ثقافة الحوار.. وثقافة التسامح

ثقافة الحوار.. وثقافة التسامح

بقلم   د. يحيى الجمل   

 

تغيب أو تضمر ثقافة الحوار وثقافة التسامح فى المجتمعات المتخلفة وتنمو وتزدهر فى المجتمعات المتحضرة.

والظاهرة اللافتة للنظر أن غياب - أو ضمور - هاتين الثقافتين فى المجتمعات المتخلفة يبدو أكثر وضوحاً عند من يتصورون أنهم من المثقفين أو من أصحاب الرأى، على حين يبدو قاع المجتمع فى مثل هذه الشعوب أكثر تسامحاً.

وأنا أقول دائماً إن التعميم يؤدى إلى الخطأ، ذلك أنه يوجد حتى فى المجتمعات المتخلفة بعض المثقفين وبعض قادة الرأى الذين يتمتعون بثقافة الحوار ويمارسون التسامح مع الآخرين.

التعميم دائماً يؤدى إلى الخطأ ولابد من ذكر ذلك وتكراره.

لكن ماذا أقصد بثقافة الحوار؟

وماذا أقصد بثقافة التسامح؟

وأتصور أن الأولى مقدمة للثانية، بحيث إذا لم توجد الأولى غابت الثانية.

فإذا لم توجد ثقافة الحوار غابت ثقافة التسامح،.وثقافة الحوار تعتمد أساساً على أن تجيد فن الاستماع أولاً، وأن تستوعب ما سمعته قبل أن ترد عليه، وأن تفكر فى مضمون الرد مرة ومرة قبل أن تطلقه.

وعلينا أن نتساءل بأمانة: هل تسود أغلب حواراتنا العامة هذه الثقافة؟

ثقافة الاستماع الجيد والاستيعاب والتفكير قبل الرد؟

أعتقد أن الواقع يقول إن عكس هذا هو الصحيح فى الغالب من الأمر طبعاً وليس فى كل الأحوال، وهناك حالات نادرة يحدث فيها ذلك الذى أقول.

انظر إلى كثير من مناقشاتنا فى أغلب المنتديات العامة، الكل يتكلم فى وقت واحد، والمقاطعة للمتحدث قبل أن يتم حديثه هى السمة الغالبة، والذى يدير الحوار - حال وجوده - يعانى من تنظيم أحاديث المتحاورين كل المعاناة ويخرج فى النهاية وهو لم يرض أحداً.

أليس هذا هو حال أغلب حواراتنا؟

الكل يريد أن يتحدث ولا أحد يريد أن يستمع، وهذا بالضبط هو ما يطلق عليه حوار الطرشان.

ولذلك فإن أغلب حواراتنا لا تنتهى إلى نتائج مفيدة، أغلب المتحاورين يبدأ وهو يعتقد أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة وأن من يخالفه على خطأ ولا يستحق أن يستمع إليه، ذلك على حين أنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة إلا «الله» - سبحانه وتعالى - فالحقائق فى عالم البشر كلها حقائق نسبية.

الحقيقة المطلقة الوحيدة فى عالمنا هى حقيقة «الموت»، ولذلك وصفه القرآن بدقة حين قال: «حتى يأتيك اليقين».

اليقين الوحيد المطلق فى هذه الدنيا هى «إنك ميت وإنهم ميتون» كما قلت فى خطاب مفتوح إلى السيد الرئيس السابق حسنى مبارك وهو فى صولجان سلطانه وعلى صفحات هذه الجريدة.

المشكلة الكبرى فى ثقافة الحوار، والتى تبدو جلية فى كثير من مناقشاتنا وحواراتنا، هى أننا لا نعرف كيف نختلف ثم قد نتفق نتيجة الحوار على بعض الأمور ونختلف على بعض الأمور الأخرى.

كل أحد يريد أن يتشبث برأيه ولا يستمع إلى الآخر، إنه وحده يعرف الحقيقة وغيره لا يعرفونها.

وبهذا الشكل يتوقف الحوار ويصبح غير مجد، وهكذا لا نعرف كيف نختلف ولا كيف نتفق ولا كيف نعمل كفريق متجانس، وما إن تبدأ مجموعة عملاً جاداً حتى يدب بين بعض أفرادها الشقاق نتيجة أن كل أحد يريد أن يصر على رأيه ولا يستمع لرأى الآخرين، فضلاً عن أن يناقشه أو يفكر فيه.

وأعود فأكرر أن الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد فى كل الحوارات، فى أحيان نادرة وبالذات فى المجموعات الصغيرة يسمع المتحاورون بعضهم ولا يقاطع أحداً ولا يتسرع فى الرد قبل أن يستوعب، و،لكن بأمانة شديدة كم نصادف مثل هذه الحالات، أظن أنها نادرة والغالب هو غياب أو ضمور ثقافة الحوار.

تعالوا نتعلم كيف نتحاور وكيف نختلف وكيف ننتهى إلى نتائج مفيدة تنفع الناس.

وكما قلت فى بداية هذا المقال فإنه إذا غابت ثقافة الحوار فإن ثقافة التسامح بدورها لابد أن تغيب.

صدق من قال: خير الناس من يلتمس العذر للناس قبل أن يلقى الاتهام على الآخرين.

والديانتان السماويتان الكبيرتان - المسيحية والإسلامية - تحضان على التسامح إلى أبعد الحدود.

تحضان على ذلك بما جاء فى أقوال السيد المسيح - عليه السلام - وفى أقوال نبينا محمد - صلوات الله عليه - وتحضان على ذلك أيضاً بما هو أكثر تأثيراً من القول وهو السلوك والتصرف مع الآخرين.

ما أظن أنه وجد فى تاريخ البشرية من هو أكثر تسامحاً من السيد المسيح - عليه السلام - والذى وصل به تسامحه إلى أن يقول: «إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر»، وسار فى حياته مع حوارييه ومع مفكريه على هذا النحو من التسامح الراقى الفريد الذى ألان له القلوب.

وسيدنا رسول الله - صلوات الله عليه - كان فى كل تصرفاته كبير العقل كبير القلب، مرت عليه وهو جالس ذات مرة «جنازة» فوقف احتراماً لجلال الموت فقال له أحد جلسائه إنها جنازة يهودى - وقد عانى - صلوات الله عليه - من اليهود الكثير، فما كان منه إلا أن قال: أليس صاحب كبد رطبة؟ أليس إنساناً؟

هذا هو السمو بعينه.

وفى سلوكه مع نصارى نجران ومع كل من اختلف معه، كان دستوره قوله سبحانه وتعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، وكان يقتدى فى حواراته بالآية الكريمة: «وجادلهم بالتى هى أحسن».

وعندما عاد رسول الله - صلوات الله عليه - إلى مكة منتصراً لم ينتقم من أهلها الذين أذاقوه صنوف الهوان، وإنما سامحهم وعفا عن ذنبهم وآمنهم فى ديارهم، بل إنه جعل دار أبى سفيان ملاذاً آمناً لمن يلجأ إليه.

هل بعد هذا تسامح؟

وإذا كان هذا هو شأن الأنبياء فإن كبار العقول من الفلاسفة والمفكرين ساروا على نفس الهدى والنهج.

انظر إلى سقراط، وكيف كان يحاور تلاميذه، وكيف أصبحت تلك الحوارات دروساً للإنسانية كلها ترددها دروس الفلسفة وقاعات المحاضرات فى كل جامعات العالم حتى يومنا هذا.

تعالوا نتواصل ونتعلم ثقافة الحوار وثقافة التسامح، لكى تتصالح مصر مع نفسها، ولكى تنهض وتجد الحلول لمشاكلها.

إذا تمترس كل أحد فى خندقه ورفض الآخر، فإننا لن نحسن حواراً ولن نصل إلى تسامح وسنظل - والعياذ بالله - فى عداد المتخلفين.

اللهم أهد أهلنا فى «قنا» وفى كل مكان، كى يتعلموا ثقافة الحوار وثقافة التسامح اللذين دعت إليهما كل الملل والأديان.

المصدر: http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=294658&IssueID=2116

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك