الفلسفة الإشراقية لدى ابن طفيل

الفلسفة الإشراقية لدى ابن طفيل

محمد قجة

هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن طفيل. وهو عربي صميم ينتهي نسبه إلى قبيلة قيس.. ولد في "وادي آش" قرب مدينة غرناطة في الأندلس سنة 500هـ - 1106م.
كان الأندلس حينذاك تحت سلطة الموحدين الذين قامت دولتهم على أنقاض دولة المرابطين. وكانت دولة الموحدين من أقوى دول المسلمين في تاريخ المغرب، وقد اتخذت من مراكش عاصمة لها.
وفي غرناطة عرف ابن طفيل مراحل حياته العملية الأولى، فأصبح حاجباً لوالي غرناطة الموحدي من أبناء عبد المؤمن. كما كان طبيباً مشهوراً في المدينة.
وكان العصر الذي عاش فيه ابن طفيل عصر نضوج فكري كبير عرفه الأندلس، ويكفي أن نعلم أن ابن طفيل كان معاصراً لابن باجه المفكر الكبير الذي كان بمثابة الأستاذ لابن طفيل، كما كان معاصراً لابن رشد الطبيب والعالم والفيلسوف العظيم في تاريخ الفكر الإسلامي والعالمي.
كما عاصر ابن طفيل ثلاثة من خلفاء الموحدين هم:
- عبد المؤمن مؤسس الدولة.
- أبو يعقوب يوسف.
- يعقوب المنصور.
وقد أصبح ابن طفيل الطبيب الخاص للخليفة الموحدي أبي يعقوب، ثم تخلى عن عمله كطبيب وأوكل هذا العمل لابن رشد، وهو الذي قدم ابن رشد إلى الخليفة الموحدي. ويروي ابن رشد ذلك فيقول:
"لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني عليّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأي الفلاسفة في كذا وكذا... "
- 2 -
برع ابن طفيل بالطب والرياضيات والفلك والفلسفة والشعر، وترك مؤلفات في كل تلك العلوم، ولكنها ضاعت للأسف فيما ضاع من تراث الأندلس الهام.
وقد ذكر الفلكي البطروجي الذي كان تلميذاً لابن طفيل أنه أخذ عن أستاذه آراءه في الدوائر الخارجية والداخلية، وقد ورد ذلك في كتاب "الهيئة" للبطروجي.
والكتاب الباقي من مؤلفات ابن طفيل هو "حي بن يقظان" أو "أسرار الفلسفة الإشراقية". وهذا الكتاب هو سبب الشهرة العالمية التي يتمتع بها ابن طفيل.
في عام 1671م قام "بوكوك" بترجمة الكتاب إلى اللغة اللاتينية وأعطاه عنواناً هو "الفيلسوف المعلمُ نفسَه " وعنوانه باللاتينية : Philosophus Autodidactus.
وفي عام 1900 ترجمه ليون جوتييه إلى اللغة الفرنسية، وفي عام 1910 ترجمه بونس بويجيس إلى الأسبانية، وتلاحقت ترجماته بعد ذلك إلى اللغات الحيّة الأخرى كما أعيد طبعه بالإسبانية عدة مرات وبعدة ترجمات.
وللمستشرق الإسباني "غرسيه غومس" دراسة وافية حول هذا الكتاب وبيّن قيمته الفكرية والأدبية في تاريخ الفكر الأندلسي والعالمي.
ومن المعروف أن ابن سينا كان قد طرق الفكرة نفسها وتحت العنوان نفسه "حي بن يقظان". كما طرق الفكرة نفسها بعد ذلك ابن رشد والسهروردي.
ويتضح من قراءة كتاب ابن طفيل مدى ثقافته الواسعة واطلاعه على أصناف العلوم المختلفة، وإعجابه الشديد بفلسفة ابن سينا وابن باجه والغزالي.
يقول الأستاذ غرسيه غوس في تقديمه لكتاب "حي بن يقظان": "إن الهيكل العام للقصة قريب من قصة أسطورية تدعى "قصة الصنم والملك وابنته" ولا بد أن هذه القصة كانت معروفة عند أهل الأندلس. وهي إحدى القصص التي نُسجت حول شخصية الاسكندر الأكبر. وقد وجد ابن طفيل في هذه الفكرة الأدبية، ذات الحيوية المتصلة والتي تبدو حقيقية وإن كانت من نسج الخيال، السبيل إلى عرض نظرية المفكر المتوحد ونظريات فلسفية أخرى. وقد وردت فكرة الفيلسوف المتوحد في كتابات ابن سينا وابن باجه وقد وجد ابن طفيل فيها كذلك وسيلة تتفق مع تفكيره اتفاقاً بديعاً، بل ضمّت هذه الحكاية موضعاً مناسباً استطاع ابن طفيل أن يُفرغ فيه أفكاره، ومن هنا نتج هذا التأليف الجميل بين قصة شائعة وبين الأفكار الفلسفية، واستطاع ابن طفيل بأسلوبه العذب الذي يفيض ابتكاراً ومنطقاً وقوة شاعرية أن يخلق منها أثراً من أعظم ما أطلعته العصور الوسطى".
ثم يشير غرسيه غوس إلى كتاب ألفه "جراسيان" GRACIAN الكاتب الأسباني الأرغوني في القرن السادس عشر بعنوان "الناقد" El criticon. والفكرة في هذا الكتاب تشير إلى حد بعيد فكرة ابن طفيل مما يدل على أن جراسيان قد اطلع على كتاب ابن طفيل حتى قبل أن يترجم إلى اللاتينية.
- 3 -
يقع كتاب "حي بن يقظان" في /130/ صفحة من الحجم المتوسط. وكتلخيص له نورد الإيجاز الشديد الذي قدمه غرسيه غوس:
" في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وفي وسط ظروف طبيعية طيبة، حمل تيار البحر إلى هذه الجزيرة تابوتاً فيه طفل أحكمت أمّه زمّ التابوت عليه بعد أن أروته من الرضاع. وكانت هذه الأم أميرة مضطهدة في جزيرة مجاورة. فاستودعت ابنها الأمواج حتى تنجيه من الموت. وهذا الطفل هو حي بن يقظان.
وفي الجزيرة رأته غزالة فتبنته وأرضعته وصارت له كأمّه. ونما حيّ بن يقظان وأخذ يلاحظ ويتأمل ما حوله، وكان الله قد وهبه ذكاء وقاداً فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه. بل استطاع أن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يدرك بنفسه أرفع حقائق الطبيعة وما وراءها. وقد وصل إلى ذلك بطريقة الفلاسفة بطبيعة الحال.
ولكي يصل حيّ إلى المعرفة التي يبحث عنها دخل مغارة وصام أربعين يوماً متوالية مجتهداً في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن جسده بواسطة التأمل المطلق في قدرة الله.
وعندما بلغ ذلك المبلغ لقي رجلاً تقياً يسمّى "أسال" أقبل من جزيرة مجاورة إلى هذه الجزيرة يحسبها خلاء من الناس. وقام "أسال" بتعليم الكلام لحي بن يقظان المنفرد بنفسه والذي لقيَه دون أن يتوقع ذلك. ثم أخذ "أسال" صاحبه إلى الجزيرة المجاورة، وكان يحكمها ملك تقي يدعى "سلامان". وكان "سلامان" هذا صديقاً لأسال الذي اصطحب معه حي بن يقظان إلى جزيرة سلامان. وطلب سلامان من حي أن يكشف لأهل الجزيرة عن الحقائق العليا التي وصل إليها. فلم يوفق إلى ذلك، لأن العوام -في رأيه - لا يستطيعون استيعاب تلك الحقائق، لأنهم مكبّلون بأغلال الحواس.
وكان النتيجة أن عاد حي بن يقظان وصاحبه أسال إلى الجزيرة المنعزلة وعاشا في عزلتهما هناك".
وقد تناولت الدراسات المعاصرة هذا الكتاب بالشرح والنقد والتعليق. ومن أبرز الكُتاب العرب الذين تناولوا كتاب "حي بن يقظان"، أحمد أمين في كتابه الهام حول تاريخ الفكر العربي والإسلامي : "ظهور الإسلام" وهو الجزء الثالث من المجموعة التي أولها: " فجر الإسلام وثانيها ضحى الإسلام".
ويرى أحمد أمين أن ابن طفيل أراد أن يثبت أن الإنسان يمكن أن يرتقي من المحسوس إلى المفعول بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ويدرك مقدرة الله تعالى. والمعرفة عند ابن طفيل نوعان: معرفة حديثة ومعرفة نظرية.
كذلك تناول الدكتور عمر فروخ في كتابه "تاريخ الفكر العربي" كتاب ابن طفيل بدراسة تفصيلية وربط الأفكار الواردة فيه بالإطار العام لفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا وابن باجه والسهروردي وابن رشد وسواهم.
- 4 -
كان ابن طفيل عالماً موسوعياً عملاقاً، وله آراء في الرياضيات والفلك والهندسة. وكان ابن طفيل يقول بكروية الأرض وكروية الشمس.
كما بحث ابن طفيل في الحرارة والضوء وقدم نظريات فيزيائية سبق بها عصره. كما بحث في علم الأحياء. إلى جانب قرضه للشعر وبراعته في الطب تدريساً وتأليفاً وممارسة.
- 6 -
لقد كان أبو بكر بن طفيل واحداً من المفكرين الأفذاذ في التاريخ البشري ومن المؤسف والمؤلم أن نرى كثيراً من الكتابات الأوربية والاستشراقية تتجاهل التراث العربي وتنكره في محاولة مغرضة وبعيدة عن الروح العلمية النزيهة، محاولة تدفع إليها الكراهية والعداء التاريخي المتأصل بين حضارتنا والحضارة الأوربية.
ومثالاً على ذلك أكتفي بذكر كتاب المؤلف الأمريكي "ول ديورانت" وعنوانه " قصة الفلسفة من سقراط إلى جون ديوي".
في هذا الكتاب يتجاهل ديورانت كل التراث الفكري العربي والإسلامي ويقفز فوق القرون مباشرة من أفلاطون وأرسطو قبل الميلاد إلى العصور الحديثة في أوربا متناسياً أو متجاهلاً أو متعامياً عن الأسماء اللامعة التي كانت وراء النهضة الأوربية.. أسماء مثل ابن سينا وابن باجه وابن رشد وابن خلدون.
- 6 -
توفي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن طفيل سنة 581هـ ت 1185م في مدينة مراكش ودفن فيها أيام خلافة المنصور الموحدي.

المصدر : الباحثون العدد 56 شباط 2012

http://www.albahethon.com/?page=show_det&select_page=49&id=1406

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك