رومــــا والـــشـــرق

رومــــا والـــشـــرق

د. نــــبــــيــــل طــــعــــمــــة

كافة مشارق العصور القديمة تصل إليها، بعد معاناتها التي مرت بها مع الإمبراطوريات الآشورية والبابلية، والفرعونية، والفينيقية، واليونانية، تحط رحالها فيها، فاردة أشعتها ضمن إشراقاتها التي أدت إلى سيطرتها على كامل هذه الحضارات، من فارس وضفاف الفرات إلى جميع الأراضي حتى قرطاج، فضمّت جميع الأراضي المطلة على البحر الأبيض المتوسط، والذي أطلقوا عليه (ماري نوستروم) أي بحرنا. ننطلق من هنا، ونضيف أسطورة بناء روما وولادتها في الألف الأولى قبل الميلاد تقريباً سنة750، حيث كانت قرية صغيرة تطورت إلى مدينة لها شكل دولة، أنشأها التوءمان (روملوس وريموس) وهما ابنا (مارس) إله الحرب عند قدماء الرومان، وفي لحظة غضب قتل روملوس آخاه ريموس، ونصَّب نفسه أول ملك على مدينة روما، ليتشابها مع قصة قابيل وهابيل، بالتأكيد الصورة أسطورية. إذاً، هي روما التي ينتهي عندها كل شيء، ويبدأ شرق الغرب منها محوراً مهماً دقيقاً وخطيراً.
بعد أن تحدثنا عن كثير من شعوب المنطقة نصل إليها، نجدها تُطور مجتمعات شواطئ المتوسط من خلال تسلطها عليه، وبعدما تحدثنا عن الشرق الأدنى والوسط والأوسط، نجدها تجذبنا إليها، حيث كان لها الحضور في كل ما ذكرناه، وبما أنها وارثة الحضارات الروحية الأسطورية التي عاشتها كل الشعوب التي ذكرناها، نراها جميعها تنصهر في بوتقة روما، الإرث المادي والأدبي والروحي وحدته روما، وأظهرته كإرث خاص بها، والسياق التاريخي أعطاها الحضور النهائي لثقافة الروح الأوروبية والغربية، لتسيطر بعد اعتناقها للمسيحية، وتسجل الديانة المسيحية ديانة عالمية تحتل مركزه، ينطلق منها معلناً أنه الديانة العالمية الأولى على وجه البسيطة، فكل ذلك نتاج ما استلبته من إرث الآخرين وحضارتهم التي مروا بها، لتجمعها وتنجز منها حضورها النهائي المستمر عبر كل أشكال الحياة.
إن عمر روما الحقيقي عمر حضاري صغير جداً أمام أعمار الحضارات الكبرى التي ذكرناها، وهذا دليل على أن الإمبراطورية الرومانية التي تربعت على عرش الجمهورية الرومانية التي حكمت روما، طورت اللغة السياسية لروما وحكمتها بالاستبداد، فروما الجمهورية 510 ق.م ضعفت بسبب نزاع (جايس ماريوس وسولا)، والحرب الأهلية التي قادها يوليوس قيصر ضد بومبي، ويمكن اعتبار بدء الإمبراطورية الرومانية بتعيين يوليوس قيصر ديكتاتوراً دائماً لروما 44 ق.م، وهي المرحلة التي انتصر فيها اكتايف وريث يوليوس قيصر في معركة أكتيون 31 ق.م، والذي منح به مجلس الشيوخ الروماني عبارة التعظيم للأوكتافيين، ومنحه لقب أغسطس العظيم، نعود إلى احتلال الرومان فلسطين  سنة 63 قبل الميلاد بقيادة بومبي العظيم، الذي عين الحاكم الروماني هيرودس الأول الظالم والطاغي، الذي اعتنق اليهودية فيها، وقام بأمر من حاخامات اليهود بقتل زكريا ويوحنا المعمدان، واللذين كانا يقاومان طغيانه وعشقه لابنة أخيه الذي حرَّمته شريعة يوحنا الجديدة، فطلبت ثمن مهرها رأس يوحنا المعمدان، ونفذ الأمر نزولاً عند أوامر الشهوة وضغطها، كما قام هيرودس الثاني المتهور أيضاً بصلب السيد المسيح عام 33 م وأيضاً بوشاية كبيرة من حاخامات اليهود.
روما التي امتلكت لغتي اللاتين واليونان الإغريقية، انتقلت كعاصمة للإمبراطورية الرومانية بين 44 ق.م 286 م من روما إلى القسطنطينية، 330 م  إلى 1453 م كان سقوطها النهائي، ديانتها وثنية ومن ثم مسيحية، حكمها إمبراطوري دام 503 سنوات، أباطرتها 75 إمبراطوراً، كان تأسيس الإمبراطورية 27 ق.م، أول إمبراطور أغسطس وآخر إمبراطور رومولوس أغوستولوس، ظهر الرومان كشعب قادم من سكان سورية الطبيعية القاطنين شمال الجزيرة العربية، من الفينيقيين والكنعانيين أي من بلاد الشام ضمن رحلة البحث عن العيش، والقرطاجيين والإغريق بتنوعاتهم، حيث وصلوا إلى الجزر الإيطالية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
إنّ تكوّن الأمة الرومانية كان قد ابتدأ مع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عبر هجرات عشوائية وفوضوية كما ذكرنا، والوثائق التي بين أيدينا قليلة، فلم تثبت بدقة حضورهم إلى شبه الجزيرة الإيطالية وتأسيسهم لروما التي ذكرنا تاريخ نشأتها وبدء انطلاقتها، ومثلها مثل بقية المدن التي مررنا من خلالها، حملت الأساطير والروايات قضية حضورها، تدلنا الشواهد على أن أول ثورة هيأت لظهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كانت عام المجد والذي أسقط الشعب الروماني الملك الطاغية تارلينيوس عام 509 ق.م، حيث تم أول تنظيم للسلطة في روما، من هذا التاريخ نستطيع أن ننطلق في التوسع الجغرافي، بعد ذلك الاستقرار ابتدأ الهجوم على المحيط، وبه تم إخضاع العشائر والعائلات المحيطة بروما، التي أسست الجمهورية الأولى، ومن ثم الإمبراطورية الرومانية، متحولة من قوة لاتينية إغريقية فينيقية إلى قوة عسكرية عالمية، تأثرت بما يجري لتتأثر من خلال تحولها إلى مركز للعالم القديم، أغلقت حروبها الداخلية، وأول صراع كان مع شمال إفريقيا واحتلال صقلية 241 ق.م، وإخراج القرطاجيين الفينيقيين منها، وسميت حروبها بالحروب البونيقية، وكان (هانيبال) الفينيقي قائد قرطاج العسكري وابن أليسار ملكة صور الفينيقية شديد البأس، لم يهن عليه ما حصل لصقلية وغزا الأراضي الإيطالية من الجهة الشمالية الغربية (جبال الألب) بأفياله، انتصر على الرومانيين بمعركة (كاني) وقطع نهر تليبيه كما استولى على مدينة (ساعونتوم) حليفة روما، ساعد هانيبال تحالفه مع الملك الإغريقي المقدوني فيليب الخامس، عادت روما إلى قوتها، وسحقت الجيوش الغازية في معركة إلبا، وأخضعت القرطاجيين لحكم روما، لتتجه أنظارهم إلى الشرق، حيث سيطروا على كامل الجزر الواقعة في شرق حوض البحر المتوسط، وعلى كافة أشكال النفوذ الإغريقي المقدوني، ووصلوا إلى أراضي المملكة السلوقية التي كانت تسيطر على أجزاء من آسيا الصغرى وسورية الطبيعية، اتسعت حدود الجمهورية الرومانية حتى وصلت إلى إسبانيا غرباً وشمال إفريقيا، قسمتها إلى مقاطعات وربطتها بالحكومة المركزية في روما، عَبَد الرومان الآلهة الإغريقية من خلال غزو الفكر اليوناني لهم خلال القرن الرابع قبل الميلاد وتأثرهم  به، ومن ثم أعطوها أسماء يونانية، وبنوا معابد ومزارات لتكريمها، وكان الكهنة موظفين حكوميين يأتون إليها إما بالانتخاب أو التعيين، كان الاعتقاد بأن للآلهة الأسطورية سلطة على الزراعة، وعلى محاور حياتهم اليومية، فمثلاً الإلهة (سيريز) للحصاد، و( فيستا) حارس نار الموقد، و( يانوس) حارس للأبواب، و(لاريس وبيناتيس) تحرس الأسرة والبيت، وإن جوبيتر هو أكبر آلهتهم وإله الآلهة كان إلهاً للسماء، ومتحكماً في الطقس، أعطت الأسرة الرومانية للأب سلطة مطلقة على جميع أفراد أسرته، فكان يحق له بيع أولاده رقيقاً، أو حتى قتلهم، ولم يكن بإمكان الابن حيازة أي ملكية خاصة أو التمتع بأي سلطة شرعية، بما في ذلك أولاده مادام أبوه على قيد الحياة، فكانت الأسرة كالعشيرة، تضم الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد، مجتمعين في منازل كبيرة أو بساتين كبيرة. لقد بُنيت المسارح ذات المدرجات المكشوفة ومنها (الكلوسيوم) والذي يتسع لخمسين ألف متفرج، حيث كانت تمارس فيه فنون القتال حتى الموت أو التصارع مع الحيوانات المتوحشة، كما أنشئ مضمار السبق البيضاوي الشكل والذي يتسع في ذلك الوقت إلى 250 ألف شخص، حيث تجري فيه المراهنات على أفضل المتسابقين، تبنّت روما العمارة الإغريقية التي اشتملت على المعابد المحاطة بالأعمدة والأروقة المسقوفة المعروفة باسم تورتيكو، اقتبس النحاتون الرسامون اليونان من الفن الإغريقي اليوناني والسوري الفينيقي، فعكست أعمالهم الفنية أشكالاً إنسانية نابضة بالحياة كما أنجز (فرجيل) الشاعر الروماني ملحمته الشهيرة (الإنياذة) عن روما متأثراً بالملاحم الإغريقية السابقة الإلياذة والأوديسة.
لم نلحظ ونحن نتجول في روما قبل الميلاد وبعده بقليل، أي حتى الألف الرابعة بعد الميلاد؛ إلا الصور الجمالية التي تستعد للانتقال بنا إلى عوالم الأدب والفن والجمال، فالجمهورية والديمقراطية والإمبراطورية القوية أنجزت عالماً فريداً من نوعه، جمعته من اختلاف الأعراق وتنوع العادات، ليغدو عالمها شاسعاً وواسعاً ومترامي الأطراف، أداره نظام واحد على الرغم من تنوع العلاقات بين المناطق المتباعدة، أي من فارس حتى الأطلسي، لقد اقتربت روما من المعجزة، بكوننا لم نلحظ ظهور إمبراطورية بهذا الاتساع وذلك التنظيم والمقدرة على السيطرة على كل ذلك، لقد نافست روما العواصم الهلينية وانتصرت عليها، وبوصول أغسطس إلى سدة حكمها الذي انتصر على أنطونيوس وكليوباترا اللذين كانا مسيطرين على موارد الشرق الهليني ومادياته الكبيرة، وإدراكهم بأن موارده لا تنضب، أسس لاحقاً لضياع روما، ومن خلال الانتباه والوعي الكبير لقادة روما وإرادتهم تحقيق الشهرة التاريخية من الشرق البعيد إلى الشرق القادم من الغرب، أنجز التجلي الفكري والأدبي والفني بصورته الكلاسيكية، إغريقي وهليني، والمشبع بالفلسفات والتعاليم الهلينية الإغريقية والفينيقية والفارسية والفرعونية، خلق له هذا الحضور الآسر ليغدو له الحضور والاستمرار، وهذا العصر الذي صنعه أغسطس من 27 ق.م إلى 14م استحقه هذا الإمبراطور والذي أطلق عليه عصر أغسطس، وإن الإدراك الكبير الذي تمتع به أن السلطة المطلقة لا تحضر إلا في حقل سياسي كبير قوي ومتحرك، يصطاد في عالم الفكر والأدب والجمال؛ كي ينجز الفنون المبهرة من خلال توجيهه لرجال الفكر والفن والصناعة والتجارة الذين يختارهم بدقة، كي تكتمل صورته التاريخية، ففي عهده دعا فرجيل لكتابة الأنياذة، هذا الروماني الرائع الذي أنجب صورة في الفنون الرفيعة، وكان صديق أغسطس (مكيني) الذي غدا رمزاً لأنصار العلم والأدب، حتى أنه دعا المؤرخ (تيتليف) الذي رأى النور في بومبي وعهد إليه بشرف تهذيب حفيده (كلوديوس) الذي أصبح فيما بعد إمبراطوراً، لقد أحدث أغسطس برؤيته الواسعة توقاً عارماً لدى شعوب الأرض قاطبة للنظام والانضباط والاتزان والوضوح، بكونه حينما طرحها قدّمها على شكل مطالب عقلية مقنعة للعقل، تهيمن على المشاعر وتتحكم بانطلاقها والتعبير عنها.
لن نبتعد عن روما سيدة العالم ضمن تاريخها المولودة فيه، مغمورة كانت في بداياتها مؤثرة ومتأثرة، وهي تستكمل رسم مصيرها، لا بد لنا إلا أن نتابع البحث في عاصمة العالم قبل أن نغادر منها إلى العالم الذي أخضعها إلى سلطته بعد كل هذا الألق، وأذابها فيه كما يذوب الملح في الماء، واحتفاظها كحضارة وحيدة لمدة سبعة قرون في العالم المتوسطي، حقق لها اجتماع كامل العصور القديمة فيها، فبالإضافة إلى الإغريق اليونانيين الذين أسهموا في تشييدها وحكمها لم تعرف اليهود مثلها مثل أثينا، إلى أن قام هدريان الملك الروماني بتدمير معابدهم في القدس، وهيكلهم وتشريدهم ونفيهم وتحويلهم إلى طبقة عبيد، من خلال إرسال قسم منهم إلى روما، كان ذلك في عام 135م . كان للسوريين خمسة أباطرة، كان منهم جوليا دومنا 166م، والإمبراطور سپتيميوس سروس 123-211م، والإمبراطور كركلا 211-217م، وإلاكابال 218-222م، والإلكسندروس سروس 222-235م، وفيليب العربي (فليبس) 244-249 م، والمهندس أبلودر الدمشقي صديق الإمبراطور تراجان الذي عاصره  98-117 م، ورافقه في فتح (داسيا) رومانيا حالياً، بنى عمود تراجان بارتفاع 33 متراً بشكل حلزوني وملون، وميدان تراجان الذي يشبه صحن جوبيتر المعبد الدمشقي والذي تحول إلى الجامع الأموي، والجسر العملاق على نهر الدانوب (جسر نيسيه)، وأيضاً السوق التراجانية والفوروم، ومعبد البانتيوم الشهير وأقواس النصر، وشارع داماسينا الباقي في روما، وحمامات تراجان، والحوض السداسي في أوسيتا مرفأ روما، والمصريون حضورٌ في ترجمة صعودها وتألقها، وإن احترام روما للديانات القائمة في مناطق سلطتها وسلطانها أدى للكثير من احترام أباطرتها باستثناء التوراتيين، والذين كثيراً ما أثاروا حفيظة روما وريبتها منهم ومحاربتهم، ومحاولة القضاء عليهم وتمثيلهم بشياطين الأرض.
إن ولادة يسوع (السيد المسيح) قد وضعها الرومان والتي تصادف في 25 من مارس، حيث بها كانت إشارة الملاك (لمريم العذراء)، وكان الاحتفال به ثانوياً في 220م، وأيضاً اعتبر اللاهوتي (تريتليان) بأنه قد مات في 25 آذار سنة 29 ميلادي، كما بفضل الدارسين الحديثين وضع تاريخ الصلب في 3 نيسان من 33 م، وChristmas مكونة من مقطعين Christ ومعناها (المخلص) وmas وتعني (الميلاد في اللغة الفرعونية)، وحين حكم الإمبراطور قسطنطين اعتبر 25 كانون الأول ميلاداً ليسوع، وكان ذلك أول مرة في القرن الرابع الميلادي، وفي هذا الوقت كانت روما تحتفل بنفس اليوم بولادة إله الشمس (سول انفيكتوس)، واسم العيد كان (الساتورنالية) وأغلب الشعوب الوثنية القديمة عبدت الشمس- كما ذكرنا في أبحاثنا- في يوم 25 كانون الأول بكونه يوماً يبدأ بازدياد طول النهار، ففي الشرق الأقصى كان الصينيون يحتفلون بـ25 كانون الأول بعيد ميلاد ربهم (جانغ تي)، والفرس أيضاً كانوا يبتهجون في ذات اليوم، أي 25 كانون الأول بميلاد الإله البشري (ميثرا)، وأيضاً الإله الهندوسي (كريشنا)، وهو الإله الأبرز في الهند ولد في منتصف ليل 25 من شهر سرافانا (التقويم الهندي في التاريخ القديم)؛ الذي يوافق يوم 25 كانون الثاني، و( كريس) الإله الكلداني ولد في نفس اليوم أيضاً، أي في 25 ، كما أن المخلص ابن الله (أتيس) ابن الإلهة نانا إلهة القمر ولدته في يوم 25 كانون أول، الأنجلوساكسون كانوا يحتفلون قبل المسيحية بميلاد إلههم جاو وابور في 25 كانون الأول، وفي ذات اليوم الإله الاسكندنافي ثور ولد فيه، كما أن عيد المخلّص في سورية والقدس وبيت لحم (أتيس) كان يحتفل به، نذكر هذه التواريخ من أجل إظهار دور روما في تحديد التأريخ الميلادي، وأيضاً دعوة للتأمل والتفكر في التاريخ القديم، وحينما نعود إلى الإمبراطورية الرومانية؛ ونحن في روما لا بد من ذكر الإمبراطور (نيرون) الذي حكمها بيد من حديد ومن ثم أحرقها، بعد أن سادت عصره المؤامرات والاغتيالات السياسية، لقد لعنته أمه وكانت إحدى ضحاياه، وزوجته أوكتافيا التي قام بقتلها حينما اعترضت على دوره لحظة سقوط الصولجان، وقتله لمعلمه الفيلسوف الروماني الكبير (سينيكا)، وحينما راوده خياله من أجل إعادة بناء روما أحرقها والتهمت النيران ثلثيها، راقبها وهو يجلس على برج مرتفع يتسلى باحتراقها واحتراق أهلها، ثار عليه الشعب والكهنة، فألصق التهمة بالمسيحيين الجدد، وطالب شعبه بالقبض على المسيحيين واضطهادهم وسفك دمائهم وتقديمهم للوحوش الكاسرة، وحرقهم بالنيران أمام الوثنيين من الرومان، كما كان من ضحاياه الرسولان بولس الرسول القادم من دمشق؛ والذي أسس للمسيحية العالمية في روما، وبطرس الرسول، كذلك قتلهما عام 68م، سادت الفوضى والجريمة والفساد، فأعلن مجلس الشيوخ في روما أن نيرون أصبح عدواً للشعب، فانتحر في ذات العام، لم تعرف روما كما أثينا اليهودية التوراتية، فقد دمرت مملكتهم الثانية في أورشليم (القدس).
نصل إلى أن نقول عن هذه الرائعة والمتحف العالمي المفتوح روما، والتي لم تتفهَّم إمبراطورياتها وجمهوريتها الديمقراطية الوحيدة سبل الحفاظ عليها أولاً، وثانياً على إنجازاتها التي انتشرت في محيطها، وبشكل خاص حوض البحر الأبيض المتوسط، وعليه كان لا بد من الإشارة إلى أن روما نُهبت إلى الغرب القادم فيما بعد كشرق نهباً سياسياً واقتصادياً وعلمياً وأدبياً، أي نهبت الصورة الثقافية والحضارية، بعد أن نهبت روما كامل الشرق الأوسط بشماله الإغريقي وجنوبه الإفريقي، وشرقه الفينيقي الكنعاني السومري الفارسي، ليترك لها فقط الإرث الديني والذي ارتضاه الغرب لها، وهو يولد شرقه الجديد فيه، وتبقى روما بلا رصيد، وكشيخ ضعيف أو ما يطلق عليها رجل أوروبا المريض، تعيش سمات الدين ومعانيه الصورية ضمن المؤامرة الغربية الكبرى، أي تبقى تعيش كما الشرق بأجمعه على الدعاء والتعطف، وقليل من العواطف.
روما الرومانية وفي عهد قسطنطين الأكبر يرممها بردائه الجديد، هذه الهلينية الرومانية والبيزنطية مدينة الآلهة الوثنية والوضعية والتصويرية والتخيلية، تبدأ تحمل الولادة المسيحية التي تقبل انقسامها إلى شرقية وغربية، والتي أعطتها الأولية الدينية بعد خسارتها لكامل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، محدثة التبدل الكبير، يغتصبها الغرب في 417 م بعد غارة (الآريك)، حيث يعود روتيلس لاماتيانوس من بلاد الغال إلى مسقط رأسه، ويرد على تصريحات القديس أغسطينوس في لا مبالاة غرائبية، وعليه نرى في 330 ق.م انتقال روما إلى مدينة بيزنطة، وتغير اسم بيزنطة إلى القسطنطينية نسبة إلى الإمبراطور قسطنطين الأكبر في عام 395 م، حيث تصبح روما الإمبراطورية الرومانية الغربية، والقسطنطينية هي الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وتسقط الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس على يد القبائل الجرمانية، تشهد بيزنطة القسطنطينية تطوراً معمارياً فريداً؛ بإنجازات العمارة في 537 م، وتستمر سيطرتها على الأجزاء الجنوبية من جميع بلاد الأناضول وسورية الطبيعية حتى الجزيرة العربية بكاملها، وجزء من بلاد فارس، وبلاد الرافدين ومصر. لم تذكر مكة المحمدية في تاريخ روما القديم، ولا أثينا، ولا مصر الفرعونية، ولا فارس، حيث كانت خارج التغطية، والتي سندخل عليها بعد روما من خلال بيزنطة العاصمة الرومانية الشرقية، والتي غدا اسمها بعد القسطنطينية اسطنبول التركية، حيث سقطت عام 1453م، وبالعودة إلى روما الغربية نجدها تدخل عصر الظلمات من القرن الخامس إلى القرن العاشر الميلادي، لتصاب كامل الحاضرة الغربية بزمن اللعنات، وتشهد كما أوروبا الغربية الانحطاط، فلم يبقَ من حضارة روما العظيمة العاصمة العالمية ضمن هذا التاريخ سوى الأديرة والكاتدرائيات وبعض القصور الملكية، وقليل من المدارس تضيع فيها المهارات والتقنيات القديمة، ولبس العلماء ثوب الجهل، وسادت سلطة الكنيسة الوسيط الإلهي كما سادت الشائعات والروايات، ظلام دامس خيَّم على روما وكامل الغرب؛ من خلال اللعنات الخفية على روما التي مارست السبي، والنهب، والاستعمار، والاقتباس لكامل الحضارات السابقة، فتغرق في مكائدها، وليبزغ من تحت أجنحة بيزنطة فجر أمة جديدة وحضارة جديدة اسمها حضارة العرب المسلمين، تنطلق تحت راية مكة المحمدية.
روما التي أنجزت فكرة الخلود الإمبراطوري في التاريخ، لم تستطع أن تخلد في التأريخ، لماذا؟ هل ليخلد الصليب من الفكرة التوراتية التي زرعت الخيانة بين حواري السيد المسيح، كي يستطيعوا لاحقاً إنجاز ضم تاريخهم المشكوك فيه إلى التاريخ العظيم القادم في الديانة العالمية الأولى المتوقعة، فيخلد التوراتيون بخلوده، وهنا مكمن القصيد والمسؤولية الذي حوَّل التاريخ التوراتي الضعيف إلى حقائق بفضل قداسة الإنجيل ؟ سؤال مهم يجب أن نتوقف عنده وهو: ما هو دور روما المتحول إلى عاصمة لأكبر ديانة عالمية مسيحية تحتل المرتبة الأولى في سلم الديانات؟ بعد أن كانت عاصمة للعالم في عصور ما قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، ألا وهو دورها في تعزيز الدور التوراتي اليهودي كوجود أممي ضعيف في العدد، ومؤثر في الوجود لم يستطع أن يجد حضوره كدين عالمي مسجل على قائمة الأقل والقليل جداً ضمن الترتيب الديني العالمي، هؤلاء الذين مسحت روما وجودهم الزمني الضئيل في الأرض الكنعانية: القدس ومصر الفرعونية والبلاد السورية والفارسية والرافدين، مرة ثانية، ما هو الدور الذي لعبته روما وتلعبه من خلال اعترافها بأن العهد القديم هو حاضنة العهد الجديد في الكتاب المقدس للمسيحية جمعاء، وما علاقة محفل فلورنسا وقصة لقاء الكنيستين في عملية التوحد ومن ثم انفصالهما، وقتل القديس بولس القادم من دمشق؛ والذي أرسل رسائله إليها وهو في كورنثوس، وقبله صلب المسيح وإقرار المجمع المسكوني في القرن الرابع الميلادي، وأين هي أناجيل الحواريين الحقيقية أتباع المسيح التي جُمعت في روما؟ لتكون روما الأولى الحاملة للكرسي الرسولي بعد القسطنطينية التي انتهت فيما بعد، والإسكندرية القبطية وأنطاكيا الأرثوذكسية المتحولة إلى القدس عاصمة الإيمان القادمة، روما الجمهورية والإمبراطورية تفقد كامل ألقها كعاصمة للعالم تعيش على نهر التيبر، خالدة كعاصمة دينية للمسيحية، تعود لتنشئ دولة الفاتيكان الدينية، متخلية مرة ثانية عن حضورها العالمي وتحولها إلى حاضنة بعد تجريدها من كل شيء.

المصدر: http://www.albahethon.com/?page=show_det&select_page=50&id=1416

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك