الحرب على الذات
الحرب على الذات
بقلم جان فرانسوا دورتييه ترجمة د. ماري شهرستان
يفترض التغيير الانتقال من الحلم إلى العمل، الأمر الذي يفترض أيضاً الدخول في حرب ضد الذات محاولة لإرضاء بعض الرغبات على حساب رغبات أخرى.
كل إنسان يحلم بالتغيير، تغيير العمل على سبيل المثال، كالترقي في الوظيفة أو إعادة التوجه من جديد في ميدان آخر، أو تغيير في الجسد كتقوية العضلات مثلاً، أو إزالة البدانة واسترجاع النضارة للظهور أكثر شباباً، تغيير في الحياة الخاصة كالانفصال عن الشريك أو إيجاد شريك لمن ليس له شريك بعد، أو تغيير المحيط بالانتقال من الحي الذي يقطن فيه أو من المدينة، أو حتى من البلد نفسه. نحلم أحياناً بنهضة كاملة لظروف وجودنا: ترك كل شيء لتغيير الحياة. في أغلب الأحيان، يتم الاكتفاء بتغيير شيء واحد بكل بساطة: التوقف عن التدخين مثلاً، أو الحصول على ترقية، أو التغلب على الخجل المرَضي والاختلاط بالناس وبالنتيجة الالتقاء بشريك العمر.
والمسألة التي تطرح نفسها في هذا الموضوع هو أن التغيير بحد ذاته هو شأن صعب تحقيقه. والكثير من الناس يظلون في مستوى الحلم دون إجراء أي خطوة لتحقيقه، وهذا ما يسمى بـ"البوفارية bovarysme" نسبة إلى إيما بوفاري Emma Bovary بطلة رواية غوستاف فلوبير Gustave Flaubert الشهيرة والمقصود بالتسمية: الهروب من الواقع.
والعقبة الأخرى هي القرارات الجيدة التي لا تستمر إلا لوقت قصير، مثل القرارات المتخذة من قبل "اوبلوموف Oblomov" الشخصية التي ابتدعها الكاتب إيفان غونتشاروف Ivan Goncharov الشاب الأرسطقراطي الذي يجتر مشاريع كبيرة لكنه غير قادر على الوفاء بالتزاماته الخاصة لأكثر من بضعة أيام. فهو يضجر من الفتور وييأس من كره الذات. فالاستكمالية أو الرغبة المرضية في بلوغ الكمال هي صدمة أخرى في وجه التغيير، إذ عندما نفرض على نفسنا أهدافاً كبيرة جداً وعندما نبحث عن الكمال، نحكم سلفاً على أنفسنا بعدم الوصول لمبتغانا وإتمام مشاريعنا. يضاف إلى ذلك ضعف الإرادة، والخوف من مجابهة الأحلام، والخوف من الفشل... أو من النجاح، هناك ألف سبب لتعطيل التغيير.
من أين تأتي هذه الصعوبة في تحقيق التغييرات التي نرغب بها رغبة شديدة؟ فالتغيير يستتبع منطقياً الدخول في حرب ضد الذات، أي أن نقوم بمعركة داخلية ضد نوازعنا والميول السيئة المتأصلة في شخصيتنا، أي ضد الأبالسة الكامنة فينا، ثم أن نفرض نظاماً ذاتياً على أنفسنا.
يشرح الفيلسوف هاري فرانكفورت Harry Frankfurt عيوب الإرادة التي يستند إليها التغيير، بالصراع بين نموذجين من الرغبات. الرغبات التي تندرج كأولويات وهي تحدَّد لنا بالحاجات المباشرة من المحيط، والرغبات الثانوية وهي المشاريع التي تأخذ مداها في الزمن. نحن البشر نمتلك المقدرة بأن نعكس أنفسنا بشكل ظاهر وأن نحدد أهدافاً طويلة الأمد، وأن نتخيل أفقاً بعيداً. تكمن المسألة في الصراع بين هذه الرغبات. على المدى البعيد يود الفرد مثلاً أن يصبح أكثر جمالاً لكنه في الوقت الراهن يميل لتناول الحلويات؛ أو يريد الطالب أن ينجح في الامتحان ويعلم أنه من أجل ذلك ينبغي عليه أن يغيّر من عاداته أي أن يرفض الدعوات للنزهات مع الأصحاب وأن يقوم بتنظيم برنامج أيامه بشكل أفضل حتى ولو كانت القيثارة بالقرب منه أو جهاز الـDVD. والموظف يود لو كان لديه مزيد من الوقت ليقوم بمشروع عزيز على قلبه لكن ينبغي عليه التعلم بأن يقول لا وأن يرفض الإغراءات التي ترهقه يومياً. ويتمنى الجانح أن يجد مخرجاً: يود لو يتوقف عن تعاطي المخدرات، والتوقف عن الارتهان وتغيير من يعاشرهم وأن يتعلم مهنة ويجد عملاً الخ.
يسمي الاقتصاديون مقاومة الحالة الحاضرة هذه بـ"عدم الترابط المنطقي للمفضلات". ما نود الحصول عليه في المدى البعيد كالقيام بالتوفير وتخفيف في المصروف على سبيل المثال، لا يتناسب مع ما نرغب الحصول عليه في المدى القصير، فيحصل الإخفاق فيما نريد شراءه في الوقت الراهن.
لماذا نقرر دوماً لمصلحة الرغبة التي هي من الأولويات (الرغبة المباشرة) على حساب الرغبة التي هي من المرتبة الثانية، أي الهدف على المدى البعيد؟ الحساب بسيط: عندما نتصرف من أجل مرام بعيد الأمد كالاجتهاد من أجل الامتحان على سبيل المثال، فإن كلفة الفعل أي المباشرة بهذا العمل تكون مملة ومباشرة والفوائد مؤجلة. وعلى العكس من ذلك بالنسبة للرغبات المباشرة (العزف على القيثارة مثلاً) الفوائد مباشرة والتكاليف مؤجلة. ما العمل حينذاك لمواجهة الإغراءات ومحاولة السيطرة على الرغبات؟
هذه الحرب الداخلية هي إحدى أوجه ما يسميه علماء الاجتماع بـ"الانعكاسية" التي هي مقدرة الأفراد على التحليل الذاتي، وعلى التفكير في حوافزهم الخاصة وعلى محاولتهم السيطرة على مجرى حياتهم بوضع استراتيجيات للتغيير وتقنيات ذهنية للسيطرة على الذات.
وفق فيليب كوركوف Philippe Corcuff، الانعكاسية في علم الاجتماع يعني الأخذ على محمل الجد القدرات الفردية في الاحتراز ومراقبة الذات ووقوف الفرد على بعد من نفسه، فيتميز في ذلك عن علم الاجتماع القائل بالحتمية الذي فيه يكون الفرد محدَّداً في إقامته الاجتماعية وكأنه مقيّد بماضيه وبالوسط الذي ينتمي إليه. وبالنسبة إليه ينبغي فهم مسارات الأفراد الذين يحاولون التحرر من وسطهم والخروج من النمط السلفي؛ فالأفراد المعاصرون لا يعيدون تأهيل أنفسهم اجتماعياً انطلاقاً من أنماط عائلية فقط أو من طبقتهم الاجتماعية نفسها، مثل فتاة شابة تستشف في المدرسة وفي التلفاز وعبر قراءاتها أنماطاً سلوكية جديدة فتحاول التماثل والتطابق معها. تعود هذه الآلية إلى "التأهل الاجتماعي الاستباقي"، وإلى تأثير نماذج أو هويات محتملة متجسدة في أبطالنا وأساطيرنا الشخصية. الفرد يحلم بحياة أخرى وسيحاول التحوّل ليطابق حلمه مع الواقع. فهو لم يعد مبنياً بماضيه فقط لكنه يتطلع ويصبو إلى المستقبل.
يصف عالم الاجتماع جان- كلود كاوفمان Jean-Claude Kaufmann هذه الجدلية بين حياتنا الواقعية وحياتنا التي نحلم بها بصورة "حلزون مضاعف" تماماً مثل بنية الرمز الوراثي code genetique.
يتشكل الحلزون الأول من مجموع ما تعلمناه ومن الأنماط الذهنية والنظم المستبطنة التي تجعلنا نسلك بطريقة محددة يومياً وعلى نسق مطرد في القيام بالأعمال: إنْ في الوظيفة أو في العائلة، إنه أول رمز code لسلوكنا.
حول هذا الحلزون الأول يلتف الحلزون الثاني الذي يحمل أفكارنا الداخلية، فمسرحنا الصغير مصنوع من أحلام، ومشاريع وأفكار متنوعة والتي تتفاوت غالباً مع سلوكياتنا الواقعية.
وهذا الحلزون الثاني، يسميه وليام جيمس William James "مد الوعي"؛ هذه السينما الداخلية تنتج هوية بديلة التي هي ذاتنا الخفية والسريّة، والتي بينها وبين وجودنا الواقعي تفاوت وربما اختلال. إنها تحمل طموحاتنا وأحلامنا الداخلية وإرادتنا في التغيير.
لكن هذين الحلزونين في الشخصية ليسا غريبين الواحد عن الآخر. فهما يتفاعلان ويتشابكان ويؤثران في بعضهما بعضاً. مشاريع الأمس ساهمت في تغيير حياتنا؛ ما نحن عليه اليوم هو جزئياً نتيجة أحلام الماضي التي أتت لتندمج في شخصيتنا الذاتية البدئية. فالحرمان والكبت الذي مضى أو الرغبات المخبأة تستيقظ وتشكل الحلزون الثاني الجديد.
مثال: عندما كان جان- كريستوف روفان Jean-Christophe Rufin طفلاً كان يريد أن يصبح طبيباً مثل جده. وبلغ غايته؛ لكن لاحقاً بعد بضع سنوات استيقظ عنده حلم كامن آخر: فأراد أن يكتب، ليصبح كاتباً. كل مسألة التغيير الشخصي هي في محاولة موافقة ومطابقة هاتين الهويتين: حياتنا التي نحلم بها وحياتنا الواقعية.
يضع الأفراد على ممر الأيام استراتيجيات ووسائل وخدع شخصية في محاولة للسيطرة على سلوكياتهم، وتكون هذه الاستراتيجيات غالباً متنوعة ومتعددة.
من يرِد بلوغ مثال يحتذى يبحث عن "الصور – الهدف" محاولاً الوصول إلى مستواها والتطابق معها؛ فيحيط نفسه بصور أبطال ونماذج تكون مرجعاً بالنسبة إليه. والمرأة الشابة التي تتصفح المجلات النسائية، هل تقوم بذلك على سبيل التسلية البحتة؟ أو البحث عن نماذج للتسريحات؟ أو الملابس؟ كلا ليس من أجل ذلك فقط: فهي دون أن تعي تبحث عن نموذج حياة، لأنها تود أن تصنع لنفسها هوية جديدة؛ فالمظهر ليس شأناً عابراً كما يبدو لنا.
فمن يريد أن يفقد بعضاً من وزنه ليصبح نحيلاً، أو من تريد أن تتقدم لامتحان كي تصبح أخصائية تجميل أو من يريد أن يصبح موسيقياً"... عليه أن يقتنع بأن الانتقال إلى الفعل يمرّ عبر قرار ثم عبر تصميم وإقدام. لكن إذا لم يكن مترافقاً بوسيلة أو ببرنامج محدَّد يسقط بسرعة تحت نير الرتابة ونير الحوافز المعاكسة، والإغراءات المباشرة الآنية.
"اعتباراً من الغد سوف أتوقف عن الجلوس أمام التلفاز وسأرغم نفسي على الكتابة لمدة ساعة كل مساء". هذا كان الهدف الذي عيّنه البطل المضاد في رواية "التلفاز" للكاتب الروائي جان- فيليب توسان Jean-Philippe Toussaint. كان يود أن يبرأ من الإدمان على الشاشة الصغيرة، لكن دون أسلوب محدد ودون بديل قوي فهو يستسلم رازحاً تحت فتنة الشاشة.
التغيير يتطلب تحويل الأحلام إلى مشروع والمشاريع إلى برنامج محدد ودقيق. من هنا تبرز أهمية جدول الأعمال (الأجندا)، المفكرة الحميمية الخاصة أو الكراس أو قائمة بالأشياء التي علينا إنجازها، أو يوميات، أي وسيلة تذكير نقوم به لأنفسنا كأن نعلق لوحاً بارزاً أو ملصقات نضعها في زاوية المكتب، إلى آخره من الوخزات الصغيرة للتذكير والتي هي جزء من التقنيات للسيطرة الذاتية عند الأفراد الذين يبحثون عن حياة جديدة. بالنسبة إلى عالمة النفس الأمريكية إيرا بروغوف Ira Progoff المفكرة الشخصية المكثفة هي أداة متميزة في تغيير الشخصية.
لكن الانضباط الذاتي وأنواع التذكير بالنظام التي ترافقه هي غير كافية للتغيير الدائم. ففي مواجهة حافز غير كاف وإرادة ضعيفة عاجزة، من يبغي التغيير يفهم سريعاً أنه ينبغي عليه اللجوء إلى تقنية أخرى التي هي الحيلة.
كرَّس الفيلسوف جون إيلستر John Elster جزءاً كبيراً من مؤلفه لدراسة هذه الاستراتيجية الذهنية المرتكزة على التصرف ضد أنفسنا. ففي مواجهة عجز إرادتنا الذاتية، وتجاه صعوبة السيطرة على انفعالاتنا، نستخدم استراتيجيات تليق بـ"أوليس "Ulysse جيث نرسم خططاً مثل بطل الإلياذة الذي تعلق بصاري سفينته ليقاوم نشيد جنيات البحر. فنشهد تلميذ مدرسة مثلاً يطلب إرساله إلى المدرسة الداخلية كي يكون أكيداً بأنه سيصبح في إطار محرض على العمل. كذلك هو حال المدخن المتأصل الذي يعلن عن قراره لمحيطه عالماً أن الالتزام العام سيكون عبئاً بالنسبة إليه في أوقات ضعفه، الأمر الذي يدفعه أحياناً للتواري خلف الجدران كي يدخن كما لو كان مراهقاً. كذلك هو حال لاعب الميسر الذي يُكره نفسه قسراً ويطلب بأن يسجَّل اسمه على قائمة الأشخاص الممنوعين من دخول الكازينو..
سيزيف حاضر
اللجوء إلى المساعدات الخارجية، وفق العالم الكندي المختص بعلم النفس، إيف سان- آرنو Yves Saint-Arnaut يسمى بالـ"تغيير المستفيد من مساعدة". ولما كان من المعلوم أن محيطنا المباشر يؤثر على سلوكياتنا بطريقة أو بأخرى، يصبح من الضروري في أغلب الأحيان أن نوازن ونعدِّل المؤثرات التي نخضع لها بالمؤثرات المنتقاة.
يوجد ترسانة كاملة من الوسائل والطرق بعضها فعال في محاولة التغيير وبعضها الآخر غير فعال، فهناك نماذج للتشبه بها وبرامج شخصية ومحرضات ذاتية.
ولما كان سيزيف حاضراً على الدوام، فمهما كان أمر العزم والحذق والحيل والدهاء، فإن طريق التغيير مليء بالأفخاخ. بدءاً من الحمية الغذائية وصولاً إلى مشاريع الحياة الكبرى، فإن التغيير الشخصي هو عمل سيزيف Sisyphe ينبغي إعادته دوماً من البدء. يترافق التغيير على الدوام بالأمل، والخيبة والتشهير والشعور بالإثم يتبع ذلك طموح وآمال جديدة. وبالنتيجة فإن دورة المحاولات المجهضة والإخفاقات والنهوض والنجاحات الصغيرة كل هذه الأمور هي جزء من التغيير نفسه.
كما في السراب والخيال، فإن التحوّل الجذري للذات هو فكرة وهمية. ربما عدا الحالات القصوى. ولو أن اليوطوبيا تشارك بالتغيير الاجتماعي، إلا أن وهم التحوّل يساهم بتغيرنا.
بالنسبة إلى الغالبية العظمى منا، التغيير هو معركة دائمة. حرب على الذات نفسها حيث تصادف النجاح والفشل وأوقات من الصراع القوي والسلام النسبي؛ وفي نهاية الأمر، ربما الشيء الوحيد الذي لا يتغيّر فينا هو: رغبتنا في التغيير.
تغيير حياتنا
كان هنري كينسن Henry Quinson مقاولاً، ترك كل شيء ليصبح ناسكاً. هاروكي موراكامي Haruki murakami كان يعمل في ناد موسيقي للجاز، فأصبح كاتباً محترفاً. خلف هذه التحولات المذهلة، فإن مجرى حياتنا مقطَّع بتفرعات أقل غرابة: إعادة التوجه المهني والتسريح من العمل- الزواج والطلاق- تغيير الدين... ألا تؤثر هذه التغيرات في عمق شخصيتنا؟ وأبعد من أوامر مجتمع يدفع إلى التغيير والتكييف ألا يوجد أيضاً رغبة عميقة راسية في طبيعتنا البشرية؟ هل يوجد طرق جيدة لمحاولة قيادة التغيير؟ ما هي الأسباب والنتائج في التغيير الديني أو في اللجوء إلى جلسات التأمل، أو إلى الحميات الغذائية؟ كل هذه الأسئلة بدأت العلوم الإنسانية تنكب على دراستها وفهم ديناميكية التغيير وتحاول فك العقد.
المصدر: http://albahethon.com/?page=show_det&select_page=49&id=1037