت النساء والأطفال والرجال والحيوان، وكنموذج لهذه المجازر نحكي قصة مجزرة أريحا التي لم ينج فيها سوى راحاب الزانية ومن يلوذ بها، وأما ما عداها فقد أمر يشوع : "وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة، وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف .. أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها " (يشوع 6/20-24).
ويستمر سفر يشوع في عرض سلسلة من المجازر التي طالت النساء والأطفال الأبرياء، وكل ذلك بأمر من يشوع، وحاشاه عليه السلام " وأخذ يشوع مقيدة في ذلك اليوم وضربها بحد السيف، وحرّم ملكها هو وكل نفس بها، لم يبق شارداً. وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا.
ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى لبنة، وحارب لبنة، فدفعها الرب هي أيضا بيد إسرائيل مع ملكها، فضربها بحد السيف وكل نفس بها، لم يبق بها شارداً، وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا.
ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لبنة إلى لخيش ونزل عليها وحاربها، فدفع الرب لخيش بيد إسرائيل، فأخذها في اليوم الثاني، وضربها بحد السيف، وكل نفس بها حسب كل ما فعل بلبنة، حينئذ صعد هورام ملك جازر لإعانة لخيش، وضربه يشوع مع شعبه، حتى لم يبق له شارداً.
ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لخيش إلى عجلون، فنزلوا عليها، وحاربوها، وأخذوها في ذلك اليوم، وضربوها بحد السيف، وحرّم كل نفس بها في ذلك اليوم حسب كل ما فعل بلخيش، ثم صعد يشوع وجميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون، وحاربوها، وأخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها وكل مدنها وكل نفس بها، لم يبق شارداً حسب كل ما فعل بعجلون، فحرّمها وكل نفس بها.
ثم رجع يشوع وكل إسرائيل معه إلى دبير وحاربها، وأخذها مع ملكها وكل مدنها وضربوها بحد السيف، وحرّموا كل نفس بها، لم يبق شارداً، كما فعل بحبرون كذلك فعل بدبير وملكها وكما فعل بلبنة وملكها.
فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها، لم يبق شارداً، بل حرّم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل " (يشوع 10/28- 40).
وقد رأينا بعد هذه السلسلة الطويلة من المجازر، والتي تذكر بمجازر اليهود اليوم كيف نسب السفر هذه المجازر المريعة إلى أمر الرب، فقال في آخره: " كما أمر الرب إله إسرائيل " ( يشوع 10/40 ).

داود عليه السلام
وأما داود عليه السلام والذي يصفه القرآن بالأواب، فتخصه التوراة بقبائح لم تذكر لغيره، منها أنه لما أراد الزواج من ابنة شاول ملك إسرائيل الأول ( طالوت ) قدم إليه مهراً عجيباً فلقد "قام داود، وذهب هو ورجاله، وقتل من الفلسطينيين مائتي رجل، وأتى داود بغلفهم (الجلدة التي تقطع في الختان)، فأكملوها للملك لمصاهرة الملك " ( صموئيل (1) 18/27 )، فما ذنب أولئك المساكين الذين قتلوا لغير جريرة ولا إثم.
ويحكي سفر صموئيل عن رقص النبي داود وتكشف عورته، وهو فرح باسترجاع التابوت من يد الفلسطينيين، وقد استاءت زوجه ميكال من هذا المنظر، واحتقرته لأجله " كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب ... أشرفت ميكال بنت شاول من الكوة ، ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب ، فاحتقرته في قلبها .. وقالت : ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حتى تكشف اليوم في أعين إماء عبيده، كما يتكشف أحد السفهاء " ( صموئيل (2) 6/14 - 20 ).
ثم تحكي التوراة قصة داود مع أوريا الحثي وزوجته "وكان في وقت المساء إن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ. وكانت المرأة جميلة المنظر جداً، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت اليعام امرأة أوريا الحثّي؟ فأرسل داود رسلاً وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهّرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها.
وحبلت المرأة، فأرسلت، وأخبرت داود، وقالت: إني حبلى. فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي، فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه .. وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك واغسل رجليك. فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك.
ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينـزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: لم يـنزل أوريا إلى بيته. فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر! فلماذا لم تنـزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر.
فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضاً، وغداً أطلقك، فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه، وشرب، وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينـزل، وفي الصباح كتب داود مكتوباً إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه، فيضرب ويموت" (صموئيل (2) 11/2-26).
وكان كما أراد، ومات أوريا، وضم داود تلك الزانية إلى زوجاته، ومنها أنجب سليمان، الذي يشرفه كتاب الأناجيل، فيجعلونه أحد أجداد المسيح.
ثم تحكي الأسفار عن مجازر يشيب لها الولدان فعلها داود بالعمويين، فقد " أخرج الشعب الذي فيها ، ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد، وأمرَّهم في أتون الآجر، وهكذا صنع بجميع مدن عمون، ثم رجع داود، جميع الشعب إلى أورشليم " (صموئيل (2) 12/31) ( )، وفي سفر الأيام "وأخرج الشعب الذين بها، ونشرهم بمناشير ونوارج حديد وفؤوس، وهكذا صنع داود لكل مدن بني عمون" (الأيام (1) 20/3). سبحانك هذا بهتان عظيم.
لكن العجب العجاب أن كل ما نسبته الأسفار زوراً إلى نبي الله داود، لم يمنعها من وصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال، فقد قال عنه الله: "وجدتُ داود بن يسّى رجلاً حسب قلبي، الذي سيصنع كل مشيئتي" (أعمال 13/22)، وجعله المثل الأعلى والمقياس الأوفى الذي يوزن به ملوك بني إسرائيل، فقد ذكرت الأسفار أن الله لم يمزق مملكة سليمان إكراماً لأبيه الذي حفظ وصايا الله، فتقول: " ولا آخذ كل المملكة من يده، بل أصيره رئيساً كل أيام حياته، لأجل داود عبدي، الذي اخترته، الذي حفظ وصاياي وفرائضي" (الملوك (1) 11/34).
ويؤكد سفر الملوك استقامة داود على فرائض الله، وتنعي على سليمان أنه لم يكن مثل أبيه الذي اتبع أوامر الله بالتمام، فتقول: "عمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه" (الملوك (1) 11/6).
ولم تعتبر أسفار التوراة أياً من الرزايا المنسوبة إلى داود ذنباً فيما عدا قصته مع امرأة أوريا الحثي، وأما مذابحه المزعومة التي صنعها للفلسطينيين جمعاً لمهر خطيبته ميكال أو محرقته ونشره لعظام العمويين، فذلك كله لا خطيئة فيه "داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب، ولم يحد عن شيء مما أوصاه به كل أيام حياته، إلا في قضية أوريا الحثّي" (الملوك (1) 15/5).

سليمان عليه السلام
وأما سليمان النبي الحكيم الذي يشهد له القرآن والتوراة بالحكمة. (انظر الأيام (2) 2/12). فقد كان له نصيب أكبر في سلسلة المخازي التوراتية، فقد جعلته التوراة عابداً لأصنام نسائه اللاتي بلغن ألفاً، كما بنى المعابد لعبادتها، فغضب عليه الرب وسخط، تقول التوراة: "كانت له سبع مائة من النساء السيدات، وثلاث مائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه، وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه.
فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه، حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كنّ يوقدن ويذبحن لآلهتهنّ.
فغضب الرب على سليمان، لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب، فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها لعبدك" (الملوك (1) 11/3-11).
وكانت الأسفار قد أثنت على سليمان، وذكرت بشارة الله لأبيه داود بهذا الابن الذي سيبني بيت الله، ووصفته بالبر والطهارة الذي عبرت عنه الأسفار بلفظة البنوة لله، وهو لفظ يدل على صلاح صاحبه - كما هو معهود في التوراة -، تقول البشارة لداود: "هوذا يولد لك ابن، يكون صاحب راحة، وأريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً" (الأيام (1) 22/9-10)، كما ذكرت الأسفار أن الله سماه "يديديا" (أي حبيب الرب) ، لأن "الرب أحبه" (صموئيل (2) 12/24)، فهل ضيع سليمان - المبَشر به - أوامر الرب؟ وهل عمل الشر وبنى معابد الأوثان طمعاً في رضا نسائه أم كان - المحبوب عند الله - فصدق فيه قول الله في القرآن، فقال: ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (سورة ص: 30).
ونتساءل: لو كان هذا حال أنبياء الله؛ فما فائدة النبوات بعد ذلك إذا كان المختارون من البشر وصفوتهم على مثل هذه الحال؟ وأي خير يرتجى في إصلاح البشرية وتطهيرها من دنس الشرك والخطيئة بعد الذي قرأنا؟
ثم هل تخليد هذا يصدر عن وحي السماء ؟ لو كان ذلك الذي ذكرته التوراة من المخازي حقاً فما فائدة ذكره؟ ما الفائدة المرجوة منه حتى يسطره الله في وحيه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
ثم نتوجه بالسؤال لأولئك الذين يطلبون التهذيب والكمال الروحي من خلال سطور الكتاب المقدس، فنقول: لو كان هذا الكتاب إلهياً فإنه كما رأينا عجز عن تهذيب الأنبياء الذين أوحي إليهم ، فقتلوا وزنوا وسكروا وبنوا معابد للأصنام، وهو بالتالي أعجز عن أن يهب الهداية لغيرهم من القراء!

الأخلاق في العهد القديم

يقول بولس : " كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر " ( تيموثاوس (2) 3/16 ).
فهل كان الكتاب المقدس فعلاً موبخاً للخطيئة ومعلماً للبر ومقوماً للسلوك، وصالحاً للتأديب ؟
تمتلىء جنبات الكتاب بالنصوص المختلفة، والذي يعنينا هنا تلك النصوص التي مست الجانب الأخلاقي، فقد امتلأت أسفار الكتاب المقدس بالحديث عن رذائل مارسها بنو إسرائيل وغيرهم، وحكت طويلاً عن سكرهم وزناهم ووثنيتهم.
ولقد يظن الظان أنها حكت ذلك في باب النهر والتأديب والتبصر في عاقبة المجرمين.
ولكن شيئاً من ذلك لم يكن في الكتاب المقدس الذي حوى بين دفتيه عشرات النصوص غير المناسبة التي تمثل صورة لأدب الفراش والجنس المكشوف.
كما تمتلئ بقصص الإثارة، مع تركيز على عنصر الجريمة، ثم قلَّ أن تجد عقوبة أو تحذيراً على هذه الجريمة أو تلك.
ونتساءل ما الفائدة إذاً من ذكر هذا كله في كتاب يزعم النصارى واليهود أنه موحى به من الله؟ ما الفائدة من ذكر عشر حالات من زنا المحارم في كتاب مقدس ؟ والعجب أن كل هذه الحالات العشر تتعلق بالأنبياء وأبنائهم.
وعلاوة على ذلك عشرات من قصص الحب القذر. ما فائدة ذلك كله ؟
ذكرت التوراة أمثلة عدة في هذا الأدب المكشوف منها قصة يهوذا وكنته ثامارا، وأيضاً القاضي شمشون والعاهرة. (انظر القضاة 16/1 - 3 ).
وأيضاً اغتصاب أمنون بن داود لأخته ثامار بمشورة يوناداب الذي تصفه التوراة بوصف عجيب غريب، حيث وصفته أنه حكيم جداً. (انظر صموئيل (2) 13/3 - 22 )، ومثله كثير.
وتبحث في هذا كله عن عقوبة للمجرم فلا تجد، إذ لم تخبرنا التوراة أن حد الزنا المذكور في سفر اللاويين (20/17) قد طبق مرة واحدة.
وكنموذج للعقوبة التوراتية المفقودة نعرض لما جاء في سفر صموئيل عن عالي رئيس الكهنة وقاضي بني إسرائيل " وشاخ عالي جداً، وسمع بكل ما عمله بنوه بجميع إسرائيل، وبأنهم كانوا يضاجعون النساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع. فقال لهم : لماذا تعملون مثل هذه الأمور ؟ لأني أسمع بأموركم الخبيثة من جميع هذا الشعب، لا يا بني لأنه ليس حسناً الخبر الذي أسمع " (صموئيل (1) 2/22 - 24 )، فهل هذا كل ما صنعه كبير قضاة بني إسرائيل مع أولئك الذين يزنون في خيمة الاجتماع!؟
كما توجد الكثير من النصوص القبيحة، والتي تمثل نماذج من الأدب الفاجر الذي تخلده التوراة، أدب الفراش، الذي لا تجده إلا في كتب الجنس والفجور.
ولسوف نعرض لشيء من هذه النماذج مع الاعتذار للقارئ الكريم عن قبيح ما يقرأه.
جاء في نشيد الإنشاد في الإصحاح الأول المنسوب لسليمان: " ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر، لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى.
اجذبني ورائك فنجري، أدخلني الملك إلى حجاله، نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر..
ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد، نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة .. حبيبي لي، بين ثديي يبيت .... " ( نشيد 1/1 - 15 ).
وعلى هذا تستمر بقية إصحاحات السفر، بل تسوء " في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته .. حتى وجدت من تحبه نفسي فأمسكته، ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي، وحجرة من حبلت بي .. قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه .. حبيبي مد يده من الكوة، فأنَّت عليه أحشائي..." ( نشيد 3/1 - 5 ).
وفي الإصحاح السادس حديث عن نساء الملك سليمان "هنّ ستون ملكة، وثمانون سرية، وعذارى بلا عدد"، لكن واحدة منهن متميزة ، لذا يصفها المنشد بقوله: "واحدة هي حمامتي كاملتي، الوحيدة لأمها هي"، فمن هي هذه المحظوظة؟
إنها شولميت( ) التي يناديها المنشد: "ارجعي ارجعي يا شولـِمّيث ، ارجعي ارجعي، فننظر إليك ماذا ترون في شولميث مثل رقص صفين، ما أجمل رجليكِ بالنعلين يا بنت الكريم، دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع، سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن، ثدياك كخشفتين، توأمي ظبية، عنقك كبرج من عاج، عيناك كالبرك ...
ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذّات، قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد ... وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر، لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين، أنا لحبيبي، وإليّ اشتياقه.
تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى، لنبكرنّ إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم هل تفتح القعال؟ هل نوّر الرمان. هنالك أعطيك حبي ...
ليتك كأخ لي، الراضع ثديي أمي، فأجدك في الخارج وأقبلك، ولا يخزونني، وأقودك وأدخل بك بيت أمي، وهي تعلمني، فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف رماني، شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نشيد 6/13- 7/1-13).
ويبرر القس منيس عبد النور في كتابه "شبهات وهمية"، وجود هذه الغراميات، فيقول : "السفر يصف المباهج الزوجية، ولا خطأ في الجنس الذي هو في إطار الزواج" ( )، وكأني بالكتاب المقدس كتاب يدفع لأولئك الذين يقدمون على الخطبة ويرومون الزواج، كما وإن القس غفل عن تلك النصوص التي تتحدث عن العلاقة الآثمة خارج إطار الزوجية.
وعلى منوال القس عبد النور ينسج القس صموئيل يوسف فيبرر وجود هذه النصوص الغرامية في الكتاب بقوله: "بوجوده أعطى كمالاً للأسفار المقدسة، لأن الله يهتم بكل جوانب الحياة الإنسانية .. عندما نقرأ سفر النشيد تتطهر قلوبنا أكثر، وندرك حقيقة التجربة وبشاعتها التي يسقط فيها عدد غير قليل من جراء عدم الأمانة بين المتزوجين، فالسفر هدفه أخلاقي تعليمي".( )
يقول ول ديورانت في قصة الحضارة: مهما يكن من أمر هذه الكتابات الغرامية فإن وجودها في العهد القديم سر خفي ... ولسنا ندري كيف غفل أو تغافل رجال الدين عما في هذه الأغاني من عواطف شهوانية، وأجازوا وضعها في الكتاب المقدس.
وتقول مقدمة الآباء اليسوعيين: "لا يقرأ نشيد الإنشاد إلا القليل من المؤمنين، لأنه لا يلائمهم كثيراً".
وهذه الصورة السيئة تتكرر في أسفار عدة، ومنها ما جاء في القصة الرمزية للعاهرتين التين أسلمهما الله ليد عشاقهما فذبحوهما، والتي ترمز لمدينتي السامرة وأورشليم، ورمزيتها لا تبرر سوءها: "وكان إليّ كلام الرب قائلاً: يا ابن آدم كان امرأتان، ابنتا أم واحدة، وزنتا بمصر، في صباهما زنتا، هناك دغدغت ثديّهما، وهناك تزغزغت ترائب عذرتهما. واسمها أهولة الكبيرة، وأهوليبة أختها، وكانتا لي وولدتا بنين وبنات. وأسماهما السامرة أهولة، وأورشليم أهوليبة.
وزنت أهولة من تحتي، وعشقت محبيها أشور الأبطال اللابسين الأسمانجوني، ولاة وشحنا، كلهم شبان شهوة فرسان راكبون الخيل. فدفعت لهم عقرها لمختاري بني أشور كلهم، وتنجست بكل من عشقتهم بكل أصنامهم.
ولم تترك زناها من مصر أيضاً، لأنهم ضاجعوها في صباها وزغزغوا ترائب عذرتها، وسكبوا عليها زناهم. لذلك سلمتها ليد عشّاقها ليد بني أشور الذين عشقتهم. هم كشفوا عورتها...
فلما رأت أختها أهوليبة ذلك أفسدت في عشقها أكثر منها، وفي زناها أكثر من زنى أختها. عشقت بني أشور الولاة والشحن الأبطال اللابسين أفخر لباس، فرساناً راكبين الخيل كلهم شبان شهوة، فرأيت أنها قد تنجست ولكلتيهما طريق واحدة.
وزادت زناها ولما نظرت إلى رجال مصوّرين على الحائط صور الكلدانيين .. عشقتهم عند لمح عينيها إياهم، وأرسلت إليهم رسلاً إلى أرض الكلدانيين.
فأتاها بنو بابل في مضجع الحب ونجسوها بزناهم، فتنجست بهم وجفتهم نفسها، وكشفت زناها وكشفت عورتها، فجفتها نفسي كما جفت نفسي أختها.
وأكثرت زناها بذكرها أيام صباها التي فيها زنت بأرض مصر، وعشقت معشوقيهم الذين لحمهم كلحم الحمير [والمعنى: مذاكيرهم كمذاكير الحمير]، ومنيّهم كمنيّ الخيل" (حزقيال 23/1 - 49).
وتتكرر هذا اللغة المعيبة في سفر آخر، وهو سفر الأمثال، حيث يقول: "في العشاء، في مساء اليوم في حدقة الليل والظلام. وإذ بامرأة استقبلته في زيّ زانية وخبيثة القلب. صخّابة هي وجامحة. في بيتها لا تستقر قدماها ... فأمسكته وقبّلته، أوقحت وجهها، وقالت له: .. خرجت للقائك، لأطلب وجهك حتى أجدك. بالديباج فرشت سريري، بموشّى كتان من مصر، عطرت فراشي بمرّ وعود وقرفة. هلم نرتو ودّاً إلى الصباح، نتلذذ بالحب، لأن الرجل ليس في البيت، ذهب في طريق بعيدة ... أغوته بكثرة فنونها، بملث شفتيها طوحته، ذهب وراءها لوقته، كثور يذهب إلى الذبح، أو كالغبي إلى قيد القصاص، حتى يشق سهم كبده، كطير يسرع إلى الفخ، ولا يدري أنه لنفسِه" (الأمثال 7/9 - 23 ).
وقريباً من هذا قول سفر الأمثال أيضاً، ولكنه هذه المرة يتحدث عن الزوجة، فيقول: "وافرح بامرأة شبابك، الظبيّة المحبوبة، والوعْلَة الزهية. ليُروِك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائماً" (الأمثال 5/18- 19). وسوى ذلك..
فهل هذا وحي الله؟ أم أنها النفوس المريضة التي لا تطيق البعد عن حمأة الجنس وأحاديثه؟
كما تحوي الأسفار المقدسة بعض صور السباب المقزع، كما في قوله: "الله قد تكلم بقدسه ... موآب مرْحضتي، وعلى أدوم ألْقي حذائي" (المزمور60/6-8)، فهل يعتبر الإله العظيم أمة من الأمم التي خلقها محلاً لقضاء حاجته أو التنظف من قذره، بل هل له حاجة أو قذر؟ وهل يحتاج إلى مرحاض، ولو على سبيل الاستعارة؟
ومن السباب الذي لا يليق بالله العظيم الجليل ووحيه ما تنقله الأسفار عن الملك شاول أنه قال ليوناثان ابنه: "يا ابن المتعوّجة المتمردة، أما علمت أنك قد اخترت ابن يسّى [داود] لخزيك وخزي عورة أمك" (صموئيل (1)20/30).
ومن ذلك أن إشعيا قال لبني إسرائيل: " أما أنتم فتقدموا إلى هنا يا بني السامرة، نسل الفاسق والزانية..." ( إشعيا 57/3 ).

وبعد : ما هي آثار الكتاب المقدس على قارئيه ؟
إن نظرة إلى المجتمع الغربي ودراسة سريعة للأرقام الوبائية للفساد في أوربا تثير الذعر، وتدفع إلى التفكير والبحث عن مصدر هذا البلاء.
ونرى أن الكتاب المقدس هو أحد أسباب البلاء، فقد قال المسيح: " من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً، أو من المسك تيناً، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثماراً ردية " ( متى 7/16 - 17).
ولا غرابة البتة أن تنتشر الخمور والزنا في أمة تؤمن أن أنبياءها كانوا زناة، يمارسون الرذيلة حتى مع محارمهم، كانوا يشربون الخمور، حتى الثمالة، من غير أن يعاقبهم الله أو يخلع عنهم صفة القداسة والرسالة والاصطفاء، بل أكرم أبناء زناهم وعهرهم، فجعلهم أجداداً لابنه المسيح!!
لا غرابة أن تنتشر الخمور في أمة ينصح كتابها المقدس بشرب الخمر، ويراه حلاً لمشاكل الفقراء وذهاباً لهمومهم- بديلاً عن الإيمان والرضا بالقضاء -، يقول سفر الأمثال: " ليس للملوك أن يشربوا خمراً ولا للعظماء المسكر، لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيّروا حجة كل بني المذلة، أعطوا مسكراً لهالك، وخمراً لمرّي النفس، يشرب وينسى فقره، ولا يذكر تعبه بعد" (الأمثال 31/6).
ولا غرابة أن تنتشر الجريمة في مجتمع يؤمن بأن الله يأمر بقتل الأبرياء والنساء والأطفال والحيوانات، ودون سبب.
وصدق برنارد شو، وهو يقول عن الكتاب المقدس: " أخطر الكتب الموجودة على وجه الأرض، احفظوه في خزانة مغلقة بالمفتاح ".( )

الصبغة البشرية للعهد القديم

تصطبغ أسفار العهد القديم بالصبغة البشرية الضعيفة التي نجدها في سائر الأسفار، فالأسفار المقدسة كتاب تاريخ يقع في كثير من الأخطاء التي قد لا يقع فيها صغار الكُتَّاب ، ناهيك عن أصحاب الذوق الرفيع منهم.

قصص للمتعة لا للفائدة
وفي كثير من فقراته يفتقد الكتاب المقدس إلى المعلومة المفيدة التي تستثمر الحدث التاريخي لهدف ديني، بل فيه ما تجده في كتب الإثارة والمتعة الرخيصة واللهو البعيد عن العبرة والفائدة.
فما الفائدة والثمرة من قبل بعض هذه الحكايات الواردة فيه؟ ما الفائدة من قصة زنا يهوذا بكنته ثامار بعد أن زوجها أبناءه واحداً بعد واحد، ثم زنى بها وهو لا يعرفها، فلما عرف بحملها أراد أن يحدها فقال: " أخرجوها فتحرق "، فلما علم أن زناها وحملها منه، قال: " هي أبر مني " (انظر التكوين 38/1 – 26 ).
أين المغزى من القصة، امرأة مات عنها أزواجها واحداً بعد آخر، عاقبهم الرب لأنهم كانوا يعزلون عنها في الجماع، ثم زنت بوالدهم، ونتج عن هذا السفاح ابنان، أحدهما فارص الذي تشرف فأضحى أحد أجداد المسيح كما في سلسلة نسب المسيح في متى (انظر متى 1/2 ).
ثم تمضي القصة بلا عقوبة ولا وعيد ، فهل كان العزل عن الزوجة في الجماع مستحقاً للموت، بينما لا عقوبة ولا حدّ على جريمة زنا المحارم، بل شهادة ببِر تلك الزانية " هي أبر مني "، فأي بِر صنعته وهي تغوي والد أزواجها؟!.
وفي قصة أخرى تخلو عن العبرة والفائدة تقول التوراة: " ونذر يفتاح نذراً للرب قائلاً : إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند عمون يكون للرب وأصعده محرقة "، فلما انتصر استقبلته ابنته مهنئة، وكانت أول مستقبليه، فذبحها "ففعل بها نذره الذي نذر" ( القضاة 11/30 - 40 )، ما فائدة القصة لو كانت صحيحة، لماذا يخلدها الله في كتابه ووحيه؟
ومثلها ما جاء عن قتل الله لأطفال نالوا من النبي أليشع، وسخروا منه "ثم صعد من هناك (أي أليشع) إلى بيت إيل، وفيما هو صاعد في الطريق، إذا بصبيان صغار خرجوا من المدينة، وسخروا منه، وقالوا له: اصعد يا أقرع. اصعد يا أقرع. فالتفت إلى ورائه، ونظر إليهم، ولعنهم باسم الرب، فخرجت دبّتان من الوعر، وافترستا منهم اثنين وأربعين ولداً" (الملوك (2) 2/23-24)، فهل يعقل أن نبياً يدعو بالهلاك على أطفال صغار عيّروه؟ وهل يستجيب الله ، فيقتل الطفل البريء الذي أساء الأدب؟
ثم لو كان هذا صحيحاً، فما فائدة تخليده في كتاب ينسب إلى الله، وأي خير أو هدى تتعلمه البشرية منه، هل نقتل أطفالنا وندعو عليهم بالثبور إذا أخطؤوا في حقنا أو حق الآخرين؟
ومن العبث – الذي تتنـزه عنه أسفار الله - ذلك الحوار الذي سجلته أسفار التوراة: "عاد بنو إسرائيل أيضاً، وبكوا، وقالوا: من يطعمنا لحماً، قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً والقثاء والبطيخ والكرّاث والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا، ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المنّ، وأما المنّ فكان كبزر الكزبرة، ومنظره كمنظر المقل، كان الشعب يطوفون ليلتقطوه، ثم يطحنونه بالرحى، أو يدقونه في الهاون، ويطبخونه في القدور، ويعملونه ملّات، وكان طعمه كطعم قطائف بزيت" (العدد 11/5-8).
لكن كاتب سفر الخروج يخالف كاتب سفر العدد في طعم هذا المنّ، ولعل مرد ذلك اختلاف أذواق الكتبة، يقول كاتب سفر الخروج: "هو كبزر الكزبرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل" (الخروج 16/31).
ومن القصص التي لا فائدة من ذكرها قصة أكل الطفل المسلوق الذي اتفقت أمه وجارتها على أكل ابنيهما في جوع السامرة "وكان جوع شديد في السامرة ... فقالت: إن هذه المرأة قد قالت لي: هاتي ابنك، فنأكله اليوم، ثم نأكل ابني غداً. فسلقنا ابني وأكلناه، ثم قلت لها في اليوم الآخر: هاتي ابنك، فنأكله، فخبأت ابنها" (الملوك (2) 6/25-29)، إذ ما الذي نستفيده من هذه القصة؟
ويمتد عبث الأسفار إلى أسفار الحكمة والشعر، والتي من المفترض أن نقرأ في ثناياها الحكمة، فإذا بنا نقرأ: "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت، للولادة وقت، وللموت وقت، للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت، للبكاء وقت، وللضحك وقت، وللنوح وقت، وللرقص وقت، لتفريق الحجارة وقت، ولجمع الحجارة وقت، للمعانقة وقت، وللانفصال عن المعانقة وقت، للتمزيق وقت، وللتخييط وقت، للسكوت وقت، وللتكلم وقت، للحب وقت، وللبغضة وقت، للحرب وقت، وللصلح وقت" (الجامعة 3/1-8).

معلومات تاريخية لا قيمة لها
ومما لا طائل منه ولا فائدة، تلك المعلومات التاريخية التي تبلغ 90% من موضوعات الأسفار المقدسة، والكثير منها معلومات تافهة لا تفيد حتى من الناحية التاريخية، من ذلك ما ورد في سفر صموئيل عن الطعام الذي قدمته امرأة نابال إلى داود حتى لا يقتله وأهل بيته " فبادرت أبيجال، وأخذت مائتي رغيف خبز وزقي خمر، وخمسة خرفان مهيئة، وخمس كيلات من الفريك، ومائتي عنقود من الزبيب، ومائتي قرص من التين، ووضعتها على الحمير " (صموئيل (1) 25/18)، فما الذي أفاد البشرية معرفةُ ذلك، والكتاب، كل الكتاب الموحى به من الله – كما قال بولس- : "نافع للبر والتوبيخ ، للتقويم والتأديب"!
وفي سفر (الأيام (1) 24 - 27 ) يعرض لنا قائمة طويلة لوكلاء داود وولاته، فما علاقة ذلك بوحي الله، وأين التهذيب والتأديب في ذلك؟
وفي سفر الملوك الأول إصحاحان كاملان في وصف الهيكل وطوله وعرضه وسماكته وارتفاعه وعدد نوافذه وأبوابه ... وتفاصيل تزعم التوراة أنها المواصفات التي يريدها الرب لمسكنه الأبدي (انظر الملوك (1) 6/1 - 7/51 ).
ثم في موضع آخر تقول: " هل يسكن الله حقاً على الأرض، هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت" (الملوك (1) 8/27).
وفي أخبار الأيام الأول ست عشرة صفحة كلها أنساب لآدم وأحفاده وإبراهيم وذريته. (انظر الأيام (1) 1/1 - 9/44 ).
ثم قائمة أخرى بأسماء العائدين من بابل حسب عائلاتهم، وأعداد كل عائلة إضافة لأعداد حميرهم وجمالهم و.... (انظر عزرا 2/1 - 67 ).
كما ثمة قوائم أخرى بأعداد الجيوش والبوابين من كل سبط، وعدد كل جيش و.... (انظر الأيام (1) 23/1 - 27/34 ).
وفي سفر الخروج يأمر موسى بصناعة التابوت بمواصفات دقيقة تستمر تسع صفحات، فهل وحي ينزل بذلك كله وغيره مما يطول المقام بتتبعه.
وأحياناً يُشعر كُتّاب الأسفار قراءهم بأن لديهم مصدراً موثوقاً فيما يسردونه من معلومات تاريخية، فهم لا يلقون الكلام على عواهنه، كما صنع كاتب سفر الملوك، وهو يتحدث عن قتل الملك ياهو لإيزابل وقد جاءت تطلب منه الأمان، فما كان منه إلا أن "رفع وجهه نحو الكوّة وقال: من معي؟من؟ فأشرف عليه اثنان أو ثلاثة من الخصيان" (الملوك (2) 9/32)، فالكاتب المجهول لسفر الملوك الذي أُلهم كتابة القصة متشكك في عدد الخصيان الذين أجابوا الملك، ولفرط أمانته ذكر تحيره وتشككه في عددهم، فهم إما "اثنان أو ثلاثة"، أراد أن يثبت للقارئ نزاهته وأمانته ودقته، وأن يبرهن له أيضاً أنه يكتب بحسب معلوماته ومصادره؛ لا بوحي الله الذي لا تغيب عنه غائبة.

قصور الأسفار في القضايا الدينية
ويبحث الباحثون عن ذكر يوم القيامة والجنة والنار والبعث والنشور في أسفار التوراة الخمسة فلا يجدون نصاً صريحاً واحداً، وأقرب نص في الدلالة على يوم القيامة ما جاء في سفر التثنية "أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني، لي النقمة والجزاء في وقت تزل أقدامهم " (التثنية 32/34 - 35 )، وهو - كما ترى - محتمل الدلالة، غير مصرح بها، ولو أمعنت فيما قبله وبعده لرأيت أنه يتحدث عن يوم أرضي يعاقبهم الله فيه.
كما لا تجد في التوراة - على ما فيها من إطناب في أمور لا أهمية لها- وصفاً لكيفية الصلاة يأمر به الرب، كما لا يرد فيها اسمه الأعظم إلا نادراً، " فيعرفون أن اسمي : يهوه " ( إرميا 16/21)، فالكتاب يذكر الله باسم: السيد، الرب، الإله. ويغفل اسمه الأعظم!
والعجب أن التوراة تزعم أن هذا الاسم لم يعرفه أنبياء الله من قبل موسى " وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم " (الخروج 6/3). ( )

التكرار الممجوج
وتقع الأسفار في التكرار الحرفي لبعض الأحداث، فهل نسي الله أو الروح القدس أنه أملاه من قبل، أو أن النسيان قد وقع من الكتبة الذين ينسون ويغفلون ويخطئون؟
وكنموذج للتكرار الممجوج الذي لا طائل من ورائه نقرأ ما ورد في الإصحاحات 25 - 30 من الخروج وصف دقيق لخيمة الاجتماع كما أمر الرب أن تكون.
ثم تكرر الوصف بتمامه لما استدعى موسى بصلئيل وأهولياب للشروع في البناء والتنفيذ، واستغرقت الإعادة الإصحاحات ( 36 - 40 ). وكان يغني عن ذلك كله لو قال: ( وبصلئيل بن أروى صنع كل ما أمر به الرب موسى ومعه أهولياب بن أخيساماك ).
كما يقع كتاب العهد القديم أو كتَّابه فيما نسميه سرقة أدبية كما في ذكر نص ثم إعادته في موضع آخر، ومن أمثلته: تطابق (الملوك (2) 19/1 – 12) مع (إشعيا 37/1 – 12) كلمة بكلمة، بل حرفاً بحرف.
ويعلل كبير قساوسة السويد شوبرج هذا التماثل، فيقول: " هذه هي عظمة الكتاب! ".
وأحيانا يكرر كاتب السفر بصورة متطابقة عدة سطور سبق له أن كتبها من غير أن يفهم سبب حصول ذلك، ومنه ما صنعه كاتب سفر الأيام وهو يتحدث عن أسلاف وابناء الملك شاول (انظر الأيام (1) 8/29-36، وطابق مع الأيام (1) 9/35-43).
وتكرر هذا النقل في إصحاحات أخرى مع تغيير بسيط لا يذكر في بعض الكلمات (انظر صموئيل (2) 22 والمزمور 21)، وانظر (الأيام (1) 17، وصموئيل (2) 7 )، وانظر ( الأيام (1) 18، وصموئيل (2) 8 )، وانظر ( الأيام (1) 19، وصموئيل (2) 10 )، وانظر (الملوك (1) 8، والأيام (2) 6)، وغير ذلك من الشواهد.
وفي المقابل فإن قارئ الأسفار يروق لتلك الإحالات التي نجدها خلال الأسفار إلى مواضع أخرى من الكتاب، ويعجب لتلك التي تحيل فيها كلمة الله إلى مواضع خارج كلمة الله، أي أنها من كلام البشر، وقد أراد من خلالها المؤلف أن لا يعيد سرد معلومات سبق له أن قرأها في سفر آخر من أسفار الكتاب أو بعض الكتابات التاريخية أو بالأصح الضائعة من الأسفار المقدسة.
ولكن العجب في هذه الإحالات حين تكون متقابلة ، أي حين يحيل كل من السفرين إلى الآخر بالتبادل، ويتساءل المرء من غير أن يجد جواباً: أي السفرين كتب أولاً، ومن الذي كتبهما، ولا أجد من جواب إلا أن أحيل إلى جهل البشر وتلاعبهم بالنصوص.
ومن أمثلة ذلك تلك الإحالات المتكررة، والتي تبادلها كاتبا سفري الملوك والأخبار (الأيام) في عدد من المواضع، منها إحالة سفر الملوك إلى سفر الأيام "وبقية أمور أمصيا، أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا" (الملوك (2) 14/18)، مما يدل على أن سفر الأيام قد كتب قبلُ.
لكن كاتب سفر الأيام ، وبتواضع جمّ يحيل قارئه إلى سفر الملوك "وبقية أمور أمصيا الأولى والأخيرة، أما هي مكتوبة في سفر ملوك يهوذا وإسرائيل" (الأيام (2) 25/26)، فأي السفرين كتب أولاً؟
وقد تكرر هذا التداول بينهما مراراً ، فكلا من الكاتِبَين يصر على أن الآخر قد كتب أولاً، وأنه ترك بعض التفصيلات التي قرأها عند الآخر [انظر حديث السفرين عن الملك يوثام (الملوك (2) 15/36) و(الأيام (2) 27/7)، وتأمل ثانية في إحالتهما المتبادلة عن أخبار الملك يهوياقيم (الأيام (2) 36/8) و(الملوك (2) 24/5)].

مبالغات وأخبار خرافية
كما تحوي أسفار العهد القديم أخباراً هي للخرافة أقرب منها للأخبار المعقولة، ومن ذلك قصص شمشون الجبار وخصلات شعره التي كانت سبباً في أعاجيبه وقوته وانتصاراته، ومن أعاجيبه أنه بينما هو يمشي " إذ بشبل أسد يزمجر للقائه، فحل عليه روح الرب، فشقه كشق الجدي، وليس في يده شيء " ( القضاة 14/5 - 6 )، وهذا الذي حل عليه روح الرب يذكر سفر القضاة بعدها بصفحتين قصة زناه مع العاهرة الغزية. (انظر القضاة 16/1)، فبطولته لا تعرف الحدود!
وأيضاً لما ربطه قومه وسلموه للفلسطينيين موثقاً " فحل الوثاق عن يديه، ووجد لحي حمار طرياً، فمد يده، وأخذه، وضرب به ألف رجل. فقال شمشون: بلحيّ حمار كُومَةً كومَتَيْن [هكذا]، بلحيِ حمار قتلتُ ألف رجل " (القضاة 15/14-16).
ولا يفوتنا التنبيه إلى الملاحظة المهمة التي أراد كاتب السفر شدّ مسامعنا إليها، وهي أن لحي الحمار الذي قتل به شمشون هؤلاء كان طرياً، فكيف يكون الحال لو كان قاسياً، إنها طريقة العجائز في حكاية القصص الأسطورية، ومثل هذه الزيادة هي نوع من عناصر التشويق والإثارة تستخدمها الجدّة، وهي تقص على أحفادها قصة ما قبل النوم.
ومن غرائب شمشون وعجائبه ما صنعه بحقول الفلسطينيين، حيث أحضر ثلاث مائة من أبناء آوى، وربط ذيول بعضها ببعض، ثم أشعل فيها النار، وأطلقها في حقول الفلسطينيين، فأحرقوها انتقاماً من زوجته الفلسطينية التي هجرته، فكيف جمع هذه الثعالب! وكيف ربطها جميعاً! قصة جِدُّ غريبة. (انظر القضاة 15/4-6).
وليس أغرب منها ما صنعه بباب مدينة غزة، حيث " قيل للغزّيين: قد أتى شمشون إلى هنا، فأحاطوا به، وكمنوا له الليل كله عند باب المدينة، فهدؤوا الليل كله قائلين: عند ضوء الصباح نقتله، فاضطجع شمشون إلى نصف الليل، ثم قام في نصف الليل، وأخذ مصراعي باب المدينة والقائمتين، وقلعهما مع العارضة، ووضعها على كتفيه، وصعد بها إلى رأس الجبل الذي مقابل حبرون" (القضاة 16/2-4)، إلى غير ذلك من أخبار شمشون الجبار وشعره العجيب. (انظر القضاة 14-16).
وكما يبالغ البشر في عرض بطولاتهم ؛ فإن التوراة تصنعه وهي تتحدث عن بني إسرائيل وأعدادهم وبطولاتهم، ومن ذلك قصة البطل أبيشاي ، فقد "هزّ رمحه على ثلاث مائة قتلهم" (صموئيل (2) 23/18).
ومثله البطل يشبعام، فقد قتل ثلاثمائة دفعة واحدة، وبهزة رمح واحدة " يشبعام بن حكموني رئيس الثوالث، هو هزّ رمحه على ثلاث مائة، قتلهم دفعة واحدة " ( الأيام (1) 11/11).
وفي سفر صموئيل يسمى البطل يشبعام بيوشيبا، ويزيد عدد القتلى - بهزة رمحه - خمسمائة مقاتل، فقد " هز رمحه على ثمانمائة، قتلهم دفعة واحدة " (صموئيل (2) 23/8 )، فكم كان طول هذا الرمح؟ وكيف تم هذا ؟!!
وأما شمجر بن عناة فقد قتل من الفلسطينيين ستمائة رجل من غير سلاح، لقد قتلهم بمنساس البقر " وكان بعده شمجر بن عناة، فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر " (القضاة 3/31). كيف يحصل هذا ؟ كيف لم يهربوا ؟ هل انتظر كل منهم دوره ؟!!
ومثله المبالغة في عرض كل ما يتعلق ببني إسرائيل " كان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كرّ سميذ، وستين كرّ دقيق، وعشر ثيران مسمنة، وعشرين ثوراً من المراعي، ومائة خروف عدا الأيائل واليحامير والأوز المسمن " ( الملوك (1) 4/22 - 23).
ومن المبالغة المضحكة أن الأرض انشقت لقوة صوت غناء بني إسرائيل وفرحهم "وصعد جميع الشعب وراءه، وكان الشعب يضربون بالناي، ويفرحون فرحاً عظيماً، حتى انشقت الأرض من أصواتهم" (الملوك (1) 1/40)، نحوه كثير....
ولا تنقضي عجائب بني إسرائيل ولا فرائدهم، والتي من بينها أبشالوم بن داود، والذي كان في غاية الحسن، وأما شعر رأسه فكان " كان يحلقه في آخر كل سنة، لأنه كان يثقل عليه، فيحلقه، كان يزن شعر رأسه مئتي شاقل بوزن الملك" (صموئيل (2) 14/26)، وهو ما يعادل كيلوين وربع! فهل يعقل مثل هذا؟! أين رأت الدنيا أو سمعت بمثله؟
لكن هذا كله لن يمنعنا من الإقرار أن كاتب أسفار التوراة يمتاز - ككثيرٍ من المؤلفين - باللباقة والاحترام، فيعتذر لقرائه عن تقصيره في الكتابة، وذلك في آخر كتابه ، فيقول في خاتمة سفر المكابيين الثاني (آخر أسفار التوراة الكاثوليكية) : " إن كنت قد أحسنت التأليف ، وأصبت الغرض ، فذلك ما كنت أتمنى ، وإن كان قد لحقني الوهن والتقصير فإني قد بذلت وسعي ، ثم كما أن شرب الخمر وحدها أو شرب الماء وحده مضر ( ) ، وإنما تطيب الخمر ممزوجة بالماء وتعقب لذة وطرباً ، كذلك تنميق الكلام على هذا الأسلوب يطرب مسامع مطالعي التأليف " ( المكابيون (2) 15/39 - 40).
ولعل مراده الاعتذار عن بعض ما تقدم ذكره، وعن بعض العبارات الركيكة التي صدرت عن مجموعة مؤلفي هذا الكتاب والتي حار المحققون في فهم المراد منها، ومن ذلك قولهم على لسان دانيال النبي: " كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام! " ( دانيال 10/2 )، فكلمة (أيام) لا معنى لها.
وقد تكرر ذكر هذه الكلمة بلا فائدة ولا معنى في سفر الملوك، وفيه: "شلّوم بن يابيش ملك في السنة التاسعة والثلاثين لعزّيا ملك يهوذا، وملك شهر أيام في السامرة" (الملوك (2) 15/3).
ومثله في الركاكة ما نسبوه إلى النبي حزقيال " فذهبتُ مراً في حرارة روحي " ( حزقيال 3/14).
ومثله ما جاء في سفر إشعيا النبي، وجزم المفسر آدم كلارك أن به سقطاً وتحريفاً، "الذين يذكرونك في طرقك، ها أنت سخطت إذ أخطانا، هي إلى الأبد فنخلص " ( إشعيا 64/5 )، وغيرها من مبهمات الكتاب.

التحريف في العهد القديم

تحدث القرآن الكريم عن تحريف التوراة في آيات كريمة منها قول الله تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون  (آل عمران: 71)، ويقول:  من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه (النساء: 46)،  وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون  (البقرة: 75).
وعن تحريفهم بالنقص يقول:  قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً  (الأنعام:91)،  إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (البقرة: 174)، ويقول:  يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب  (المائدة: 15).
وعن تحريفهم بالزيادة والكذب على الله يقول:  فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (البقرة: 79) وقال:  وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (آل عمران: 78).
فالتحريف إذاً يكون بالنقص والزيادة، وكل ذلك وقع في التوراة كما سنرى.
وقبل أن نلج لعرض بعض صور التحريف يستوقفنا سؤال يطرحه النصارى دائماً : هل من الممكن أن يحرِّف أحد كلام الله؟ وكيف أذن الله بهذا التحريف؟
ونقول: الكتاب المقدس يتحدث عن إمكانية تحريفه، ويذكر لنا -كما سيمر معنا شهادة الأنبياء على تحريفه -، فلو كان الكتاب غير ممكن التحريف لما كان أي معنى أو فائدة لآخر فقرة وردت فيه "لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب، إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة " (الرؤيا 22/18-19)، فهذه الفقرة تحذر من تحريف الكتاب، وتتوعد فاعله، فدل ذلك على أنه ممكن الحدوث.
ويتنبأ النبي عاموس بفقد كلمة الرب، فيقول: "هوذا أيام تأتي، يقول السيد الرب: أرسل جوعاً في الأرض، لا جوعاً للخبز، ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمات الرب، فيجولون من بحر إلى بحر، ومن الشمال إلى المشرق، يتطوّحون ليطلبوا كلمة الرب، فلا يجدونها " (عاموس 8/11- 12)، فالنص - كما ترى - نبوءة عن فقد الكتاب، وذاك وعيد لمن يحرف الكتاب بزيادة أسفار الأبوكريفا السبعة في الكتاب أو حذفها وإسقاطها منه، أو غير ذلك من صور التحريف.
وأما قول قائلهم: كيف يسمح الله بحدوث ذلك؟ فإن القائل نسي سنة الله في الكافرين والمارقين، وقد أذن لهم - وفق مشيئته وقدره - بسبّه والكفر به وعصيان أوامره، ومثله تحريف كتابه الذي أمر بني إسرائيل بحفظه، فأضاعوه وحرفوه، كما صنعوا بكل شرائعه، وكما ولغوا في دماء أنبيائه وفق قدر الله ومشيئته.

تحريف النقص
ومن صور التحريف بالنقص تلك الإحالات الإنجيلية إلى التوراة والتي لا نجدها في الأسفار الموجودة بين أيدينا، ومن ذلك ما جاء في متى " ثم أتى وسكن في بلد تسمى ناصرة، ليكمل قول الأنبياء : أنه سيدعى ناصرياً " ( متى 2/23 ).
ولا يوجد ذلك في شيء من التوراة. قال ممفرد الكاثوليكي في كتابه " سؤالات السؤال " : "الكتب التي كان فيها هذا انمحت، لأن كتب الأنبياء الموجودة الآن لا يوجد في واحد منها أن عيسى يدعى ناصرياً ".( )
ومن صور النقص ما شهد المسيح بضياعه حين قال: "أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء" (متى 12/5)، ولا يوجد مثله في كلام التوراة، فدل ذلك على ضياعه وفقده.
ونحوه في قوله: "من آمن بي - كما قال الكتاب - تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يوحنا 7/37)، وهذه الإحالة مفقودة من الكتاب.
ومما نفقده في سفر المراثي أخبار رثاء الملك يوشيا، فقد ذكر كاتب سفر الأيام الثاني أنه موجود فيه فقال: "ورثى إرميا يوشيا، وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة على إسرائيل، وها هي مكتوبة في المراثي" (الأيام (2) 35/25).
وهذا الموضوع لم يتطرق إليه سفر المراثي أبداً بشهادة الآباء اليسوعيين الذين كتبوا في حاشيته: "سفر المراثي المنسوب إلى هذا النبي (إرميا) لا يحتوي على شيء يتعلق على وجه خاص بهذا الملك، إن هذا النص الذي يستند محرر الأخبار إليه مفقود".( )
ومن صور النقص ما جاء في سفر التثنية "فإن كان المذنب مستوجب الضرب يطرحه القاضي ويجلدونه أمامه، على قدر ذنبه، بالعدد أربعين يجلده، لا يزد لئلا إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة يحتقر أخوك في عينيك، (بياض)، لا تَكُمَّ الثور في دراسه( )، (ثم ينتقل النص إلى موضوع آخر) إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم...." (التثنية 25/2-5)، فثمة نقص واضح في المعنى استعاض ناسخو الكتاب عنه بترك بياض، للدلالة على وجود سقط في النص، ولا علاقة بين مثل كم الثور وما قبله من حديث عن العدل في عقوبة المذنب.
ومن السقط أيضاً خاتمة الإصحاح الثاني من سفر الخروج، الذي ينتهي بصورة فجائية، عند قوله: "ونظر الله بني إسرائيل، وعلِم اللهُ" (الخروج 2/ 25)، وقد أشار محققو نسخة الرهبانية اليسوعية إلى أن الإصحاح مبتور.
ومن النقص ما تضع بعض التراجم والنسخ نجوماً بدلاً منه، منها النسخة العربية لدار الكتاب المقدس التي اعتمدناها في هذه السلسلة.
ففي سفر صموئيل نقص بيان جزاء بني إسرائيل إن استقاموا على عبادة الله، ففيه أن صموئيل قال: "إن اتقيتم الرب وعبدتموه وسمعتم صوته، ولم تعصوا قول الرب، وكنتم أنتم والملك أيضاً الذي يملك عليكم وراء الرب إلهكم ***** [هكذا في المطبوع]، وإن لم تسمعوا صوت الرب بل عصيتم قول الرب تكن يد الرب عليكم" (صموئيل (1) 12/14-15).
وتتكرر النجوم مرة أخرى في سفر صموئيل الثاني مشيرة إلى وجود سقط في تمام حديث داود عن العرج والعمي، فيقول السفر: "قال داود في ذلك اليوم: إن الذي يضرب اليبوسيين ويبلغ إلى القناة والعرج والعمي المبغضين من نفس داود ***** [هكذا في المطبوع] لذلك يقولون: لا يدخل البيت أعمى أو أعرج" (صموئيل (2) 5/8).
ونحوه سقط بعض النص في سفر حزقيال في وصف الزانية وبيان حالها، واستعيض عنه بالنجوم "فقلت عن البالية في الزنا: الآن يزنون زنى معها، وهي*** [هكذا في المطبوع]، فدخلوا عليها كما يُدخَل على امرأة زانية" (حزقيال 23/43).
ومثله وقع النقص في رسالة ملك أرام إلى ملك إسرائيل "فأتى بالكتاب إلى ملك إسرائيل يقول فيه ****** ، فالآن عند وصول هذا الكتاب إليك، هوذا قد أرسلت إليك نعمان عبدي، فاشفه من برصه" (الملوك (2) 5/6).
كما وقع النص في رسالة أخرى، وهي رسالة ياهو، حيث جاء في سفر الملوك "فكتب ياهو رسائل وأرسلها إلى السامرة، إلى رؤساء يزرعيل الشيوخ وإلى مربّي آخآب قائلاً: ******، فالآن عند وصول هذه الرسالة إليكم " (الملوك (2) 10/1-2).
وفي سفر الأيام الأول يفجؤنا نقص آخر عوضه كتبة الكتاب المقدس بنجوم أثبتوا من خلالها ضياع بعض كلمات الناموس، إذ يقول: "وبنو عزرة يثر ومرد وعافر ويالون ******، وحبلت بمريم وشماي ويشبح أبي اشتموع" (الأيام (1) 4/17)، فيا ترى كم سقط من أبناء عزرة، ومن هم الذين تحدث عنهم النص قبل أن يعود لتلك التي سقط اسمها، والتي حبلت بمريم؟
وقد تنبه الآباء اليسوعيون ومحررو الترجمة العربية المشتركة للنقص، فأكملوه من عندياتهم، وأراحوا القراء من عناء الإجابة عن سؤالنا، فالنص عندهم: " وبنو عزرة: ياتر ومارد وعافر ودالون، واتخذ مارد بتية، فحبلت بمريم وشماي ويشباح"، إنهم يكملون عن الروح القدس والأنبياء ما فاتهم أن يسجلوه، أو بالأحرى يستكملون ما ضاع من أسفارهم!!
كما وقع النقص في خاتمة الإصحاح السادس من سفر زكريا، ولم يجد طابعو الكتاب المقدس ما يكملون به الجملة إلا أربعة من النجوم ختموا بها هذا الإصحاح "والبعيدون يأتون ويبنون في هيكل الرب، فتعلمون أن رب الجنود أرسلني إليكم، ويكون إذا سمعتم سمعاً صوت الرب إلهكم ****" (زكريا 6/15).
وفي أحيان أخرى وضع طابعو الكتاب المقدس (--) للدلالة على وجود سقط في النص، ومن صوره "هذه أيضاً للحكماء--- محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة" (الأمثال 24/23)، ونحوه في سفر إرمياء "في الأنبياء-- انسحق قلبي في وسطي، ارتخت كل عظامي" (إرمياء 23/9)، ومثله في نشيد الإنشاد "وحنكك كأجود الخمر-- لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين" (نشيد 7/9).
ومن النقص في الأسفار ضياع اسم الكاهن الذي كان لعشيرة منيامين، فقد سها عنه كاتب سفر نحميا حين قال: "ولأبيا زكري، ولمنيامين، لموعديا فلطاي" (نحميا 12/17)، وعلقت الترجمة العربية المشتركة بقولها: "لا يورد النص العبري اسم الكاهن في عشيرة منيامين"، وأما الآباء اليسوعيون، فوضعوا نقطاً بدلاً عن الاسم المفقود.
وينسب سفر طوبيا (من أسفار الأبوكريفا) إلى توراة موسى ما ليس فيها، فقد أمر ملاك الرب طوبيا بخطبة سارة بنت رعوئيل، وقال له مطمئناً: "فأنا أعلم أن رعوئيل لا يقدر أن يزوجها لأحد سواك حسب شريعة موسى، لأنه يعاقب بالموت، لأنك أحق الناس بها" (طوبيا 6/13)، وهذا الحكم غير موجود في شريعة موسى، لذا علق محققو الترجمة العربية المشتركة على هذا النص بقولهم: "لا نجد في شريعة موسى عقاب الموت في هذه الحالة".
إن هذه المواضع الضائعة من أسفار العهد القديم لم تنجح في استدراكها آلاف المخطوطات التي يتباهى بكثرتها النصارى، فهي على كثرتها لم تكن كافية في إبلاغنا النصوص التوراتية بتمامها، ولرؤية المزيد مما استعاض عنه طابعو الكتاب المقدس بالنجوم تارة وبترك بياض تارة أخرى ندعو للتأمل في (الأيام (2) 36/23)، و(عزرا 1/3)، و(عزرا 6/5-6)، (المزمور 137/5) وغيرها من المواطن.

ومن صور التحريف بالنقص تلك الأسفار الضائعة
ويمتد السقط والضياع في الأسفار التوراتية ليشمل أسفاراً توراتية ضاعت واندرس خبرها ، وشهد لضياعها أسفار العهد القديم الموجودة في الكتاب المقدس.
منها : سفر حروب الرب المذكور في سفر العدد ، حيث يقول: "لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفة وأودية أرنون" ( العدد 21/14 ).
وكذا فُقِد سفر ياشر، فقد قال يشوع النبي: " أليس هذا مكتوباً في سفر ياشر: فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" ( يشوع 10/13 )، وفي موضع آخر: "أن يتعلم بنو يهوذا نشيد القوس، هوذا ذلك مكتوب في سفر ياشر" (صموئيل (2) 1/18).
وكذا يَرثي المحققون ويألمون لضياع سفر أخبار صموئيل الرائي، وسفر أخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي الذين ذكروا في سفر الأيام، حيث يقول: "وأمور داود الملك الأولى والأخيرة هي مكتوبة في أخبار صموئيل الرائي وأخبار ناثان النبي وأخبار جاد الرائي" ( الأيام (1) 29/29).
ومن الأسفار الضائعة سفر أخبار شمعيا النبي، وسفر عدوَ الرائي المذكوران في سفر الأيام "أمور رحبعام الأولى والأخيرة، أما هي مكتوبة في أخبار شمعيا النبي وعِدّو الرائي " ( الأيام (2) 12/15).
ومن الضائع أيضاً سفر أخبار النبي أخيا الشيلوني " هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي وفي نبوّة أخيا الشيلوني وفي رؤى يعْدو الرائي " ( الأيام (2) 9/29 ).
ومنها أيضاً سفر ينسب للنبي إشعيا ذكره كاتب سفر الأيام حين قال: "وبقية أمور عزيا الأولى والأخيرة كتبها إشعيا بن آموص النبي" (الأيام (2) 26/22)، ومن المعلوم أن سفر إشعيا الحالي لم يتحدث مطلقاً عن الملك عزيا، فإما أنه سقط منه ، أو أن الإحالة إلى سفر آخر كتبه النبي إشعيا، وضاع فيما ضاع من أسفار التوراة.
يقول آدم كلارك: " حصل لقلوب العلماء قلق عظيم لأجل فقدان تاريخ المخلوقات فقداناً أبدياً".
ومقصوده ما جاء في سفر الملوك عن سليمان: " وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك" (الملوك (1) 4/32 - 33)، فأين هذا السفر؟
يقول طامس أنكلس الكاثوليكي: " اتفاق العالم على أن الكتب المفقودة من الكتب المقدسة ليست بأقل من عشرين ". ( )
ومن الأسفار التي نفتقدها في العهد القديم سفر أخنوخ الذي استشهد به يهوذا في رسالته، وكان سبباً في تأخر الاعتراف برسالته ( ) ، قال: "وتنبأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار" (يهوذا 1/14).
وهذا السفر موجود بالفعل، واقتباس يهوذا منه موجود في (أخنوخ 1/9) كما نقل محررو قاموس الكتاب المقدس، لكن آباء الكنائس النصرانية اعتبروه سفراً مزيفاً غير قانوني، ولم يشفع له استشهاد يهوذا والآباء الأوائل للكنيسة به، يقول محررو قاموس الكتاب المقدس عن هذا السفر: "سفر من الأسفار غير القانونية .. والكتاب مليء بأخبار الرؤى عن المسيّا المنتظر والدينونة الأخيرة وملكوت المجد .. وقد اقتبس بعض الآباء الأوائل في العصور المسيحية الأولى بعض أقوال هذا السفر .. ولكن قادة المسيحيين فيما بعد أنكروا هذا الكتاب ورفضوه.." ( )

التحريف بالزيادة
ومن التحريف الذي تعرضت له الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى تحريف الزيادة، وهو باب كبير يشمل تلك المواضع المشينة التي أضيفت في الأسفار، ونسبت إلى الأنبياء، وكما يشمل ما تضمنته الأسفار من معلومات تاريخية ومسميات ظهرت بعدهم، كما سبق بيانه، ومنه تلك الأخبار الملفقة والمكذوبة عن الله ورسله مما ذكرناه قبلُ.
ومن صور تحريف الزيادة ذكر كاتب سفر التكوين اسم إسحاق في سياق قصة الذبيح، بدلاً من إسماعيل، فقد أمر الله إبراهيم بذبح ابنه الوحيد " خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق " (التكوين 22/2).
وكانت التوراة قد صرحت بأن إسماعيل أكبر أبناء إبراهيم، وأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة "كان أبرام ابن ستٍّ وثمانين سنةً لمّا ولدت هاجر إسماعيل لأبرام" (التكوين 16/16)، فيما ولد إسحاق بعده بأربعة عشر عاماً "وكان إبراهيم ابن مائة سنةٍ حين ولد له إسحاق ابنه" (التكوين 21/5).
لكن النصارى يزعمون أن إسماعيل لا يصلح أن يحسب ابناً لإبراهيم، لأنه ابن جارية، ويتناسون أنه ابن شرعي حقيقي، كما في التوراة نفسها "فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها لأبرام رجلها زوجةً له. فدخل على هاجر فحبلت.." (التكوين 16/31-4).
وفي موضع آخر من السفر يقول: " ولدت هاجر لأبرام ابناً. ودعا أبرام اسم ابنه الّذي ولدته هاجر: إسماعيل" (التكوين 16/15-16).
وعندما غارت سارة من هاجر "قالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها، لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جدّاً في عيني إبراهيم لسبب ابنه (أي إسماعيل). فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك" (التكوين 21/10-12).
ويثبت له الكتاب البنوة مرة أخرى، فيقول: "ودفنه إسحق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة" (التكوين 25/7).
والعجيب أن التوراة لم تقل أبداً أن إسماعيل ابن غير شرعي لإبراهيم، فهذه سارة امرأة إبراهيم أيقنت أنها لن تنجب لإبراهيم نسلاً، فآثرت أن تزوجه بهاجر: "ادخل على جاريتي لعلّي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراي" (التكوين 16/1-4)، "فولدت هاجر لأبرام ابناً. ودعا أبرام اسم ابنه الّذي ولدته هاجر إسماعيل" (التكوين 16/15-16).
ثم كيف يدعي المؤمنون بالكتاب المقدس أن الله أمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد وعده الله أن يريه ذرية ونسلاً من إسحاق ، وهو لم يولد بعد، فإبراهيم يعلم أن ابنه إسحاق لن يموت ولن يذبح، لأنه سيكبر، وستكون له ذرية كما وعده الله "في كلّ ما تقول لك سارة اسمع لقولها، لأنّه بإسحاق يدعى لك نسلٌ" (التكوين 21/12-13).
فقوله: " خذ ابنك وحيدك " حق، وكلمة " إسحاق " زيادة ولبسٌ للحق بالباطل.
ويشهد للتبديل قوله: " لم تمسك ابنك وحيدك عني " ( التكوين 22/12، 16 )، ولم يذكر فيه اسم إسحاق.
ومن التحريف أيضاً استبدال المترجمين كلمة الوحيد بالمفضل في بعض التراجم، وهو تحريف ولا ريب لأن النص العبراي استخدم كلمة (يخيداخا) ومعناها: الوحيد، وليس المفضل.

تحريف المترجمين
ولمترجمي الكتاب المقدس نصيبهم من التحريف الذي أضحى سمة لكل أولئك المؤتمنين على الكتاب المقدس، حيث يتلاعب هؤلاء بالنصوص، وهم يقومون بترجمتها، من صور هذا النوع من التحريف الصور التي نعرضها والتي توضح مقدار الحرية التي تعامل بها المترجمون مع النصوص التوراتية، إذ النص العربي يذكر اشتقاقات عربية لا يصح أن تكون في كتاب أصل لغته العبرية. ومن ذلك:
يقول سفر التكوين: " وولدت له قايين، وقالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب " ( التكوين 4/1)، فكلمة " قايين" كما في قاموس الكتاب المقدس معناها: " حداد "( ) ، فالمناسبة معدومة بين الاقتناء أو الشراء، واسم قايين الذي يعني: حداد.
ومثله قوله: " دعي اسمها بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض " ( التكوين 11/9 ). وكلمة بابل في اللغة الآكادية " باب ايلو " بمعنى : " باب الرب " كما في قاموس الكتاب المقدس( ) ، وعليه فليس من مناسبة بين اسم بابل والبلبلة التي تذكرها التوراة، فالمناسبة التي يزعمها الكاتب غير متحققة.
ومثله حاول كاتب سفر الخروج إيجاد علاقة بين اسم موسى وانتشال ابنة فرعون له من الماء، فقال: " ولما كبر الولد جاءت به [أخته] إلى ابنة فرعون فصار لها ابناً، ودعت اسمه: موسى. وقالت: "إني انتشلته من الماء" (الخروج 2/10)، فزعم أن المرأة المصرية - التي لا تعرف العبرانية - سمته بموسى؛ لأنها انتشلته من الماء، وأنها اشتقت اسمه من الكلمة العبرانية (مشا) أي (انتشل).
وهذا الزعم بعبرانية اسم موسى يتشكك به الآباء اليسوعيون في تعليقهم على النص، إذ يقولون: "إن ابنة فرعون لا تتكلم العبرية، في الواقع هذا اسم مصري يعرف بصيغته المختصرة موزس"، ومعناه: ولد أو ابن.
وأما محققو الترجمة العربية المشتركة فيعلقون: "موسى: اسم من أصل مصري، ولكن الكاتب وجد له اشتقاقاً خاصاً به".
ومن صور التحريف الهامة ما صنعه المترجمون المسيحيون للمزمور الثاني والعشرين ليكون نبوءة مزعومة عن المسيح الذي مات على الصليب وقد ثقبت يداه ورجلاه، يقول المزمور: "لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديّ ورجليّ" (المزمور 22/16)، وليس في النص العبراني كلمة: (כָּאֲרִוּ) ثقبوا، التي تنطق (كأرو)، بل يستخدم كلمة (כָּאֲרִי) (كأري) التي تعني كأسد، والنص بتمامه : " כִּי סְבָבוּנִי, כְּלָבִים: עֲדַת מְרֵעִים, הִקִּיפוּנִי; כָּאֲרִי, יָדַי וְרַגְלָי".
وقد اعترفت نسخة الرهبانية اليسوعية بالتحريف، وذكرت أن النص المحرف "بحسب الترجمة اللاتينية الشائعة، والكلمة العبرية تعني: (كالأسد)، وهي غامضة"، وهكذا فلغموض كلمة الأسد تلاعبوا بالنص وحوروه إلى "ثقبوا يديّ ورجليّ".
ومن الصور التي أبقاها المترجمون على حالها، فكان فعلهم صحيحاً خالياً من التحريف، قوله: "وقال لابان : هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم، لذلك دعي اسمها جلعيد " ( التكوين 31/48).
وكلمة جلعيد كما يفيد قاموس الكتاب المقدس كلمة عبرانية معناها: " رجمة الشهادة ".
الكتب تتهم بني إسرائيل بالتحريف
ثم ها هي أسفار العهد القديم تتهم القوم بتحريف التوراة، فحين كان بنو إسرائيل في بابل بدأ عزرا الكاتب في كتابة الأسفار الضائعة، والتي غابت عن بني إسرائيل طويلاً ، لكن النبي إرميا ، - وهو أحد أعظم أنبياء ما قبل السبي - نعى كثيراً على أولئك الأنبياء الكذبة الذين سُبوا إلى بابل ، وأخبر بانحرافهم وكذبهم على الله فيما ينسبونه إلى وحي الله، وقد وقع ذلك منه في نصوص عديدة، منها قوله: " قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبؤوا باسمي بالكذب قائلين : حلُمتُ، حلُمتُ " (إرميا 23/25 ).
ويقول: " كيف تقولون : نحن حكماء، شريعة الرب معنا حقاً، إنه إلى الكذب، حوَّلها قلم الكتبة الكاذب " ( إرميا 8/8 )، فقد حرفت كلمة الله بيد الكتبة الكذبة.
ويؤكد وقوع التحريف، ويتهدد بالعقوبة أولئك الذين مازالوا يتحدثون عن كلام الرب الذي حرفوه، فيقول: " وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟ فقل لهم: أي وحي؟ إني أرفضكم هو قول الرب، فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول: وحي الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته. هكذا تقولون، الرجل لصاحبه، والرجل لأخيه، بماذا أجاب الرب وماذا تكلم به الرب: أما وحي الرب فلا تذكروه بعد، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا" (إرمياء 23/33-36).
ومثله وقع التحريف في سفره " فأخذ إرمياء درجاً آخر، ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار، وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله " ( إرميا 36/32)، ولم يذكر السفر من الذي زاد على قول إرمياء النبي.
كما تحدث إرميا عن أولئك الذين يدعون النبوة، والرب لم يرسلهم: "قال رب الجنود إله إسرائيل : لا تغشكم أنبياؤكم الذين في وسطكم وعرافوكم، ولا تسمعوا لأحلامهم التي يتحلمونها، لأنهم يتنبؤون لكم باسمي الكذب، أنا لم أرسلهم يقول الرب " (إرميا 29/8 - 9).
ويواصل إرميا الحديث عن أولئك الذين رآهم يكتبون الكتب وينسبونها إلى الله، فيقول: "وصار في الأرض دَهَش وقشعريرة، الأنبياء يتنبؤون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب " ( إرميا 5/30 - 31 ). لقد تمالأ الجميع على هذا التحريف، الأنبياء الكذبة والكهنة والشعب اليهودي.
ويقول النبي إشعيا: " ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم في الظلمة، ويقولون : من يبصرنا، ومن يعرفنا ؟ يالتحريفكم " ( إشعيا 29/15 – 16 ).
وفي حزقيال " القائلون : وحي الرب. والرب لم يرسلهم .. وتكلمتم بعرافة كاذبة قائلين: وحي الرب، وأنا لم أتكلم " ( حزقيال 13/6 - 7 ).
وهكذا تعرض التوراة نوعين من التحريف : تحريف الكتبة الذين يدعون الوحي، وتحريف بني إسرائيل وهم يحرفون كلام الله الذي جاء على لسان أنبيائه.
لقد حصل ما توقعه موسى عليه السلام حين قال : " خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم .. لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق " ( التثنية 31/24 - 29 ).
اعترافات بوقوع التحريف
ويعترف كبار المراجع النصرانية بوقوع التحريف والزيادة المستمرة حيث تقول لجنة الكتاب المقدس البابوية في مدخلها سنة 1948م: " يوجد ازدياد تدريجي في الشرائع الموسوية سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية ".
ويقول كيرت: " الكتاب المقدس المتداول حالياً لا يحتوي على التوراة والإنجيل المنـزلين من الله، ولقد اعترف علماء باحثون باللمسات البشرية في إعداد هذا الكتاب المقدس ".
ويقول جيمس جيستنج: " ومع هذا فإننا نتوقع أن نجد خلال صفحات الكتاب المقدس بعض الأجزاء من التوراة والإنجيل الأصليين، مما يتحتم معه دراسة جادة لكي تجعل مضمون الكتاب المقدس مفهوماً".
ونختم بنقل ما قاله الناقد اليهودي الشهير اسبينوزا عن تحريف الأسفار التوراتية، حيث يقول : "لا يسلِّم معظم المفسرين بوقوع أي تحريف في النص ، حتى في الأجزاء الأخرى، ويقررون أن الله بعناية فريدة قد حفظ التوراة كلها من أي ضياع".
ويضيف: "أما اختلاف القراءات فهو في نظرهم علامة على أسرار في غاية العمق ، ويتناقشون بشأن النجوم الثمانية والعشرين الموجودة وسط إحدى الفقرات ، بل تبدو أشكال الحروف ذاتها وكأنها تحتوي على أسرار كبيرة، ولست أدري إن كان ذلك ناجماً عن اختلال العقل، وعن نوع من تقوى العجائز المخرفين، أم أنهم قالوا ذلك بدافع الغرور والخبث، حتى نعتقد أنهم وحدهم هم الأمناء على أسرار الله، ولكني أعلم فقط أني لم أجد مطلقاً أي شيء عليه سيما السر في كتبهم، ولم أجد فيها إلا أعمالاً صبيانية ".( )

تناقضات العهد القديم
التناسق الداخلي شرط لا يختلف العقلاء على لزوم اشتراطه في توثيق نسبة أي كتاب إلى الله عز وجل، فالكتاب الذي يكذِّب بعضه بعضاً، لا يمكن اعتباره كتاباً مقدساً، كما لا يمكن اعتبار بقيته مقدساً، إذ وجود الكذب في بعضه يطرح الشك في مصدره الكاذب.  أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء: 82).
ولوجود التناقضات في الكتاب المقدس دلالات كثيرة أهمها: أنه يثبت أن هذه الأسفار بشرية في مصدرها، فقد وقع كُتّابها فيما يقع فيه البشر الضعفاء الذين يتوقع منهم الجهل، ولو كانت هذه الأسفار ملهمة من قبل الله لما خالف كُتابها بعضَهم فيما أوردوه من معلومات تاريخية وغيرها.
ووقوع الخطأ من أحد المتناقضين من كُتَّاب التوراة في قضايا بسيطة يسهل حفظها والتمكن منها يشير إلى إمكانية بل تحقق وقوع مثله في المسائل اللاهوتية والغيبية التي تحتاج إلى مزيد من العناية والتدقيق.
وهذه التناقضات التي نسوقها، معظمها توصلنا إليه من خلال دراسة أجزاء تم إعادة كتابتها ثانية من قبل كتاب الأسفار، ولو كتبت بقية الأجزاء ثانية لوقفنا على تناقضات تطال كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الذي يدعي البعض أنه مقدس.
والتناقضات التوراتية كثيرة، ومنها ما هو متعلق بأصول المعتقد، ومنها ما هو متعلق بصفات الله عز وجل، فالأسفار التوراتية تصف الله بالصفة ونقيضها.
فتذكر التوراة أن الله " إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا " (إشعيا 40/28)، وهو حق ولا ريب، لكنه يناقض ما ورد في مواضع أخرى زعمت أن الله يحتاج للاستراحة التي لا غناء للمتعب عنها بعد طول العمل والعناء، فبعد أن خلق الله السماوات والأرض تزعم الأسفار - كذباً - أنه استراح، فتقول: " فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح " (التكوين 2/1)، ونحوه في سفر الخروج " في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس" (الخروج 31/17).
وتحدثنا التوراة عن الله العظيم العليم، فتذكر أنه ليس كمثل البشر وضعفهم، فهو لا يندم ولا يكذب، فتقول: " ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم، هل يقول ولا يفعل، أو يتكلم ولا يفي؟" (العدد 23/19)، فالندم صفة الإنسان الجهول بعواقب الأمور "نصيح إسرائيل لا يكذب ولا يندم، لأنه ليس إنساناً ليندم" (صموئيل (1) 15/29).
ولكن التوراة تناقض ذلك فتنسب إلى الله الندم على أمور صنعها، ومن ذلك ندمه على اختيار شاول لملك بني إسرائيل، حيث يقول: " ندمت على أني جعلت شاول ملكاً، لأنه رجع من ورائي، ولم يقم كلامي " (صموئيل (1) 15/10 )، فهل الله يندم أم لا؟.
وتذكر التوراة أن الله لا يرى " حقاً أنت إله محتجب، يا إله إسرائيل " ( إشعيا 45/15)، والإنسان لا يقدر على رؤيته، فقد قال الله لموسى: " لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش " ( الخروج 33/19 - 20).
لكن الأسفار التوراتية تذكر كثيرين رأوا الله، منهم شيوخ بني إسرائيل " لما صعد موسى وهارون وناراب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل رأوا إله إسرائيل" ( الخروج 24/9)، ومنهم يعقوب فقد رآه حين صارعه " فدعا يعقوب اسم المكان: " فينئيل " قائلاً : لأني نظرت الله وجهاً لوجه، ونجيت نفسي " ( التكوين 32/30 ).
وقد يزعم البعض أن الذين رأوا الله رأوه حال تجسده، ولم يروه على هيئته وفي صورة مجده، ويرون أن المنفي رؤيته هو الله في مجده، وهذا التفريق لا دليل عليه، وتدحضه النصوص التي تحدثت عن أناس رأوا الله في صورة مجده .
منهم إشعيا حيث يقول: "في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع، وأذياله تملأ الهيكل، السرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطي وجهه، وباثنين يغطي رجليه، وباثنين يطير .. فقلت: ويل لي، إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إليّ واحد من السرافيم، وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمي، وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع إثمك وكفر عن خطيتك" (إشعيا 6/1-7)، فقد رأى الله على عرشه وحوله الملائكة، وخاف على نفسه الموت، لأنه رأى الله الذي توعدت النصوص من يراه بالموت.
ومثله ما جاء في سفر الملوك عن رؤية النبي ميخا لله، حيث يقول: "قد رأيت الرب جالساً على كرسيه، وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره ... " (الملوك (1) 22/19). فميخا حسب النص يرى الله في السماء على كرسيه، وهو بين ملائكته، فهو ليس متجسداً ...
وموسى طلب رؤية الله في مجده، ويذكر سفر الخروج أنه رآه بالفعل، لكنه لم ير وجهه "فقال: أرني مجدك ... قال: لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وقال الرب: هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة. ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة، وأسترك بيدي حتى اجتاز. ثم ارفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى" (الخروج 33/18-23) فتفيد القصة أن وجه الله، أي الحقيقي لا يرى، ومن رآه يموت، لكن جسده الحقيقي رئي من قبل موسى، فقد مر من أمام الصخرة فرآه.
ومن تناقضات التوراة ترددها في وصف الله بالقدرة التامة تارة، وبالعجز تارة أخرى، فقد وصفه سفر طوبيا بوصف حق حين قال: "لا إله قادر على كل شيء سواه" (طوبيا 13/4)، ومثله في (أيوب 42/2).
وهذا المعتقد الصحيح تنقضه التوراة في مواطن كثيرة، نسبت إلى الله العجز كما مرّ معنا في غلبة يعقوب عليه في المصارعة ( انظر : التكوين 32/24 - 32 )، كما عجز عن طرد الكنعانيين الذين كانوا يمتلكون مركبات حديدية، إذ تقول الأسفار: "وكان الرب مع يهوذا، فملك الجبل، ولم يطرد سكان الوادي، لأن لهم مركبات من حديد " ( القضاة 1/19).
وتتحدث التوراة عن رحمة الله وحلمه، فتقول: " الرب حنان رحوم بطيء عن الغضب، وعظيم النعمة " (المزمور 145/8)، ثم تنقضه حين تذكر ما حصل مع أهل بيت شمس الذين رأوا التابوت فقتلهم جميعاً، وكانوا أكثر من خمسين ألف رجل "وضرب الرب من أهل بيت شمس، لأنهم رأوا تابوت الرب ، وضرب من الشعب سبعين رجلاً وخمسين ألف رجل" ( صموئيل (1) 6/19 ) فهل يستحق هذا الفعل هذه العقوبة ؟ والله حنان رحوم بطيء الغضب!
وأيضاً تصف التوراة بصر الله ومعرفته بما يصنعه عباده، فتقول: " عينا الرب محيطتان بكل الأرض" ( الأيام (2) 16/9)، وتؤكده في سفر الأمثال " عينا الرب في كل مكان يترقبان الصالحين والطالحين " ( الأمثال 15/3 )، وتقول: "الرب إله عليم" (صموئيل (1) 2/3).
ولكن في سفر التكوين تنقضه، فتجعله جاهلاً ببعض صنائع عباده، إذ لما اختبأ آدم في الجنة بحث عنه الإله " فدعا الربُ الإلهُ آدمَ وقال له: أين أنت؟" ( التكوين 3/9 )، ثم لم يعرف أن آدم أكل من الشجرة وصار عارفاً للخير من الشر، وأنه قد أدرك سوءة العري، فقال له: " من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟" (التكوين 3/11).
وكذا لما بدأ أهل بابل ببناء مدينتهم وبرجهم، أراد الرب – تعالى عن ذلك - أن يعرف ماذا يصنعون " فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذي كان يبتنيه بنو آدم...وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه" (التكوين 11/5-6 )، فكأنه خشي من اجتماع بني آدم وما يمكن أن ينتج عنه، فقال: "هلم ننـزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفّوا عن بنيان المدينة" (التكوين 11/7).
- ومن التناقض أيضاً تناقض الأسفار في مسألة وراثة الذنب، ففي سفر الخروج ذكر أن الرب "مفتقد إثم الآباء في الأبناء، وفي أبناء الأبناء، في الجيل الثالث والرابع " ( التثنية 34/7 ) فالأبناء يعاقبون بجريرة آبائهم. وفي سفر حزقيال كذب ذلك فقال: " الابن لا يحمل من إثم أبيه، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون" ( حزقيال 18/20 ).
- وفي سفر حزقيال ينعي الرب على بني إسرائيل أنهم تركوا شريعتهم وعملوا بشرائع الأمم المجاورة، فيقول: " أنا الرب الذي لم تسلكوا في فرائضه، ولم تعملوا بأحكامه، بل عملتم حسب أحكام الأمم الذين حولكم " ( حزقيال 11/12 )، ولكنه ينقضه السفر نفسه، حين يذكر أنهم لم يعملوا بشرائع الله ولا بشرائع الأمم الذين حولهم، فيقول: " لم تسلكوا في فرائضي، ولم تعملوا حسب أحكامي، ولا عملتم حسب أحكام الأمم التي حواليكم " ( حزقيال 5/7 )، فهل عملوا وفق أحكام الأمم المجاورة أم لم يعملوا؟
- ويتناقض الكتاب في مسألة عودة بني إسرائيل إلى مصر، ففي بعض المواضع يخبر الكتاب بأن الله توعدهم بإرجوعهم إلى أرض ذلتهم، إلى مصر فقال لهم: "لأن أفرايم كثّر مذابح للخطية؛ صارت له المذابح للخطية .. الآن يذكر إثمهم ، ويعاقب خطيتهم، إنهم إلى مصر يرجعون" (هوشع 8/11-13)، ويؤكد على هذه العقوبة في الإصحاح التالي بقوله: "لا يسكنون في أرض الرب، بل يرجع أفرايم إلى مصر، ويأكلون النجس في أشور" (هوشع 9/3).
لكن الكتاب في موضع آخر من نفس السفر يذكر الكتاب أن بني إسرائيل ارتدوا عن عبادة الله وعبدوا البعليم رغم إنعام الرب عليهم وعلى سبط أفرايم خصوصاً، ولذلك عاقبهم بقوله: "وأنا درّجت أفرايم ممسكاً إياهم بأذرعهم ، فلم يعرفوا أني شفيتهم .. لا يرجع إلى أرض مصر، بل أشور هو ملكه، لأنهم أبوا أن يرجعوا، يثور السيف في مدنهم، ويتلف عصيّها، ويأكلهم من أجل آرائهم" (هوشع 11/5-6)، فعقوبتهم – حسب هذه الفقرة - هي عدم إرجاعهم إلى مصر خلافاً للنصين السابقين، لذا يثور السؤال: أيهما هو العقوبة الحقيقية التي توعد الله بها بني إسرائيل؟ العودة إلى مصر أم الحرمان منها؟
- ومن التناقضات الغريبة ما ورد في آخر سفر صموئيل الأول وأول سفر صموئيل الثاني، حيث يتحدث السفران عن نهايتين مختلفتين للملك شاول، فيقول السفر الأول بموته منتحراً بسيفه، فقد جاء فيه: "فقال شاول لحامل سلاحه: استل سيفك واطعنّي به، لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني، فلم يشأ حامل سلاحه، لأنه خاف جداً، فأخذ شاول السيف، وسقط عليه، ولما رأى حامل سلاحه أنه قد مات شاول، سقط هو أيضاً على سيفه ومات معه" (صموئيل (1)31/4-5).
ولكن لو ألقى القارئ ببصره إلى الصفحة التالية فإنه واجد أن شاول مات بيد رجل من العماليق وأن داود قتله انتقاماً لشاول مسيح الرب، حيث يقول السفر الثاني: "فقال الغلام الذي أخبره: اتفق أني كنت في جبل جلبوع، وإذا شاول يتوكأ على رمحه، وإذا بالمركبات والفرسان يشدّون وراءه، فالتفت إلى ورائه، فرآني، ودعاني فقلت: ها أنذا، فقال لي: من أنت؟ فقلت له: عماليقي أنا. فقال لي: قف عليّ واقتلني، لأنه قد اعتراني الدوار، لأن كل نفسي بعد فيّ. فوقفت عليه، وقتلته، لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه، وأخذت الإكليل الذي على رأسه والسوار الذي على ذراعه، وأتيت بهما إلى سيدي ههنا" (صموئيل (2) 1/6-10)، فهل قتل شاول نفسه أم قتله الرجل العماليقي؟ وما سبب ورود الطريقتين معاً في الكتاب؟
يجيب محققو الرهبانية اليسوعية: "تقليد آخر في موت شاول .. وهي مزيج من عناصر مختلفة".
- وأياً كانت طريقة موت شاول فإن الله قتله نتيجة لأخطائه، والتي منها أنه لجأ إلى العرّافة ولم يسأل الله "فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب، من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه، وأيضاً لأجل طلبه إلى الجان للسؤال، ولم يسأل من الرب، فأماته" (الأيام (1) 10/13).
لكن سفر صموئيل يبرئ ساحة شاول من أحد هذه الآثام، فقد سأل شاولُ اللهَ قبل أن يلجأ للعرافة يقول السفر: " فسأل شاول من الرب، فلم يجبه الرب، لا بالأحلام ولا بالأوريم ولا بالأنبياء، فقال شاول لعبيده: فتشوا لي على امرأة صاحبة جان " (صموئيل (1) 28/6-7)، فأي السفرين يصدق القارئ الكريم؟ هل سأل شاول الله أم لم يسأله قبل أن يسأل العرافة؟
- وليس خبر موت شاول بأعجب من خبر موت جليات الجتي الفلسطيني، فقد أماته الكتاب المقدس مرتين : أولاهما في أيام شاول على يد داود كما في سفر صموئيل الأول " وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز، اسمه جليات الفلسطيني، من جتّ صاعد من صفوف الفلسطينيين " ثم يمضي السفر فيبين كيف قتله داود عليه السلام " فركض داود، ووقف على الفلسطيني، وأخذ سيفه، واخترطه من غمده، وقتله، وقطع به رأسه، فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات، هربوا " (صموئيل (1) 17/23-51 ).
أما سفر صموئيل الثاني فيذكر أن الذي قتل جليات هو ألحانان بن يعري، وذلك زمن حكم داود " ثم كانت أيضاً حرب في جوب مع الفلسطينيين، فألحانان بن يعري أرجيم البيت لحمي قتل جليات الجتّي " (صموئيل (2) 21/19)، فأيهما قَتل جليات، داود أم ألحانان؟
يحاول كاتب سفر الأيام حل هذه المعضلة، فيقول : " وكانت أيضاً حرب مع الفلسطينيين، فقتل ألحانان بن ياعور لحمي أخا جليات الجتّي" (الأيام (1) 20/5)، فالمقتول على يد داود هو جليات، والمقتول على يد ألحانان هو أخوه، وما جاء في صموئيل الثاني خطأ غير مقصود، وسببه كما نقل القس صموئيل عن بعض العلماء أنه "حدث هذا الخلط عند إعادة كتابة سفر صموئيل للتشابه في العبرية بين كلمة (אֵת)، وهي أداة المفعول به، والكلمة (אֲחִי) التي تعني أخا، وبهذا يكون الحانان قتل أخا جليات الفلسطيني الذي قتله داود".( )
ويوافق على الإقرار بهذا الخطأ القس منيس عبد النور، ومحققو الترجمة العربية المشتركة الذين أصلحوا الخلل، وزادوا كلمة (أخا) في سفر صموئيل، ليغدو النص عندهم: " فقتل ألحانان بن يائير الذي من بيت لحم أخا جليات الجتي"، فلهم من قراء الكتاب المقدس الكثير من الشكر على هذا التصحيح الذي تأخر عشرين قرناً، ونرجو منهم تنبيه بقية طابعي نسخ الكتاب المقدس ليقوموا بمثل هذا التصحيح في نسخهم وتراجمهم العالمية التي ما تزال تضل قراءها وتذكر لهم أن جليات قتل مرتين.!
لكن علماء الكتاب المقدس لن يرضيهم مثل هذا الحل على بساطته، فلجؤوا إلى حلول متناقضة زادت المسالة تعقيداً، تنقلها إلينا موسوعة دائرة المعارف الكتابية، فتقول: " وهناك جملة افتراضات لحل هذه المسألة:
• افتراض وجود جبارين باسم جليات ، أحدهما قتله داود ، والثاني قتله ألحانان .
• أو افتراض أن "جليات" كان لقباً لطائفة من الجبابرة.
• الزعم بأن كلمة "أخ" سقطت من سفر صموئيل .
• الزعم بأن كاتب سفر الأخبار أضاف كلمة "أخ" لحل المشكلة.
• يزعم ايوالد وكنيدي أن القصة كانت أصلاً عن ألحانان، ثم نسبت إلى داود ، أما من قتله داود فجبار مجهول الاسم [وإليه يميل محققو الرهبانية اليسوعية، وأن اسم جوليات قد أضيف على سفر صموئيل].
• ذكر جيروم والترجوم العبري – بناء على تقليد قديم – أن داود وألحانان اسمان لشخص واحد". ( )
وهكذا تختلف الحلول وتتضارب، إلا أنها - على كل حال - تتفق في الشهادة على أن هذا التناقض ليس من كلام الله.
وقبل أن نغادر خبر مقتل جليات، فإنه يلزمنا أن ننبه إلى خطأ تاريخي وقع به كاتب سفر صموئيل حين قال: "أخذ داود رأس الفلسطيني، وأتى به إلى أورشليم، ووضع أدواته في خيمته" (صموئيل (1) 17/54)، إذ أن أورشليم لم تكن من مدن اليهود زمن قتل جليات، وقد كان الملك شاول حينذاك مقيماً في جبعة شاول (انظر صموئيل (1) 14/2)، ثم افتتح داود أورشليم في السنة الثامنة من ملكه، وجعلها عاصمة لملكه (انظر صموئيل (2) 5/5-7)، وهكذا فإن من الخطأ البيِّن ذكر السفر ذهاب داود إلى أورشليم عاصمة اليبوسيين حينذاك، وقد أقر بهذا الغلط الآباء اليسوعيون فقالوا: "هذه الآية إضافة، إذ لم تفتح أورشليم إلا في وقت لاحق".
- وتناقض الكتاب في مسألة قتل شاول وجليات لن يكون أشد غرابة مما جاء به سفر الأمثال، إذ يوصي في فقرة واحدة بوصيتين متناقضتين، في أولاهما يدعو لعدم مقابلة الجاهل حسب حماقته، ثم يعود ليدعو إلى مقابلة الجاهل حسب حماقته، ليترك للقارئ دهشاً لا يدري بأي الوصيتين يعمل، يقول السفر: " لا تجاوب الجاهل حسب حماقته، لئلا تعدله أنت، جاوب الجاهل حسب حماقته لئلا يكون حكيماً في عيني نفسه" (الأمثال 26/4-5)، فكيف يقابل أولئك الذين يهتدون بهدي الكتاب حماقة الجاهل؟
- ومن التناقضات التي وقع فيها كُتَّاب التوراة أنه جاء في سفر الملوك أن الله وعد داود فقال: "ويكون لداود ونسله وبيته وكرسيه سلام إلى الأبد" ( الملوك (1) 2/33).
لكن في سفر صموئيل ما ينقض ذلك تماماً، فقد قال له الله: " والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني، وأخذت امرأة أوريا الحثي" ( صموئيل (2) 12/10)، فهل وُعِد بالسيف الأبدي أم بالسلام الأبدي، فالسيف والسلام ضدان لا يجتمعان.
- ومن التناقضات أنه جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس أن البهائم التي نجت مع نوح اثنين اثنين، من كل ما يدب على الأرض "فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حيّ من كل ذي جسد اثنين، من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى، من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها.اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها" (التكوين 6/20-21).
ثم نقض ذلك في الإصحاح السابع فقال: " وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك ... من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة، ذكراً وأنثى .. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكراً وأنثى، لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض" (التكوين 7/2-3)، فما هو الذي أمر بحمله نوح من طيور السماء، هل أمر بحمل زوجين، أم سبع أزواج؟!
ومن تناقضات العهد القديم التناقض في وصف أشياء محسوسة محددة، أو أخبار تاريخية معينة ذكرت في أكثر من موضع في أسفار التوراة، ولم يتنبه الكتبة الملهمون إلى تناقضهم مع نصوص سابقة:
- ومنه أنه جاء في سفر الأيام وصف دقيق للمذبح النحاسي الذي صنعه سليمان، ومما جاء في وصفه أنه " يسع ثلاثة آلاف بث " ( الأيام (2) 4/5 ).
وكان سفر الملوك قد أورد وصفاً دقيقاً للمذبح يتطابق مع ما جاء في سفر الأيام غير أن سعة المذبح تختلف بنسبة 33% إذ جاء فيه " يسع ألفي بث " ( الملوك (1) 7/26 ). فهل نسي الروح القدس ما كان أملاه أم ماذا سبب هذا التفاوت بين الرقمين؟
- ويذكر سفر الملوك أن لسليمان أربعين ألف إصطبل لخيوله، فيقول: "وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس " (الملوك (1) 4/26 ).
وهذا الرقم كبير جداً، خاصة مع صغر أورشليم زمن سليمان عليه السلام، وهو على كل حال مناقض لما جاء في سفر الأيام، وفيه " كان لسليمان أربعة ألاف مذود خيل ومركبات، واثنا عشر ألف فارس " ( الأيام (2) 9/25 ).
ويحاول القس استانلي شوبرج كبير قساوسة السويد إزالة هذا التناقض في مناظرته مع العلامة ديدات، فيقول في محاولة يائسة منه تدعو للضحك: " إن هذا يبرهن على بركة الله، في البداية كان عند سليمان أربعة آلاف مذود، زادت إلى أربعين ألف مذود بانتهاء العام ".( )
- وتتحدث الأسفار عن غنائم داود التي غنمها من ملك صوبة، فيقول سفر صموئيل: "وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات، فأخذ داود منه ألفاً وسبع مائة فارس، وعشرين ألف راجل، وعرقب داود جميع خيل المركبات، وأبقى منها مائة مركبة" (صموئيل (2) 8/3-4)، فقد أخذ منه 1700 فارس، سوى ما أخذه من راجلته.
وهذه الأرقام لا تتفق مع الأرقام التي ذكرها سفر الأيام، حين جعل الفرسان المأسورين 7000 فارس، عدا ما أخذه من راجلته، فقال: "وضرب داودُ هدر عزر ملك صوبة في حماة حين ذهب ليقيم سلطته عند نهر الفرات، وأخذ داود منه ألف مركبة وسبعة آلاف فارس، وعشرين ألف راجل، وعرقب داود كل خيل المركبات، وأبقى منها مائة مركبة" (الأيام (1) 18/3-4).
ويتحدث السفران عن حاشية داود بعد تملكه على جميع إسرائيل، فيتفقان في مجمل الأسماء ويختلفان في اسمين، فيقول كاتب سفر صموئيل: "وصادوق بن أخيطوب وأخيمالك بن أبياثار كاهنين، وسرايا كاتباً" (صموئيل (2) 8/17)، في حين أن كاتب سفر الأيام يستبدل اسمين (أخيمالك الكاهن بأبيمالك، وسرايا الكاتب بشوشا الكاتب)، فيقول: "وصادوق بن أخيطوب وأبيمالك بن أبياثار كاهنين ، وشوشا كاتباً" (الأيام (1) 18/16). ( )
كما نلحظ بين السفرين جملة من الاختلافات التي ترجع إلى اختلاف النساخ، ومنها اسم ملك حماة (هدد عزر – هدر عزر)، واسم مدينتيه (باطح وبيروثاي – طبحة وخون)، وتحديد جنس القتلى الثمانية عشر ألفاً (أرام - أدوم).
- ويقص سفر صموئيل عن حرب أرام مع بني إسرائيل، فيقول: " وقتل داود من أرام سبعمائة مركبة، وأربعين ألف فارس " ( صموئيل (2) 10/18 ).
ثم أعادت الأسفار ذكر حرب إسرائيل مع أرام فقال كاتب سفر الأيام: " وهرب أرام من أمام إسرائيل، وقتل داود من أرام سبعة آلاف مركبة وأربعين ألف راجل " (الأيام (1) 19/18 ).
وبين السفرين تناقض واضح في نقطتين :
الأولى : كم عدد المراكب التي قتلها جيش إسرائيل هل 700 أم 7000، ولم يوضح لنا السفر كيف تقتل المراكب ؟ ولعله أراد من فيها.
الثانية : هل كان القتلى من الفرسان أم المشاة ؟ فكيف لم يفرق الملهِم بين الفرسان والمشاة ؟
- ويتحدث سفر صموئيل عن أن داود قد أمره الرب بإحصاء بني إسرائيل، فيقول: " عاد فحمي غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلاً: امض وأحصِ إسرائيل ويهوذا "، ففعل داود " فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك، فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف (800 ألف)، ورجال يهوذا خمسمائة ألف رجل " (500 ألف).
ثم إن داود ندم على إحصائه بني إسرائيل، وقال للرب: " لقد أخطأت جداً في ما فعلت، والآن يا رب أزل إثم عبدك "، وهذا الندم عجيب، إذ هو قد امتثل لأمر الله ، وصنع تماماً كما أمره.
ثم أمر اللهُ النبيَّ جاد أن يبلغ داودَ عقوبةَ الله له، فالله يخيره بين أمور " أتأتي عليك سبع سني جوع في أرضك ؟ أم تهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائك وهم يتبعونك ؟ أم يكون ثلاثة أيام وباء في أرضك ؟ فالآن اعرف، وانظر ماذا أرد جواباً على مرسلي " ( صموئيل (2) 24/1 - 13).
ويختلف سفر الأيام عن سفر صموئيل في رواية القصة ذاتها ، فيقول: "ووقف الشيطان ضد إسرائيل وأغوى داود ليحصي إسرائيل .... فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى داود، فكان كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل (مليون ومائة ألف) مستلّي السيف، ويهوذا أربع مئة وسبعين ألف رجل مستلّي السيف (470 ألف)... وقبح في عيني الله هذا الأمر، فضرب إسرائيل.
فقال داود لله: لقد أخطأت جداً حيث عملت هذا الأمر، والآن أزل إثم عبدك، لأني سفهت جداً. فكلم الرب جاد رائي داود، وقال: اذهب، وكلم داود قائلاً: هكذا قال الرب: ثلاثة أنا عارض عليك، فاختر لنفسك واحداً منها فأفعله بك ... إما ثلاث سنين جوع، أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك، وسيف أعدائك يدركك، أو ثلاثة أيام يكون فيها سيف الرب ووبأ في الأرض .. فانظر الآن ماذا أرد جواباً لمرسلي" (الأيام (1) 21/1 - 12).
فقد تناقض النصان في أمور :
1) من الذي أمر بإحصاء بني إسرائيل الرب أم الشيطان ؟ وكما يقول العلامة ديدات: " فإن الشيطان والرب ليسا مصطلحين مترادفين في أي الديانات ". ( )
2) أعداد بني إسرائيل، ففي سفر صموئيل كان رجال إسرائيل 800000 ، وفي الأيام أضحوا 1.100000، وفي سفر صموئيل كان رجال يهوذا 500000 رجل، فجعلهم سفر الأيام 470000 رجل، فأي السفرين أرقامه صحيحة؟ ومن المخطئ، هل هو الروح القدس أم الكتبة الملهمون؟
3) وهل كانت العقوبة التي خير داود ثلاث سنين جوع أم سبع سنين.
وتعلق نسخة الرهبانية اليسوعية على أرقام القتلى المهولة بقولها: "من الواضح أن الأرقام مبالغ فيها كما في كثير من الأرقام المماثلة في العهد القديم، وقد زيد عليها أيضاً في سفري الأخبار".
- وتتحدث الأسفار عن مكان موت ودفن نبي الله هارون، فتقول: "وبنو إسرائيل ارتحلوا من آبار بني يعقان إلى موسير، هناك مات هارون، وهناك دفن" (التثنية 10/6).
وفي موضع آخر تذكر مكاناً آخر تزعم أن هارون مات فيه، فتقول: "كما مات هارون أخوك في جبل هور " (التثنية 32/50).
وتحاول دائرة المعارف الكتابية الجمع بين المكانين وإزالة التناقض بين النصين ، فتقول عن مسيروت: " ويسمى أيضاً موسير، وهناك مات هارون وهناك دفن ... فلابد أنها كانت قريبة من جبل هور، حيث إن هارون مات في جبل هور ".( )
والصحيح أن جبل هور بعيد عن موسير (مسيروت)، فقد مرّ بنو إسرائيل في طريقهم إلى أدوم بمسيروت، وارتحلوا عنها ، فمروا بستة منازل قبل أن يصلوا إلى جبل هور، يقول سفر العدد: " ثم ارتحلوا من مسيروت، ونزلوا في بني يعقان، ثم ارتحلوا من بني يعقان، ونزلوا في حور الجدجاد .. ونزلوا في يطبات .. ونزلوا في عبرونة .. ونزلوا في عصيون جابر ... ونزلوا في برية صين وهي قادش، ثم ارتحلوا من قادش، ونزلوا في جبل هور في طرف أرض أدوم، فصعد هارون الكاهن إلى جبل هور حسب قول الرب، ومات هناك " (العدد 33/31-38)، وعليه فجبل هور بعيد عن موسير بمقدار ستة منازل، ففي أيهما مات هارون ودُفن؟
- ويذكر كل من سفري عزرا ونحميا قائمة طويلة بأعداد العائدين من السبي ، (انظر عزرا 2/1-64، ونحميا 7/6-66)، ويتفقان في كثير من الأرقام التي يذكرانها، ويختلفان أيضاً في كثير منها، وفيما يلي بعض هذه الأرقام ، نضعها في جدول ليسهل على القارئ الكريم المقابلة بينهما:

أسماء القبائل
سفر عزرا سفر نحميا أسماء القبائل سفر عزرا سفر نحميا
بنو فرعوش 2172 2172 بنو بيصاي 323 324
بنو شفطيا 372 372 بنو حشوم 223 328
بنو آرح 775 652 بنو أريحا 345 345
بنو فحث موآب 2812 2818 بنو بيت لحم 123 (معاً)
188
بنو عيلام 1254 1254 رجال نطوفة 56
بنو زتو 945 845 رجال عناثوث 128 128
بنو زكاي 760 760 بنو عزموت 42 42
بنو باني (بنوي) 642 648 بنو حاريم 320 320
بنو باباي 623 628 بنو آطير 98 98
بنو عرجد (عزجد) 1222 2322 بيت ايل وعاي 223 123
بنو ادونيقام 666 667 رجال مخماس 122 122
بنو بغواي 2056 2067 بنو نبو الأخرى 52 52
بنو عادين 454 655 بنو سناءة 3630 3930
بنو الرامة وجبع 621 621 بنو عيلام 1254 1254
بنو يورة (حاريف) 112 112 بنو جبّار (جبعون) 95 95
جميع النثينيم وبني عبيد سليمان 392 392 بنو لود بنو حاديد
واونو 725 721
بنو دلايا بنو طوبيا 652 642 بنو يشوع وقدميئيل 74 74
بنو يدعيا 973 973 المغنون بنو آساف 128 148
بنو امّير 1052 1052 بنو مغبيش 156 لم يُذكروا
بنو فشحور 1247 1247 بنو حاريم (الكهنة) 1017 1017
بنو البوابين بنو شلوم
بنو آطير بنو طلمون
بنو عقّوب بنو حطيطا بنو شوباي 139 138 بنو قرية عاريم كفيرة وبئيروت 743 743
المجموع حسب الكتاب المقدس 42360 42360 ناتج الجمع الصحيح 29818 31089
وكما يلحظ القارئ الكريم فإن هذه الأرقام متباينة اختلف فيها السفران اختلافاً بيناً، فأحد الملهمين أو كلاهما أخطأ ولا محالة، والذي يخطئ في مثل هذه المسائل البسيطة لا يؤمَن عليه الخطأ في المسائل اللاهوتية والأمور الهامة الأخرى.
لكن الأعجب أن الكاتبين ورغم اختلافهما الكبير في أعداد عدد من القبائل العائدة مع زربابل فإنهما يتفقان في المجموع الكلي للعائدين، هو (42360)، فيقول عزرا: "كل الجمهور معاً اثنان وأربعون ألفاً وثلاث مئة وستون " (عزرا 2/64)، ويوافقه نحميا فيقول: "كل الجمهور معاً أربع ربوات وألفان وثلاث مئة وستون" (نحميا 7/ 66).
وكلاهما خطأ ولا ريب، إذ العائدون حسب عزرا (29818)، فيما عددهم حسب نحميا (31089)، فمن الذي أخطأ في جمع أعداد العائدين من السبي، هل هم الكتبة ، أم الروح القدس الذي زعموا أنه ألهمهم، أم أولئك الذين أعطوا لكلام البشر وتخليطهم صفة القداسة والإلهام، وزعموا أن تخليطهم وأخطاءهم هي وحي الله وكلمته! تعالى الله عن خطئهم وزللهم علواً كبيراً.

ومن الأخبار التوراتية المتناقضة:
- أنه جاء في سفر الملوك " كان أخزيا ابن اثنتين وعشرين سنة حين ملك، وملك سنة واحدة" (الملوك (2) 8/26 ).
وفي سفر الأيام ما يناقضه: "كان أخزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين ملك، وملك سنة واحدة" (الأيام (2) 22/2 ).
وما جاء في الأيام خطأ ولا ريب، إذ أن يهورام الملك والد أخزيا قد مات وعمره أربعون سنة، وتولى الحكم بعده ابنه أخزيا، فلا يمكن أن يكون عمر ابنه أخزيا حينذاك اثنين وأربعين سنة.
لذلك عمد محققو الترجمة العربية المشتركة إلى تصحيح الخطأ في سفر الأيام، فالنص عندهم: "وكان أخزيا ابن عشرين سنة حين ملك، وملك سنة واحدة بأورشليم" (الأيام (2) 22/2 )، لكنه - وللأسف - لم يصحح في مئات التراجم العالمية التي يتداولها المسيحيون في العالم.
وقد أقر القس الدكتور منيس عبد النور في دفاعه الحميم عن الكتاب المقدس الموسوم بـ "شبهات وهمية"؛ أقر بوقوع خطأ في سفر الأيام، وردّه إلى غلطة الناسخ، لتشابه الحرف العبراني الذي يدل على الرقم (2) مع الحرف الذي يدل على الرقم (4)، لكنه قلل من أهميته، لأن "غلطة الناسخ هذه لا تُغير عقيدة يهودية ولا مسيحية"!( )
وهنا نتساءل: إن كان الخطأ وقع من ناسخ واحد من نساخ المخطوطات التي يتفاخرون بكثرتها، فلم تركوا المخطوطات الصحيحة، وأخذوا بالخاطئ منها، ومتى سيصلحون هذا الخطأ.
إنا نظن أن أحداً لن يجرؤ على القول بأن الغلط كان في جميع النسخ، لأنه حينذاك يكون خطأ من المؤلف الأصلي للسفر أو من الروح الذي أوحى إليه بهذا الغلط.
ثم هل أخطأ النساخ في فقرات أخرى من المواضع التي لا تؤثر على العقيدة؟ وكيف لنا أن نجزم بأنهم معصومون من الخطأ في قضايا العقيدة دون القضايا التاريخية التي تشكل غالب أجزاء الكتاب المقدس.
- ومثله وقع الخطأ في عمر يهوياكين الذي ملك بني إسرائيل، فقد جاء في سفر الملوك "كان يهوياكين ابن ثماني عشرة سنة حين ملك، وملك ثلاثة أشهر في أورشليم " (الملوك (2) 24/8).
وفي سفر الأيام ما ينقضه ولا سبيل إلى الجمع، إذ يقول: "كان يهوياكين ابن ثمان سنين حين ملك، وملك ثلاثة أشهر وعشرة أيام في أورشليم" ( الأيام (2) 36/9).
لذا يقول محررو قاموس الكتاب المقدس: "يرجح أن رواية سفر الملوك الثاني هي الرواية الصحيحة".( )
- ويتحدث سفر الأيام عن الملك شاول، فيجعله من ذرية قيس بن نير، فيقول: "ونير ولد قيس، وقيس ولد شاول" (الأيام (1) 8/33)، وهذا مناقض لما جاء في سفر صموئيل ، حيث يخبرنا أن نير وقيس أخوان، فيقول: "أبنير بن نير عم شاول، وقيس أبو شاول، ونير أبو أبنير؛ ابنا إبيئيل" (صموئيل (1) 14/50-51)، و(انظر صموئيل (1) 9/1).
- ويتناقض كُتاب العهد القديم في نِسبة يثر والد عماسا، فيجعلونه مرة إسماعيلياً كما في سفر الأيام "وأبو عماسا يثر الإسمعيلي" (الأيام (1) 2/17)، وفي مرة أخرى جعلوه إسرائيلياً، لا إسماعيلياً كما زعم كاتب سفر صموئيل بقوله: "وكان عماسا ابن رجل اسمه يثرا الإسرائيلي " (صموئيل (2) 17/25)، فأيهما هو الصحيح، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يكون يثر من نسل إسرائيل (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) وهو في نفس الوقت ينتسب لعمه إسماعيل بن إبراهيم!
- وتكرر نفس الخطأ والتناقض في سياق الحديث عن أُم الملك حورام ملك صور ، ففي سفر الملوك الأول أن حيرام "ابن امرأة أرملة من سبط نفتالي" (الملوك (1) 7/14)، وبينما يقول كاتب سفر الأيام الثاني بأنه "ابن امراة من بنات دان" (الأيام (2) 2/14)، ودان ونفتالي هما ابنا يعقوب من زوجته بلهة، فكيف أصبحت أُم حورام من ذرية أخوين شقيقين؟ أين سمعت الدنيا عن شخص ينتسب لأخوين إلا في الكتاب المقدس؟!
- ويتحدث سفر الملوك عن الهدايا التي أرسلها الملك حيرام لسليمان، فيذكر أنها 420 وزنة ذهب، فيقول: "فأرسل حيرام في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى أوفير، وأخذوا من هناك ذهباً أربع مائة وزنة وعشرين وزنة، وأتوا بها إلى الملك سليمان" (الملوك (1) 9/28).
لكن سفر أخبار الأيام الثاني جعلها 450 وزنة ذهب، حيث يقول: "وأرسل له حورام بيد عبيده سفناً وعبيداً يعرفون البحر، فأتوا مع عبيد سليمان إلى أوفير، وأخذوا من هناك أربع مائة وخمسين وزنة ذهب، وأتوا بها إلى الملك سليمان" (الأيام (2) 8/ 18 )، فالفرق 30 وزنة ذهب، فهل أخطأ الروح القدس أم الكتبة الذين لم يعصموا من الخطأ والنسيان؟
إن الكتبة الذين يخطئون في مثل هذه المسائل البسيطة لا يؤمن من أن يقع منهم الخطأ في القضايا العظيمة المتعلقة باللاهوت وسواه، فمن فقد شرط العصمة والإلهام جاز عليه الخطأ في كل كلامه بلا تفريق.
- ويذكر سفر صموئيل أنه " ولد لأبشالوم ثلاثة بنين وبنت واحدة اسمها ثامار، وكانت امرأة جميلة المنظر " ( صموئيل (2) 14/27 ).
وفي سفر الملوك يذكر ابنة أخرى غير ثامار الوحيدة، فيقول : " معكة ابنة أبشالوم" ( الملوك (1) 15/2 ) فكيف زعم سفر صموئيل أنها وحيدة؟
- يذكر سفر الأيام أن رحبعام أحب معكة ابنة ابشالوم، وأنها ولدت له أبيا " وأقام رحبعام أبيا ابن معكة رأساً وقائداً " ( الأيام (2) 11/22 )، فمعكة بنت أبشالوم هي أم أبيا.
لكنه في السفر نفسه يقول: " ملك أبيا على يهوذا، ملك ثلاث سنين في أورشليم، واسم أمه ميخا بنت أوريئيل من جبعة " ( الأيام (2) 13/1 - 2)، فقد تغير اسم أمه من معكة بنت أبشالوم إلى ميخا بنت أوريئيل؟ ولا يمكن أن تكون كلتاهما أمه!!
ثم يعود سفر الملوك فيأتي بالعجب وهو يتحدث عن آسا بن أبيام (أبيا) الذي ملك بعد أبيه أبيام (انظر الملوك (1) 15/8 )، فيقول السفر عن آسا: " ملك آسا على يهوذا، ملك إحدى وأربعين سنة في أورشليم، واسم أمه معكة ابنة أبشالوم " ( الملوك (1) 15/9 - 10 ).
فأصبحت معكة زوجة لأبيام حسب سفر الملوك، وأماً لابنه آسا، بينما رأيناها في سفر الأيام أماً لأبيام، لا زوجة له "أبيا ابن معكة " ( الأيام (2) 11/22 )، فهل هي زوجة أبيا وأم أبنائه كما في سفر الملوك أم هي أمه كما في الأيام؟ ولا يمكن أن تكون الاثنين معاً.
- ويتحدث سفر صموئيل عن ميكال بنت شاول فيقول: "ولم يكن لميكال بنت شاول ولد إلى يوم موتها" ( صموئيل (2) 6/23 )، ولكنه في السفر نفسه يذكر أن لها ذرية، وأن لهم خمسة من الأبناء من زوجها عدرئيل المحولي، فيقول: " بني ميكال ابنة شاول الخمسة الذين ولدتهم لعدرئيل ابن برزلاي المحولي" (صموئيل (2) 21/8 ).
والحق أن ليس ثمة تناقض هنا، بل خطأ وقع فيه كاتب صموئيل الذي لم يميز بين ميكال وأختها ميرب التي تزوجت عدرئيل المحولي، فقد جاء في سفر صموئيل " وكان في وقت إعطاء ميرب ابنة شاول لدواد أنها أعطيت لعدرئيل المحولي امرأة " ( صموئيل (1) 18/17)، ثم حكى السفر قصة زواج داود من أختها ميكال.
وقد اعترف محررو قاموس الكتاب المقدس بهذا الخطأ ، وردوه إلى خطأ بعض المخطوطات القديمة( )، وقد أبدلت نسخة الكتاب المقدس المسماة "الكتاب المقدس الأمريكي الجديد" الصادرة عام 1973م، أبدلت ميكال بميراب، لتصحح هذا الخطأ الكبير الذي مازال شامخاً في جميع الترجمات العالمية، ليدلل على أن هذا الكتاب ليس كلمة الله .
- ومما تناقض فيه كتاب التوراة عدد وكلاء سليمان المسلطين على الشعب، فزعم سفر الملوك أنهم 550 وكيلاً، في حين ذكر سفر الأيام أنهم 250 وكيلاً فقط، يقول سفر الملوك: " هؤلاء رؤساء الموكلين على أعمال سليمان خمس مائة وخمسون، الذين كانوا يتسلطون على الشعب العاملين العمل، ولكن بنت فرعون..." (الملوك (1) 9/23 ).
في حين أن سفر الأيام يخالفه، فيقول في نفس السياق: " وهؤلاء رؤساء الموكلين الذين للملك سليمان مائتان وخمسون المتسلطون على الشعب، وأما بنت فرعون... " (الأيام (2) 8/10).
- وتتحدث الأسفار قدوم رئيس شرطة نبوخذ نصر إلى أورشليم وأسره لبعض أعيانها، فتتناقض في هذا الخصوص في ثلاثة مواضع.
أولها: في عدد المأسورين من خواص الملك، فيقول سفر إرمياء: " وأخذ من المدينة خصياً واحداً كان وكيلاً على رجال الحرب، وسبعة رجال من الذين ينظرون وجه الملك الذين وجدوا في المدينة" (إرميا 52/25)، وهو بذلك يناقض سفر الملوك الذي جعل المأسورين من خواص الملك خمسة فقط، فيقول: "ومن المدينة أخذ خصياً واحداً كان وكيلاً على رجال الحرب، وخمسة رجال من الذين ينظرون وجه الملك الذين وجدوا في المدينة " (الملوك (2) 25/19).
وثاني المواضع التي تناقض فيها السفران، حديثهما عن ارتفاع التاج الذي سلبه رئيس الشرطة البابلية، فيذكر سفر إرميا أن ارتفاعه خمسة أذرع ، فيما يجعله سفر الملوك ثلاثة أذرع فقط، يقول سفر إرميا: "وعليه تاج من نحاس ارتفاع التاج الواحد خمس أذرع" (إرميا 52/22)، فيما يقول سفر الملوك: "وعليه تاج من نحاس، وارتفاع التاج ثلاث أذرع " (الملوك (2) 25/17).
وأما ثالثها فهو تحديد اليوم الذي قدم فيه رئيس الشرطة إلى أورشليم، هل كان في سابع الشهر الخامس أم في عاشره، فكاتب سفر الملوك يرى أن قدوم "في الشهر الخامس، في سابع الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذ ناصّر ملك بابل، جاء نبوزرادان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم" (الملوك (2) 25/8)، فقدوم رئيس الشرطة في اليوم السابع، وهو مكذِّب لما جاء في سفر إرمياء، فقد صرح بأن مقدم رئيس الشرطة كان في اليوم العاشر، وليس السابع، يقول كاتب سفر إرمياء: "في الشهر الخامس، في عاشر الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذ راصر ملك بابل جاء نبوزرادان رئيس الشرط الذي كان يقف أمام ملك بابل إلى أورشليم" (إرميا 52/12)، فأي السفرين هو كلمة الله؟
- وتختلف الأسفار في عدد المسبيين من اليهود إلى بابل خلال جولات السبي الثلاث، فيذكر سفر إرميا أنهم (4600)، ويفصِّله بقوله: "هذا هو الشعب الذي سباه نبوخذراصر: في السنة السابعة من اليهود ثلاثة آلاف وثلاثة وعشرون. وفي السنة الثامنة عشرة لنبوخذراصر سبى من أورشليم ثمان مئة واثنتان وثلاثون نفساً. في السنة الثالثة والعشرين لنبوخذراصر سبى نبوزرادان رئيس الشرط من اليهود سبع مئة وخمساً وأربعين نفساً. جملة النفوس أربعة آلاف وست مئة" (إرميا 52/28-30).
وهذا الرقم بعيد جداً عن عدد المسبيين الذي أورده سفر الملوك (10000)، فقد قال: "سبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبيّ وجميع الصنّاع والأقيان، لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض" (الملوك (2) 24/14)، فأي الرقمين للمسبيين هو الصحيح؟ ومن المسؤول عن هذا الخطأ الرياضي في كتاب ينسب إلى الله؟
- ولما أراد داود أن يبني مذبحاً للرب اشترى مكان المذبح من أرنان الذي عرض التبرع بمكان المذبح، لكن داود رفض وأصر على دفع الثمن، فكم الثمن الذي دفعه داود لأرنان؟
ويجيب سفر صموئيل أنه خمسون شاقلاً من الفضة، فيقول: "فقال الملك لأرونة: لا بل اشتري منك بثمن، ولا أصعد للرب إلهي محرقات مجانية، فاشترى داود البيدر والبقر بخمسين شاقلاً من الفضة، وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة " (صموئيل (2) 24/24-25)، وهذا السعر أقل بكثير مما ذكره سفر الأيام الذي جعل الثمن ستمائة شاقل من الذهب، فقال: "ودفع داود لأرنان عن المكان ذهباً وزنه ستمائة شاقل، وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وأصعد محرقات وذبائح سلامة" (الأيام (1) 21/25-26)، وبين الثمنين فرق كبير، فأيهما دفعه داود لأرنان؟
- ويحدثنا الكاتب المجهول لسفر الملوك عن الملك السامري ياهو، فيذكر أنه ملك على السامرة مدة ثمان وعشرين سنة، يقول سفر الملوك "وكانت الأيام التي ملك فيها ياهو على إسرائيل في السامرة ثماني وعشرين سنة" (الملوك (2) 10/36).
ولو سألتُ القارئ الكريم في أي سني الملك يهوآش مات ياهو، فلن يجد كبير عناء في القول بأن ذلك كان في السنة الحادية والعشرين من حكم يهوآش، لأنه "في السنة السابعة لياهو، ملك يهوآش، ملك أربعين سنة في أورشليم " (الملوك (2) 12/1)، فقد تمم ياهو سنوات حكمه الثماني والعشرين، فمات بعد واحد وعشرين سنة من تولي يهوآش الملك على مملكة يهوذا، فببساطة لا يختلف عليها العقلاء 28 – 7 = 21، لقد مات ياهو في السنة الحادية والعشرين للملك يهوآش.
وهذا الذي توصل إليه القارئ الكريم يناقضه الإصحاح الذي يليه من إصحاحات سفر الملوك، حيث أفاد بموت ياهو وتولي ابنه يهوآحاز الملك في السنة الثالثة والعشرين من حكم الملك يهوآش، وليست الحادية والعشرين، فيقول: " في السنة الثالثة والعشرين ليوآش بن أخزيا ملِك يهوذا، ملَك يهوآحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة " (الملوك (2) 13/1)، فهل كانت وفاة الملِك ياهو وتولية ابنه في السنة الحادية والعشرين من حكم يهوآش أم في السنة الثالثة والعشرين منه؟
- ومن عجيب تناقضات الكتاب وقوعها في صفحة واحدة، يكذب آخرُها أولَها، ليترك القارئ في دهشة وحيرة مما يقرأ، إذ يخبرنا سفر الملوك عن مدة حكم الملك السامري يهوآحاز بن ياهو، وأنه قد ملك مدة سبع عشرة سنة، بدأت في السنة الثالثة والعشرين من حكم الملك اليهوذي يوآش "في السنة الثالثة والعشرين ليوآش بن أخزيا ملَك يهوذا ملٍك يهوآحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنة" (الملوك (2) 13/1)، ولو سألتُ القارئ في أي سنة من سني الملك يوآش مات يهوآحاز؟ فإنه سيجيب بأنها السنة الأربعين من حكم يوآش.
ولن أسهب في شكره على توصله إلى الجواب بسرعة، إذ لا صعوبة البتة في أن ندرك مهما اختلفت ثقافاتنا وقدراتنا الرياضية أن 23 + 17 = 40
لكن هذه النتيجة على بساطتها لم يتوصل إليها الكاتب المجهول لسفر الملوك، إذ يقول في نفس الإصحاح وهو يحدثنا عن موت يهوآحاز وتولي ابنه يهوآش: "وفي السنة السابعة والثلاثين ليوآش ملك يهوذا، ملك يهوآش بن يهوآحاز على إسرائيل في السامرة " (الملوك (2) 13/10)، فهل كان موت يهوآحاز في السنة الأربعين من حكم يهوآش - كما توصل القارئ الكريم - أم في السنة السابعة والثلاثين منه؟ إني أختبئ الكثير من الشكر والتقدير لذلك العبقري الذي سيخبرني أي القولين كان الحق الذي أوحى به الله العليم؟
- ومثله تناقض الكتاب في صفحة واحدة في سياق حديثه عن مدة حكم الملك يوثام، فيذكر في الفقرة الثانية والثلاثين أنه "ملك يوثام بن عزّيا ملك يهوذا، كان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم " (الملوك (2) 15/33)، لكن الفقرة الثلاثين في نفس الإصحاح تذكر أن يوثام ملك أكثر من ست عشرة سنة، فتقول بأن هوشع بن أيلة قَتل الملك فقح بن رمليا في "السنة العشرين ليوثام بن عُزيا"(الملوك (2) 15/30). فهل ملك يوثام عشرين سنة أم ست عشرة سنة؟ سؤال آخر يبحث عن جواب، ولا من مجيب.
- ولن يكون وقوع التناقض في صفحة واحدة بأعجب من وقوعه في فقرة واحدة ، ومثاله تناقض كاتب سفر الأيام في حديثه عن شيشان بن يشعي، فقد قال: "وابن شيشان أحلاي" (الأيام (1) 2/31)، ثم قال بعدها بسطرين: "ولم يكن لشيشان بنون، بل بنات" (الأيام (1) 2/34)، وحتى لا يطول عجب القارئ الكريم فإني أنقل له ما كتبه محققو الرهبانية اليسوعية في تفسير وقوع التناقض خلال سطرين فقط: "تقليد يختلف عن التقليد الذي في الآية 31"، أي أنها من مصدر آخر، وكاتب آخر، لأنه لا يعقل أن يقع كاتب بمثل هذا.
لكن دعونا نعترف بأن كاتبي دائرة المعارف الكتابية نجحوا في إزالة التناقض حين ذكروا أن أحلاي "اسم ابن شيشان أو بالحري اسم ابنته، بناء على ما جاء بعدد 34 ؛ من أنه لم يكن لشيشان بنون" ( )، نعم لقد نجحوا هذه المرة ، فأحلاي ابنة شيشان، وليست ابنه، وقد أخطأ الكاتب الملهم حين قال: "وابن شيشان أحلاي"، وكان ينبغي أن يقول: "وابنة شيشان أحلاي"، وهكذا فبإمكان قارئنا الكريم نقل هذا الشاهد من باب التناقضات إلى موضعه في الباب القادم "أغلاط العهد القديم".
- لكن العجب والدهش يلجمان قارئ الكتاب المقدس ، وهو يرى سلسلة من التناقضات يقع فيها كاتب سفر الملوك الثاني، فيناقض نفسه مرة بعد مرة، وهو يحدثنا عن الملك يهورام بن اخآب ملك مملكة إسرائيل، فقد تولى الملك بعد أخيه أخزيا، وكان توليه الملك إبان حكم الملك يهورام بن يهوشافاط لمملكة يهوذا، وتحديداً في السنة الثانية لحكم الملك يهورام اليهوذي، يقول مؤلف سفر الملوك: "وملك يهورام (ابن اخآب) عوضاً عنه في السنة الثانية ليهورام بن يهوشافاط ملك يهوذا " (الملوك (2) 1/17).
لكن كاتب السفر - الملهم حسب اعتقاد النصارى - سرعان ما غيّر رأيه، فزعم أن تولي يهورام للحكم كان في السنة الثامنة عشرة من ملك الأب يهوشافاط، وليس في عهد ابنه كما كان قد زعم، يقول: "وملك يهورام بن اخآب على إسرائيل في السامرة في السنة الثامنة عشرة ليهوشافاط ملك يهوذا" (الملوك (2) 3/1)، فمرّة زعم أن الملك السامري يهورام تولى الحكم زمن الملك اليهوذي يهوشافاط، ومرة زعم أنه تولاه في زمن ابنه ، وبين التاريخين فرق تسع سنوات، وهي السنوات السبع الباقية من حكم الأب يهوشافاط. (انظر الملوك (1) 22/42)، إضافة إلى السنتين الأولين من حكم ابنه.
ورغم الاختلاف الذي ذكرناه آنفاً في وقت تولي الملك يهورام ابن آخاب الملك في السامرة، (هل هو بعد 18 سنة من حكم يهوشافط (الملوك (2) 3/1) أو بعد بعد سنتين من حكم ابنه يهورام (الملوك (2) 1/17)،) إلا أنه على كل حال تولى الحكم بعد أن سبقه الاثنان إلى حكم أورشليم.
وهذا ما يعود لنقضه الكاتب المجهول لسفر الملوك ، إذ يزعم أن يهورام بن آخاب ملك على السامرة قبل تولي الملك يهورام بن يهوشافاط على أورشليم، فيقول: "وفي السنة الخامسة ليورام بن اخآب ملكِ إسرائيل ... ملَكَ يهورام بن يهوشافاط ملك يهوذا " (الملوك (2) 8/16)، فأي اليهورامين تولى أولاً؟ ابن آخاب كما يصرح في (الملوك (2) 8/16) أم ابن يهوشافاط كما في (الملوك (2) 1/17).
تناقض عجيب لكاتب واحد نضعه بين يدي أولئك الذين مازالوا يزعمون أن هذا السفر بعضُ وحي الله!
- ولا تنته عجائب سفر الملوك الثاني بخصوص الملكين المسميين (يهورام)، فالملك يهورام اليهوذي – كما رأينا في النص السابق – ملك مدة ثماني سنين بدأت في السنة الخامسة للملك السامري يهورام بن اخآب، أي مات في السنة الثالثة عشرة من حكم الملك السامري.
وهذا الحساب البسيط يكذبه كاتب سفر الملوك مرتين ، الأولى حين زعم أن وفاة الملك اليهوذي وتولي ابنه كانت بعد إثني عشرة سنة من حكم الملك السامري، فقال: "في السنة الثانية عشرة ليورام بن اخآب ملكِ إسرائيل؛ ملَك أخزيا بن يهورام ملكُ يهوذا" (الملوك (2) 8/25).
لكنه عاد فأكذب نفسه، وزعم أن يهورام اليهوذي مات في السنة الحادية عشرة من ملك يهورام السامري، فقال: " في السنة الحادية عشرة ليورام بن اخآب؛ ملَك أخزيا على يهوذا" (الملوك (2) 9/29)، فهل من أحد يجرؤ أن يقول بأن كاتب سفر الملوك الثاني كتب ما كتب بوحي الله وقد ناقض نفسه في هذه المواضع جميعاً؟
إن الاختلاف والخطأ في أعمار الملوك أوصلت المؤرخين إلى طريق مسدود في التوفيق بينها، لذا يقول القس صموئيل يوسف: "يصعب حصر فترات حكم الملوك والتأكيد منها لمناقشتها بالتحديد، فرحبعام ملك يهوذا ويربعام ملك إسرائيل اعتليا العرش في وقت واحد، وأخزيا ملك يهوذا ويهورام ملك إسرائيل عاشا في وقت واحد، وجملة سني مملكة يهوذا حتى هذا الوقت 95 سنة، وجملة سني مملكة إسرائيل 98 سنة...
سقطت السامرة عاصمة المملكة الشمالية في إسرائيل في السنة السادسة لحزقيا ملك يهوذا، وجملة السنين لمملكة إسرائيل حتى هذه الفترة 143 سنة، وفي مملكة يهوذا 165 سنة"، وهذا الفارق الكبير أزعج القس فانطلق يضع له المعاذير الباردة، وهذه المعاذير تلقي باللائمة على الروح القدس لأنه لم تكن له قاعدة ثابتة في الإلهام للكتاب الملهمين "ففي بعض الكتابات لم تحسب مثلاً سنة اعتلاء العرش، ويبدأ احتساب الحكم في السنة التالية لها، بينما في حالات أخرى تحسب من وقت اعتلاء الحكم".( )
وصدق الله:  أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء: 82).

أغلاط العهد القديم

عندما نتحدث عن كتاب مقدس، فإنه من الطبيعي أن نسلم بعصمة هذا الكتاب، وأن ما فيه هو وحي الله عز وجل.
إذ وجود الخطأ فيه يعني أن الله يخطئ، أو أن الروح القدس يخطئ، أو أن الرسول المبلغ يخطئ.
وهذه الاحتمالات كلها مرفوضة باتفاق الأمم وبدلالة العقل، إذ الخطأ صفة بشرية لا يمكن أن تصدر من الله أو أمناء وحيه من الملائكة أو الرسل، ففي ذلك تلبيس على البشر وإضلال لهم.
ولكنا حين نتصفح أسفار الكتاب المقدس نجد أغلاطاً توراتية كثيرة، كل منها يشهد ببراءة الله ووحيه من هذا الكتاب، ومن هذه الأغلاط:
- أن سفر التكوين يحكي عن خيانة إخوة يوسف لأخيهم ، فيذكر أن تجاراً مديانيين أخرجوه من البئر، وباعوه لقوم من الإسماعيليين بعشرين من الفضة، وأن هؤلاء الإسماعيليين قد حملوه معهم إلى مصر " اجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف، وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر" (التكوين 37/28).
وفي مصر بيع يوسف لفوطيفار ، والمفروض أن الذي باعه لفوطيفار هم الإسماعيليون الذين حملوه إلى مصر بعد أن اشتروه بعشرين من الفضة، لكن كاتب السفر أخطأ فقال :" أما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشّرط" (التكوين 37/36)، والمفروض أن الإسماعيليين هم الذين باعوه لفوطيفار، وهذا هو الصحيح ، إذ يعود سفر التكوين لتقريره فيقول: " واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك " (التكوين 39/1). فمن المسئول عن هذا الخطأ؟ هل هو الله؟ تعالى عن ذلك، أم هو الكاتب المجهول الذي كتب السفر؟ أم نساخ آلاف المخطوطات الذين لم يكونوا أمناء في نساختهم للأسفار؟ أم أولئك الذين اعتبروا هذه الكتابات التاريخية - بما فيها من خلل وزلل - كلمة الله؟
أياً كانت الإجابة، فإن الكتاب المقدس لم ينج من الخطأ والزلل، مما يمنع أن يكون بحق كلمة الله.
- ومن أخطاء الكتاب المقدس ما زعمه سفر الأيام من إدراك الملك السامري بعشا للسنة السادسة والثلاثين من حكم الملك اليهوذي آسا، وبناؤه للرامة فيها، حيث يقول: "في السنة السادسة والثلاثين لملك آسا صعد بعشا ملك إسرائيل على يهوذا وبنى الرامة" (الأيام (2) 16/1)، وهو خطأ- ولا ريب - لأن الملك بعشا مات قبل هذا التاريخ بتسع سنين.
وإثبات ذلك ميسور، فقد ملك بعشا في السنة الثالثة من حكم آسا، وبقي في الملك مدة أربع وعشرين سنة، أي أنه مات في السنة السابعة والعشرين من حكم الملك آسا، فقد جاء ذلك في سفر الملوك "في السنة الثالثة لآسا ملِك يهوذا ملَك بعشا بن أخيا على جميع إسرائيل في ترصة أربعاً وعشرين سنة" (الملوك (1) 15/33).
ومما يؤكد هذا أنه قد توالى على الملك بعده في هذه السنوات التسع ثلاثة ملوك: وهم: ابنه أيلة، ثم زمري، ثم عمري.
ويحدد لنا سفر الملوك - بدقة - سنوات تولي الملوك الثلاثة، فيقول: "واضطجع بعشا مع آبائه، ودفن في ترصة، وملَك أيلة ابنه عوضاً عنه .. في السنة السادسة والعشرين لآسا ملِك يهوذا ملَك أيلة بن بعشا على إسرائيل .. فدخل زمري، وضربه، فقتله في السنة السابعة والعشرين لآسا ملِك يهوذا، وملَك عوضاً عنه .. في السنة الواحدة والثلاثين لآسا ملِك يهوذا ملَك عمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة" (الملوك (1) 16/6-23)، فكيف يبني بعشا الرامة في السنة السادسة والثلاثين من حكم آسا، وقد مات قبلها بتسع سنين!
- ومن أغلاط الكُتاب أيضاً في نفس سياق قصة بناء الرامة أن شروع الملك بعشا ملك مملكة إسرائيل الشمالية في بناء الرامة أغضب الملك آسا ملك مملكة يهوذا الجنوبية، فاستعان الملك اليهوذي بملك أرام بنهدد ليحارب إخوته في مملكة بني إسرائيل الشمالية ، فجاء الملك بنهدد بجيوشه، وضرب عيون الماء في ومخازن الطعام في مملكة إسرائيل ، مما أجبر الملك بعشا على الكف عن البناء (انظر الأيام (2) 16/1-6).
واستقبح الرائي حناني صنيع الملك آسا واستعانته بالآراميين على إخوته، فقال له: "من أجل أنك استندت على ملك أرام ولم تستند على الرب إلهك، لذلك قد نجا جيش ملك أرام من يدك" (الأيام (2) 16/7).
وقوله : "نجا جيش ملك أرام" غلط ولاريب، لأن الذي نجا هو جيش إسرائيل، وليس جيش أرام المتحالف مع جيش يهوذا، وقد تنبه لهذا الخطأ محررو الترجمة العربية المشتركة، فقالوا: " نجا من يدك ملك إسرائيل ".
ورغم استنكارنا لهذا التدخل البشري فيما يسمونه كلمة الله، لكنه على كل حال أهون من الإصرار على الخطأ، وليت جميع النسخ الجديدة تصنع مثل هذا الصنيع.
- ومن الأغلاط ما جاء في سفر صموئيل عن عمر شاول عندما ملك على بني إسرائيل حيث يقول: " كان شاول ابن سنة في ملكه، وملك سنتين على إسرائيل " ( صموئيل (1) 13/1 ).
وهذا أمر لا يعقل أبداً، كما أنه يتناقض مع كل ما تقدمه التوراة من معلومات عن شاول الملك الكبير، وكيفية اختياره، ورفضه لتزويج ابنته ميكال لداود إبان ملكه [شاول]، ثم تزوج داود بها عقب توليه الملك.
فذلك كله وغيره مؤذن بوجود غلط في هذا النص.
ولتفادي ذكر هذا الغلط عمدت بعض الترجمات الحديثة إلى ترك مكان السن فارغاً، وهو ما صنعه محققو الرهبانية اليسوعية، ففيها: "وكان شاول ابن .. حين صار ملكاً، وملك .. سنة على إسرائيل".
وأشاروا في الهامش إلى مصدر هذا الغلط، فقالوا عما ورد في النص العبري: " وهذا أمر غير معقول، لربما لم يعرفوا عمر شاول عند ارتقائه العرش، أو لربما سقط العمر عن النص، أو لربما قصرت مدة ملكه إلى سنتين لعبرة لاهوتية ".
ولنا أن نتساءل هل كان كتبة الأسفار الملهمون يكتبون وفق معارفهم، أم كانوا يكتبون ما يمليه عليهم الروح القدس؟.
وفي محاولة أخرى لتبرير هذا الغلط يقول مطران دمشق سمعان الحصروني في كتابه " تسهيل صعوبات الكتاب المقدس " : " هذا القول لا يعني على أن شاول كان ابن سنة بالعمر ، بل إنه حين ملك كان باراً وديعاً صالحاً لا يعرف الغش، مثل طفل ابن سنة ، ولما ملك سنتين على إسرائيل دخل الغش في قلبه، وصار كبيراً مثل شيخ عارف، وقال : إنه ملك سنتين لا غير ، أعني ما استقام على البرارة وعدم المخالفة والقسط إلا سنتين فقط ، ودخل في الإثم والغش وقلة رضا الله". ( )
ولا يخفى ضعف هذا التبرير على القارئ الحصيف، إذ هو إحدى البهلوانيات التي يركبها أولئك الذين أضناهم ترقيع الطوام التي وجدوها في كتابهم.
- وأحياناً يخطىء الكتاب في عمليات حسابية لا تخفى على صغار الطلاب في المدارس، ومنه الخطأ الذي وقع به كاتب سفر العدد، وهو يجمع أعداد ذكور بني لاوي الذين تجاوزوا الشهر، فقد "عدّهم موسى كما أمر الرب .. [فكانت أعدادهم كالتالي:] هذه هي عشائر الجرشونيين، المعدودون منهم بعدد كل ذكر من ابن شهر فصاعدا، المعدودون منهم سبعة آلاف وخمس مئة [7500] .. هذه عشائر القهاتيين، بعدد كل ذكر من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلاف وست مئة [8600] حارسين حراسة القدس .. هذه هي عشائر مراري، والمعدودون منهم بعدد كل ذكر من ابن شهر فصاعدا ستة آلاف ومئتان [6200]" (العدد 3/15-34).
ولا يحتاج القارئ الكريم إلى حاسوب ليدرك أن مجموع المعدودين هو (22300)، المسالة الحسابية بسيطة: 7500 + 8600 + 6200 = 22300، لكن المفاجأة أن الكاتب الملهم أخطأ فقال: " جميع المعدودين من اللاويين الذين عدّهم موسى وهرون حسب قول الرب بعشائرهم كل ذكر من ابن شهر فصاعدا اثنان وعشرون ألفاً [22000]" (العدد 3/39).
وقد تنبه لهذا الخطأ مترجمو السبعينية، فأنقصوا من عشائر القهاتيين ثلاث مائة، ليصبح عددهم (8300)، وقال محققو الترجمة العربية المشتركة: "في اليونانية: 8300، وهذا يتوافق مع جمع الأعداد في الآية 39"، وقد صحح الآباء اليسوعيون هذا الخطأ في نسخة الرهبانية اليسوعية، فقالوا: "تلك هي عشائر القهاتيين، فكانوا بعد كل ذكر من ابن شهر فصاعداً ثمانية آلاف وثلاث مائة (8300)"، لقد أثبتوا مهارتهم في الرياضيات، وأنهم أقدر في هذا الفن من كاتب سفر العدد الذي يزعمون أنه كان يلهم من الله.
- ومن الأغلاط أيضاً ما جاء في سفر الأيام " وقد أذل الرب يهوذا بسبب آحاز ملك إسرائيل" (الأيام (2) 28/19 )، فالنص يزعم أن آحاز ملك مملكة إسرائيل الشمالية.
والصحيح أن آحاز ملك على مملكة يهوذا الجنوبية، وبسببه أذل الله مملكته، وهو الملك الحادي عشر من ملوك مملكة يهوذا الجنوبية، كما ذكر محرر قاموس الكتاب المقدس.
- ومن الأغلاط ما جاء في كتاب القضاة " وكان غلام من بيت لحم يهوذا من عشيرة يهوذا، وهو لاوي " ( القضاة 17/7 )، ولا يمكن أن يكون الغلام لاوياً ومن نسل يهوذا، فكلاهما ابن يعقوب، وهو من نسل أحدهما لا محالة.
وقد اعترف بهذا الغلط هيوبي كينت والمفسر هارسلي، وذكروا أن قوله: "وهو لاوي" عبارة إلحاقية "، وأخرجها هيوبي من المتن. ( )
- ووقع الغلط من كاتب سفر الخروج حين زعم أن جميع مواشي المصريين قد ماتت، ثم ذكر بعدها بسطور أن مواشيهم أصيبت بالدمامل والبثور، يقول السفر: "ففعل الرب هذا الأمر في الغد. فماتت جميع مواشي المصريين. وأما مواشي بني إسرائيل، فلم يمت منها واحد" (الخروج 9/6).
وبعد سطور وفي السفر نفسه ذكر أن فرعون لم يؤمن فعوقب بعقوبة جديدة، وهي الدمامل فيقول السفر: "ثم قال الرب لموسى وهارون: خذا ملء أيديكما من رماد الأتون. وليذرّه موسى نحو السماء أمام عيني فرعون. ليصير غباراً على كل أرض مصر، فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور في كل أرض مصر، فأخذا رماد الأتون، ووقفا أمام فرعون، وذراه موسى نحو السماء، فصار دمامل بثور طالعة في الناس وفي البهائم" (الخروج 9/8-10)، فكيف أصيبت بهائمهم، وقد ماتت جميعاً.
ويعود النص التوراتي مرة أخرى للحديث عن مواشي المصريين وعن تهديد موسى لفرعون بإفنائها، والمفترض أنها فنيت جميعاً، فيقول لفرعون: "ها أنا غداً مثل الآن أمطر برداً عظيماً جداً لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها إلى الآن، فالآن أرسل، احم مواشيك وكل ما لك في الحقل، جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل، ولا يجمعون إلى البيوت ينزل عليهم البرد فيموتون، فالذي خاف كلمة الرب من عبيد فرعون هرب بعبيده ومواشيه إلى البيوت" (الخروج 9/18-21).
- ومثله وقع الغلط في أسفار العهد القديم في سياق الحديث عن صلة القرابة بين الملك يهوياكين والملك صدقيا الذي عينه نبوخذ نصر بعد أن عزل يهوياكين ، إذ يذكر سفر الأيام أنه أخ لصدقيا، فيقول: " وملك صدقيا أخاه على يهوذا وأورشليم " (الأيام (2) 36/10 ).
والصحيح أن صدقيا عم يهوياكين حيث إن عمر يهوياكين أكبر أبناء أبيه عندما ملك كان حوالي ثمان سنين، وملك لمدة ثلاثة شهور وعشرة أيام فقط. ( انظر الأيام (2) 36/9).
بينما كان عمر صدقيا حينذاك إحدى وعشرين سنة. (انظر الأيام (2) 36/9 - 10 )، ولو كان أخاً ليهوياكين لكان ينبغي أن يكون أقل من ثمان سنوات لأن يهوياكين أكبر أبناء أبيه.
وقد اعترف محررو قاموس الكتاب المقدس بهذا الخطأ، وتأولوه قائلين : " دعي أخاً ليهوياكين أي نسيبه، أو من أصل واحد". واعترف به أيضاً وارد الكاثوليكي في كتابه " الأغلاط ".
- ومن الأغلاط ما ذكره سفر التكوين من اطلاع أم عيسو على ما أضمره ابنها في قلبه، حيث يقول: "قال عيسو في قلبه: قربت أيام مناحة أبي. فأقتل يعقوب أخي. فأخبرت رفقة بكلام عيسو ابنها الأكبر" (التكوين 27/41-42)، والمفروض أنه أضمره فكيف اطلعت عليه؟
- ومن الأغلاط حديث التوراة عن رحلة هاجر وابنها إسماعيل ، إذ تذكر التوراة أن ذلك كان بعد مولد إسحاق وفطامه، ثم هي تتحدث عن حمل هاجر لابنها إسماعيل على كتفها، وكأنه طفل صغير، وقد كان عمره حينذاك لا يقل عن ستة عشر عاماً، كما يتضح من عمر إبراهيم حين ولادة ابنيه. ( انظره في التكوين 16/16، 21/5).
فالكاتب لهذا السفر غلط ونسي أنه يتحدث عن شاب، وليس عن طفل صغير، يقول كاتب السفر: "فكبر الولد (إسحاق) وفطم، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق .. فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء، وأعطاهما لهاجر واضعاً إياهما على كتفها والولد، وصرفها، فمضت .. ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت، وجلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس، لأنها قالت: لا أنظر موت الولد .. ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: ما لك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به ... فذهبت وملأت القربة ماء، وسقت الغلام" (التكوين 21/ 7-19).
- ويتحدث سفر التكوين عن سارة زوجة إبراهيم، فيذكر من جمالها وحسنها أنها وقعت في استحسان فرعون مصر هي تبلغ الخامسة والستين من العمر، ومثل هذا غير معهود في النساء، إذ يذوي الجمال والحسن دون هذا السن، وامرأة في الخامسة والستين لا نراها تصلح لتكون محلاً لإعجاب الملوك وهيامهم.
ثم لما تجاوزت التسعين وقعت في استحسان ملك جرار أبيمالك، ومثل هذا من الشطط الذي يتنـزه عنه وحي الله وكتبه.
ولبيان هذه المسألة نبين أن سارة تصغر عن زوجها بعشر سنين، فقد جاء في سفر التكوين أن إبراهيم قال: " هل يولد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟!" (التكوين 17/17)، فبينهما عشر سنين.
وقد غادر إبراهيم حاران، وعمر سارة خمس وستون سنة " وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران، فأخذ إبرام ساراي امرأته ولوطاً ابن أخيه وكل مقتنياتهما..فأتوا إلى أرض كنعان" (التكوين 12/4-5)، ثم بعد ذلك انطلق إلى مصر، حيث أعجب فرعون بسارة، وقد تجاوزت الخامسة والستين "وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويستبقونك .. فحدث لما دخل إبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جداً، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون..." (التكوين 12/11-15).
ثم يتحدث سفر التكوين عن بلوغ إبراهيم التاسعة والتسعين واختتانه في هذا السن، (التكوين 17/24-25). مما يعني بلوغ سارة التسعين، وبعده يتحدث السفر عن مضي إبراهيم وزوجه العجوز إلى الجنوب، ليُعجب ويؤخَذ بجمالها - هذه المرة – أبيمالك ملك جرار، "وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور، وتغرب في جرار، وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار أخذ سارة " (التكوين 20/1-3)، فهل يعقل أن امرأة قاربت التسعين يقع في هيامها الملوك؟ إنه أحد أغلاط الكتاب المقدس، وأحد شهاداته على أنه من صنع البشر.
- ومن الأغلاط أيضاً تلك الوعود التي وعدت بها التوراة، ثم لم تتحقق فدل على أنه غلط، ولو كان حقاً لتحقق الوعد.
- ومن هذه الوعود قول التوراة أن الله قال لإبراهيم: " وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام، وتدفن بشيبة صالحة، وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا" (أي فلسطين). (التكوين 15/15-16).
والواقع التاريخي يكذب هذا النص فقد كان الجيل الثالث والرابع من إبراهيم وهم الأسباط وأبناؤهم، كانوا هم الداخلين إلى مصر، لا الخارجين منها، وأما الخارجون منها فهم الجيل السادس من أبناء إبراهيم.
ومن هذه الوعود الزائفة ما زعمه كاتب سفر الأيام، حين قال بأن الله وعد إسرائيل بقوله لناثان النبي: " وعينت مكاناً لشعبي إسرائيل، وغرسته، فسكن في مكانه، ولا يضطرب بعد، ولا يعود بنو الإثم يبلونه كما في الأول " (الأيام (1) 17/9).
ولم يتحقق هذا الوعد الذي زعموا أن الله وعده، فقد ذل بنو إسرائيل على يد بختنصر، وأخرجوا من ديارهم، ولم يتحقق ما قيل لناثان: " متى كملت أيامك، واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لا سمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد " ( صموئيل (2) 7/10 - 13 ).
- وأيضاً تذكر التوراة أن الله وعد نبوخذ نصر الوثني وعداً لم ينجز فهو من الأغلاط ولا ريب، فقد وعده أن يملكه على مدينة صور، ثم لم يتحقق له ذلك، فوعده بأرض مصر، ولم يتحقق ذلك أيضاً، فدل ذلك على أن هذا الوعد ليس من الله، لأن الله قادر على إنجاز وعده، فقد جاء في سفر حزقيال "قال السيد الرب: ها أنذا أجلب على صور نبوخذ راصر ملك بابل من الشمال، ملك الملوك، بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير، فيقتل بناتك في الحقل بالسيف، ويبني عليك معاقل، ويبني عليك برجاً، ويقيم عليك مترسة، ويرفع عليك ترساً، ويجعل مجانق على أسوارك، ويهدم أبراجك بأدوات حربه، ولكثرة خيله يغطيك غبارها، من صوت الفرسان والعجلات والمركبات تتزلزل أسوارك عند دخوله أبوابك كما تدخل مدينة مثغورة، بحوافر خيله يدوس كل شوارعك، يقتل شعبك بالسيف، فتسقط إلى الأرض أنصاب عزك، وينهبون ثروتك، ويغنمون تجارتك، ويهدّون أسوارك، ويهدمون بيوتك البهيجة، ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه ... لا تُبنين بعد، لأني أنا الرب تكلمت" (حزقيال 26/7-14).
لكن هذا الوعد لم يتحقق كما أسلفنا، إذ استعصت صور على ملك بابل، ولم يدخلها، ولم يغنم منها غنيمة، فوعد بأرض مصر بدلاً عنها، يقول السفر: "كلام الرب كان إليّ قائلاً: يا ابن آدم، إن نبوخذ راصر ملك بابل استخدم جيشه خدمة شديدة على صور، كل رأس قرع، وكل كتف تجردت، ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل خدمته التي خدم بها عليها، لذلك هكذا قال السيد الرب: هاأنذا أبذل أرض مصر لنبوخذ راصر ملك بابل، فيأخذ ثروتها، ويغنم غنيمتها، وينهب نهبها، فتكون أجرة لجيشه، قد أعطيته أرض مصر لأجل شغله الذي خدم به، لأنهم عملوا لأجلي" (حزقيال 29/17-20).
ولم يتحقق ذلك الوعد إذ لم يملك بنوخذ نصر أرض مصر أبداً، وإن وصلت جيوشه إلى حدود مصر سنة 605 ق.م، حين هزمت قواته المصريين في معركة قرقميش، لكن بقيت مصر تحت حكم الأسرة السادسة عشرة من حكام الفراعنة.
ولم تتحقق تلك الوعود التي استمرت الأسفار تعرضها في أربعة إصحاحات من سفر حزقيال، ومما جاء فيها "لذلك هكذا قال السيد الرب: ها أنذا أجلب عليك سيفاً، واستأصل منك الإنسان والحيوان. وتكون أرض مصر مقفرة وخربة .. وأجعل أرض مصر خِرباً خربة مقفرة، من مجدل إلى أسوان إلى تخم كوش، لا تمر فيها رجل إنسان، ولا تمر فيها رجل بهيمة، ولا تُسكن أربعين سنة. وأجعل أرض مصر مقفرة في وسط الأراضي المقفرة، ومدنها في وسط المدن الخربة تكون مقفرة أربعين سنة، وأشتت المصريين بين الأمم، وأبددهم في الأراضي، لأنه هكذا قال السيد الرب: عند نهاية أربعين سنة أجمع المصريين من الشعوب الذين تشتتوا بينهم، وأرد سبي مصر، وأرجعهم إلى أرض فتروس، إلى أرض ميلادهم، ويكونون هناك مملكة حقيرة، تكون أحقر الممالك، فلا ترتفع بعد على الأمم، وأقللهم لكيلا يتسلطوا على الأمم" (حزقيال 29/8-15).
ويمضي السفر فيقول: " قال الرب : ويسقط عاضدو مصر وتنحط كبرياء عزتها من مجدل إلى أسوان يسقطون فيها بالسيف .
يقول السيد الرب: فتقفر في وسط الأرض المقفرة ، وتكون مدنها في وسط المدينة الخربة فيعلمون أني أنا الرب .. قال السيد الرب: إني أبيد ثروة مصر بيد بنوخذ نصر ملك بابل " (حزقيال 30/6 - 10).
ومثله "قال السيد الرب : سيف ملك بابل يأتي عليك، بسيوف الجبابرة أسقط جمهورك، كلهم عتاة الأمم، فيسلبون كبرياء مصر ، ويهلك كل جمهورها، وأبيد جميع بهائمها عن المياه الكثيرة، فلا تكدرها من بعد رجل إنسان، ولا تعكرها أظلاف بهيمة ، حينئذ أنضب مياههم، وأجري أنهارهم كالزيت.
يقول السيد الرب: حين أجعل أرض مصر خراباً ، وتخلو الأرض من ملئها عند ضربي جميع سكانها يعلمون أني أنا الرب " ( حزقيال 32/11 - 15 )، إن أياً من هذه الوعود لم يتحقق، وعدم تحققه يدل على أن هذا من أغلاط الكُتّاب، وهو دليل بطلانه وكذب كاتبيه.
- وأيضاً من الأغلاط حديث إرميا عن نسل داود فيقول: " كما أن جند السماوات لا يعد، ورمل البحر لا يحصى، هكذا أكثر نسل داود عبدي، واللاويين خادميّ " (إرميا 33/22 )، لكن الواقع يكذب ذلك، فاليهود أقل أهل الأرض عدداً، إذ لا يبلغ تعدادهم في الأرض كلها ستة عشر مليوناً، علاوة على أن غالبهم ليسوا من أصول إسرائيلية.
وهذا أيضاً يقودنا للحديث عن الأعداد المهولة التي قدمتها التوراة لبني إسرائيل إبان موسى وبعده، إذ تتحدث التوراة عن أصل إسرائيل وهو يعقوب وأبناؤه وقد بلغوا حين هجرتهم إلى مصر سبعين نفساً. (انظر الخروج 1/3 ).
ثم تذكر التوراة أنهم " أثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيراً جداً، وامتلأت الأرض منهم " (الخروج 1/7).
وبعد مائتي سنة على دخولهم مصر؛ خرجوا منها، بعد سنين طويلة وقاسية؛ عانوا فيها صنوفاً من الاضطهاد واستباحة النساء وقتل الذكور، ولدى نزولهم في سيناء تذكر التوراة أن موسى أمر بتعداد بني إسرائيل "فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة فصاعداً، كل خارج للحرب في إسرائيل، كان جميع المعدودين ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمس مائة وخمسين (603550). وأما اللاويين حسب سبط آبائهم فلم يعدوا بينهم " (العدد 1/45- 47)، وإذا كان الرجال القادرون على الحرب في أحد عشر سبطاً قد بلغوا الستمائة ألف، فيفهم من هذا أن بني إسرائيل قد جاوزوا المليون.
ومما يشكك في الرقم التوراتي الكبير أن موسى عليه السلام، وهو أحد الخارجين من مصر يعتبر الجيل الثاني للداخلين إلى مصر، فهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوي. (انظر الخروج 6/16 - 20 )، وجده قاهث من الداخلين إلى مصر كما ذكرت التوراة. ( انظر التكوين 46/11 ).
ويستحيل تنامي العدد بهذه الزيادة خلال جيلين أو ثلاثة، فمثلاً لم يكن الجيل الأول من أبناء لاوي سوى ثلاثة أشخاص عندما دخلوا مصر، فكيف أضحوا بعد ثلاثة أجيال فقط اثنين وعشرين ألف ذكر. ( انظر العدد 3/39 ).
هذه الزيادة لا يمكن للعقل أن يستوعبها بحال، فلو ولد لكل من أبناء لاوي الثلاثة عشرة ذكور، وولد لكل منهم عشرة ذكور، ثم ولد لكل من هؤلاء عشرة ذكور، وما مات من هؤلاء جميعاً أحد، لأضحى عدد أبناء لاوي وأحفاده لا يتجاوز الأربعة آلاف من الذكور، وهو رقم لا يتناسب بحال مع الرقم التوراتي (22000).
ومما يدل على أن هذه الأعداد غير صحيحة أن بني إسرائيل كان يتولى توليد نسائهم قابلتان فقط هما: شفرة وفوعة. (انظر الخروج 1/15 ). ومثل هذه الأرقام المهولة لا يقوم بها قابلتان فقط.
ثم تتحدث التوراة عن حروب بني إسرائيل فتذكر أرقاماً للجيوش والقتلى لا تعقل، ففي سفر الأيام " وضربهم أبيا وقومه ضربة عظيمة، فسقط قتلى في إسرائيل خمسمائة ألف رجل مختار" (الأيام (2) 13/17)، هذا في طرف واحد من بني إسرائيل.
ثم إن كان السبعون شخصاً قد فاقوا - خلال قرنين فقط - المليون، فإنه وبعد ثلاثة آلاف سنة ينبغي أن يكون عددهم آلافاً من الملايين تنوء الأرض بحملهم، بل يزيد هذا العدد المفترض على تعداد سكان الأرض حالياً مرات كثيرة.
لكن الأمر على خلاف ذلك، إذ لا يتجاوز اليهود الخمسة عشر مليوناً في الأرض كلها، علاوة على أن كثيرين منهم ليسوا من ذراري بني إسرائيل.
ثم إن التوراة تذكر تعداداً آخر، وهو التعداد الذي جرى في أرض مؤاب بعد ثمان وثلاثين سنة من تعداد موسى الأول، ولم تطرأ فيه أي زيادة عن التعداد الأول ، بل نقص عددهم ألفي شخص، فقد كان عددهم في هذا التعداد (601730). (انظر العدد 26/51)، ولو كان بنو إسرائيل يزدادون بهذه النسبة الرهيبة، لكان ينبغي أن يتضاعف عددهم في هذا التعداد عشرات المرات.
وهذه المبالغات الكبيرة في أعداد بني إسرائيل يعترف بكذبها محققو نسخة الرهبانية اليسوعية، حيث يقول هؤلاء تعليقاً على الأعداد الخيالية لبني إسرائيل المذكورة في (صموئيل (2) 24/9) ما نصه: "من الواضح أن الأرقام مبالغ فيها كما في كثير من الأرقام المماثلة في العهد القديم".
وإذا تساءلنا عن الرقم الحقيقي للخارجين من مصر، فإن دائرة المعارف البريطانية تجزم بأن عددهم لم يتجاوز الخمسة عشر ألفاً. وصدق الله إذ يقول عنهم:  إن هؤلاء لشرذمة قليلون  (الشعراء: 54).
ولا يفوتنا التنبيه على خطأ توراتي آخر يختص بمدة إقامة بني إسرائيل في مصر، حيث تذكر التوراة أن الله قال لإبراهيم: "اعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم، ويستعبدون لهم، فيذلونهم أربع مائة سنة" (التكوين 15/13)، وهو صريح أن مدة ذلتهم في أرض مصر أربع مائة سنة، وهذا الرقم يؤكده سفر الخروج بقوله: "وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مائة وثلاثين سنة" (الخروج 12/40).
وهذا الذي ذكرته الأسفار التوراتي خطأ ولاريب، إذ لم يمكثوا في مصر إلا مائتين وخمس عشرة سنة، وقد أقر علماء النصرانية ومحققوها بذلك، واجتهدوا في تصحيح الخطأ ، فزعم القس منيس عبد النور في كتابه "شبهات وهمية" أن المدة المذكورة في التوراة تبدأ من ابتداء دعوة إبراهيم في العراق ، وبمثله قال آدم كلارك في تفسيره، وكذا وافقهما جامعو تفسير هنري واسكات. ( )
وما ذهبوا إليه هو تصحيح للنص في ضوء المعطيات التاريخية، لكنه على أي حال تلاعب بالنص الذي يصرح بأن الأربعمائة سنة هي مقدار إقامتهم وذِلتهم واستِعبادهم في مصر، كما هو بيّنُ في قوله: " فيذلونهم أربع مائة سنة" ، وقوله: "وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مائة وثلاثين سنة" (الخروج 12/40)، فليس في النصين أي تضمين لفترة ما قبل دخولهم إلى مصر.
إن العجب ليس فيما سبق من الأغلاط، بل في تلك الأخطاء التي لا يقع فيها كاتب مهما ضعفت مؤهلاته على الكتابة، ومنها أن سفر يشوع شرع يعدد المدن الفلسطينية التي سيأخذها كل سبط من أسباط بني إسرائيل، فيقول عن نصيب سبط يهوذا: " وكانت المدن القصوى التي لسبط بني يهوذا إلى تخم أدوم جنوباً: قبصئيل وعيدر وياجور، وقينة وديمونة وعدعدة، وقادش وحاصور ويثنان، وزيف وطالم وبعلوت، وحاصور وحدتّة وقريوت، وحصرون هي حاصور، وأمام وشماع ومولادة، وحصر جدة وحشمون وبيت فالط، وحصر شوعال وبئر سبع وبزيوتية، وبعلة وعيّيم وعاصم، وألتولد وكسيل وحرمة، وصقلغ ومدمنة وسنسنة، ولباوت وشلحيم وعين، ورمّون.كل المدن تسع وعشرون مع ضياعها" (يشوع 15/21-32)، فقد ذكر سبعاً وثلاثين مدينة، وزعم أن عددها تسع وعشرون، فالفرق ثمان مدن.
وقد حاولت نسخة الرهبانية اليسوعية تقليص الفارق، فدمجت بعض الأسماء (حاصور ويثنان = حاصور بتنان)، و (حاصور وحدتة = حاصور حدتة)، و (قريوت وحصرون = قريوت حصرون)، و (عين ورمّون = عين رمون)، وحذفت واحداً (بزيتوتية)، ووضعت بدلاً منه "وتوابعها"، واعتذر محققوها عن تلاعبهم بالنص وما أحدثوه فيه فقالوا: "لم يُحفظ النص حفظاً جيداً، فكثير من أسماء المدن تصوَّب بالرجوع إلى النص اليوناني أو إلى نصوص كتابية أخرى".( )
لكن رغم هذا التنقيح فلدينا ثلاثة أسماء زائدة، سها عن عدِّها كاتب السفر!
وفي الفقرة التي تليها من سفر يشوع ذكر الكاتب أسماء خمس عشرة مدينة، ثم أخطأ، فقال: "أربع عشرة مدينة مع ضياعها " (يشوع 15/36)، وقد اقترح الشراح - كما نقل محققو الرهبانية اليسوعية – حذف الاسم الأخير، ليقرأ النص: "والجديرة وتوابعها" بدلاً من قوله : "والجديرة وجديروتايم" (يشوع 15/36). ( )
ونختم بغلط مدهش وقع به كاتب سفر صموئيل الأول، وحتى يستمتع قارئنا بالحكاية نسردها من أولها، حيث يخبرنا كاتب سفر صموئيل أن الملك شاول أصابه روح رديء من الرب فقال لعبيده: "انظروا لي رجلاً يحسن الضرب، وأتوا به إليّ. فأجاب واحد من الغلمان، وقال: هوذا قد رأيت ابناً ليسّى البيتلحمي يحسن الضرب، وهو جبار بأس، ورجل حرب، وفصيح، ورجل جميل، والرب معه. فأرسل شاول رسلاً إلى يسّى يقول: أرسل إليّ داود ابنك الذي مع الغنم .. فجاء داود إلى شاول، ووقف أمامه، فأحبه جداً، وكان له حامل سلاح، فأرسل شاول إلى يسّى يقول: ليقف داود أمامي لأنه وجد نعمة في عينيّ، وكان عندما جاء الروح من قبل الله على شاول أن داود أخذ العود، وضرب بيده، فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء" (صموئيل (1) 16/17-23)، ولا ريب أن القارئ يدرك مدى الثقة والاهتمام الذي حظي به داود من قبل الملك شاول.
وفي الإصحاح الذي يليه يحدثنا كاتب السفر أنه لما نشب القتال بين اليهود والفلسطينيين تقدم داود لمبارزة جليات، وقبيل المبارزة اجتمع داود مع الملك شاول، وجرى بينهما حوار طويل (انظر صموئيل (1) 17/32-37)، ثم ألبس شاولُ داودَ ثيابه، وقلّده سيفه، فخرج داود لقتاله. (انظر صموئيل (1) 17/38-40).
وهنا يفجر كاتب السفر مفاجأة غير متوقعة، فيقول: "ولما رأى شاولُ داودَ خارجاً للقاء الفلسطيني قال لأبنير رئيس الجيش: ابن من هذا الغلام يا أبنير؟ فقال أبنير: وحياتك أيها الملك لست أعلم. قال الملك: اسأل ابن من هذا الغلام؟ ولما رجع داود من قتل الفلسطيني أخذه أبنير، وأحضره أمام شاول ورأس الفلسطيني بيده. فقال له شاول: ابن من أنت يا غلام؟ فقال داود: ابن عبدك يسّى البيتلحمي" (صموئيل (1) 17/55-58)، إن كاتب هذا المشهد الأخير غريب عن السفر لا يدري بأن داود معروف عند الملك وبلاطه، وأنه كان قبل هنيهة في اجتماع مع الملك استعداداً لهذه المبارزة، ولا يتصور غياب قائد الجيش عن هذا الحدث الكبير.
وأمام هذه المعضلة يحار شراح الكتاب المقدس، ولندع القارئ الكريم يستمتع قليلاً بقراءة التفسيرات البهلوانية الباردة التي يقدمها لنا مفسرو التفسير التطبيقي: "رغم أن داود عزف على العود مرات عديدة أمام شاول؛ فإن سؤال شاول لأبنير يدل على أن شاول لم يكن يعرف داود جيداً، وهناك بضعة تفسيرات لهذه العبارة المحيرة: 1- حيث إنه كان مقرراً أن يتزوج داود ابنة شاول في حال نجاحه (17/25) أراد شاول أن يعرف المزيد عن عائلة داود. 2- لعل حالة شاول العقلية المضطربة منعته من تمييز داود. 3-كان داود ما زال يعمل في قصر شاول، وربما لم يكن شاول قد اهتم بالتعرف به أو معرفة الكثير عنه ".( )
وأما شراح تفسير كنيسة العذراء فيبررون سؤال شاول الغريب بقولهم: "كانوا يأتون بداود إلى شاول وهو مصروع لا يدري شيئاً مما حوله، فمن المنطقي أن لا يتعرف على داود".
وأما الآباء اليسوعيون فكانوا أكثر جرأة، لقد أقروا بالتناقض، وعقبوا بالقول: "ولذلك أهملت الترجمة اليونانية القديمة (17/55-18/5)، كما أهملت (17/12-13)". ( )

أغلاط توراتية بشهادة العلوم والمكتشفات الحديثة

ومن أغلاط التوراة أيضاً أغلاط خالفت فيها الحقائق العلمية الحديثة، مما دل على أنها ليست من كلام الله الذي يتنـزه عن الخطأ والجهل بحقائق العلم التي أدركها الإنسان فيما بعد، فالله العليم لن يخبر في كتابه إلا بكل صحيح، إذ لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.
- ومن ذلك حديث التوراة عن قصة الخلق في سفر التكوين، حيث يتحدث السفر عن خلق الكون في ستة أيام أرضية مكونة من صباح ومساء.
فخلق وفقاً للترتيب التوراتي في اليوم الأول الأرض والنور والظلام والماء ، وفي الثاني خلق السماء حين وضع جَلَداً بين مياه ومياه ، وفي اليوم الثالث تجمعت المياه التي تحت الجَلَد الذي سمي سماء، فتكونت اليابسة ونبت العشب والبقل .
وفي اليوم الرابع خلقت الشمس والقمر والنجوم فيما فوق الجَلَد (السماء) ، وفي اليوم الخامس خلقت الحيوانات البحرية والطيور.
وفي اليوم السادس خلق آدم والحيوانات البرية ، وفرغ من الخلق في هذا اليوم. ( انظر التكوين 1/1 - 31).
ويلحظ العلماء المحققون على هذا الترتيب والإخراج لقصة بدء الكون ملاحظات يرفضها العلم الحديث الذي أعطاه الله للإنسانية، ولو كانت الأسفار من عند الله لما حوت هذه الأخطاء المتتابعة .
منها: أن السفر يتحدث عن ستة أيام أرضية تتكون من ليل ونهار " وكان صباح"، "وكان مساء" ، وكان سابعها يوم السبت الذي استراح فيه الخالق - تعالى عن ذلك - ، ومن المعلوم علمياً أن الخلق تم على فترات كونية تقدر بملايين السنين، وصدق الله حين قال مبيناً المفارقة بين أيامه وأيام البشر:  وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون  ( الحج: 47).
والعلماء يقولون بأن الأرض احتاجت لملايين السنين حتى بردت قشرتها وغدت صالحة للحياة ، فيما يتحدث السفر عن ظهور الماء على الأرض في أول أيامها ، ثم ظهور النبات في ثالثها، والحيوانات في رابعها وخامسها.
كما أن الترتيب التوراتي لظهور المخلوقات يتناقض مع مكتشفات التاريخ الجيولوجي .
فوجود الماء على وجه الأرض في اليوم الأول يتناقض مع النظرية العلمية القائلة بأن الأرض بل والعالم كان غازياً في بداية خلقه ، كما لا يصح ظهور النبات قبل وجود الشمس ، ولا يصح أيضاً وجود الحيوانات البحرية والطيور قبل الحيوانات البرية.
ومثله يرفض علمياً القول بأن الأرض خلقت قبل الشمس والنجوم (في اليوم الرابع)، والعجب من ظهور الليل والنهار لثلاثة أيام، ولما توجد الشمس بعد!
والقول بأن النبات وجد قبل الإنسان بثلاثة أيام فقط، قول مردود، إذ تتحدث المكتشفات العلمية عن وجود النبات قبل الإنسان بملايين السنين .
وقد وردت أكثر هذه الاعتراضات على هذا القصة للخلق في ثنايا نقد الأب دوفو لرواية سفر التكوين . ( )
- ومن الملاحظات العلمية على الأسفار التوراتية أنها تتحدث باستفاضة عن أعمار الآباء الأوائل من لدن آدم إلى إبراهيم، فتجعل ولادة إبراهيم في القرن العشرين من بداية الوجود الإنساني على الأرض وتحديداً في سنة 1948 من لدن خلق الكون وظهور الإنسان على الأرض.
ولا توجد معلومات دقيقة تاريخياً عن الفترة الممتدة بين إبراهيم وعيسى، ولكن المؤرخين يقدرونها بثمانية عشر قرناً، اعتماداً على المصادر التوراتية، وعلى هذا فإن ظهور المسيح كان بعد خلق آدم بثمانية وثلاثين قرناً.
الأسقف الإيرلندي جيمس يوزهر (ت 1656م) الذي يعتبر واحداً من أكبر علماء عصره قام بتتبع سلاسل النسب التوراتية، ليصل إلى نتيجة مفادها أن العالم خُلق عام 4004 ق.م ( ) ، وهي نتيجة لا تبعد كثيراً عن التاريخ العبري الذي يوافق فيه (2000م) سنة 5761 من لدن خلق العالم، وعليه نقول بأن المعطيات التوراتية تجعل عمر البشرية على وجه الأرض لا يزيد عن ستة آلاف سنة بحال من الأحوال.
ويتعارض هذا تماماً مع المعطيات العملية التي تعتبر الحسابات التوراتية نوعاً من الهراء، فقد ثبت وجود حضارات قامت قبل الميلاد بخمسة آلاف سنة.
إذ يرى علماء الآثار أن من المسلَّم به قيام حرب طاحنة بين شمال مصر وجنوبها عام 4042 ق.م، وانتصر فيها أهل الدلتا بيد أن انتصارهم لم يكن حاسماً كما تبدأ الحضارة المصرية المؤرخة بالأسرة الأولى والتي حكمت مصر بين 3400 - 3200 ق.م، وثمة الكثير مما لم يؤرخ قبلها.
كما عثر على مصنوعات بشرية تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وعثرت بعثة جامعة القاهرة على آثار بشرية في منطقة الفيوم ترجع لعشرات الآلاف من السنين.
وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن الآثار الإنسانية في فلسطين ترجع لمائتي ألف سنة، ويقول العلامة دونلد جان سنة 1979م : " كشف وجود الإنسان على وجه الأرض منذ أربعة ملايين سنة".( )
وصدق الله العظيم إذ يؤكد أن البشرية ضاربة جذورها في التاريخ قروناً طويلة، فيقول: قال فما بال القرون الأولى  قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (طه:51-52)، وعاداً وثمود وأصـحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً (الفرقان:38)  ألم يأتكم نبؤ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله  (إبراهيم: 9).
- وثمة أمور كثيرة ذكرتها التوراة تتعارض مع الأمور الثابتة علمياً والمشاهدة حساً، كذكرها أن الأرنب من الحيوانات المجترة، فيقول: "الجمل والأرنب والوبر لأنها تجترّ، لكنها لا تشق ظلفاً، فهي نجسة لكم " (التثنية 14/7 ).
- ومثله أيضاً القول بأن الحية عوقبت بأكل التراب (انظر التكوين 3/14 ) أو أنها تلحسه، كما في سفر ميخا "يلحسون التراب كالحية، كزواحف الأرض" (ميخا 7/17)، والمشاهد في جميع أنواع الحيات المصنفة علمياً أنها تأكل الحشرات والزواحف وغيرها، ولم يسجل أبداً أنها تأكل التراب أو تلحسه.
- ويتحدث سفر اللاويين عن أحكام تتعلق بطيور أسطورية لها أربع أرجل، بعضها يدب، وبعضها يمشي، ولا وجود لها إلا في أساطير الخيال، فيقول: "وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم. إلا هذا تأكلونه من جميع دبيب الطير الماشي على أربع. ما له كراعان فوق رجليه يثب بهما على الأرض. هذا منه تأكلون ... لكن سائر دبيب الطير الذي له أربع أرجل فهو مكروه لكم" (اللاويين 11/20-23). ولم تتحدث الحفريات ولا غيرها عن شيء مثل هذا كان على وجه الأرض في يوم من الأيام.
- ومن الأخطاء العلمية أيضاً ما جاء في سفر التكوين (30/37-43)، حيث زعم بأن غنم يعقوب أنتجت، فكان لون نتاجها مخالفاً للون آبائها، بسبب رؤيتها لبعض العصي المقشرة، فتوحمت عليها، فكان النتاج مثلها، ولو صح مثل هذا لكان ينبغي أن يكون نتاج الربيع أخضراً، وهذا الهراء يخالف كل ما يعرفه علماء الجينات والشفرات الوراثية.
- وفي سفر التكوين حديث عن أغرب قصة ولادة، ألا وهي قصة ولادة الزانية ثامار من حماها ووالد أزواجها يهوذا، "وفي وقت ولادتها إذا في بطنها توأمان، وكان في ولادتها أن أحدهما أخرج يداً، فأخذت القابلة، وربطت على يده قرمزاً قائلة: هذا خرج أولاً، ولكن حين ردّ يده إذ أخوه قد خرج، فقالت: لماذا اقتحمت؟ عليك اقتحام. فدعي اسمه فارص، وبعد ذلك خرج أخوه الذي على يده القرمز، فدعي اسمه زارح" (التكوين 38/27-30)، فقد أخرج البكر يده من بطن أمه، وهو أمر غير معهود في عملية الولادة، وأراد المولود من خلال إخراج يده التأكيد على حقه في البكورية، وفهمت القابلة مراده، فربطت على يده برباط قرمزي.
ثم حصل الأغرب منه الذي لا يمكن تفسيره طبياً، فقد أفسح البكر مكانه في الرحم لأخيه التوأم، ليخرج إلى الدنيا، ثم تبعه أخوه البكر، صاحب اليد المربوطة بالقرمز، ومثل هذه القصة لا تقبل علمياً، وإلحاقها بقصص العجائز أولى من أن تلحق بكلام الله ووحيه .
- ويقدم سفر أيوب تصوراً غريباً لكيفية تخليق الجنين، فهو يصب في قالب، كما يصب الحليب، ثم يتجمد في وسط هذا القالب، كما يتخثر الحليب فيتحول إلى جبناً ، وهو كما تقول نسخة الرهبانية اليسوعية في تعليقها عليه متطابق مع التصورات القديمة لتخليق الجنين، لكنه على كل حال لا علاقة له من قريب أو بعيد بما يعرفه العلماء عن مراحل تخليق الجنين، يقول سفر أيوب مخاطباً الله: "اذكر أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب، ألم تصبّني كاللَّبن، وخثّرتني كالجُبن، كسوتني جلداً ولحماً، فنسجتني بعظام وعصب" (أيوب 10/9-11).
- ومن الأخطاء العلمية زعم التوراة أن الأرض لها أعمدة، وأنها مسطحة، ولها زوايا، موافقة بذلك المستوى العلمي السائد حين كتابتها، فتقول وهي تتحدث عن الشمس التي تغرب على الأرض، ثم تذهب مسرعة إلى شرق الأرض لتشرق من جديد: "والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق" (الجامعة 1/5)، فكاتب السفر لا يعرف شيئاً عن كروية الأرض، ولا عن دورانها حول محورها ليحصل الشروق والغروب، إنه ليس الله العظيم العليم الذي  خلق السّموات والأرض بالحقّ يكوّر اللّيل على النّهار ويكوّر النّهار على اللّيل  (الزمر: 5).
وتقول التوراة واصفة الله أنه "المزعزع الأرض من مقرها، فتتزلزل أعمدتها" (أيوب 9/6)، فالأرض لها أعمدة، قد ثبتت الأرض فوقها ، وهذا الفهم الخاطئ يؤكده كاتبو الأسفار، فيزعمون أن الله قال لأيوب: " أين كنت حين أسست الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم: من وضع قياسها، لأنك تعلم؟ أو من مدّ عليها مطماراً؟ (في توراة الكاثوليك: مد عليها الخيط). على أي شيء قرّت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها؟" (أيوب 38/4-6)، وفي سفر صموئيل " لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة" (صموئيل (1) 2/8).
وقد أكد العهد الجديد هذا التصور الساذج والخاطئ للأرض المسطحة ذات الأطراف أو الزوايا الأربعة في مواضع منه، نرجئ ذكرها إلى موضعها من هذه السلسلة.
ويتحدث سفر الجامعة عن دورة المياه على الأرض وعن سبب عدم امتلاء البحر رغم كثرة ما يصب فيه من ماء الأنهار، فيذكر أن ماء البحر يعود مرة أخرى إلى ينابيع الأنهار، فلا يمتلئ بسببه البحر، يقول: "كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة " (الجامعة 1/7).
وأخيراً، فإن التوراة تصادق على قدرة الإنسان على تحضير أرواح الأموات، وأن ذلك تم بالفعل، حين قدرت العرافة على إحضار روح النبي صموئيل إلى الملك شاول، وشرحت ما دار من حديث بينهما (انظر صموئيل (1) 28/3-20)، وهو خبر إلى الشعبذة والخرافة أقرب منه إلى أي شيء آخر.
فهذه الأخطاء وغيرها تشهد أن هذا الكتاب ليس كلمة الله، ولو كان من عند الله لتنـزه عن تلكم الأخطاء التي يدركها اليوم صغار طلاب العلم فضلاً عن العلماء، فكلمة الله لا تخطئ، ولا تعلم الناس الكذب أو الخطأ.
موقف النصارى من أخطاء الكتاب المقدس
ونتساءل بعد هذا كله : ما هو موقف الكنيسة من الأخطاء التوراتية ؟
لقد بقيت الكنيسة قروناً طويلة وهي تكابر في الاعتراف بأخطاء الكتاب المقدس، فيقول القديس جيروم : " الله لا يمكن أن يعلم ما لا يتفق والحقيقة ".
ثم كان لابد من الاعتراف بهذه الأخطاء وغيرها والبحث عن سبل لتخرجها، وكان بداية الإقرار بالهزيمة تبرير أخطاء التوراة بـأنها تعود للنسخ والنساخ، فالوحي لا يخطئ.
وفي مجمع الفاتيكان (1869 – 1870م ) أعلن المجمع أن الأسفار المقدسة في العهدين "كتبت بإلهام من الروح القدس مؤلفها الله، وأعطيت هكذا للكنيسة ".
وفي هذا الصدد نشرت مجلة لوك في سنة 1952م مقالاً بعنوان "الحقيقة عن الكتاب المقدس" ذكرت فيه أنه في عام 1720م قامت هيئة من الخبراء الإنجليز بتقدير عدد الأخطاء في الكتاب المقدس بحوالي عشرين ألف خطأ على الأقل.
فيما رفعت الدراسات الحديثة الرقم إلى خمسين ألفاً كما جاء في مجلة " استيقظوا " التي أصدرتها جماعة شهود يهوه في عددها الصادر في سبتمبر 1957م، حيث تقول: " هناك ما يقارب خمسين ألف خطأ... وهي أخطاء تسللت في نص الكتاب المقدس ".
ويعترف المطران كيرلس سليم بسترس رئيس أساقفة بعلبك وتوابعها للروم الكاثوليك بتعارض الروايات التوراتية لمعطيات العلم الأولية، ويمضي لحل هذه المشكلة: "لحلّ تلك التناقضات بين الكتاب المقدس والعلم، لا بدّ لنا من التأكيد من جديد أن الكتاب المقدس ليس كتاباً علمياً يحوي دروساً في علم الكون أو في علم الحياة ؛ إنما هو كتاب ديني يحتوي تعاليم عن علاقة الكون بالله خالقه.
وعندما يعمد إلى وصف عمل الله الخالق لا يستطيع أن يصفه إلا في إطار الصورة التي كان البشر في القديم يرون فيها العالم، فالأرض في نظرهم صفحة منبسطة تعوم على وجه المياه ؛ والدليل على ذلك ظهور الينابيع التي تتفجّر من هنا وهناك في جوف الأرض. والجَلَد (أي الفضاء) الذي فوق الأرض هو نصف كرة ترتكز أطرافها على حدود الأفق، وفوقه وضع الله المياه العلوية التي تنزل مطراً على الأرض عندما يفتح لها سدود الجَلَد، وتحت الجَلَد أثبت الله الكواكب، وخطّ للشمس والقمر مسيرهما. أما النور فهو مستقلّ عن الشمس ؛ والدليل على ذلك ظهور النور حتى عند احتجاب الشمس وراء الغيوم.
قد نبتسم ابتسامة الاستهزاء لتلك التخيّلات البدائية. لا ريب في أن العلم قد تقدّم، وأننا لا نستطيع بعدُ قبول تلك التفسيرات، لكن الله لا يكلمنا إلا عن طريق البشر، والكتاب المقدس - الذي هو كلام الله - لا يمكنه أن يعطينا تعاليمه إلا في لغة الشعب الذي نشأ فيه، وفي عقليته وتصوراته للكون. فلا بدّ إذاً من فهم تلك العقلية وتلك التصورات لاكتشاف إرادة الله وإدراك تعاليمه المقدسة"( )، ولعل القارئ الكريم قد لاحظ أن المطران يعذره إذا صدر عنه " ابتسامة الاستهزاء لتلك التخيّلات البدائية"، لأن المطران نفسه لا يستطيع قبول تلك النصوص التي لا يقبلها العلم الحديث، ويراها أخطاء إلهية لأن الله يخاطب البشر بحسب معلوماتهم القاصرة والخاطئة.
ويؤيده الدكنور صبري جوهرة وهو يلخص رأي الكنيسة بقوله:" إن الله يسمح للإنسان (كاتب السفر) بأن يضع كل إحساساته وخبراته وحساسياته وميوله في النصوص مادام ذلك لا يغير ما قصده الله من معاني السفر الأخلاقية والدينية، وبالتالي تعترف الكنيسة بعدم دقة الكتاب في معلوماته الفلكية والجغرافية والتاريخية والجيولوجية..الخ، فالمقصود بالكتاب هو أن يعلم الدين والأخلاق، ويساعد على الوصول إلى طريق الصلاح والسعادة ".( )
وأكد هذه المعاني الدكتور القس الخضري بقوله: "الكتاب المقدس كتاب الله، ليس كتاباً علمياً أو موسوعة علمية كتبها مجموعة من المتخصصين في مواد مختلفة، وكل همهم تجنب الأخطاء العلمية في تخصصهم، في التاريخ، أو الجغرافيا ... فالكتاب إذاً هو خطاب أو رسالة قبل أن يكون كتاباً علمياً، وهدفه ليس شرح القواعد العلمية بطريقة صحيحة، بل هدفه هو توصيل الرسالة للإنسان".( )
وفي مجمع الفاتيكان 1962 - 1965م بُحِث موضوع المشكلات الصعبة للكتاب المقدس، وصدرت وثيقة صوت لها 2344 من الحاضرين مقابل 6 فقط رفضوها.
وتقول الوثيقة في فصلها الرابع: " تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو الله، ومن هو الإنسان بما لا يقل عن معرفة الطريقة التي يتصرف بها الله في عدله ورحمته مع الإنسان، غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان. ومع ذلك ففيها شهادة عن تعليم إلهي". ( )
وهذه النتيجة توافق أو تقارب ما توصلت إليه الدراسات النقدية لتاريخ الكتاب، والذي "تقرر أن الكتاب المقدس اليهودي، ليس بمختلف جوهرياً عن النصوص المقدسة في الأديان الأخرى، وكهذه، فإنه عمل إنساني".( )

خاتمة المبحث

وهكذا تم حديثنا عن التوراة وأسفار العهد القديم، وحصل القارئ الكريم على إجابة عن السؤال المهم الذي أجابت عنه المباحث المتتابعة التي ذكرناها في هذا الصدد، وهذا السؤال هو ما طرحناه في مقدمة كتابنا هذا : هل العهد القديم كلمة الله؟
نعم لقد عرف قارئنا كيف ضاعت توراة موسى التي يؤمن بها المسلمون، وثبت بالأدلة براءة موسى والأنبياء من الأسفار المنسوبة إليهم؟
وعرفنا من هم كتبة هذه الأسفار، ومن الذي منحها صفة القداسة، كما تعرفنا على أقدم المخطوطات الكتابية والتي تعود إلى تاريخ بعد موسى بما يقارب الخمسة عشر قرناً.
ثم نظرنا في نص الأسفار وتمعنا في حديثها عن الله ورسله، فرأينا شهادة قائمة بأن هذه الأسفار لا يليق أن تنسب إلى الله، وزاد الأمر وضوحاً ونحن نستعرض الأخلاق التوراتية. وأُشبعنا ونحن نتأمل الصبغة البشرية للتوراة.
ثم رأينا الأدلة الكثيرة والعديدة على تحريف التوراة، ووضح لنا الكثير من تناقضاتها وأخطائها.
وكل ذلك أثبت لنا أنها ليست كلمة الله المنـزلة على موسى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولا نملك إلا أن نقول كما قال ربنا: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون  (البقرة:79).
ولا يسعني وأنا أشكر القارئ الكريم على قراءته لهذه السطور إلا أن أتوجه إليه بدعوة مخلصة لقراءة الحلقة التالية من حلقات سلسلة الهدى والنور، وهي بعنوان: هل العهد الجديد كلمة الله؟
والله أسأل أن يكتب لنا القبول والسداد، وأن يهدينا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.
* الكتاب المقدس. طبعة : دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط (النسخة البرتستانتية).
* الكتاب المقدس. طبعة : دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط (النسخة الأرثوذكسية الكاثوليكية).
* الكتاب المقدس. طبعة: الرهبانية اليسوعية (نسخة كاثوليكية أصدرها الآباء اليسوعيون). توزيع جمعيات الكتاب المقدس في المشرق. بيروت.
* الترجمة العربية المشتركة، (أصدرها علماء ولاهوتيون كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت)، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، (الطبعة الرابعة للعهد القديم، الطبعة الثلاثون للعهد الجديد).
* التوراة السامرية. ترجمة الكاهن : أبو الحسن إسحاق الصوري. نشرها : أحمد حجازي السقا. ط1. دار الأنصار. القاهرة، 1398هـ.
----------------------------
* إسرائيل حرفت الأناجيل والأسفار المقدسة. أحمد عبد الوهاب. ط1.مكتبة وهبة. القاهرة، 1972م.
* الأسفار المقدسة قبل الإسلام. صابر طعيمة. عالم الكتب. ط1. بيروت، 1406هـ.
* إظهار الحق. رحمة الله الهندي. تحقيق : محمد أحمد ملكاوي. ط1. دار الحديث. القاهرة، 1404هـ.
* البرهان المبين في تحريف أسفار السابقين. أحمد عبد الوهاب. مكتبة التراث الإسلامي. القاهرة.
* تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبة، ط3، 1998م.
* التحريف في التوراة. محمد علي الخولي. ط1، 1410هـ.
* التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، مجموعة من العلماء اللاهوتيين، القاهرة.
* التوراة. محمد شلبي شتيوي. ط1. مكتبة الفلاح. الكويت، 1406هـ.
* التوراة والإنجيل والقرآن والعلم. موريس بوكاي. ترجمة : حسن خالد. ط2 المكتب الإسلامي. بيروت، 1410هـ.
* حول موثوقية التوراة والأناجيل. محمد السعدي. منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية. طرابلس. ليبيا، 1406هـ.
* دائرة المعارف الكتابية، مجموعة من المحررين، ط3 ، دار الثقافة، 1995م.
* دراسة عن التوراة والإنجيل. كامل سعفان. دار الفضيلة. القاهرة.
* العقائد الوثنية في الديانة النصرانية. محمد طاهر. محمد المجذوب. دار الشواف، 1992م.
* قراءات في الكتاب المقدس. عبد الرحيم محمد. ( بدون معلومات نشر ).
* القرآن الكريم والكتاب المقدس. أيهما كلمة الله ؟أحمد ديدات.
* الكتاب المقدس في الميزان. عبد السلام محمد. ط. دار الوفاء، 1412هـ.
* الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم. محمد علي البار. ط. دار القلم. دمشق، 1410هـ.
* المدخل إلى العهد القديم، القس الدكتور صموئيل يوسف، ط2 ، دار الثقافة، القاهرة.
* مدخل إلى الكتاب المقدس ، جون بالكين وآخرون، ترجمة : نجيب إلياس، ط1، دار الثقافة.
* المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم. محمد علي البار. دار القلم. دمشق، 1410هـ.
* المناظرة الحديثة في علم مقارنة الأديان. أحمد ديدات. جمع وترتيب : أحمد السقا. ط1. مكتبة زهرة، 1408هـ.
* مناظرة العصر. أحمد ديدات و القس أنيس شروش. ترجمة : علي الجوهري. دار الفضيلة.
* مناظرتان في استكهولم. أحمد ديدات والقس شوبرج. دار الفضيلة.
* من الفروق بين التوراة السامرية والعبرانية في الألفاظ والمعاني. أحمد حجازي السقا. ط1. دار الأنصار. القاهرة، 1398هـ.
* النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام. أحمد عبد الوهاب. ط1. مكتبة وهبة. القاهرة، 1400هـ.
* نقد التوراة. أحمد حجازي السقا. مكتبة الكليات الأزهرية.
* هل الكتاب المقدس كلمة الله ؟أحمد ديدات. ترجمة : نورة النومان. دار الهجرة. دمشق، 1408هـ.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك