الحوار مع المخالف

الحوار مع المخالف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها المستمعون الكرام، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، أما بعد؛ فإنَّ الحديث في هذه الحلقة، وحلقات قادمة إن شاء الله تعالى سيدور حول حوارات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المخالفين.
معاشر مستمعينا الكرام.. الحوار مع المخالف أيًا كان خلافه مطلب له أصوله وضوابطه وآدابه، وليس المقام ها هنا مقام البحث في ذلك، وإنما المقصود بيان شيء من هديه -عليه الصلاة والسلام- في هذا الشأن، فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحاور أصناف المخالفين من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين، ومسالمين ومحاربين، سواءٌ كانوا من أكابر أقوامهم أو من عامتهم، وكان في ذلك كله يأخذ بما أدبه به ربه في الكتاب العزيز، كمثل قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله -عز وجل-: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، وقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، إلى غيرها من الآيات الحاثة على العدل والإحسان ولو كان المخالف من ذوي الشنآن.
والسيرة العملية في حواراته عليه الصلاة والسلام مع الطبقات المخالفة، ناطقة بذلك شاهدة به، ومن أمثلة حواراته -عليه الصلاة والسلام- في هذا الصدد: حواراته مع اليهود، فاليهود قوم بهت، وقبل بعثه -عليه الصلاة والسلام- كانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويخبرونهم بأنه سيخرج نبيّ، وأنهم سوف يحاربون معه، فلما جاءهم ما عرفوا من ظهور النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كفروا وكذبوا هذا النبي، وآذوه وسحروه، وهموا بقتله، وأرادوا إطفاء نوره، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ومن جملة ما قاموا به محاولةُ إيقاعه في الحرج بكثرة الأسئلة وإثارة الشبه، إذا كانوا أهل علم وجدل، فكان -عليه الصلاة والسلام- يحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيجيب عن أسئلتهم وإشكالاتهم وشبههم التي كانوا يثيرونها، كل ذلك في غاية ما يكون من الحسنى ولين الكلام وقوة الحجة.
ومن أمثلة ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: كنت قائم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء حبر من اليهود فقال: السلام عليكم يا محمد، فدفعتُه دفعة كاد يصرع منها، فقال: لمَ تدفعني، قلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي) فقال اليهودي: جئتُ أسألك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أينفعك شيء إن حدثتك؟)، قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعودٍ معه فقال: (سل): فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تُبدل الأرضُ غير الأرضِ والسماوات؟، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هم في الظلمة دون الجسر) قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: (فقراء المهاجرين)، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟، قال: (زيادة كبد النون)، قال: فما غذاؤهم على إثرها، قال: (ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: (من عين فيها تسمى سلسبيلًا)، قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل أو رجلان، قال: (أينفعك إن حدثتك؟)، قال: اسمع بأذني، قال: جئتُ أسالك عن الولد، قال: (قال ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة؛ أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل؛ آنثا بإذن الله) قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به) رواه مسلم.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يلزم أهل الكتاب بما في كتبهم من العلم، وينعى عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم، وكانوا لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة تشتمل على شيء من الدقة والمعرفة، وإن كانوا ضالين، والحبر اليهودي في هذا الحديث حاور النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودار في خلَده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لن يستطيع الإجابة عن أسئلته، غير أنّ ظنه لم يكن في محله، حيث أجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- عن تلك الأسئلة، كما أن في ذلك الحوار أدبًا نبويًا عاليًا، ألا وهو التواضع الجم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تواضع لهذا اليهودي، وتنزَّل في محاوراته، حيث وافقه ورضي منه بأن يناديه باسمه المجرد، دون أن يعترف له بالرسالة، طمعًا في هدايته، كما أن فيه أدبًا آخر من آداب الحوار، ألا وهو ترك التحاور فيما لا ينفع، حيث سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبر عن مدى نفع جوابه له فقال: (أينفعك إن حدثتك؟) ولهذا آتى الحوار ثمرته وانقطع اليهودي وأقر بالنبوة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة محاوراته لليهود ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: بينما أنا أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حرث وهو متكئ على عسيب، إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح: فقال: (ما رابكم إليه؟)، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئًا، فعلمتُ أنه يُوحى إليه، فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
ومن الأمثلة على حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود ما جاء عن الفلتان بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ شخَص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونَعلان، قال: فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكلِّمه وهو يقول: يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتشهد أني رسول الله؟) قال: لا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتقرأ التوراة؟) قال: نعم، قال: (أتقرأ الإنجيل؟)، قال: نعم، قال: (القرآن؟) قال: لا، ولو تشاء قرأته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فبم تقرأ التوراة والإنجيل، أتجدني نبيًا)، قال: إنا نجد نعتك ومخرجك، فلما خرجتَ رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفنا أنك لست به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ولم يا يهودي؟)، قال: إنا نجده مكتوبًا يدخل من أمته سبعون ألفًا بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفرًا يسرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أمتي لأكثر من سبعين ألفًا وسبعين ألفًا) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال رواه البزار ورجاله ثقات، وكذا ذكره ابن كثير في صحيح السيرة النبوية، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرِّجوه، وقال الألباني في صحيح السيرة النبوية لابن كثير: إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
وإلى هنا معاشر مستمعينا الكرام ينتهي وقت هذه الحلقة، التي دارت حول مقدمة في أدب الحوار مع المخالف، وحول بعض حوارات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: http://www.muslimat.net/?action=etha3a_desc&id=3732&sec=99&c=