التكفير أخطاره وضوابطه

التكفير أخطاره وضوابطه

إشراف
الأستاذ / عمر أسيف

إعداد
أبو عبد الله الخطيب

المقدمة:

إن الحمد لله ، نحمده ، و نستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا ها له، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

وبعد ..
لماذا هذا البحث ؟
لأنه في أشرف العلوم وهو علم العقيدة, واخترته تحديدا في مسألة دقيقة .. شائكة .. حساسة .. متداخلة .. ألا وهي مسألة التكفير وضوابطه . وهي مسألة اختلف فيها الناس قديما وحديثا , فكانوا ومازالوا طرفين ووسطا :
طرف كان ولا يزال يرى أن التكفير شرط فيه الاستحلال أو الجحود فمن أتي بأي معصية ما لم يستحلها لا يكفر حتى وإن كانت هذه المعصية كفرا منصوص عليه , وقد يحكمون على الأعمال الكفرية بأنها غير مكفرة وأنها من المعاصي التي هي دون الكفر.
وآخر يكفر بالشبهات ويتصيد الزلات والعثرات , وينصب نفسه - بلا أهلية معتبرة شرعا - قاضيا يحكم على من يشاء بما شاء , فيكفر ويخرج من أرد من حظيرة الإسلام , غير منتبه لخطورة هذا الأمر عليه وعلى المجتمع وعلى وحدت الصف الإسلامي .
و الحق وسط بين هؤلاء و هؤلاء , كوسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المائلة - يمينا أو يسارا - عن الصراط .
ولقد شد انتباهي منذ زمن وأنا أقرأ في هذا الموضوع, وأتدارسه وأناقشه مع إخواني من طلاب العلم , أن أقوى شبهة لدى الطرف الأول الذي لا يرى الكفر بالمعاصي هي سوء فهم قول الأئمة أمثال الإمام الطحاوي – رحمه الله – في قولهم " ولا نكفر أحد من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " . وهو كلام حق , ولكن الخطأ في سوء الفهم والاستدلال به في غير موضعه , مع بعض الشبه الأخرى التي تأتي في محلها إن شاء الله تعالى .
كما شد انتباهي أن أقوى شبهة لدى الطرف الثاني الذي يفرط في التكفير بما لا يبلغ حكم الكفر موضوع المولاة , فيكفرون بأفعال لا تبلغ حد الموالاة المكفرة ظنا منهم أنها موالاة مكفرة , وهم لا يدرون أن المولاة لها ضوابط ومن الموالاة ما يكون كفرا ومنها ما هو دون ذلك , بالإضافة إلى ذلك لدي هذا الطرف سوء فهم لبعض النصوص الواردة بالوعيد لمن فعل فعلا معينا هو دون الكفر . وسيأتي في موضعه كلام الطرفين وأدلتهم مع ترجيح الحق بأدلته .
والله أسأل أن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

خطوات البحث : هذا البحث قسمته إلى ثلاث أبواب وطرحة لكل باب أسئلة لأجيب عليها من خلال البحث:
الباب الأول : التعريف بالكفر و أنواعه
للوقوف على المراد بالكفر لغة وشرعا وعليه فيكون الباب الأول مجيبا على هذه الأسئلة :
• ما هو الكفر لغة وشرعا ؟ وما هي أنواعه وأقسامه ؟
• هل الكفر بكل أنواعه يُخرج من الملة ؟ وما هي الذنوب المكفرة ؟
• هل أطلق الشرع على معصية لفظ الكفر و أراد به ما دون الكفر ا؟
• هل الكفر يكون في أصول العقيدة فقط أم أنه يكون في أصول العقيدة وفي الأقوال والأعمال التي دون الأصول؟
الباب الثاني : خطورة التكفير
ثم بعد باب التعريف بالكفر وأنواعه , باب توضيح خطورة التكفير وإنها لخطورة كبيرة على من يلقي هذا الحكم بلا أهلية معتبرة شرعاً , كما هي خطورة أيضا على من يتلبس بهذه المعصية الشنيعة التي تترك أثارها وعواقبها الوخيمة لترى عواقبها في الدنيا قبل الآخرة .
وعليه فسيكون هذا الباب إجابة على هذه الأسئلة :
• لماذا حذرنا الشارع في الكتاب والسنة من التكفير ؟
• ما مدى خطورة تكفير معين ؟
• ما الأحكام المترتبة على تكفير المعين ؟
• كيف كان يتورع علماؤنا عن تكفير من لم يكن كفره جليا ؟
ومن جهة أخرى :
• لماذا التكفير ؟
• هل منعت هذه الخطورة الحكم على من تلبس بالكفر بأنه كافر ؟
ثم الباب الثالث : ضوابط تكفير المعين
وفيه – إن شاء الله تعالى - توضيح الفرق بين الإفتاء والقضاء كتمهيد .
ثم الضوابط التي تكون في المفتي من حيث أهليته للإفتاء في هذا الأمر الخطير
ثم الشروع في ضوابط تكفير المعين من حيث استيفاء الشروط وانتفاء الموانع .
وعليه يكون الباب مجيبا على هذه الأسئلة :
• ما الفرق بين الإفتاء والقضاء ؟ كتمهيد
بالنسبة للمفتي :
• هل لكل أحد أن يفتي في مسائل الكفر والإيمان ويخرج من شاء من الإسلام أو يدخل من شاء في حظيرة الإيمان ؟
• ما هي الضوابط التي تكون في من ينطق بهذا الحكم ؟
• كيف كان يحكم قضاتنا في مثل هذه المسائل الحساسة ؟
بالنسبة للمعين المحكوم عليه:
• ما هي موانع التكفير بالنسبة لمن فعل فعلا مكفرا ؟
• متى يعذر بالجهل ومتى لا يعذر به ؟ أو هل كل فعل يعذر فيه فاعله بالجهل؟
• ما هي حدود الضرورة المعتبرة شرعا لرفع الكفر ؟
• هل يكفر من تأول نصاً ظني الدلالة ؟ و هل كل تأويل مستساغ ؟
ثم ختمت البحث :
بالوقوف على أقوى شبهة للمتساهلين في الحكم بالتكفير على المعين, وهي شبهة: التكفير بما يظن أنه موالاة مكفرة, وستكون هذه الوقفة إجابة على هذا السؤال :
• هل كل فعل يعتبر موالاة مكفرة ؟
و كذلك شبهة الطرف الآخر في اشتراطهم الجحود أو الاستحلال في المعصية حتى تكون كفرا, وستكون هذه الوقفة إجابة على هذا السؤال:
• هل كل فعل يشترط فيه الجحود والاستحلال ليكفر صاحبه ؟
ثم الخاتمة وفيها أهم ما وقفت عليه في هذا البحث .
فالفهارس العلمية مع ضبط الآيات, وتخريج الأحاديث, وإسناد الآثار, وتسجيل المراجع التي اعتمدتها في هذا البحث.

زكريا الخطيب

الباب الأول
التعريف بالكفر و أنواعه

الفصل الأول
التعريف بالكفر و أنواعه

• أولا: معنى الكفر لغة
• ثانيا : خلاصة ما يراد بالكفر لغة
• ثالثا : ما يستفاد من كلام أهل اللغة

الفصل الأول
أولا: معنى الكفر لغة
لكي نقف على المراد بالكفر لابد من دراسة استخداماته في اللغة العربية وكذا المراد به في عرف الشرع , ودليلنا في ذلك المعاجم وأقول علماء اللغة.
لسان العرب :
" الكُفْرُ: نقـيض الإِيمان، آمنَّا بالله و كَفَرْنا بالطاغوت؛ كَفَرَ بالله يَكْفُر كُفْراً و كُفُوراً و كُفْراناً. ويقال لأَهل دار الـحرب: قد كَفَرُوا أَي عَصَوْا وامتنعوا. و الكُفْرُ: كُفرُ النعمة، وهو نقـيض الشكر. و الكُفْرُ: جُحود النعمة، وهو ضِدُّ الشكر. وقوله تعالـى: { إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ }؛ أَي جاحدون. و كَفَرَ نِعْمَةَ الله يَكْفُرها كُفُوراً و كُفْراناً و كَفَر بها: جَحَدَها وسَتَرها. و كافَرَه حَقَّه: جَحَدَه. ورجل مُكَفَّر: مـجحود النعمة مع إِحسانه. ورجل كافر: جاحد لأَنْعُمِ الله، مشتق من السَّتْر، وقـيل: لأَنه مُغَطًّى علـى قلبه. قال ابن دريد: كأَنه فاعل فـي معنى مفعول، والـجمع كُفَّار و كَفَرَة و كِفَارٌ مثل جائع وجِياعٍ ونائم ونِـيَامٍ؛ قال القَطامِيّ:
وشُقَّ البَحْرُ عن أَصحابِ موسى *** وغُرِّقَتِ الفَراعِنةُ الكِفارُ
وجمعُ الكافِرَة كَوافِرُ. وفـي حديث القُنُوتِ: "واجْعَلْ قلوبهم كقُلوبِ نساءٍ كَوافِرَ"، الكوافِرُ جمع كافرة، يعنـي فـي التَّعادِي والاختلاف، والنساءُ أَضعفُ قلوباً من الرجال لا سيما إِذا كُنَّ كوافر، ورجل كَفَّارٌ و كَفُور: كافر، والأُنثى كَفُورٌ أَيضاً، وجمعهما جميعاً كُفُرٌ، ولا يجمع جمع السلامة لأَن الهاء لا تدخـل فـي مؤنثه، إِلاَّ أَنهم قد قالوا عدوّة الله ، ... وقوله تعالـى: { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا }الإسراء 99؛ قال الأَخفش: هو جمع الكُفْرِ مثل بُرْدٍ وبُرودٍ.
القاموس المحيط:
" الكُفْرُ، (بالضم): ضِدُّ الإيمان، ويفتحُ، كالكُفُورِ والكُفْرانِ، بضمهما. وكَفَرَ نعْمَةَ اللَّهِ، و- بها كُفُوراً وكُفْراناً: جَحَدَها، وسَتَرَها. وكافَرَهُ حَقَّهُ: جَحَدَهُ. والمُكَفَّرُ، كمُعَظَّمٍ: المَجْحُودُ النِّعْمَةِ مع إحسانِهِ. وكافِرٌ: جاحِدٌ لأِنْعُمِ اللَّهِ تعالى ج: كُفَّارٌ، (بالضم)، وكَفَرَةٌ، (محرَّكةً)، وكِفارٌ، (ككِتابٍ)، وهي كافِرَةٌ، من كَوافِرَ. ورجلٌ كَفَّارٌ، كشَدَّادٍ، وكَفُورٌ: كافِرٌ ج: كُفُرٌ، بضمتين. وكَفَرَ عليه يَكْفِرُ: غَطَّاهُ، و ـ الشيءَ: سَتَرَهُ، ككَفَّرَهُ. والكافِرُ: الليلُ، والبَحْرُ، والوادِي العظيمُ، والنهرُ الكبيرُ، والسَّحابُ المُظْلِمُ، والزارِعُ، والدِّرْعُ، و ـ من الأرضِ: ما بَعُدَ عن الناسِ، كالكَفْرِ، والأرضُ المُسْتَوِيةُ، والغائطُ الوَطِيءُ، والنَّبْتُ، وع بِبِلادِ هُذَيْلٍ، والظُّلْمَةُ، كالكَفْرَةِ، والداخِلُ في السِّلاحِ، كالمُكَفِّرِ، كمحدِّث، ومنه: (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بعضُكم رِقابَ بَعْضٍ»، أو مَعْنَاهُ: لا تُكَفِّرُوا الناسَ فَتَكْفُرُوا). اهـ

معنى الكفر في مفردات القرآن :
" الكُفْرُ في اللُّغَةِ ستْرُ الشيءِ، وَوصْفُ الليل بالكافِرِ لِسَترِهِ الأشخاص، وَالزَّرَّاع لستْرِه البذْر في الأَرض، وليسَ ذلك باسْمٍ لهُمَا كما قال بعضُ أهل اللُّغة لمَّا سمِعَ: أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا في كَافِرٍ. والكافُورُ اسْمُ أكمَام الثّمرة التي تكفرُها، قال الشاعرُ: كَالْكَرْمِ إذْ نَادَى مِنَ الكَافُورِ ..
وَكُفْرُ النِّعْمَةِ وكفْرَانهَا ستْرُها بترْكِ أداء شكْرها، قال تعالى: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}. وأعظمُ الكُفْرِ جُحُودُ الوَحْدَانِيَّة أو النُّبُوَّةِ، وَالكُفْرَان في جُحُود النِّعْمَةِ أكثرُ استعمالاً، وَالكُفْرُ في الدِّين أكثرُ والكُفُورُ فيهمَا جميعاً قال: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا - فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} ويقالُ منهما كَفَرَ فهو كافِرٌ، قال في الكُفران: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } وقال: {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } وقوله: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي تحرَّيْتَ كُفران نعْمتي، وقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وَلمَّا كَانَ الكُفرانُ يقتضي جُحُودَ النِّعمةِ صارَ يُسْتَعملُ في الجُحُودِ، قال: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي جاحِدٍ لهُ وساترٍ، والكافرُ على الإطْلاقِ مُتَعَارَفٌ فيمنْ يجْحدُ الوَحْدانيَّة أو النُبُّوَّةَ أو الشريعةَ أَو ثلاثتهما، وقد يقالُ كفرَ لمنْ أَخلَّ بالشّرِيعَةِ وترَكَ ما لزِمَهُ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ عليه، قال: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } يدُلُّ على ذلك مُقابلتُهُ بقوْله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وقال: { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } وقوله: { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي لا تكُونوا أئمَّةً في الكُفرِ فيُقْتَدى بكُمْ، وقوله:{وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عُنيَ بالكَافرِ السَّاتِرُ للحقِّ فلذلك جعلهُ فاسقاً، ومعلومٌ أنّ الكُفْرَ المطْلقَ هو أعَمُّ منَ الفِسق، ومعناهُ من جحَد حقَّ اللَّهِ فقد فسقَ عن أمرِ رَبِّ بظُلمهِ. وَلمَّا جُعِلَ كلُّ فعلٍ محمودٍ منَ الإيمان جُعِلَ كلُّ فعْلٍ مذمومٍ منَ الكُفرِ.
وقال في السّحْر: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وقوله:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} ــــ إلى قوله ــــ {كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ــــ إلى قوله ــــ {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} والكَفُورُ المبالغُ في كُفْرانِ النعمةِ، وقوله: {إنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} إن قيلَ كَيْفَ وُصِفَ الإنسَانُ هَاهُنَا بالكَفُورِ ولم يَرْضَ بذلك حتى أُدْخِلَ عليه إنَّ واللاّمُ وَكلُّ ذلك تأكيدٌ، وقال في مَوْضِعٍ: {كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} فقولُه: {إنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مبين} تنبيهٌ على ما يَنْطَوِي عليه الإنسانُ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَقلَّةِ ما يَقُومُ بأداء الشُّكْرِ، وعلى هذا قولُه: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ولذلك قال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقولُهُ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(الإنسان 3) تنبيهٌ أنه عَرَّفَهُ الطّرِيقَيْنِ كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} فمِنْ سَالِك سَبيلَ الشُّكْرِ، ومنْ سالكٍ سَبيلَ الكُفْرِ، وقولُهُ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} فمنَ الكُفْرِ وَنَبَّهَ بقولِهِ: {كان} أنه لم يَزَلْ مُنْذُ وُجِدَ مُنْطَوِياً عَلَى الكُفْر. وَالْكَفَّارُ أَبْلَغُ من الكَفُورِ لقولِهِ:{كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ق: 34 .

وقال تعالى:
{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ـ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ - إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا }
وقد أُجْرِيَ الكَفّارُ مَجْرَى الكَفُورِ في قولِهِ: { إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } والكُفارُ في جمعِ الكافرِ المُضَادِّ للإيمَانِ أَكْثرُ اسْتِعْمَالاً كقولِهِ:{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} وقولِهِ: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} والكَفَرَةُ في جَمْعِ كافِرِ النِّعْمَةِ أَشَدُّ اسْتِعْمَالاً وفي قولِه: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} ألا تَرَى أنهُ وَصَفَ الكَفَرَةَ بالفَجَرَةِ؟ وَالفَجَرَةُ قد يقالُ لِلفُسَّاقِ مِنَ المُسلِمِينَ.
وقولُهُ: {جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي من الأنبيَاءِ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ مِمّنْ بَذَلُوا النُّصْحَ في أمْرِ اللَّهِ فلَمْ يُقْبَلْ منهم. وقولُه: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } قيلَ عُنِيَ بقولِهِ إنهُمْ آمَنُوا بمُوسَى ثمّ كَفَرُوا بمَنْ بَعْدَهُ. والنصارى آمَنُوا بعِيسى ثم كفَرُوا بمَنْ بَعْدَهُ. وقيل آمنوا بمُوسى ثم كفَرُوا بمُوسى إذْ لم يُؤْمِنُوا بِغَيْرِهِ، وقيلَ هو ما قال: { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ} إلى قولِهِ: { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ } ولم يُرِدْ أنّهُمْ آمَنُوا مَرَّتَيْنِ وَكَفَرُوا مَرَّتَيْنِ، بَلْ ذلك إشارَةٌ إلى أحْوالٍ كَثِيرَةٍ. وقيلَ كمَا يَصْعَدُ الإنْسَانُ في الفضَائلِ في ثَلاَثِ دَرَجَاتٍ يَنْعَكِسُ في الرّذائلِ في ثلاثِ دَرَجَاتٍ والآيةُ إشَارَةٌ إلى ذلك، وقد بَيَّنْتُهُ في كِتَابِ الذّرِيَةِ إلى مكارِمِ الشّرِيعَةِ. ويقالُ كَفَرَ فُلانٌ إذا اعْتَقَدَ الكُفْرَ، ويقالُ ذلك إذا أظْهَرَ الكُفرَ وإن لم يَعْتَقِدْ ولذلك قال: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } ويقالُ كفَرَ فُلاَنٌ بالشَّيْطَانِ إذا كفَرَ بِسَبَبِهِ، وقد يقالُ ذلك إذا آمَنَ وخَالَفَ الشَّيْطَانَ كقوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ} وَأَكْفَرَهُ إكْفَاراً حَكَمَ بِكُفْرِهِ، وقد يُعَبَّرُ عن التّبَرِّي بالكُفْرِ نحوُ: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} الآية وقوله تعالى: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} وقولُهُ: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} قيلَ عَنَى بالكُفّار الزُّرَّاعَ لأنّهُمْ يَغطُّونَ الْبَذْرَ في التُّرَابِ سَتْرَ الكُفّارِ حَقَّ اللَّهِ تعالى بِدَلالَةِ قولِهِ: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ولأنّ الكافرَ لا اخْتِصَاصَ له بذلك وقيلَ بَلْ عَنَى الكُفَارَ، وخَصّهُمْ بكَوْنِهمْ مُعجِبِينَ بالدُّنْيَا وَزَخارِفِهَا ورَاكِنِينَ إليها. وَالْكَفَّارَةُ مَا يُغَطَّى الإثْمَ ومنه كفارَةُ اليمينِ نحوُ قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وكذلك كفّارَةُ غَيْرِهِ من الآثامِ كَكَفَارَةِ القَتْلِ والظِّهَار قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَالتَّكْفِيرُ سَترُهُ وتَغْطِيَتُهُ حتى يَصِيرَ بمَنْزِلَةِ مَا لم يُعْمَلْ ويصحُّ أن يكونَ أصْلُهُ إزالَةَ الكُفْرِ و الكُفْرَانِ نحوُ التّمْرِيضِ في كَوْنِهِ إزَالَةً لِمَرَضِ وتَقَذْيَةِ العَيْنِ في إزَالَةِ القَذَى عنه، قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ـــ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وإلى هذا المَعْنَى أشارَ بقولِهِ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ... وَتَكَفَّرَ في السِّلاحِ أي تَغَطَّى فيه، والكافُورُ أكْمَامُ الثَّمَرَةِ أي التي تَكْفُرُ الثّمَرَةَ، قال الشاعرُ: كالكَرْمِ إِذْ نَادَى منَ الكافُورِ
والكافُورُ الذي هو من الطِّيبِ، قال تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}. انتهى .
وبعد هذه الجولة في المعاجم اللغوي قد خرجنا بدُررٍ نضعها في السطور التالية.

ثانيا: خلاصة ما يراد بالكفر لغة
إذا تفحصنا كلام أهل اللغة لنقف على معاني الكفر, وما يراد بع في اللغة العربية, و خاصة فيما ورد في لغة القرآن - المتحدى بفصاحته- نجد انه قد ظهرت لنا معان جليلة, أسجلها هنا في نقاط مستنبطه من مجموع النصوص المتقدمة :
• الكفر نقـيض الإِيمان: لذا فأعظمُ الكُفْرِ جُحُودُ الوَحْدَانِيَّة أو النُّبُوَّةِ" ويمكن أن نضيف أن أعظم الكفر جحود ما يعنيه الإيمان, وأصول الإيمان هي : الإيمان بالله أي بوحدانيته , وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره , أي أعظم الكفر جحود الإيمان بالمعنى الذي عرفه به الرسول – صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل( ) , ثم يلي ذلك أنواع من الكفر تذكر في موضعها من البحث بمشيئة الله تعالى وعونه.
• ومن الكفر كُفرُ النعمة فيكون نقـيض الشكر وبمعنى جحود نعمة المنعم أي : بترْكِ أداء شكْره على نعمه . والمنعم هو الله الكريم المتعال ذو النعم التي لا تحصى وكفران نعمه تكون بأنواع بعضها أعظم أثما من بعض . وعلى معنى كفران النعمة فسر قول فرعون لموسى - عليه السلام - {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} المقصود به تحرَّيْتَ كُفران نعْمتي .
• والكفر يطلق على العصيان والامتناع .. ولذا يقال لأَهل دار الـحرب: قد كَفَرُوا أَي عَصَوْا وامتنعوا. كما ذكر ابن منظور في اللسان. قلت: ولا يبعد أن يكون المقصود امتنعوا أي استتروا بحصونهم فيدخل في المعنى الآتي بعده .
• ومن معاني الكفر الستر بعموم اللفظ , ومنه ستر الحق وتغطيته, وقد قال أهل اللغة - كما مر- " ستر الشيء" هكذا بصيغة العموم والاستغراق. ولذا قيل كَفَرَتِ الشمسُ النُّجُومَ أي : سَتَرَتْهَا. وَالْكَفَّارَةُ : سمية كذلك لأنها تغطي الإثم وتستره فكأنه لم يكن .
ووصف به المزارعين : لما كان من معنى الكفر الستر والتغطية وصف فلاح الأرض (الزَّرَّاع) " كافر" لأنه يغطي البذر ويستره في الأرض وجُمع على كفَّار في قوله تعالى { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي: أعجب الزراع.
• واستخدم الكفر مجازا في عدة أشياء أظهرها: الليل لأنه يستر بظلامه كل شيء وخَصه أهل اللغة ( بستر الإنسان) لأنها من أعظم نعم الله على الإنسان, و هو ستر له من باب الاستعارة وفيه تشبيه الليلُ بالثوب بجامع الستر في كليهما.
• ويدخل في معنى الكفر الحجب والتغليف ولذا قال أهل اللغة : "سمي الكافر كافراً لأنه مغطى على قلبه, فيكون فاعل فـي معنى مفعول" . وعاندوا الرسول {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. البقرة
• ويوصف به الباغي وعلى ذلك فسروا (كُفَّاراً) في قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - "لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بعضُكم رِقابَ بَعْضٍ" بالداخِلُ في السِّلاحِ على إحدى التفسيرات اللُغوية كما أتضح من تعريف الفيروز آبادي السابق. وليس المراد به الكفر الذي هو نقيض الإيمان و إنما سمي بذلك لأنه تََكَفَّرَ في السِّلاحِ أي تَغَطَّى فيه واستعد لضرب أخيه المسلم.
• ويطلق الكفر على منْ أَخلَّ بالشّرِيعَةِ ولا يراد به الكفر المخرج من الملة, قال تعالى : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } ثم دلت المقابلة في بقية الآية { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } الروم 44, على أن المراد بالكفر هنا عدم أداء الشكر الواجب لله تعالى والتقصير في مقابلة النعم بالأعمال الصالحة.
• ويطلق الكفر ويراد به التّبَرِّي فيعبر عن التبري بالكفر و دليله في لغة القرآن : {ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} يكفر أي يتبرى , وكذلك سيكفر الشيطان أي سيتبرى من أتباعه فيقول : {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } إبراهيم 22.

ثالثا: ويستفاد من كلام أهل اللغة:
 أن لفظ الكفر إذا أطلق يراد به الكُفْرُ في الدِّين( ).
 و أن لفظ الكفران يراد به كفران النعمة على الأكثر.
 و أن لفظ الكُفُورُ (بضم الكاف) يجمع المعنيين: الكفر في الدين وكفر النعمة, وترجيح إحدى المعنيين يحتاج إلى قرينة قد تفهم من سياق الكلام أو بدليل مرجح للمعنى المراد.
 و أن لفظ الكَفُورُ (بفتح الكاف) هو المبالغُ في كُفْرانِ النعمةِ . لذا قال صاحب مفردات القرآن في استدلاله : { إنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مبين- الزخرف 15} فيه تنبيهٌ على ما يَنْطَوِي عليه الإنسانُ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَقلَّةِ ما يَقُومُ بأداء الشُّكْرِ . وقد يراد به مطلق الكفر والدليل قوله تعالى: {وكان الشيطان لربه كَفورا- الإسراء 27}.
 و أن لفظ الكُفَار جمع كافر ويطلق على الكافر المضاد للإيمان { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} . الفتح 29
 وكَفَرَ فُلانٌ: وصف يطلق لغةً إذا اعْتَقَدَ الكُفْرَ، أو إذا أظْهَرَ الكُفرَ وإن لم يَعْتَقِدْ . ودليل ذلك قول الله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } النحل 106 , وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه .

ثالثا: ضابط لغوي:
والكفر قد يتعدى بالباء فيكن كفره أكبر وقد لا يتعدى بها فيؤوّل على حسب المراد, فكفر بالله أو بالقرآن كفر أكبر لأنه متعدى, أما (كفر العشير). أو النعمة, فإننا لا نقال كفر بالعشير إنما نقول (كفر العشير) وهكذا..
قال الكرماني: " لم يُعدَّ كفر العشير بالباء كما عدي الكفر بالله "( ) أي تأملوا ذلك. وعليه فيجب مراعاة ما لم يتعدى في الأحاديث بالباء ويقاس عليها كل معصية أطلق عليها لفظ الكفر وهي لم تبلغ الكفر الأكبر. وعليه يستنبط أن :

كل لفظ كفر لم يتعدى بالباء ككفر العشير لا يكن كفراً أكبراً

وبهذه الخلاصة نكون قد وقفنا على ما يعيننا في بحثنا من الناحية اللغوية المراد بها الكفر, وبعد ذلك ننتقل إلى لفظ الكفر وما يراد به في الشرع.

الفصل الثاني
ما أطلق عليه الشارع لفظ الكفر وأريد به ما دون ذلك
أولا: ما ذكر في القرآن بلفظ الكفر ولم يكن مراد الشارع به الكفر
ثانيا: ما ذكر في السنة النبوية بلفظ الكفر ولم يكن مراد الشارع به الكفر

تمهيد

المعصية قد تكون كفرا مخرجا من الملة ,وقد تكون من الموبقات, والموبقات : هي أمهات الكبائر, وقد تكون المعصية كبيرة من الكبائر , أو قد تكون معصية دون كبائر في الحرمة و الإثم والعقاب, وقد تكون من الَلمم التي يتجاوز عنها الله سبحانه وتعالى قال تعالى:
((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)) النجم 32
وهذه أمور معلومة ولا شك فيه , والمراد- في هذا الفصل - أن نبحث في نص الكتاب والسنة: هل أطلق الشارع على معصية معينة لفظ الكفر وأريد به ما دون الكفر الأكبر؟ .
لأن الوقوف على مراد الشارع يرفع كثير من اللبس الذي قد يوقع البعض في التكفير بما ليس بمكفرٍ, وهو خطر عظيم يجب محاربته بإظهار الحق بما لا يدع ريبة لمرتاب, ويرسخ اليقين والحق في قلوب الباحثين بهذه المسألة.

وأول ما سأبدأ به هو استخراج نصوص الكتاب - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- فيما أطلق فيه لفظ الكفر في الظاهر ولكن المراد ليس كذلك و دليلنا أقول أهل العلم من المفسرين في هذا المقام, مجمّعين أقوالهم لنقف على حقيقة هذه المسألة.

ثم ننتقل بعد ذلك باحثين عن المعاصي التي ذكرت في الأحاديث النبوية وأطلق فيه لفظ الكفر ولم يرد به الكفر المخرج من الملة.

أولا: ما ذكر في القرآن بلفظ الكفر ولم يكن مراد الشارع به الكفر

هذا حصر لبعض الآيات التي ورد فيها لفظ الكفر وظاهرها أن المراد ليس الكفر المخرج من الملة وسنبحث في التفاسير لنقف على مراد الشارع من الكفر في هذه الآيات قال تعالى:
سورة النمل
وقوله تعالى:
الفرقان
وقوله تعالى:
البقرة
وقوله تعالى:
الشعراء
وقوله تعالى :
إبراهيم

وقوله تعالى:

الروم 44, 45

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} ــــ إلى قوله ــــ {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
سورة البقرة
وقوله تعالى في سور النحل :

هذه هي الآيات التي سنقف معها في هذا الفصل بالتفصيل بمشيئة الله .

تفسير الآيات

أما تفسيرقوله تعالى :
النمل
قال الإمام الطبري :
وَقَوْله : { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي }
( يَقُول : هَذَا الْبَصَر وَالتَّمَكُّن وَالْمُلْك وَالسُّلْطَان الَّذِي أَنَا فِيهِ حَتَّى حُمِلَ إِلَيَّ عَرْش هَذِهِ فِي قَدْر اِرْتِدَاد الطَّرْف مِنْ مَأْرِب إِلَى الشَّام , مِنْ فَضْل رَبِّي الَّذِي أَفَضَلَهُ عَلَيَّ وَعَطَائِهِ الَّذِي جَادَ بِهِ عَلَيَّ , لِيَبْلُوَنِي , يَقُول : لِيَخْتَبِرَنِي وَيَمْتَحِننِي , أَأَشْكُرُ ذَلِكَ مِنْ فِعْله عَلَيَّ , أَمْ أَكْفُر نِعْمَته عَلَيَّ بِتَرْكِ الشُّكْر لَهُ ؟ وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهُ : أَأَشْكُرُ عَلَى عَرْش هَذِهِ الْمَرْأَة إِذْ أُتِيت بِهِ , أَمْ أَكْفُر إِذْ رَأَيْت مَنْ هُوَ دُونِي فِي الدُّنْيَا أَعْلَم مِنِّي ؟ ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
20555 - حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جُرَيْج , قَالَ : أَخْبَرَنِي عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْده قَالَ هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ } عَلَى السَّرِير إِذْ أَتَيْت بِهِ { أَمْ أَكْفُر} إِذْ رَأَيْت مَنْ هُوَ دُونِي فِي الدُّنْيَا أَعْلَم مِنِّي ؟ )( ).
قال ابن كثير رحمه الله: " قَالَ هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي " أَيْ هَذَا مِنْ نِعَم اللَّه عَلَيَّ " لِيَبْلُوَنِي " أَيْ لِيَخْتَبِرَنِي "أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُر لِنَفْسِهِ" كَقَوْلِهِ " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا(فصلت 46) " وَكَقَوْلِهِ " وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ " الروم 44 ,وَقَوْله " وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّ كَرِيم " أَيْ هُوَ غَنِيّ عَنْ الْعِبَاد وَعِبَادَتهمْ كَرِيم أَيْ كَرِيم فِي نَفْسه فَإِنْ لَمْ يَعْبُدهُ أَحَد فَإِنَّ عَظَمَته لَيْسَتْ مُفْتَقِرَة إِلَى أَحَد وَهَذَا كَمَا قَالَ مُوسَى : " إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّه لَغَنِيّ حَمِيد " تفسير القرآن العظيم لابن كثير

وَفِي صَحِيح مُسْلِم " يَقُول اللَّه تَعَالَى :
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْب رَجُل مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِركُمْ وَإِنْسكُمْ وَجِنّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَر قَلْب رَجُل مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّه وَمَنْ وَجَدَ غَيْر ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسه ".
فمن هذه النصوص يتبين لنا أن المراد بالكفر هنا هو عدم أداء النعمة والقيام بشكرها
وقد فهم ذلك لأن الكفر مقابل لشكر النعمة في الآية الكريمة فيفهم من سياق الكلام أن المراد ليلوني أأشكر نعمته وأقوم بحقها, أم أكفرها أي لا أؤدي شكرها, وقد يدخل في معناه الكفر الأكبر أيضا.

و في قوله تعالى :
الفرقان
قال الإمام القرطبي:
((وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ)) :
يَعْنِي الْقُرْآن , وَقَدْ جَرَى ذِكْره فِي أَوَّل السُّورَة : قَوْله تَعَالَى : " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان " [ الْفُرْقَان:1 ]. وَقَوْله:"لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْر بَعْد إِذْ جَاءَنِي"[الْفُرْقَان:29] وَقَوْله : " اِتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا " [ الْفُرْقَان : 30 ] .
((لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَر النَّاس إِلَّا كُفُورًا )) أَيْ جُحُودًا لَهُ وَتَكْذِيبًا بِهِ .
وَقِيلَ : " وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنهمْ " هُوَ الْمَطَر . رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : وَأَنَّهُ لَيْسَ عَام بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَام وَلَكِنَّ اللَّه يَصْرِفهُ حَيْثُ يَشَاء , فَمَا زِيدَ لِبَعْضٍ نَقَصَ مِنْ غَيْرهمْ . فَهَذَا مَعْنَى التَّصْرِيف . وَقِيلَ : " صَرَّفْنَاهُ بَيْنهمْ " وَابِلًا وَطَشًّا وَطَلًّا وَرِهَامًا - الْجَوْهَرِيّ : الرِّهَام الْأَمْطَار اللَّيِّنَة - وَرَذَاذًا . وَقِيلَ : تَصْرِيفه تَنْوِيع الِانْتِفَاع بِهِ فِي الشُّرْب وَالسَّقْي وَالزِّرَاعَات بِهِ وَالطَّهَارَات وَسَقْي الْبَسَاتِين وَالْغُسْل وَشَبَهه .

((لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا)) : قَالَ عِكْرِمَة : هُوَ قَوْلهمْ فِي الْأَنْوَاء : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا نَعْلَم بَيْن أَهْل التَّفْسِير اِخْتِلَافًا أَنَّ الْكُفْر هَاهُنَا قَوْلهمْ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ; وَأَنَّ نَظِيره فَعَلَ النَّجْم كَذَا , وَأَنَّ كُلّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ فِعْلًا فَهُوَ كَافِر . وَرَوَى الرَّبِيع بْن صُبَيْح قَالَ : مُطِرَ النَّاس عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات لَيْلَة , فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَصْبَحَ النَّاس فِيهَا رَجُلَيْنِ شَاكِر وَكَافِر فَأَمَّا الشَّاكِر فَيَحْمَد اللَّه تَعَالَى عَلَى سُقْيَاهُ وَغِيَاثه وَأَمَّا الْكَافِر فَيَقُول مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ) .
وعليه فإن كان ضمير الغائب يعود في (( صرفناه )) على المطر فيكون تأويل الكفر كفر النعمة وعدم أداء شكرها, ويقوي هذا الاحتمال أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور وهو هنا المطر والريح في قوله تعالى:((وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا))(48) الفرقان

ويؤيد ذلك ما ذكره الإمام الشوكاني في فتح القدير:
قال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل أي: كرّرنا أحوال الإظلال، وذكر إنشاء السحاب، وإنزال المطر في القرآن، وفي سائر الكتب السماوية، ليتفكروا ويعتبروا , فَأَبَى أَكْثَرهم إلاّ كفران النعمة وجحدها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات، وهو المطر أي: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد منه في بعض البلدان، وننقص في بعض آخر .... ( )
وقال الزمخشري: " صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث بها" ( )

فيكون الراجح ما أثبته و هو كفران النعمة وسيأتي تفصيل لها في موضعه إن شاء الله تعالى .

وفي تأويل قوله تعالى :
البقرة
قال الإمام الطبري: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) "الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : فَاذْكُرُونِي أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِطَاعَتِكُمْ إيَّايَ فِيمَا آمُركُمْ بِهِ وَفِيمَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ , أَذْكُركُمْ بِرَحْمَتِي إيَّاكُمْ وَمَغْفِرَتِي لَكُمْ . كَمَا:
1917 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد قَالَ : ثنا ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن لَهِيعَة , عَنْ عَطَاء بْن دِينَار , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ} قَالَ : اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي , أَذْكُركُمْ بِمَغْفِرَتِي . وَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَتَأَوَّل ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الذِّكْر بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْح . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ.
1918 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} "إنَّ اللَّه ذَاكِر مَنْ ذَكَرَهُ , وَزَائِد مَنْ شَكَرَهُ , وَمُعَذِّب مَنْ كَفَرَهُ" . ( )

قال الطبري :
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : اُشْكُرُوا لِي أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ مِنْ الْإِسْلَام وَالْهِدَايَة لِلدِّينِ الَّذِي شَرَعْته لِأَنْبِيَائِي وَأَصْفِيَائِي { وَلا تَكْفُرُونِ } يَقُول : وَلا تَجْحَدُوا إحْسَانِي إلَيْكُمْ , فَأَسْلُبكُمْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ , وَلَكِنْ اُشْكُرُوا لِي عَلَيْهَا , وَأَزِيدكُمْ فَأُتَمِّم نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ , وَأَهْدِيكُمْ لِمَا هَدَيْت لَهُ مَنْ رَضِيت عَنْهُ مِنْ عِبَادِي , فَإِنِّي وَعَدْت خَلْقِي أَنَّ مَنْ شَكَرَ لِي زِدْته , وَمَنْ كَفَرَنِي حَرَمْته وَسَلَبْته مَا أَعْطَيْته . ( )
قال الألوسي في تفسيره :
{فَاذْكُرُوني} بالطاعة قلباً وقالباً فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح.
فالأول: ـ كما في «المنتخب» ـ الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى والثاني: الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية.
والثالث: استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكراً ...{وَلاَ تَكْفُرُون} بجحد نعمتي وعصيان أمري. ( )
فالمراد أيضا في الآية السابقة جحد النعمة والعصيان الذي يقع من غفلة المسلم وهو ما دون الكفر.
وفي تفسير قول الله تعالى:

سورة الشعراء
فسياقها أن فرعون أراد أن يوبخ موسى – عليه السلام -إذ أنعم عليه ورباه في قصره ثم قابل موسى النعمة بالكُفران بزعمه, قال الأمام ابن كثير:
"فقال " قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا " الآية, أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا وأنعمنا عليه مدة من السنين ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك" .
((وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) وَلِهَذَا قَالَ " وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ " أَيْ الْجَاحِدِينَ قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم وَاخْتَارَهُ اِبْن جَرِير .

قال السمرقندي في تفسيره :
" قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أول ما بدأ فرعون بكلام السفلة، ومنَّ على نبي الله صلى الله عليه وسلم أنما أطعمه. فقال: { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا }. يعني: ألم تكن صغيراً قد ربيناك {وَلَبِثْتَ فِينَا} يعني: مكثت عندنا {مِنْ عُمْرِكَ سِنِينَ} يعني: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتلت النفس التي قتلتها.
{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بنعمتي. ويقال: كفرت بي، حيث قتلت النفس. ويقال: وأنت من الجاحدين للقتل. يعني: لم تقر بالقتل، فأخبره موسى أنه غير جاحد للقتل {قَالَ فَعَلْتُهَا إذاً} يعني: قتلت النفس {وَأَنَا مِنَ الضَّالينَ} عن النبوة كقوله {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى }(الضحى: 7) ويقال: من الجاهلين ولم أتعمد القتل."
ويتبين أيضا لنا حال تمحيص أقوال المفسرين في الآيات الآتية أن المراد كفر النعمة والإحسان, قال تعالى:
إبراهيم

قال الإمام القرطبي :
(( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ )) قيل : هو من قول موسى لقومه . وقيل : هو من قول الله ; أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا . و " تأذن " وأذن بمعنى أعلم ; مثل أوعد وتوعد ; روي معنى ذلك عن الحسن وغيره . ومنه الأذان ; لأنه إعلام ; قال الشاعر :
فلم نشعر بضوء الصبح حتى *** سمعنا في مجالسنا الأذينا
وكان ابن مسعود يقرأ : " وإذ قال ربكم " والمعنى واحد" .

(( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ )) أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي . الحسن : لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي . ابن عباس : لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب , والمعنى متقارب في هذه الأقوال.

(( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )) أي جحدتم حقي . وقيل : نعمي ; وعد بالعذاب على الكفر , كما وعد بالزيادة على الشكر " ولوجود المقابلة بين الشكر والكفر يتبين أنها كفران نعمة قد تكون بعدم أداء شكرها فيقابلها الجزاء أن لم يتب العبد وينيب أو قد تكون الجحد فالكفر يكون في هذه الحالة كفر الأكبر .

وقوله تعالى:

الروم 44, 45
دلة قرينة مقابلة الكفر بالعمل الصالح لا بالإيمان أنه يحتمل أن ينصرف المراد إلى كفر النعمة وعدم شكر الله وإذا أو الكفر الأكبر , واللفظ جامع شامل يتناول الكفرين الأكبر و الأصغر .

قال ابن كثير رحمه الله :
قَالَ تَعَالَى " مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْره وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يُمَهِّدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات مِنْ فَضْله" أَيْ يُجَازِيهِمْ مُجَازَاة الْفَضْل الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْف إِلَى مَا يَشَاء اللَّه " إِنَّهُ لا يُحِبّ الْكَافِرِينَ " وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِل فِيهِمْ الَّذِي لا يَجُور ."

أما آية تحريم الربا:

فهذه الآيات في تحريم الربا, والربا من كبائر الذنوب ولا يكفر آكله إلا إذا استحله فيكون كفره بالاستحلال لذا أولّ المفسرون قوله تعالى (( كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) على المستحل .

قال الإمام الطبري :
"وَأَمَّا قَوْله : (( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ : وَاَللَّه لا يُحِبّ كُلّ مِصْر عَلَى كُفْر بِرَبِّهِ , مُقِيم عَلَيْهِ , مُسْتَحِلّ أَكْل الرِّبَا وَإِطْعَامه , أَثِيم مُتَمَادّ فِي الإِثْم فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ أَكْل الرِّبَا وَالْحَرَام وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِيه , لَا يَنْزَجِر عَنْ ذَلِكَ , وَلا يَرْعَوِي عَنْهُ , وَلَا يَتَّعِظ بِمَوْعِظَةِ رَبّه الَّتِي وَعَظَهُ بِهَا فِي تَنْزِيله وَآي كِتَابه"( ) .
فقد أول الإمام الطبري (كَفَّارٍ) بالمستحل " ومعلوم أن أهل السنة و الجماعة لا يكفرون المسلم المرابي, لأن الربا كبيرة وعليه فلا يكفر إلا باستحلاله. وهذا ما يوافق قواعد الشرع الحنيف.
وقوله تعالى في سور النحل :

قال الإمام القرطبي :
(( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))
فِيهَا مَسَائِل :
[ الأُولَى ] هَذِهِ الآيَة نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْن يَاسِر , فِي قَوْل أَهْل التَّفْسِير ; لِأَنَّهُ قَارَبَ بَعْض مَا نَدَبُوهُ إِلَيْهِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَخَذُوا أَبَاهُ وَأُمّه سُمَيَّة وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ , وَرُبِطَتْ سُمَيَّة بَيْن بَعِيرَيْنِ وَوُجِئَ قُبُلهَا بِحَرْبَةٍ , وَقِيلَ لَهَا إِنَّك أَسْلَمْت مِنْ أَجْل الرِّجَال ; فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجهَا يَاسِر , وَهُمَا أَوَّل قَتِيلَيْنِ فِي الإِسْلام . وَأَمَّا عَمَّار فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا , فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (كَيْفَ تَجِد قَلْبك) ؟ قَالَ : مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ ) .
وَرَوَى مَنْصُور بْن الْمُعْتَمِر عَنْ مُجَاهِد قَالَ : أَوَّل شَهِيدَة فِي الإِسْلام أُمّ عَمَّار , قَتَلَهَا أَبُو جَهْل , وَأَوَّل شَهِيد مِنْ الرِّجَال مِهْجَع مَوْلَى عُمَر . وَرَوَى مَنْصُور أَيْضًا عَنْ مُجَاهِد قَالَ : أَوَّل مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلام سَبْعَة : رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر , وَبِلال , وَخَبَّاب , وَصُهَيْب , وَعَمَّار , وَسُمَيَّة أُمّ عَمَّار . فَأَمَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِب , وَأَمَّا أَبُو بَكْر فَمَنَعَهُ قَوْمه , وَأَخَذُوا الْآخَرِينَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُع الْحَدِيد , ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْس حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْد كُلّ مَبْلَغ مِنْ حَرّ الْحَدِيد وَالشَّمْس , فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَشِيّ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْل وَمَعَهُ حَرْبَة , فَجَعَلَ يَسُبّهُمْ وَيُوَبِّخهُمْ , وَأَتَى سُمَيَّة فَجَعَلَ يَسُبّهَا وَيَرْفُث , ثُمَّ طَعَنَ فَرْجهَا حَتَّى خَرَجَتْ الْحَرْبَة مِنْ فَمهَا فَقَتَلَهَا ; رَضِيَ اللَّه عَنْهَا . قَالَ : وَقَالَ الْآخَرُونَ مَا سُئِلُوا إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسه فِي اللَّه , فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : اِرْجِعْ عَنْ دِينك , وَهُوَ يَقُول أَحَد أَحَد ; حَتَّى مَلُّوهُ , ثُمَّ كَتَّفُوهُ وَجَعَلُوا فِي عُنُقه حَبْلًا مِنْ لِيف , وَدَفَعُوهُ إِلَى صِبْيَانهمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْن أَخْشَبَيْ مَكَّة حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ , قَالَ فَقَالَ عَمَّار : كُلّنَا تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا - لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَدَارَكَنَا - غَيْر بِلَال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسه فِي اللَّه , فَهَانَ عَلَى قَوْمه حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ . وَالصَّحِيح أَنَّ أَبَا بَكْر اِشْتَرَى بِلالاً فَأَعْتَقَهُ .
وَرَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْل مَكَّة آمَنُوا , فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْض أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ : أَنْ هَاجِرُوا إِلَيْنَا , فَإِنَّا لا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا , فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَة حَتَّى أَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْش بِالطَّرِيقِ , فَفَتَنُوهُمْ فَكَفَرُوا مُكْرَهِينَ , فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِد إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا خُيِّرَ عَمَّار بَيْن أَمْرَيْنِ إِلا اِخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا) هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(إِنَّ الْجَنَّة تَشْتَاق إِلَى ثَلاثَة عَلِيّ وَعَمَّار وَسَلْمَان بْن رَبِيعَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث غَرِيب لا نَعْرِفهُ إِلا مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن صَالِح .
[ الثَّانِيَة ] لَمَّا سَمَحَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْكُفْرِ بِهِ وَهُوَ أَصْل الشَّرِيعَة عِنْد الإِكْرَاه وَلَمْ يُؤَاخِذ بِهِ , حَمَلَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فُرُوع الشَّرِيعَة كُلّهَا , فَإِذَا وَقَعَ الإِكْرَاه عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذ بِهِ وَلَمْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حُكْم ; وَبِهِ جَاءَ الْأَثَر الْمَشْهُور عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) الْحَدِيث . وَالْخَبَر وَإِنْ لَمْ يَصِحّ سَنَده فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاء ; قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ أَنَّ إِسْنَاده صَحِيح قَالَ : وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الأَصِيلِيّ فِي الْفَوَائِد وَابْن الْمُنْذِر فِي كِتَاب الْإِقْنَاع .
[ الثَّالِثَة ] أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسه الْقَتْل , أَنَّهُ لَا إِثْم عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ , وَلا تَبِين مِنْهُ زَوْجَته وَلا يُحْكَم عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْر ; هَذَا قَوْل مَالِك وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيّ ; غَيْر مُحَمَّد بْن الْحَسَن فَإِنَّهُ قَالَ : إِذَا أَظْهَرَ الشِّرْك كَانَ مُرْتَدًّا فِي الظَّاهِر , وَفِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى عَلَى الإِسْلام, وَتَبِين مِنْهُ اِمْرَأَته وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ , وَلا يَرِث أَبَاهُ إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا . وَهَذَا قَوْل يَرُدّهُ الْكِتَاب وَالسُّنَّة , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِلا مَنْ أُكْرِهَ " الآيَة . وَقَالَ : " إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة " [ آل عِمْرَان : 28 ] وَقَالَ : " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَة ظَالِمِي أَنْفُسهمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْض " [ النِّسَاء : 97 ] الآيَة . وَقَالَ : " إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان " [ النِّسَاء : 98 ] الآيَة . فَعَذَرَ اللَّه الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْك مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ , وَالْمُكْرَه لا يَكُون إِلا مُسْتَضْعَفًا غَيْر مُمْتَنِع مِنْ فِعْل مَا أُمِرَ بِهِ ; قَالَهُ الْبُخَارِيّ .
[ الرَّابِعَة ] ذَهَبَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الرُّخْصَة إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْل , وَأَمَّا فِي الْفِعْل فَلا رُخْصَة فِيهِ , مِثْل أَنْ يُكْرَهُوا عَلَى السُّجُود لِغَيْرِ اللَّه أَوْ الصَّلاة لِغَيْرِ الْقِبْلَة , أَوْ قَتْل مُسْلِم أَوْ ضَرْبه أَوْ أَكْل مَاله , أَوْ الزِّنَا وَشُرْب الْخَمْر وَأَكْل الرِّبَا ; يُرْوَى هَذَا عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ , رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَهُوَ قَوْل الأَوْزَاعِيّ وَسَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا . [وسؤل] مُحَمَّد بْن الْحَسَن : إِذَا قِيلَ لِلأَسِيرِ : اُسْجُدْ لِهَذَا الصَّنَم وَإِلا قَتَلْتُك . فَقَالَ: إِنْ كَانَ الصَّنَم مُقَابِل الْقِبْلَة فَلْيَسْجُدْ وَيَكُون نِيَّته لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَة فَلا يَسْجُد وَإِنْ قَتَلُوهُ . وَالصَّحِيح أَنَّهُ يَسْجُد وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَة , وَمَا أَحْرَاهُ بِالسُّجُودِ حِينَئِذٍ; فَفِي الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِل مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجْهه , قَالَ : وَفِيهِ نَزَلَتْ "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه" [ الْبَقَرَة : 115] ....
[ الْخَامِسَة ] أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْره أَنَّهُ لا يَجُوز لَهُ الإِقْدَام عَلَى قَتْله وَلا اِنْتَهَاك حُرْمَته بِجَلْدٍ أَوْ غَيْره , وَيَصْبِر عَلَى الْبَلَاء الَّذِي نَزَلَ بِهِ , وَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَفْدِي نَفْسه بِغَيْرِهِ , وَيَسْأَل اللَّه الْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ... "( )

وسيأتي مزيد توضيح – إن شاء الله تعالى - لحكم الإكراه
في الباب الأخير عند بحث موانع التكفير

ثانيا: ما ذكر في السنة النبوية بلفظ الكفر ولم يكن مراد الشارع به الكفر
لقد رأينا في لغة القرآن أن الله تعالى وصف بعض الأفعال بعينها بالكفر واستنبط العلماء من سياق الآيات أن مراد الشارع ليس الكفر المخرج من الملة, وكذلك إذا بحثنا في السنة النبوية عن المعاصي التي ذكرت فيها لفظ الكفر ولم يرد به الكفر المخرج من الملة, فنجد أن الأمام البخاري - رحمه الله- بوب في صحيحه ( ): {باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفَّر إلا بالشرك}
مراد البخاري :
ووضح الإمام ابن حجر مراد البخاري من تسمية الباب فقال:
"أي: أن كل معصية تؤخذ من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية والشرك أكبر المعاصي ولهذا استثناه[أي الأمام البخاري]
ومحصل الترجمة: أنه لما قدم [رحمه الله] أن المعاصي يطلق عليها الكفر مجازا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجحد أراد أن يبين أنه كفر لا يخرج عن الملة خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب"
ثم قال ابن حجر:
واستدل المؤلف أيضا على أن المؤمن إذا أرتكب معصية لا يكفر بان الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ثم قال انما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين اخويكم واستدل أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم " إذا التقي المسلمان بسيفيهما" فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار والمراد هنا إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ واستدل أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر فيك جاهلية أي خصلة جاهلية مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية وإنما وبخه بذلك على عظيم منزلته عنده تحذيراً له عن معاودة مثل ذلك لأنه وأن كان معذورا بوجه من وجوه العذر لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه.." ( )
و نأتي على ذكر بعض هذه من المعاصي التي ذكرت
ولم يراد بها مطلق الكفر فمن هذه المعاصي

1- سباب المسلم أو قتاله .
وردت أحاديث كثيرة ترهب من سب المسلم لأخيه المسلم أو قتاله من هذه الأحاديث ما رواه الإمام الترمذي في باب ما جاء سباب المؤمن فسوق منها:
حديث رقم: 2634 حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا عبد الحكيم بن منصور الواسطي عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قتال المسلم أخاه كفر وسبابه فسوق" وفي الباب عن سعد وعبد الله بن مغفل قال أبو عيسى حديث بن مسعود حديث حسن صحيح وقد روي عن عبد الله بن مسعود وجه.
وحديث رقم: 2635 حدثنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع عن سفيان عن زبيد عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ومعنى هذا الحديث قتاله كفر ليس به كفرا مثل الارتداد عن الإسلام والحجة في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قتل متعمدا فأولياء المقتول بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا " . ولو كان القتل كفرا لوجب وقد روي عن بن عباس وطاووس وعطاء وغير واحد من أهل العلم قالوا كفر دون كفر وفسوق دون فسوق" ( ) ومما رواه الإمام مسلم: قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" وفى رواية "أيما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال و إلا رجعت عليه" وفى رواية " ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه".( ) وكذلك ما رواه الإمام البخاري بسنده:
(قتال المسلم أخاه كفر وسبابه فسوق) فتح الباري : قال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: "رواه جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفا ومرفوعا ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضا مرفوعا فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به قوله سباب هو بكسر السين وتخفيف الموحدة وهو مصدر يقال سب يسب سبا وسبابا وقال إبراهيم الحربي السباب أشد من السب وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه, يريد بذلك عيبه. وقال غيره السباب هنا مثل القتال فيقتضى المفاعلة ..... ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق" ( )

تأويل الإمام النووي:
وكذلك حمل الإمام النووي الحديث على تأويلات أذكرها بنصها:
" من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما "
قال- رحمه الله -: "في تأويل الحديث أوجه:
أحدها: أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر فعلى هذا معنى باء بها أى بكلمة الكفر وكذا "حار عليه" وهو معنى رجعت عليه أى رجع عليه الكفر فباء وحار ورجع بمعنى واحد.
والوجه الثاني: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.
والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا الوجه نقله القاضى عياض رحمه الله عن الامام مالك بن أنس وهو ضعيف لان المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.
والوجه الرابع: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبى عوانة الإسفرايني في كتابه المخرج على صحيح مسلم فان كان كما قال و إلا فقد باء بالكفر وفى رواية إذا قال لأخيه يا كافر وجب الكفر على أحدهما.
والوجه الخامس: معناه فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام, والله أعلم " ( )

2- كفر العشير:
وهو جحد المرأة إحسان زوجها عليها , وقد أتى في الحديث النبوي بهذا اللفظ ((يا معشر النساء إني رأيتكن أكثر أهل النار، قالوا: ممَّ يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن، قلن: نكفرن بالله؟ قال: تكفرن العشير لو أحسن الزوج إليكن الدهر كله ثم أساء قلتن: ما رأينا منك خيرا قط)) رواه البخاري.
فتح الباري :
قال ابن حجر: قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا, كذلك المعاصي تسمى كفرا لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة
قال: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله - صلى الله عليه وسلم- لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله فإذا كفرت المرأة حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة"( )
وقال في موضع آخر موضحا معنى الكفران " لو أحسنت إلى إحداهن" الدهر فيه إشارة إلى وجود سبب التعذيب لأنها بذلك كالمصرة على كفر النعمة والإصرار على المعصية العذاب" ( )
وروى الطبراني في الكبير ما يوضح معنى كفر العشير أي كفر نعمته فقال: حدثنا فضيل بن محمد الملطي ثنا أبو نعيم ثنا بن أبي غنية عن محمد بن مهاجر الأنصاري عن أبيه عن أسماء بنت يزيد قالت ثم مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأنا في جوار أتراب فقال "إياكن وكفر المنعمين" وكنت أجرأ على مسألته من غيري فقلت يا رسول الله وما كفر المنعمين؟ فقال:
"لعل إحداكن[ تطول] أيمتها [عند] أبويها ثم يرزقها الله زوجا ويرزقها ولدا ثم تغضب فتكفره تقول والله ما رأيت منك خيرا قط " ( )

التكهن وإتيان المرأة في دبرها:
كذلك وردت معاصي بلفظ الكفر وما هي بكفر منها:
ما رواه الترمذي في سننه:
(باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض)
حدثنا بندار حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وبهز بن أسد قالوا حدثنا حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" قال أبو عيسى لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة وإنما معنى هذا حمله أهل العلم على التغليظ, وقد روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى حائضا فليتصدق بدينار" فلو كان إتيان الحائض كفرا لم يؤمر فيه بالكفارة وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده وأبو تميمة الهجيمي اسمه طريف بن مجالد" ( )

قال الشيخ فيصل مولوي عندما سئل عن هذا الحديث:
هذا الحديث رواه أحمد والترمذي وأبو داوود وهو حديث ورد عن طريق أبي تميمة عن أبي هريرة قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث أبي تميمة عن أبي هريرة وقال البخاري لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة. وقال البزار هذا الحديث منكر وفي الإسناد أيضاً حكيم الأكرم قال البزار لا يحتج به وما تفرد به فليس بشيء أنظر نيل الأوطار ج6 ص352 وأنظر جامع الأصول لإبن الأثير ج 7 ص342 تحقيق عبد القادر الأرناوؤط.
أما معنى الكفر في الحديث فإنما مبناه على التغليظ وليس معناه الخروج عن الملة إلا إذا استحل ذلك بعد ثبوت حرمته ولذلك نلاحظ في حديث آخر يأمر عليه الصلاة والسلام من أتى حائضاً أن يتصدق بدينار فلو كان إتيان الحائض كفراً لم يأمر عليه الصلاة والسلام فيه بالكفارة. والحمد الله رب العالمين". ( )
وعليه فإنها معصية وإن كانت كبيرة إلا أنها لا تصل إلى الكفر بحال.
الحلف بغير الله:
وما هو بالكفر ولا بالشرك الأكبر, إنما هو تغليظ ونهي عن هذه المعصية خاصة إذا علمنا أنها كانت تصدر عن زلة لسان ومن حديثي الإسلام في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- فكان يحلف أحدهم بعد إسلامه غير متعمدا فيقول " واللات والعزى" فنهاهم الرسول وعلمهم كفارة هذه الحلف, وهذا ينطبق على كثير من مسلمي اليوم الذين يقع على لسانهم بكثرة الحلف بالنبي كالمصريين عندنا فلا يكفر أحدهم بل يُتروى معه ويعلم برفق حتى يعتاد أن لا يحلف إلا بالله.
وقد وردت نصوص أطلق فيها الكفر على من حلف بغير الله ولكن على التحقيق لا يتعدى هذا الحلف على كونه معصية وكفارتها كما علمنا النبي – أن نجدد الإيمان بذكر كلمة التوحيد, هذا وتجديد الإيمان مندوب شرعا على كل الأحوال. ومن النصوص التي وصلت إلينا ما رواه الترمذي في سننه حديث رقم:
1535 حدثنا قتيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن بن عمر سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال بن عمر: " لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" قال أبو عيسى هذا حديث حسن.

وحمل قوله – صلى الله عليه وسلم "فقد كفر أو أشرك" على التغليظ والحجة
لما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أبي – عمر- يقول: "وأبي و أبي" فقال:
" ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم "
وكذا حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- انه قال:
" من قال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " قال أبو عيسى هذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال "إن الرياء شرك ".. ( )

تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم :
تعمد الكذب على النبي- صلى الله عليه وسلم - هو كبيرة على الصحيح وليس بالكفر إلا إذا استحل الكاذب المتعمد الكذب على النبي. قال:- صلى الله عليه وسلم-
" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه الشيخان
فاستنبط بعض العلماء أن في قوله (فليتبوأ) دليل على الكفر المخلِّد في النار, ولكن ما عليه الجمهور أنه من الكبائر ولا يكفر فاعله إلا إذا استحل الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر في الفتح:
"الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يستوي فيه اليقظة والمنام والله سبحانه وتعالى اعلم. فإن قيل الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره والمعاصي قد توعد عليها بالنار فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الكذب عليه يكفر متعمده كما قال بعض أهل العلم وهو الشيخ أبو محمد الجويني, لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده, ومال بن المنير إلى اختياره ووجهه" بان الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله واستحلال الحرام كفر, والحمل على الكفر كفر". وفيما قاله نظر لا يختفي والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك .
الجواب الثاني: أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيره فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا, أو طول إقامتهما سواء, فقد دل قوله - صلى الله عليه وسلم- ( فليتبوأ)على طول الإقامة فيها, بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين" ( )

مشاركة الكفار أعيادهم:
عدها بعض علماء الحنفية كفرا وهي ليست كذلك مستدلين بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أنس قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : "قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما يوم الفطر والأضحى" وإن استنبط منه كراهة [أو تحريم] الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم . قال ابن حجر وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى" ( )
بعض الألفاظ التي ظاهرها الكفر:
كان العرب إذا كانوا مجدبين ثم نزل عليهم الغيث فمنهم ينسب هذه النعمة النجوم ويقولون "مطرنا بنوء كذا". وبالنظر إلى مجموع الأحاديث التي ساقها ابن حجر في الفتح يتبين لنا أن الأحاديث تكمل بعضها بعض وأن المقصود بها كفر النعمة
وقد علمنا آنفا في بحث الكفر لغة أن الكفر يطلق ويراد به كفر النعمة فلذا رجحت أن هذه المعصية من الكفر الذي لا يخرج من الملة بما يوافق اللغة وبدليل من السنة , فقد جاء في بعض الأحاديث:" فأما من حمدني على سقياي وأثنى على فذلك آمن بي ... وقال في آخره وكفر بي أو قال كفر نعمتي" فعلم أن المراد به كفر النعمة. فما أُجمِل في مكان فسّر في مكان آخر من الأحاديث .
ومثل هذه الأحاديث وإن حمله كثير من أهل العلم على الكفر المطلق إلى أن النظر إلى مراد القائل من الأهمية بمكان , قال الإمام الشافعي في الأم " رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - هو عربي واسع اللسان يحتمل قوله هذا معاني, وإنما مطر بين ظهراني قوم أكثرهم مشركون لأن هذا في غزوة الحديبية وأرى معنى قوله والله أعلم ( أن من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك إيمان بالله لأنه يعلم أنه لا يمطر ولا يعطي إلا الله عز وجل وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون ن إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذلك فذلك كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا ولا يمطر ولا يصنع شيئا فأما من قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا بوقت كذا فإنما ذلك كقوله مطرنا في شهر كذا ولا يكون هذا كفر وغيره من الكلام أحب إلى منه" ( )

ترك الرمي بعد تعلمه:
تعلم الرمي مندوب فلا يكون نسيه كفرا بحال فما جاء في الحديث: " من ترك الرمي بعد ما عُلّمَه فقد كفر الذي علمه" يحمل على المراد اللغوي للكفر لا الشرعي وهو ما يوافق قواعد الشرع الحنيف إذ لا يكفر تارك المندوب ( ).
الطعن في الأنساب و النياحة على الميت وضرب الخدود وشق الجيوب:
جاء في مسند الإمام أحمد "حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أسود أنا( ) أبو بكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول " اثنان هما كفر النياحة والطعن في النسب" ( ) ونحوه عند الإمام مسلم.
شرح كتاب التوحيد :
فالطعن في الأنساب والنيحة ليستا بكفر على الإطلاق إنما أوله العلماء, ففي شرح الحديث قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:(وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت "
ش: قوله هما أي الاثنتان قوله بهم كفر أي هما بالناس أي فيهم كفر قال قال شيخ الإسلام أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار وهما قائمتان بالناس لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات . قوله "الطعن في النسب" أي عيبه ويدخل فيه أن يقال هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم . قوله: "والنياحة على الميت" أي: رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر وذلك كقول النائحة وا عضداه وا ناصراه وا كاسياه ونحو ذلك وفيه دليل على أن الصبر واجب لأن النياحة منافية له فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر مالا ينقل عن الملة .
قال[الشيخ محمد بن عبد الوهاب]: ولهما عن ابن مسعود مرفوعا" ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية "
ش: قوله" ليس منا" هذا من نصوص الوعيد وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلها ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل أي" ليس من أهل سنتنا وطريقتنا لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا وليس المراد إخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاقبته لست مني ولست منك. فالمراد: إن فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان .
قوله "من ضرب الخدود" قال الحافظ [ابن حجر] : خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله قلت بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر فكما لو ضرب الخد فيدخل في معنى ضرب الخد إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم قوله وشق الجيوب جمع جيب وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب وكانوا يشقونه حزنا على الميت. قال الحافظ: والمراد إكمال فتحه إلى آخره قلت الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله قوله ودعى بدعوى الجاهلية قال شيخ الإسلام هو ندب الميت وقال غيره هو الدعاء بالويل والثبور وقال الحافظ أي من النياحة ونحوها وكذا الندب به كقولهم : "واجبلاه" وكذا الدعاء بالويل والثبور .
وقال ابن القيم الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية وكونه منتسبا إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به فكل هذا من دعوى الجاهلية قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور" وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم الصبر الواجب والاضرار بالنفس من لطم الوجه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى وبدون هذا يثبت التحريم الشديد فأما الكلمات اليسيرة إذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن أنس ان أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال " وانبياه واخليلاه واصفياه" وكذلك صح عن فاطمة رضي الله عنها انها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت " يا ابتاه اجاب ربا دعاه " الحديث ..)) ( )
انتساب الرجل إلى غير أبيه:
وكذلك يلحق بالطعن في الأنساب انتساب الرجل لغير أبيه, فهو من الذنوب التي وردت بلفظ الكفر ومراد الشارع دون ذلك أن ينتسب الرجل لغير أبيه روى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده :" 331 ... حدثني أبي ثنا( ) عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن بن عباس عن عمر رضي الله عنه انه قال " إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق وأنزل معه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم.... " ( )
وفي المسند أيضا: من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم" كفرٌ تبرؤ من نسب وان دق أو ادعاء إلى نسب لا يعرف"( )
وفي سنن الدارمي( ) :
باب من ادعى أبيه : ( 2860 أخبرنا سعيد بن عامر عن شعبة عن عاصم عن أبي عثمان عن سعد بن أبي وقاص وعن أبي بكر قال شعبة هذا أول من رمى بسهم في سبيل الله وهذا تدلى من حصن الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انهما حدثا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من ادعى أبيه وهو يعلم أبيه فالجنة عليه حرام"
2863 حدثنا محمد بن العلاء ثنا إسحاق بن منصور السلولي عن جعفر الأحمر عن السري بن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فجئت وقد قبض وأبو بكر قائم في مقامه فأطال الثناء وأكثر البكاء فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" كُفرٌ بالله انتفاء من نسب وإن دق وادعاء نسب لا يعرف"
وورد التشديد والوعيد من حديث حوشب عن بن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "أيما رجل ادعى والده أو مواليه الذين أعتقوه فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة لا يقبل منه صرف ولا عدل"

فهذه الأحاديث وغيرها يحملها أهل السنة والجماعة على معاصي دون الكفر.

أصحاب الكبائر :
أما أصحاب الكبائر وأن ماتوا عليها فلا يكفرون ما لم يستحلوا ما فعلوه, فإن أخذوا عقوبتهم في الدنيا فهي كفارة لهم , ومن مات منهم على كبيرته فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه, وإن شاء غفر له, وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
روى الإمام الترمذي من حديث علي- رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أصاب حدا فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على في الآخرة ومن أصاب حدا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه"( ) .
قال أبو عيسى وهذا حديث حسن غريب صحيح وهذا قول أهل العلم لا نعلم أحدا كفر أحدا بالزنا أو السرقة وشرب الخمر. و قول الإمام الترمذي "لا نعلم أحد كفر أحدا بالزنا أو السرقة وشرب" أي: من أهل السنة والجماعة و إلا فالخوارج يكفرون بالكبيرة . فصاحب الكبيرة لا يخلد في النار باتفاق أهل السنة والجماعة ولا يحتاج بحثنا هذا إلا إلى إشارة عابرة بلا إفاضة في ذكر رد أهل السنة على الخوارج , فمعلوم أن علامة الخوارج والمعتزلة تكفيرهم لأهل الكبائر وأن اختلفوا في تكفيرهم أو تفسيقهم أو مآلهم في الآخرة أهم في منزلة بين المنزلتين الكفر والإيمان أو خلودهم في النار , إلا أن الخوارج والمعتزلة اتفقا على أن صاحب الكبيرة مخلد في النار. أما أهل السنة فلا يكفرون صاحب الكبيرة وإن لم يتب منها.

قال صاحب قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر:
"ولا يخلد صاحب الكبيرة المسلم في النار والعفو عن الكبائر جائز وكذلك عفوها عمن مات بلا توبة جائز من باب خرق العوائد " ( )
فأمر مرتكب الكبيرة إلى الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء رحمه بفضله.
تحذير: اعلم أن هذه الذنوب قد تؤدي إلى الكفر الأكبر لأن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان يحذر من مثل هذا الذنوب التي تؤدي إلى الكفر كما جاء في مسند الإمام أحمد: من حديث عبد الله بن عمرو ان رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ما عمل الجنة؟ قال: الصدق وإذا صدق العبد بر وإذا بر آمن وإذا آمن دخل الجنة قال يا رسول الله ما عمل النار قال الكذب إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل يعني النار" ( ).

الفصل الثالث
ما أطلق عليه الشارع لفظ الكفر و أريد به حقيقة الكفر

أولا: ما ذكر في القرآن بلفظ الكفر وأريد به الكفر الأكبر
ثانيا: ما ذكر في السنة النبوية بلفظ الكفر وأريد به الكفر الأكبر
ثالثا : الخلاصة ما يراد به الكفر في القرآن والسنة

أولا: ما ذكر في القرآن بلفظ الكفر و أريد به حقيقة الكفر

قبل أن نذكر الآيات القرآنية الدالة على الكفر الأكبر, وقبل أن نقف على أنواع الكفر المخرج من الملة, ثمة مسألة مهمة وهي: أننا لابد من معرفة الفرق بين سبب الكفر ونوع الكفر حتى لا تختلط علينا الأمور , وحتى يتبين لنا المقصود من تقسيم العلماء للكفر وأنواعه لذا رأيت أن أبدأ بهذا التمهيد:

تمهيد:
أسباب الكفر وأنواعه والفرق بينهما:
أن عدم التفريق بين ما هو نوع للكفر وبين ما هو سببا الكفر يوقع في أخطأ سنتعرض لبعضها في الشبهات والردود عليها في نهاية الباب الثالث من هذا البحث, أما في هذا التمهيد سنقف على أقوال العلماء في التفريق بين سبب الكفر ونوعه.
قال الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز:
"ولتدرك الفرق بين أسباب الكفر التي عليها مدار الحكم بالكفر في الدنيا، وأنواع الكفر وهى البواعث الحاملة لصاحبها على الإتيان بأسباب الكفر، نضرب عدة أمثلة لذلك:
* فإبليس سبب كفره: ترك السجود لآدم عليه السلام (والترك فعل)، أما نوع كفره: فكفر استكبار، وهذا هو الباعث له على ترك السجود.
* وقد يتحد السبب ويختلف النوع الباعث، فلو أن رجلين أحدهما مسلم والآخر نصراني قالا: المسيح ابن الله، فقد اتحد السبب وهو هذا القول المكفِّر، واختلف نوع الكفر فيهما: فهو في المسلم كفر تكذيب لتكذيبه بنص القرآن الدال على أن الله [واحد أحد] (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - سورة الإخلاص 1)، أما في النصراني فكفره كفر تقليد لآبائه ولرهبانهم كما قال تعالى:
المائدة

فاتحاد السبب واختلاف النوع مما يبين لك الفرق بينهما:
* ومن اتحاد السبب واختلاف النوع: كُفر كفار مكة واليهود وهرقل قيصر الروم: اتحد سبب الكفر فيهم وهو ترك الإقرار بالشهادتين، واختلف النوع:
فهو في كفار مكة واليهود كفر جحود واستكبار وحسد، ففي كفار مكة:
(الأنعام)
فهذا كفر الجحود.
وقال تعالى: (الصافات)
فهذا كفر الاستكبار.وفي اليهود: قال تعالى:
البقرة 89
فهذا كفر الجحود. وقال تعالى:
(البقرة)
فهذا كفر الاستكبار, وقال تعالى:
( النساء 54 ) فهذا كفر الحسد. وهو في هرقل: الحرص على الملك وهو من إتباع الهوى الصارف عن الإيمان.( ) .
والأمثلة السابقة تبين أنه قد يتحد سبب الكفر عند عدة أفراد ويختلف النوع الباعث لدى كل منهم عن الآخر، كما بيّنت هذه الأمثلة أنه قد يجتمع للسبب الواحد أكثر من باعث في الشخص الواحد كما في قوله تعالى:
الزمر
فاجتمع لهذا كفر التكذيب وكفر الاستكبار." ( )

مما أريد به الكفر الأكبر في القرآن الكريم:
الكفر الأكبر ورد في القرآن كثيرا وقد حذر الله – تعالى - عباده منه الوقوع فيه كما وقعت فيه بنو إسرائيل. فقال جلا وعلا لعباده :
البقرة
قال الشنقيطي في أضواء البيان:

لم يبّين هنا هذا الذي سئل موسى من قبل ما هو ؟ولكنه بيّنه في موضع آخر .
وذلك في قوله تعالى :
النساء153
فبذلك يتضح أن هذا التحذير تحذير من الكفر الأكبر المحبط للعمل المخلد في النار وهل أرسل الله رسله للناس إلا مبشرين ومنذرين فمنهم من آمن ومنهم من كفر, وأنزل معهم آيات بينات ومعجزات مبهرات ورغم وضوح الآيات وإبهار المعجزات إلا إن الناس اختلفوا بين كافر ومؤمن واقتتلوا ليميز الله الصادق من الكاذب , والمؤمن من الدعي. قال تعالى :

وقد قص علينا القرآن الكريم قصص الكافرين المعادين مع رسوله,ومنهم كفار قريش الذين كذبوا بآيات ربهم وعاندوا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قال تعالى:

مريم

وورد في السنة تفسير قول الله تعالى:

ما رواه الإمام الترمذي بسنده:
3162 حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال سمعت خباب بن الأرت يقول ثم جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا حتى تموت ثم تبعث قال إني لميت ثم مبعوث فقلت نعم فقال إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت
حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش نحوه قال هذا حديث حسن صحيح ( )

أنواع الكفرعلى ضوء آيات القرآن الكريم:
1- كفر الشك: وهو الذي يشك في ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلا يجزم بصدقه، ولا يجزم بكذبه. قال الله تعالى : ( )[إبراهيم: 9].
2- كفر الإعراض: وهو الإعراض عمَّا جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يصدقه ولا يكذبه ولكنه يعرض عنه. قال الله تعالى: [السجدة:22]
3- كفر الجحود: وهو أن يجحد جملة ما أنزله الله تعالى أو يجحد شيئاً مما هو معلوم من الدين بالضرورة . قال الله تعالى:
[النمل].
وقال تعالى:
[الأنعام].
4- كفر التكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم -في أيِّ شيء مما جاء به . قال الله تعالى:

5- كفر الإباء واستكبار: وهو مثل كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، وهذا مثل حال من يعلم أن دين الإسلام هو دين الحقِّ الذي لا يقبل الله سواه، والذي فيه صلاحه في الدنيا والآخرة، ثم يتركه إباءً واستكباراً ويتخذ له ديناً أو مذهباً من صنع البشر.
قال الله تعالى:

[البقرة]
فالقرآن ما نزل إلا ليبشر المؤمنين وينذر الكافرين وعليه فالمراد بالكفر في القرآن عند الإطلاق هو الكفر الأكبر.

وهذه الأنواع من الكفر لا إشكال فيها إنما وقع الإشكال في قضايا بعينها كالحكم بغير ما أنزل الله, لذا نفرد هذه القضية بالحديث مع الإفاضة في نقل أقوال العلماء, لنثبت بالدليل على أنها من الكفر الأكبر الوارد في القرآن , مع يقيني إنها قضية تحتاج إلى بحث مستقل, لذاسأفيض في النقل عن جمهور علمائنا الأقدمين منهم والمعاصرين لنقف على حقيقة هذه القضية.

الحكم بغير ما أنزل الله:
وقفنا في مبحث اللغة أنه إذا أطلق الشارع الكفر وعرفه بلام التعريف فيكون المراد هو الكفر الأكبر, ومثال الكفر الذي ورد في القرآن معرفا بلام التعريف كفر الحاكم بغير ما أنزل الله قال تعالى :
((... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ))المائدة

أقوال أئمة المسلمين في كفر من لم يحكم بما أنزل الله:
- ابن كثير في تفسير قوله تعالى :
(( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) (59 النساء) ( أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ) فدل ذلك على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر ) .( )
- قال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين :
( وتأمل ما في الآية كيف ذكر النكرة وهي قوله (شيء) في سياق الشرط وهو قوله جلَّ شأنه ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ )) المفيد للعموم ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ } ) . ( )
- قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين : ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه , والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع , فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له( )
- وقال الشيخ سليمان بن عبدالله النجدي : ( فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول في موارد النزاع فقد كذب في شهادته ) ( )
- ويقول الإمام ابن كثير في تفسيره: ( يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الإنقياد إليه ظاهراً و باطناً( ).
- وقال الإمام ابن القيم : ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً ) ( )
- قال الشيخ محمد بن إبراهيم : ( فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلَّت على أن قسمة الحكم ثنائية وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا بل هم أسوأ منهم حالاً وأكذب منهم مقالاً , ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد وأما القانونيين فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول ( ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا وقد قال تعالى في أمثال هؤلاء {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}النساء 151 ) . ( )
- ويقول ابن كثير في تفسير الآية السابقة : (فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في كثير ولا قليل ( ).
- وقال السعدي في شرح فتح المجيد : ( فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله وأطاعه في معصية الله واتبعه في ما لم يأذن به الله فقد اتخذه رباً ومعبوداً وجعله لله شريكاً. ( )
- قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان عند حديثه عن قوله تعالى : { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } الكهف 26 : " ويفهم من هذه الآيات كقوله { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرع الله أنهم مشركون بالله ( ) .
- قال ابن كثير في البداية والنهاية: بعد أن نقل عن الجويني نتفاً من الياسق أو الياسا التي كان يتحاكم إليها التتار: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر, فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) . ( )
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً }. النساء 150( )
- وقال أيضاً : ( والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال -المجمع عليه - أو بدل الشرع - المجمع عليه - كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء) ( ).
- قال عبد القادر عودة : ( ولا خلاف بينهم ( أي الأئمة المجتهدين ) قولاً واعتقاداً في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود وتعطيل أحكام الإسلام وشرع ما لم يأذن به الله إنما هو كفر وردة وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين( ) (
- قال الشيخ المحدث قاضي قضاة مصر أحمد شاكر تعليقاً على ما سبق نقله من كلام ابن كثير حول الياسق الذي كان يتحاكم إليه التتار : ( أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير - في القرن الثامن- لذاك القانون الوضعي الذي صنعه عدو الإسلام جنكز خان ؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر ؟ إلا في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمان سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت , ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائناً من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها فليحذر امرؤ لنفسه وكل امريء حسيب نفسه ) . ( )
- قال الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : ( إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناسُ فيهم وجوب طاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام, كيف لا وهم يحلون ما حرم الله, ويحرمون ما أحل الله, ويسعون في الأرض فسادا بقولهم وفعلهم وتأييدهم, ومن جادل عنهم, أو أنكر على من كفرهم, أو زعم أن فعلهم
هذا لو كان باطلا لا ينقلهم إلى الكفر, فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق, لأنه لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم ) . ( )
- قال الشيخ محمد بن إبراهيم: (( وتحكيم شـرع الله وحده دون كل ما سـواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه , إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له , وأم يكون رسوله هو المتبع المحكم مـا جاء به فقط , ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك, والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع))( )
- قال شيخ الإسلام اين تيمية : (( . . . فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر )) ( ) , وقال : ((. . . والإنسان متى حلل الحرم المجمع عليه , أو حرم الحلال المجمع عليه , أو بدل الشرع المجمع عليه كان مرتداً . . . )) . ( )
- قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق في ( الأصول العلمية ): ((فالتشريع حق للرب جل وعلا؛ فالحلال ما أحله الله, والحرام ما حرمه الله , والدين والمنهج والطريق والصبغة هو ما شرعه الرب جل وعلا. واعتداء سلاطين الأرض وملوكها ورؤسائها على شرعة الله؛ بتحليل ما حرم، وتحريم ما أحل: عدوان على التوحيد , وشرك بالله , ومنازعة له في حقه وسلطانه جل وعلا. وأكثر سلاطين الأرض اليوم وزعماؤها قد تجرءوا على هذا الحق , وتجرءوا على الخالق الملك سبحانه وتعالى، فأحلوا ما حرم، وحرموا ما أحل , وشرعوا للناس بغير شرعه؛ زاعمين تارة أن تشريعه لا يوافق العصر والزمن , وتارة أنه لا يحقق العدل والمساواة والحرية، وأخرى بأنه لا يحقق العزة والسيادة. والشهادة لهؤلاء الظالمين بالإيمان عدوان على الإيمان وكفر بالله سبحانه وتعالى )) . وسمى الحكم بغير ما انزل الله : (( الشرك الأكبر والكفر البواح )) .
- قال ابن القيم رحمه الله تعالى :((. . من تحاكم إلى غير ما جـاء عن الرسول فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه , وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت قال سبحانه : "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا" ( الزمر ,17 ) فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العـبـادة التي أمر الله بهجرها واجتنابهـا .. . ) ( )
- وقال الشيخ عبـد الرحمن بن حسن آل الشيخ : (( . . من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك مـا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , ويرغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة , وخالف مـا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره تعالى به في قوله : " وأن احكم بينهــم بما أنزل الله ولا تتــــــبع أهواءهم واحــذرهم أم يفتنوك عن بعض مـا أنزل الله إليك " ( المائدة , 49) وقوله تعالى :
((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) ( النساء , 65 ) ) ( )
- قال الإمام الشاطبي: رحمه الله تعالى : (( كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص , أو تغيير للأصل الصحيح , وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع , فيكون قادحاً في المشروع , ولو فعل أحد مثـل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر , إذ الزيادة فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر فلا فرق بين مــا قل أو كثر . . . )) .( )
- وقال الجصاص : ((. . . إن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه , أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم . . . )) ( ).
- قال الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن : (( إنّ الزنا الذي تبيحه الدولة, وتهيئ له الفُرص, وتُعد له المؤسّسات وتفتح له معاهد الرقص والموسيقى, وتقيم له الحفلات من مسارح وسينما وتليفزيون وإذاعة.. بل وتشرف الدولة على الملاهي الليليّة وتُعِدُّ شرطة خاصّة لحماية الزناة والفسّاق والعاهرات ألا يعني هذا رفضُ حاكميّة أحكم الحاكمين إنّ مصانع الخمور التي تُنشِئها الدولة, وتفتح لها الحوانيت لبيع الخمر وشرائها والتجارة بها وتجعلها سهلة ميسّرة للناس ألا يعني هذا رفض حاكميّة أحكم الحاكمين إنّ موالاة اليهود والنصارى وتقديم فروض الولاء والطاعة وتوقيع معاهدات الاستسلام الدائم وفتح البلاد لهم يعيثون فيها فساداً, فتُفتح السفارات الإسرائيلية والغربية.. ألا يعني هذا رفض حاكمية أحكم الحاكمين إن الظروف المختلفة التي يمرّ بها المجتمع كما يدّعي البعض تسمح له أن يعطّل حدود اللـه وشرعه .. فتُبدّل القوانين الإلهية بقوانين صليبية, فلا تُقطع يد السارق ولا يجلد شارب الخمر ولا يُرجم الزاني المحصن.. مثل هذه القوانين تعتبر وحشية جائرة في نظر المشرّعين العصريين, فهي لا تصلح لهذا العصر الذي تحيط به ظروف مختلفة اجتماعية واقتصاديّة ألا يعني كل هذا رفض حاكميّة أحكم الحاكمين)) كلمة حق

بعد هذه النقول عن علماء الإسلام ننتقل إلى تحقيق المناط من أن المراد بالكفر
المعرف بلام التعريف في كفر الحاكم بغير ما أنزل الله ليس المراد به الكفر الأصغر

نوع كفر من بدل شرع الله المحكم:
ما دمنا قد تطرقنا لهذه القضية فهناك مسألة لابد من الوقوف عليها وهي :
ما المقصود بقول ابن عباس " كفر دون كفر" ؟
قال الشيخ محمد بن إبراهيم : (( . . . أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة والذي ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بأنه كفر دون كفر , وقوله أيضاً (( ليس بالكفر الذين تذهبون إليه )) , فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله, مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق , واعترافه على نفسه بالخطأ و مجانبة الهدى, وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها , فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً . . . )) ( )
ولنتأمل تحليل آل الشيخ رحمه الله :
(( لو قال من حكم القانون أنا أعتقد أنه باطل , فهذا لا أثر له , بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد : أنا أعبد الأوثان أعتقد أنها باطل )) ( )
إذن كلام ابن عباس لا ينطبق على الحكام في زماننا هذا حتى ((لو قال من حكم القانون أنا أعتقد أنه باطل , فهذا لا أثر له , بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد : أنا أعبد الأوثان أعتقد أنها باطل !! )) فهو بالضبط كمن يسب الرسول ويقول أنا مسلم!! أو يدوس المصحف ويقول أنا مسلم !! .
وقال الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي:
" في كتابه (وقفات مع الشيخ الألباني) بعد أن أثبت أن أثر ابن عباس فيها مقال
أثر ابن عباس ليس القول الوحيد في المسألة:
" وذلك أن الشيخ الألباني[رحمه الله] قد اعتبر ما ورد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- هو قول السلف والمفسرين بل الفرقة الناجية كلها في المسألة ، ولكن الواقع غير ذلك فقد ثبت اختلاف السلف رضوان الله عليهم في ذلك فمنهم من حمل الكفر الوارد في الآية على الكفر الأكبر دون تفصيل .
- فقد أخرج ابن جرير في تفسيره (12061) حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق" أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال:من السحت. قال فقالا: أفي الحكم؟
قال: ذاك الكفر. ثم تلا هذه الآية { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}". وهذا الأثر صحيح الإسناد إلى ابن مسعود – رضي الله عنه -: رجاله ثقات رجال الكتب الستة .[انظر تهذيب التهذيب 6/240، 6/41-43، 3/497 -498، 2/380] .
- وأخرج أبو يعلى في مسنده (5266) عن مسروق قال: " كنت جالساً عند عبد الله ( يعني ابن مسعود ) فقال له رجل : ما السحت ؟ قال : الرشا. فقال : في الحكم ؟ قال: ذاك الكفر ثم قرأ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}" ، وأخرجه البيهقي (10/139) و وكيع في أخبار القضاة(1/52) ، وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (2/250) ونسبه لمسدد ، ونقل الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على المطالب العالية قول البوصيري : " رواه مسدد وأبو يعلى والطبراني موقوفاً بإسناد صحيح والحاكم وعنه البيهقي ..." .....
_ وأخرج الطبراني في الكبير (9/226) (9100) عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : " الرشوة في الحكم الكفر وهي بين الناس سحت " قال الهيثمي في المجمع (4/199) :"ورجاله رجال الصحيح " أ. هـ .
- وأخرجه وكيع في أخبار القضاة (1/52) بلفظ " الهدية على الحكم الكفر وهي فيما بينكم السحت".
قال الشيخ عبد الآخر:" فهذه الآثار عن ابن مسعود رضي الله عنه فيها التفرقة بين الرشوة التي تكون بين الناس عامة والرشوة التي تكون للحكام أو القضاة خاصة ؛ فالأولى سحت والثانية كفر، ولاشك أنه يقصد بالكفر هنا الكفر الأكبر وذلك لأمرين:
الأول : أنه أطلقه من غير تقييد والكفر إذا أطلق انصرف إلى الأكبر كما هو معلوم. والثاني: أنه جعله في مقابلة السحت وهو كفر أصغر فيكون ما جعل في مقابله كفراً أكبر، قال الجصاص في أحكام القرآن (2/433): " وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان وقالا: إن أخذ الرشا على الأحكام كفر" .
ويؤكد ما ذكرناه من إثبات الخلاف في ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم في مدارج السالكين ( ) حيث قال : " ... قال ابن عباس : ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس... ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم ، ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله... ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النصوص تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموماً، ومنهم من تأولها على أهل الكتاب ... ومنهم من جعله كفراً ينقل عن الملة" . أ.هـ
وهذا الذي نقله ابن القيم- رحمه الله- صريح في أن قول ابن عباس الذي جعله الشيخ عمدةً فيما ذهب إليه ليس القول الوحيد في المسألة ، بل من السلف من جعل الكفر في الآية كفراً أكبر ينقل عن الملة ومنهم من قال بغير ذلك.
وعلى ذلك فلو قال قائل إن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر كفراً أكبر يخرج من الملة لكان له سلف فيما ذهب إليه والله أعلم )) . ص 26: 28
ما يحمل عليه كلام ابن عباس:
قال الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي: ( إننا حين فرقنا بين من حكم في واقعة أو وقائع بغير شرع الله، وبين من شرع من دون الله وحملنا كلام ابن عباس 0 رضي الله عنه- على حالة القضاء وليس على حالة التشريع فإن هذا الذي عمدنا إليه ليس تأويلاً كما ذكر الشيخ - غفر الله لنا وله - بل هو حمل للفظ على أصل معناه في اللغة؛ ذلك أن معنى الحكم في اللغة هو القضاء كما في القاموس المحيط (4/98).
وهو في الاصطلاح القرآني قد يأتي أيضاً بمعنى القضاء كما في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ} المائدة:49، وقوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } البقرة : 188 .وقد يأتي الحكم في القرآن بمعنى القدر وهو الذي يسميه العلماء الحكم الكوني القدري كما في قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} يوسف : 80 .وقد يأتي بمعنى التشريع وهو الذي يسميه العلماء الحكم الشرعي، كما في قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} المائدة :1 .
وكلام ابن عباس0 رضي الله عنه- وارد في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة 44 . فحين نقول إن ابن عباس رضي الله عنه- يعني هنا الحكم الذي بمعنى القضاء لا الذي بمعنى التشريع فإننا لا نكون قد تأولنا ؛ لأن التأويل المقصود هنا هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر ، فهل صرفنا نحن لفظ الحكم عن معناه الظاهر أم رددناه إلى أصل معناه وهو القضاء؟! بل إني وجدت لابن عباس نفسه ما يفيد إطلاقه الحكم بمعنى القضاء وذلك فيما أخرجه الطبراني في الكبير (10/226)(10621) عن ابن بريدة الأسلمي قال :"شتم رجل ابن عباس ، فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال : إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً ، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة". قال الهيثمي في المجمع (9/284) : " ورجاله رجال الصحيح " . قلت: والشاهد من ذلك قوله (... بالحاكم من حكام المسلمين يعدل...) مع قوله ( ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً ) فذلك يدل على إطلاقه الحكم بمعنى القضاء.) ( )
حال حكامنا حتى وإن طبق عليهم قول ابن عباس:
لا شك أن معرفة الوقع فرع عن تصوره كما قال علماؤنا رحمهم الله وحال حكامنا لا يخفى على ذي عينين . قال الشيخ عبد الأخر: (وحكامنا قد قامت عروشهم على فكرة العلمانية التي تعني الفصل بين الدين والدولة ، وقد كان حاكم مصر السابق يردد كثيراً مقولته الشهيرة " لادين في السياسة ولاسياسة في الدين " ، ولا يزال حكامنا يسيرون على نفس المنوال مقسمين حياة الناس بين الله وبين أهواء البشر مرددين " أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر " ، فتركوا لله جانباً يسيراً من حياة الناس وهو المتمثل في بعض العبادات ، أما حياة الناس العامة من سياسة واقتصاد واجتماع وغيره فقد تركوها لأهواء الذين لا يعلمون فكانوا كمن قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} البقرة : 85 .
- وهم يصرحون دائماً بأنه لا فرق بين المسلم وغيره في ظل دولتهم العلمانية ويرفعون شعار (الدين لله والوطن للجميع) ، ويعتبرون أحكام أهل الذمة أحكاماً رجعية قد عفى عليها الزمن وحل محلها مفهوم المواطنة الذي يعني المساواة بين سائر المواطنين ، ولا شك أن هذا رفض لأحكام الله وامتناع عن تطبيقها وهو الكفر بعينه ، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والأفتاء (1/541): " وأما من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر " .
- وحكامنا الآن قد صار هاجسهم الأول وشغلهم الشاغل هو كيفية القضاء على الحركات الإسلامية الداعية إلى تحكيم شرع الله ، وهاهو النظام المصري ينكل بالدعاة ما بين تشريد وتعذيب وقتل في الشوارع وعلى أعتاب المساجد ، وها هي المساجد تقتحم وتنتهك حرماتها من قبل زبانية النظام على مرأى من الناس ومسمع ، وها هي المحاكم العسكرية لا تزال تدفع بخيرة شباب مصر إلى المقاصل لا لشيء إلا أنهم يدعون إلى شرع الله ويريدون أن يحكمهم كتاب الله وسنة رسوله ، فهل يقال في مثل هذا النظام إنه معترف بتقصيره مقر بأنه عاص مستحق للعقوبة وهو الذي صرح رئيسه في العام 1986 م بأن الجماعات الإسلامية مرض يجب القضاء عليه ، وبأنهم يجربون الوسائل من أجل القضاء على تلك الجماعات ، ثم صرح في أول ولايته الثالثة عام 1993م بأن أول المهام التي سيتفرغ لها القضاء على التطرف ، وكلنا يعلم أنه لا يعني بالتطرف إلا الدعوة إلى حكم القرآن والسنة .
- وحكامنا يوالون اليهود والنصارى وينصرونهم على عباد الله الموحدين، وما مؤتمر شرم الشيخ عنا ببعيد، وقد عقد في العام 1996م من أجل مناصرة حكومة اليهود وعلى رأسها في ذلك الوقت شمعون بيريز ، وذلك بعد عدة عمليات جهادية قوية نفذها أعضاء حماس والجهاد في فلسطين المحتلة ، فهذا المؤتمر عقد على أرض مصرية وبأوامر من "كلينتون" سيد أولئك الحكام ، و مقصوده كما أسلفنا نصرة اليهود على المجاهدين في فلسطين المسلمة.
- وحكامنا ذهبوا إلى فلسطين المحتلة يذرفون الدموع حزناً على الإرهابي المجرم (رابين) ، بينما لم نسمع لهم صوتاً حين قتل اليهود المجاهد (يحيى عياش) والمجاهد ( فتحي الشقاقي) ، بل لعل الأقرب إلى المنطق والواقع أنهم كانوا من الشامتين في مقتل هذين الرجلين وأمثالهما من المجاهدين ؛ لأن وجود هؤلاء المجاهدين عقبة في طريق سلامهم المزعوم مع اليهود.
- وحكامنا قد تركوا الجهاد في سبيل الله (سواء كان طلباً أو دفعاً ) ، والشيخ الألباني يقول :" .. أي حاكم في الدنيا إذا قيل له لماذا لا تجاهد في سبيل الله ؟ إذا قال الآن ليس هناك جهاد ، الآن حرية ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إلى آخره من هذه التأويلات التي ما أنزل الله بها من سلطان فهذا المنكر للجهاد كشرع هذا هو الكافر ، أما الذي يعتقد أنه يجب أن يجاهد ، لكن الله يعينا وليس عندنا الاستعداد كما ينبغي وريثما نستعد ، إلى آخره وهو يستطيع أن يستعد فيكون آثماً " . [ فتاوى الشيخ الألباني ص: 303-304 ] .
وحكامنا حين تركوا الجهاد بنوعيه لم يقولوا : (الله يعينا) أو: (نحن مقرون بوجوب الجهاد لكن ليس عندنا القدرة ) ، إنما هم من النوع الأول الذي حكم الشيخ بكفره؛ ذلك أنهم لا يقرون بمبدأ الجهاد لنشر الإسلام ويسخرون ممن ينادي بذلك ، وهم يقرون بدلاً من ذلك بما قررته الأمم المتحدة من أنه لا يجوز استعمال القوة إلا دفاعاً ، ومع ذلك فحتى الجهاد الدفاعي ضد اليهود قد أغلقوا بابه وقد أعلن حاكم مصر السابق أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بيننا وبين اليهود ، ولا يزال حكامنا الحاليون يرددون أن السلام خيارهم الوحيد ، و لو كانوا ممن يقرون بالجهاد ولكنهم يقولون (الله يعينا) على حد تعبير الشيخ لتركوا غيرهم يجاهد ، ولكنهم على العكس من ذلك لا يفتأون يعادون من ينادي بالجهاد لتحرير فلسطين ويتعاونون مع حكومة اليهود في القضاء على المجاهدين .
وبعد.. فهذا غيض من فيض مما يمكن أن يقال عن حكامنا وبيان أنه لا يمكن أن يقال في شأنهم إنهم تركوا الحكم بما أنزل الله لشهوة نفس أو هوى قلب ، بل هو إيثار لأهواء أهل الأرض على شريعة رب الأرض والسماء ، ومثل هؤلاء لا يستقيم عند أهل الحق أن يوصف كفرهم بالكفر الأصغر بل هو الكفر الأكبر والردة السافرة والله أعلم. ) ( )

وبعد.. فمن كان بقي عنده لبس وتدبر كلام الشيخ عبد الآخر السابق ثم تدبر كلام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الآتي خاصة ما ذكره في الناقض الخامس في رسالته ليزولنَّ عنه كل لبس، يقول رحمه الله تعالى في رسالة تحكيم القوانين:
" إن من الكفرِ الأكبرِ المستبينِ، تنزيلُ القانونِ اللعينِ منزلةَ ما نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلب محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) ليكون من المنذرين ، بلسانٍ عربي مبينٍ ، في الحكم به بين العالمين ، والرَدِّ إليه عند المتنازعين ، مناقضةً ومعاندةً لقولِ الله عز وجل- ... إلى قوله: الخامس : وهو أعظمُها وأشملُها وأظهرُها معاندةً للشرع، ومكابرة لأحكامه ، وشاقة لله ولرسوله ، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية ، إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا ، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما ، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات ، مرجعُها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فلهذه المحاكم مراجع ، هي : القانون الملفق من شرائع شتى ، وقوانين كثيرة ، كالقانون الفرنسي ،كالقانون الأمريكي ، كالقانون البريطاني ، وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
- فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيأةٌ مكملةٌ ، مفتوحة الأبواب ، والناس إليها أسراب إثر أسراب ، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب ، من أحكام ذلك القانون ، تُلْزمُهُم به ، وتقرهم عليه ، وتحتِّمُه عليهم . فأي كفر فوق هذا الكفر ، وأي مناقضة للشهادة بأن محمد رسول الله بعد هذه المناقضة .( )
وأختم بكلام الدكتور الشيخ سفر الحوالي :
" كما تصوروا( ) ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا : إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءا قد يقل أو يكثر ، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالا له وإيمانا بدينه ، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية ، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي ، فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين ، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية ، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى ، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار ، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية ، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية – كل ذلك معاص لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعا وحكما غير شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه ، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده ، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله !!
فمرجئة عصرنا أكثر غلوا من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهرا ولا باطنا، وأولئك لم يخالفوا في إجراء الأحكام الظاهرة عليه ، لكن جوزوا إيمانه باطنا فقالوا : لو قتلناه لأنه سب الله ورسوله فهذا السب دليل على كفره ، وهو يوجب علينا تكفيره وقتله في أحكام الدنيا لكن إن كان في قلبه مقرا بصدق الرسول فهو مؤمن ناج عند الله ، أما هؤلاء فيحكمون بإيمان من ذكرنا مثاله ظاهرا وباطنا ولا يرونه مستوجبا لحد فضلا عن تكفيره ، بل يصرحون له بالموالاة والتأييد !!
وهذا من أعظم المصائب التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية في عصرنا، ومن أشدها مدعاة لإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة وبيانها للعامة والشباب(1) لاسيما معرفة حقيقة الإيمان المركبة من الاعتقاد والامتثال" ( )
و قد أفضت في النقل عن أهل العلم والفتي المعاصرين خاصة وما ذلك إلا لأنها قضية معاصرة فما كان يتخيل سلفنا أن حالنا سيصل إلى هذا الحضيض. وأحيل من يريد الاستزادة وبحث هذا الموضوع بشكل مستقل إلى أقوال أكثر من خمس و ثلاثين عالما معاصرا يقولون بكفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل في مرجع واحد , في كتب "ألف باء في الحاكمية والإرجاء" للشيخ محمد بن مصطفى المقرئ أقوال أكثر من ثلاثين عالما معاصرا يقولون جميعهم بكفر الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله وهم, وقد ذكرنا كلام بعضهم أعلاه. وأثبتهم هنا لمن أرد الزيادة.
وهؤلاء العلماء هم:
1. الشيخ المحدث أحمد شاكر قاضي القضاة الشرعيين بمصر في عمدة التفاسير
2. محمد حامد الفقي مؤسس أنصار السنة بمصر في تحقيقه على فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
3. الأستاذ الكبير يوسف العظم في كتابه " فصل الدين عن الدولة"
4. حمد بن علي بن عتيق النجدي " في مجموعة التوحيد "
5. العلامة الشنقيطي في أضواء البيان
6. الدكتور عمر عبد الرحمن في كتاب كلمة حق
7. الأستاذ علي جريشة في كتابه أصول الشريعة الإسلامية
8. محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي ديار الجزيرة العربية سابقا في رسالة تحكيم القوانين
9. محمد بن سعيد القحطاني في رسالة ماجستير بعنوان " الولاء والبراء"
10. الأستاذ الدكتور العلامة محمد قطب المشرف على الرسالة السابقة
11. فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة والمشرفة على الرسالة السابقة
12. فضيلة الدكتور عبد العزيز عويض عضو اللجنة والمشرفة على الرسالة السابقة.
13. محمد بن علي بن نفيع في كتابه أهمية الجهاد
14. العلامة الدميجي في الإمامة العظمى
أصحاب كتاب الإيمان
15. – عبد الله الوظاف
16. وأحمد سلامة
17. وعبد المجيد الزنداني
18. وفيصل عبد العزيز
19. وتوحيد عبد الحكيم
20. الشيخ عبد الله بن حميد في كتاب الإيمان ومبطلاته
21. الشيخ أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم في كتاب تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن
22. عبد العزيز آل محمد السليماني في " موارد الظمأن"
23. الشيخ حسن أيوب في "السلوك الاجتماعي"
24. الشيخ أبو بكر الجزائري في منهاج المسلم
25. الأستاذ المستشار عبد القادر عودة في " التشريع الجنائي الإسلامي"
26. الأستاذ صلاح دبوس في كتاب " الخليفة توليته وعزله
27. الأستاذ الشيخ سيد قطب –رحمه الله – في كثير من كتبه
28. الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية نقل عنه ذلك الشيخ محمد الصاوي في كتاب " اعلم أنه لا إله إلا الله"
29. الأستاذ محمد صلاح الصاوي فاعلم أنه لا إله إلا الله
30. الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر سابقا في رسائل الإصلاح
31. الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي في "كتاب ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي"
32. العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في كتاب الدرر السنية
33. الشيخ العلامة محمد رشيد رضا في تفسير المنار
34. الشيخ محمد سرور زين العابدين في كتاب العلماء وأمانة الكلمة
35. الأستاذ محمد نعيم ياسين في كتاب الجهاد ميادينه وأساليبه.
36. الشيخ الكوثري انظر كتاب ألف باء ص 140.
فإذا علم مما سبق أن الكفر ومفرداته مثل "كفر وكافر والكافرين" في القرآن منتشرة ويراد بها في الأصل الكفر الأكبر إلا ما ستثني بدليل أو قرينة على أن المراد بالكفر في نصا بعينه هوما دون الكفر, فمفردات مادة كفر أكثر من أن تحصى, أتت في ردود على الكفار, والمنافقين, وأهل الكتاب, والمرتدين. بل قد نزلت سور بأكملها لتفضح المنافقين, ونزلت آيات في محكم التنزيل لتثبت كفر أناس بعينهم وردّتهم عن الدين. فلكثرتها أرى أن ننتقل إلى المبحث الذي يليه بحثا عن أنواع الكفر الأكبر في السنة المطهرة.
فإن كان ذلك كذلك فلننتقل إلى ما يراد به الكفر الأكبر في الحديث النبوي.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .

ثانيا : ما ذكر في السنة النبوية بلفظ الكفر وأريد به الكفر الأكبر
لا شك في كفر اليهود والنصارى, ولا في كفر كل من سمع بالرسول – صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به كذلك, ولا في من عاصر الرسول ولم يؤمن به فهؤلاء هم الكفار الجاحدين لرسالة النبي أو المستكبرين عليها إما حسدا من عند أنفسهم أو كبرا وعنادا أو لغير ذلك, أمّا بحثنا فحول معاصي قد تكن سببا في كفر أو ردة من دخل في الإسلام إذا توفرت أسباب في فعل الكفر وانتفت موانع في الفاعل ,ولكن لنقف وقف سريعة مع الكفّار الجاحدين.
عُلم من سنن الله الكونية أن أهل الكفر لا يتركون أهل الإيمان إلا وعادوهم وحاربوهم, لذا بعث الله أنبياءه ورسوله ليصدعوا بالحق وأرسل نبيه– صلى الله عليه وسلم – بالسيف بين يدي الساعة, فكان النبي يبعث السرايا ويخرج بنفسه في الغزوات لقتال الكفار, إذا أرسل سرية يوصيهم بتقوى الله في خاصة أنفسهم ويقول لهم "اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر"
ففيما رواه الترمذي: 1408 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال:"اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر .... " ( )
وفيما روى الدارمي: بسنده أن النبي كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر رجلا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال: "اغزوا بسم الله وفي سبيل الله
قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا"( ).
وحيث أنه لا اختلاف بين أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمشركين والمعرضين والمستكبرين عما جاء به محمد النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا في كفر كل من لم ينتسب إلى الإسلام ولم يدخل في حظيرة الإيمان, فتكفي الإشارة إلى أن النبي بعث لقتال المشركين المعاندين الواقفين سدا أما دعوة الحق.
فلنبدأ إذن في بحث حكم من ينتسبون للإسلام ويؤمنون بخير الأنام
عليه الصلاة والسلام ثم يقعون فيما يناقض الإيمان .

كفر المنافقين:
المنافقون يحكم لهم بما يظهر لنا منهم, و هم عند الله كفارا ما داموا للكفر مبطنين, بل إن كفرهم أشد من الكفار الأصليين لأنهم في الدرك الأسفل من النار: (النساء)
فالمنافق الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر كفره أشد وخطره وأعظم من الكافر الأصلي, ونجد أن الإمام البخاري بوب في كتاب الإيمان " باب علامات النفاق" ومراد البخاري من وضع علامات المنافقين في كتاب الإيمان وضحه الإمام ابن حجر فقال:
" مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان كما أن الطاعة تزيده وقال الكرماني مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض والنفاق لغة مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه" ( )

كفر المرتدين:
وهؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم بعد أن هداهم الله فكفرهم أغلظ من الكافر الأصلي وقد قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ففيما رواه الترمذي بسنده :
2607 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده كفر من كفر من العرب فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله قال أبو بكر " والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة وإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه" فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق قال أبو عيسى هذا حديث حسن .." ( )

استتابة المرتد:
والمرتد يجب استتابته فإن لم يتب وأصر على كفره وأقيمت عليه الحجة ممن هو أهل لإقامة الحجة- كما سيأتي بيانه- , فإن أصر فقد ثبت كفره بيقين.
حكم استتابة المرتد:
أما حكم استتابته فهي على الوجوب لما رواه الإمام مالك في الموطأ:
1414 وحدثني مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه انه قال: " قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه. فقال عمر:
"أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر اللهم إني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني" ( )
كفر ترك الصلاة
الراجح في تارك الصلاة أنه كافر كفر لإجماع الصحابة على ذلك فيما رواه التابعي الجليل عبد الله بن شفيق , ولما رواه الطبراني في المعجم الكبير:
8938 (حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا المسعودي عن القاسم قال " قيل لعبد الله( )إن الله عز وجل يكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا يا أبا عبد الرحمن إنما كنا نرى ذاك الترك فقال عبد الله" تركها كفر" ) ( )
وكذلك لما جاء في سنن الترمذي في (باب ما جاء في ترك الصلاة):
حدثنا قتيبة حدثنا جرير وأبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين الكفر والإيمان ترك الصلاة "
2619 حدثنا هناد حدثنا أسباط بن محمد عن الأعمش بهذا الإسناد ثم نحوه وقال: "بين العبد وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأبو سفيان أسمه طلحة بن نافع

2620 حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس.
2621 حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث ويوسف بن عيسى قالا حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد قالا ح وحدثنا أبو عمار الحسن بن حريث ومحمود بن غيلان قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال ح وحدثنا محمد بن علي بن الحسن الشقيقي ومحمود بن غيلان قالا حدثنا علي بن الحسن بن شقيق عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وفي الباب عن أنس وابن عباس قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" و متى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرا بوجوبها , و لا ملتزما بفعلها , و هذا كافر باتفاق المسلمين ... قال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط, فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها , فإن اعتقاد الوجوب , واعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها , و الداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور , فإذا كان قادراً و لم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد ). ( )
وفي سنن الدارمي:
1233 أخبرنا أبو عاصم عن بن جريح ثنا أبو الزبير انه سمع جابرا يقول أو قال جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس بين العبد وبين الشرك أو بين الكفر إلا ترك الصلاة " قال أبو محمد العبد إذا تركها لعذر وعلة ( ) لا بد من أن يقال به كفر ... " ( ) .
قوله لا بد أن يقال به كفر مبني على إطلاق الكفر, ومبني على مبدأ المحافظة على الألفاظ الشرعية فما سماه الشارع كفر فيقال أنه كفر ليزجر عنه ويرهب منه فلا يتهاون بإتيانه هذا إذا قلنا أنها كفر أصغر.

سنن الدارقطني :
وكذلك روى الإمام الدارقطني عدة أحاديث في كفر تارك الصلاة منها: حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن هارون أنا أبو مسعود ثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ما بين الكفر أو الشرك والإيمان ترك الصلاة" ( )

فائدة :
أورد الهراسي سؤالا على القول بكفر تارك الصلاة وزعم أنه لا جواب عنه فقال إذا أراد هذا الرجل معاودة الإسلام فبماذا يسلم فإنه لم يترك كلمة الإسلام فأجابه ابن عقيل بأن قال إنما كان كفره بترك الصلاة لا بترك الكلمة فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاما فإن الدال على إسلام الكافر الكلمة أو الصلاة . قال صاحب بدائع الفوائد وهذا الذي ذكره .. يرد عليه في كل من كفر بشيء من الأشياء مع إتيانه بالشهادتين وتلك صور عديدة" ( )

إنكار السنة:
من أنكر سنة النبي فقد كفر . وكذلك من أدعى أنه لا حاجة له بالسنة . وكذلك من ادعى أنه يعرف الشريعة بطرق أخرى غير ما جاء عن النبي كالقول بعض المتصوفة حدثني قلبي عن ربي وكذلك من قال أنه يعرف الشريعة بالعلم الا دني وأن العوام هم الذين يحتاجون إلى معرفة الشريعة إ ذ لديه علم أرقى مما يعرفه العامة. وهو مذهب قوم من المتصوفة .
قال ابن حجر العسقلاني:
فقد " ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا أنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات
ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان ثم موسى ويؤيده الحديث المشهور "استفت قلبك وأن أفتوك"
قال القرطبي : وهذا القول زندقة وكفر لأنه إنكار علم من الشرائع فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه" ( )

و بوب الأمام الدارمي
باب السنة قاضية على كتاب الله روى فيه:
586 أخبرنا أسد بن موسى ثنا معاوية ثنا الحسن بن جابر عن المقدام بن معد يكرب سنان ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خيبر الحمار وغيره ثم قال " ليوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله "
587 أخبرنا محمد بن عيينة عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال "السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاضٍ على السنة"
588 أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان قال : "كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" ( )
589 أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن مكحول قال:"السنة سنتان سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيره حرج"

فعلم أن السنة منزلتها في التشريع تالية لكتاب الله , بل إن الشافعي يطلق عليها النص لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى كما أخبر المولى , فكفر كل من أنكر السنة الصحيحة المجمع عليها واضح لا لبس فيه ولا غموض . وعقلا ناكر السنة هادما للديني فكيف لا يكفر .

سب النبي كفر يوجب القتل بلا استتابة:
وهو كفر أكبر لا يستتاب صاحبه أي يقتل بلا استتابة وفي ذلك ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه القيم (الصارم المسلول على من شتم الرسول) ومنها ما رواه أبو داود في باب: الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:
4361 حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة قال ثنا بن عباس ثم أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: "أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام" فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته واتكأت عليها حتى قتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا اشهدوا أن دمها هدر"
4362 حدثنا عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح عن جرير عن مغيرة عن الشعبي عن علي رضي الله عنه : " أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها".
4363 حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن يونس عن حميد بن هلال عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وثنا هارون بن عبد الله ونصير بن الفرج قالا ثنا أبو أسامة عن يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال : " كنت [عند] أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضرب عنقه. قال: فأذهبت كلمتي غضبه, فقام فدخل فأرسل إلي ,فقال: "ما الذي قلت آنفا " قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال : أكنت فاعلا لو أمرتك . قلت: نعم. قال: " لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم " قال أبو داود هذا لفظ يزيد. قال أحمد بن حنبل: "أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل"( )
فعلم أن سب النبي كُفرٌ ويقتل بإقرار النبي وبأن دم الساب هدر لا دية فيه

ساب الصحابي ومكفره:
وكُفرُ من سب أحدا من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- اختلف فيه الفقهاء هل يكفر ويقتل فاعله, أم لا, على هذا التفصيل الذي ذكره ابن حجر في الفتح.
قال ابن حجر:
"اختلف في ساب الصحابي فقال: "عياض: ذهب الجمهور إلى انه يعزر وعن بعض المالكية يقتل وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين وقواه السبكي في حق من كفّر الشيخين وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم" ( )
تفصيل:
ولعل هذا الكلام يحتاج إلى فمن طعن في أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنه- بعد أن برأها الله من فوق سبع سماوات فقد كفر.
ومن طعن في صحبة أبي بكر أو قال بردته فقد كفر لأنه كذب وصف الله تعالى له بالصحبة في قوله تعالى :

و كذب كذلك بشارة النبي له بالجنة , وفي الجملة من كان دأبه تكفير أصحاب النبي والنيل منهم فقد كفر و قد ذهب الإمام مالك إلى تكفير من سب أبي بكر مستدلا بقوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). الفتح 29
فمن هذه الآية :

وتحديد من قوله تعالى : (( لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّار )) قال الإمام مالك بتكفير الشيعة الروافض فيما نقله عنه ابن كثير ابن كثير في تفسيره قال :
" اِنْتَزَعَ الإِمَام مَالِكٌ رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ فِي رِوَايَة عَنْهُ بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِض الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ لأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الآيَة وَوَافَقَهُ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ " تفسير سورة الفتح الآية 29

كفر من قذف أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - :
قال صاحب كشف القناع :
" ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف لأنه مكذب لنص الكتاب ومن سب غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كسب واحد من الصحابة لعدم نص خاص.
والثاني: وهو الصحيح أنه كقذف عائشة رضي الله عنها لقدحه فيه صلى الله عليه وسلم وأما من سبهم أي الصحابة سبا لا يقدح في عدالتهم ولا دينهم مثل من وصف بعضهم ببخل أو جبن أو قلة علم أو عدم زهد ونحوه فهذا يستحق التأديب و التعزير ولا يكفر وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف أعني هل يكفر أو يفسق توقف أحمد في كفره وقتله وقال يعاقب ويجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عن ذلك وهذا المشهور من مذهب مالك وقيل يكفر إن استحله ....
وفي الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية البليغة باتفاق المسلمين وتنازعوا هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل وقال أما من جاوز ذلك كمن زعم أنهم أي الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر وأنهم فسقوا فلا ريب أيضا في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر" انتهى ملخصا من الصارم المسلول على شاتم الرسول .
من أنكر صحبة أحد من أصحاب النبي الشهورين:
ومن أنكر أن يكون أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه, فإنكار صحبته تكذيب لله.
قال في الأنوار للشافعية "ولو قال ذلك لغير أبي بكر لم يكفر" وفيه نظر لأن الإجماع منعقد على صحابية غيره والنص وارد شائع. قال شارحه الأشموني: " قلت وأهل الدرجات أن يتعدى ذلك إلى عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأن صحابتهم يعرفها الخاص والعام عن النبي صلى الله عليه وسلم فنافى صحابية أحدهم مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم" ( )
والذي أرجحه هو أطلاق الكفر على من طعن أو كفّر أصحاب النبي الذين حملوا لنا الدين فالطاعن فيهم طاعن فيما حملوه إلينا إي طعن في دين الله, ولقد اشتهر بعض الشيعة بذلك, مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحكم على التعيين يحتاج إلى استيفاء شروط وانتفاء موانع , وكذلك علم بالواقع الذي يشهد بأن عامتهم الجهال يختلف حكمهم عن الحكم على علمائهم, فمن العوام من لا يسب ولا يعرف عن مذهبه شيئا بل قد يصلى خلفنا , أما فمن اعتقد منهم ردة الصحابة جميعهم إلا ثلاث أو خمس أو سبع كما رووا في "الكافي" أو من لعن أبو بكر وعمر خاصة بالدعاء المسمى لديهم دعاء صنمي قريش وفيه "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وصنميهما وابنتيهما"( ) فإن قصدوا أبو بكر وعمر وحفصة وعائشة فهذا القول كفر, وحكمه القتل كفرا كما قال بعض المالكية في السب, بل إن تكفير الصحابي أعظم من سبه .
على أنه يجب مراعاة حال ضعف الأمة فلا نزيدها فرقة وتناحر بين طوائفها فالسكوت وعدم مجابهة الشيعة في مثل هذا الزمان أفضل مع يقيننا أنهم يكفروننا نحن أهل السنة ويسموننا بالنواصب, و يكفي أن نعلم أن الإمامة عندهم بمنزلة الشهادتين, فالذي لا يؤمن بأئمتهم الإثنى عشر- بما فيهم الغائب في السرداب الذي معه القرآن الأصلي الذي غاب من مئات السنين في سردابه يأكل العسل ويشرب اللبن!- فهو عندهم كافر,هذا غير عقائدهم الفاسدة, والتاريخ خير شاهد أنهم كانوا سببا في هدم الخلافة العباسية على يد ابن العلقمي الذي يترحم عليه أئمتهم( ).
وهذا موضوع يحتاج إلى بحث مستقل تراعى فيه المصالح والمفاسد التي تترتب على تناحر السنة والشيعة خاصة في هذا الزمان الذي اتحد أهل الكفار باختلاف مللهم على أهل القبلة من المسلمين.
أما التقريب الذي يزعم من حين لأخر فهو من المستحيل لاختلاف الأصول التي يمكن الرجوع إليها في حال الخلاف, وقد حاول علماء كثيرون التقريب بين أهل السنة والشيعة منهم الشيخ سعيد حوى رحمه الله ولمّا تبين له أمرهم كتب كتابه (الخمينية شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف)
وحاول من قبله الإمام أبو زهرة رحمه الله, كما رفض علماء الجزيرة المناظرة والتقريب معهم حتى يتفقوا على المصدر الذي يرجعون فيه حال الخلاف, ولما كانت المصادر غير واحدة , فالقرءان يحرفونه بالتأويلات الفاسدة ليلائم مذهبهم و في نفس الوقت لا يعترفون بكتب الحديث التي عندنا كالبخاري ومسلم, وعندهم مصادرهم, فكتاب الكافي عندهم كالبخاري عندنا, ولا يقبلون حديثا إلا من رواتهم إذ أنهم حكموا بردة كل من أنكر وصية الرسول بالإمامة من بعده لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن جهتنا رواتهم عندنا مطعون فيهم لأنهم أهل تقية, ومعلوم أن الشيعة أكذب الفرق على الإطلاق, ولم يأخذ عنهم إلا ما ندر مراعاة لحفظ السنة, وكان الحديث إذا وجد عند غيرهم لا يؤخذ منهم لإخماد فتنتهم , فكيف إذا علمنا أن شيعة الأمس الفرق شاسع بينهم وبين شيعة اليوم حيث تطور كذبهم إلا افتراءات ما أنزل الله بها من سلطان!. فإلى أي مرجع يرجع من يريد التقريب ؟!
فالحكمة – والله أعلم- عدم الخوض معهم في مسائل الخلاف أو مواجهتهم بكفرهم, أو استعدائهم علينا ونحن على هذا الحال مراعاة للمصلحة العامة.
أما القول في تكفيرهم فهو من باب إطلاق الكفر لا تعيينه على أعيانهم, وذلك لأن العوام من أتباع الشيعة خاصة الذين يصلون خلفنا يكون جهلهم وعدم معرفتهم بمذهبهم وارد فيمنع من تكفيرهم ولكن لا يرفع عنهم الأثم. .. والله أعلم.

عقيدتنا في الصحابة
أما عقيدتنا فهي حب الصحابة أجمعين ومعاداة من يبغضهم أو بغير الخير يذكرهم
ملخصها مقاله الإمام الطحاوي : "ونحب أصحاب رسول الله ولا نفرط في حب احد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" ( )

السحر والكهانة :
السحر المكفر: ليس هو ما يقوم به الساحر من سحر الأعين: سواء بحركات سريعة خفيفة موهمة أو باستخدام حيل خفية تُخيل للناس ويتوهمون فعلها, وإنما السحر الذي يكفر صاحبه: هو ما يتعامل به الساحر مع الجن أو السحر على مفهوم أهل بابل كما بينه الأئمة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة :

قال ابن حجر : "وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر و متعلمه كافر وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا "
قال النووي : عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ومنه ما يكون كفرا ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق قال عياض وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اه. وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره وإما لأزالته عمن وقع فيه" ( )

وقال السعدي في شرح كتاب التوحيد:

ش: أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله ما له في الأخرة من خلاق قال ابن عباس: " من نصيب" قال قتادة : وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين.
فدلت الآية على تحريم السحر وهو كذلك بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)) [طه : 69] واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله ((وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ)) يدل عليه قوله:((فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ))
وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " من تعلم شيئا
من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله" وهذا مرسل واختلفوا هل يكفر الساحر أولا فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد قال أصحابه إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر وقيل لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر وهذا قول الشافعي وجماعته قال الشافعي رحمه الله "إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر" وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب ولهذا سماه الله كفرا في قوله : ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) وقوله: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا))
وفي حديث مرفوع رواه رزين " الساحر كافر". وقال أبو العالية: "السحر من الكفر" وقال ابن عباس: في قوله ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) "وذلك أنهما علماه الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر".وقال ابن جريج:"لا يجترىء على السحر إلا الكافر وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر وإن سمي سحرا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرا ولكنه يكون حراما لمضرته يعزر من يفعله تعزيرا بليغا "اهـ ( )
وقال الإمام ابن حجر في الفتح شرح حديث عائشة:
حَدَّثَنَا ‏ ‏عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ ‏ ‏أَخْبَرَنَا ‏ ‏مَعْمَرٌ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عَائِشَةَ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ‏ ‏قَالَتْ "‏سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏نَاسٌ ‏ ‏عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ: " لَيْسَ بِشَيْءٍ" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ "إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "‏ ‏تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ "
قوله : ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ‏في رواية الكشميهني ": سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذا هو في رواية يونس , وعند مسلم من رواية معقل مثله. ومن رواية معقل مثل الذي قبله , وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه "قال قلت يا رسول الله, أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان فقال لا تأتوا الكهان الحديث ... " وقال الخطابي: هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ )). الشعراء 221
قوله فقال " لَيْسَ بِشَيْءٍ" في رواية مسلم " لَيْسَوا بِشَيْءٍ", وكذا في رواية يونس في التوحيد ,وفي نسخة: فقال لهم " لَيْسَوا بِشَيْءٍ", أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه ما عمل شيئا قال القرطبي : كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية , لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم , وثبت النهي عن اتيانهم ولا تصديقهم.
قوله: " إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا" في رواية يونس فإنهم يتحدثون هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله " لَيْسَوا بِشَيْءٍ" لأنه فهم منه أنهم لا يصدقون أصلا. فأجابه - صلى الله عليه وسلم - عن سبب ذلك الصدق وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب قوله "تلك الكلمة من الحق" كذا في البخاري بهملة وقاف. أي: الكلمة المسموعة التي تقع حقا. ووقع في مسلم "تلك الكلمة من الجن" ..... قوله: "يخطفها الجني" كذا للأكثر وفي رواية السرخسي يخطفها من الجني أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة وفي رواية الكشميهني يحفظها بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم . قوله "فيقرها" بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته فكأنه صب في إذنه ذلك الكلام. قال القرطبي: ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت يقال قر الطائر انتهى. ووقع في رواية يونس المذكورة "فيقرقرها" أي يرددها. يقال: قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها...... قال القرطبي: بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط " ( )
هكذا تتم عملية التكهن بين الجني والكاهن فأن كان الجني يطلب منه مقابلا لذلك كفعل كفر يفعله الكاهن: بأن يلقي ورقة من مصحف مثلا في القاذورات فلا شك في كفر الكاهن في مثل هذه الحالة.

ثالثا: خلاصة ما يراد به الكفر في القرآن والسنة:
أن الكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة. وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام. إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.
فالكفر بالمعنى الأول : يشمل أفعال قائمة بذاتها وأعظمها إنكار و جحود ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم- أو بعض ما جاء به، مما علم من دينه بالضرورة, أو فعل معصية مكفرة مخرجة من الملة دل على كفرها نصي قطعي.
والكفر بالمعنى الثاني: يشمل المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالى، أو يرتكب بها ما نهى عنه. وفيه جاءت أحاديث كثيرة، مثل: (من حلف بغير الله فقد كفر) أو (فقد أشرك)، (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، (لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).فالكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس كفرا ناقلا عن الملة، لأدلة ذكرتها في البحث ولأدلة أخرى منها : أنه قد اقتتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضا بذلك. ولقوله – صلى الله عليه وسلم - (من قال لأخيه يا كافر) فقد أثبت الأخوة بينهما، وهي لا تثبت بين مسلم وكافر، فدل ذلك على أنه لم يخرج من دائرة الإسلام بقوله. ومثل ذلك قوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ونحوها.
قال الشيخ القرضاوي : "ومازال الناس في مختلف الأزمنة يحلفون بغير الله، ويصدقون العرافين والكهان، فينكر أهل العلم والدين عليهم, ويضللونهم أو يفسقونهم، ولكن لم يحكموا بردتهم، ولا فرقوا بينهم وبين نسائهم، ولا أمروا بعدم الصلاة عليهم عند موتهم، أو بعدم دفنهم في مقابر المسلمين. وقد جاء في الحديث المرفوع: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.( )
أما الكفر بالمعنى الثاني: وهو الكفر الأصغر- فيقابله: الشكر، فالإنسان إما شاكر للنعمة، أو كافر بها، غير قائم بحقها، وإن لم يكفر بمنعها. قال تعالى في واصفا حال الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان 3
وقال: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).لقمان12

والكفر والظلم و الشرك أكبر و أصغر: وكما أن هناك كفر أصغر هناك ظلم أصغر لما رواه البخاري في صحيحه:
"باب: ظلم دون ظلم" واستدل بحديث ابن مسعود لما نزلت آية الأنعام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون: لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك. أو لم تسمعوا قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). لقمان 13
ووجه الدلالة من الحديث على ما أراده البخاري: أن الصحابة فهموا من قوله "بظلم" عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما بين لهم أن المراد: أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، فدل على أن الظلم مراتب متفاوتة. ( )

ونستخلص أيضا مما سبق أن :
الكفر يقع في الأصول كالكفر بالله أو بملائكته أو بكتبه أو برسله ويقع في فيما دون ذلك مما عده الشارع كفرا مخرجا من الملة , وتتعدد أسباب الكفر المخرج من الملة ولكنها تندرج تحت أربع نواقض :
1- النواقض القولية : كمن سب الله كأن يقول أن الله فقير أو ظالم -حاشا لله ونعوذ بالله من الخذلان أو سب رسوله الله فاتهم بالكذب أو عدم البلاغ
2- النواقض الفعلية: مثل ترك الصلاة على أصح أقوال العلماء وإن أقر بوجوبها, أو استهان بالمصحف فقعد عليه مستهينا به أو ألقاه في نجاسة عامدا, أو صلى لغير الله, أو ذبح لغير الله ونحوه
3- النواقض العقدية: وهي النواقض التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم ولم يفعل فمن اعتقد بقلبه مثلا أنه لا يوجد بعث ولا نشور تكلم أم لم يتكلم فقد وقع في ناقض من نواقض الإيمان . إلا إذا كانت وسوسة ولم يعقد عليها قلبه واستغفر الله منها, وإن اعتقد بقلبه وإن لم يتكلم أن محمد- صلى الله عليه وسلم- ليس بصادق ونحوه ..
4- ناقض الشك: وقد يرجع الكفر إلى الشك : كأن يشك في الله أحق أم لا , أموجود أم لا؟ أو شك في البعث أو في الجنة أو في النار .. ويسمى هذا الكفر كفر شك . وقد مر ذكر أدلتها في أنواع الكفر
.تنبيه: الوساوس لا تضر إذا دفعها المؤمن ولم تستقر إليها نفسه, قال صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الإمام مسلم
" إن الله تجاوز ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلموا أو يعملوا به "

الباب الثاني
التحذير من الغلو في التكفير

الفصل الأول : التحذير في الكتاب والسنة من الغلو في التكفير
الفصل الثاني : حكم التكفير و حكم من كفر مسلما .

الفصل الأول
التحذير في الكتاب والسنة من الغلو في التكفير

أولا : التحذير في القرآن الكريم من الغلو في التكفير
ثانيا : التحذير في السنة من الغلو في التكفير
ثالثا : ورع علماؤنا عن تكفير من لم يكن كفره جليا

الفصل الأول
التحذير في الكتاب والسنة من الغلو في التكفير

من أجل الأخطار والآثار المترتبة على تكفير المسلم حذرنا الشارع في الكتاب والسنة من التكفير ؟
أولا : التحذير في القرآن الكريم من الغلو في التكفير
حذرنا الله في كتابه فقال معاتبا وموجها للمسلمين

في سبب نزول هذه الآية :
وجاء في سبب نزول هذه الآية ما ذكره ابن كثير في تفسيره :"قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : " مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما له فسلم عليهم فقالوا لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " إلى آخرها . ورواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن حميد عن عبد العزيز بن أبي رزمة عن إسرائيل به ثم قال هذا حديث حسن صحيح". ( )
قال الإمام الطبري: القول في تأويل قوله تعالى : (( ......... { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ } يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم , مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم, {لَسْتَ مُؤْمِنًا} فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا , يقول : طلب متاع الحياة الدنيا , فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه و فواضل نعمه , فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه , فالتمسوا ذلك من عنده . {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يقول : كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه, كذلك أنتم من قبل , يعني : من قبل إعزاز الله دينه بتباعه وأنصاره , تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه , وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم . وقد قيل : إن معنى قوله : {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كنتم كفارا مثلهم. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يقول : فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. وقد قيل : فمن الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه , وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام . {فَتَبَيَّنُوا} يقول : فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه , فلعل الله أن يكون قد من عليه من الإسلام بمثل الذي من به عليكم , وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان )).( )
ثانيا : التحذير في السنة من الغلو في التكفير
وجاء في السنة التحذير الشديد من الغلو في التكفير فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب: (باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(‏إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ ‏ ‏بَاءَ ‏ ‏بِهِ أَحَدُهُمَا)
وعن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) قال ابن حجر في الفتح: " .. حمل الحديث على الزجر والتغليظ " . و روى في الصحيح أيضاً في ( باب ما ينهى عن السباب واللعن) عدة أحاديث بهذا المعنى منها:عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (‏‏لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ) .ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(‏‏ ‏ .. وَمَنْ دَعَا رَجُلا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلا حَارَ عَليْهِ)
فهذه الأحاديث وغيرها زاجرة للمسلم حتى لا يتسرع في رمي أخاه بالكفر, لأنها كلمة إذا خرجت من فم قائلها تركت عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.

شرح أحاديث التحذير من الغلو في التكفير
أقوال أئمتنا في شرح أحاديث التحذير من التكفير :
( وَمَنْ دَعَا رَجُلا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلا حَارَ عَلَيْهِ)
قال المقديسي و في شرح هذا الحديث:( )
• يقول ابن دقيق العيد في معنى هذه الأحاديث : ( وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين وليس كذلك ، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم ) أ هـ. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/76)
• ويقول الشوكاني في السيل الجرار : ( اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما …) وساق الأحاديث ثم قال : ( ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر ، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير .) (4/578)
وقال: ( فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح بدينه ، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة ، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ ، أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً ، فهذا {لا} يقود إليه العقل فضلاً عن الشرع ) أهـ (4/579) وما بين المعكوفين زيادة مني يقتضيها السياق لعلها سقطت من المطبوع . [الزيادة من أبو محمد المقديسي]
ويقول ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر : ( الكبيرة الثانية والثالثة والخمسون بعد الثلاثمائة ، قول إنسان لمسلم: يا كافر أو يا عدو الله ، حيث لم يكفره به ، بأن لم يرد به تسمية الإسلام كفراً ، وإنما أراد مجرد السب ) وذكر الحديث المتقدم ثم قال : ( وهذا وعيد شديد وهو رجوع الكفر عليه أو عداوة الله له ، وكونه كإثم القتل ، فلذلك كانت إحدى هاتين اللفظتين إما :
- كفراً بأن يسمي المسلم كافراً أو عدوا لله من جهة وصفه بالإسلام ، فيكون قد سمى الإسلام كفراً ومقتضياً لعداوة الله ، وهذا كفر.

- وإما كبيرة بأن لا يقصد ذلك ، فرجوع ذلك إليه حينئذ كناية عن شدة العذاب والإثم عليه وهذا من إمارات الكبيرة ) أهـ
وقد نص ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/405) على أن : ( من الكبائر تكفير من لم يكفره الله ورسوله ) أهـ قلت: لاشك أن وصف الشرع للذنب بالكفر يميزه عن سائر المعاصي ، ولذلك فإن كون الذنب الذي نحذر منه ؛ كبيرة من كبائر الذنوب ، أمر لا يتبادر إليه الشك )

ثالثا : ورع علماؤنا عن تكفير من لم يكن كفره جليا :
فهذه بعض أقوالهم شاهدة على ورعهم في هذه المسألة الخطيرة بلا إفراط ولا تفريط يقول الإمام ابن عبد البر: ( إن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع المسلمين ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام ، لم يكن لاختلافهم بعد اجتماعهم معنى يوجب حجةً ، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة ) أهـ . ( )
نقل القاضي عياض عن أبي المعالي : (إدخال كافر في الملة أو إخراج مسلم عظيم في الدين ) أهـ . وفيه أن إدخال كافر في الملة والشهادة له باطلا بالإسلام ، لا يقل خطورةً عن إخراج المسلم منه ، فليحذر طالب الحق من كلا العقبتين فكلهما كؤود .
ونقل القاضي عياض في الشفا في ( فصل تحقيق القول في إكفار المتأولين ) عن العلماء المحققين قولهم : ( أنه يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد ) أهـ ( )

وقول الغزالي في ( التفرقة.. ) : ( والذي ينبغي، الاحتراز عن التكفير ما وجد له سبيلاً فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة ، أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد ) أهـ .
وقال القرطبي في المفهم : ( وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئاً) أهـ قاله في الفتح كتاب استتابة المرتدين .. ( باب من ترك قتال الخوارج )
وقد قرر ابن الوزير:" تواتر الأحاديث في النهي عن تكفير المسلم في كتابه وقال رحمه الله : ( وفي مجموع ذلك ما يشهد بصحة التغليظ في تكفير المؤمن ، وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام ، وتجنبه للكبائر ، وظهور أمارات صدقه في تصديقه ، لأجل غلطه في بدعة ، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو من قريب منها ، فإن العصمة مرتفعة ، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلا ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدعة شدة العجب بنفوسهم ، والاستحسان لبدعتهم … وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود والترمذي ، وعن ابن عمرو مرفوعا :
( ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجاب المرء بنفسه)… ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجباً وتيهاً وتهليكا للناس واستحقارا لهم ، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله )) أهـ . ( ) ويقول: (وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة ، وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى ، وتعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصيه ، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم ، وهذا خطر في الدين جليل ، فينبغي شدة الإحتراز فيه من كل حليم نبيل ) أهـ ( ) .
-ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب :
( وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه ، واستحسان عقله ، فإن إخراج رجل من الإسلام ، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين … وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة ، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم ) أهـ . ( )

ومن ورع العلماء عن التكفير ما ذكره المقديسي في رسالته الثلاثين:
" قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/88) : ( رأيت للأشعري (133هـ) كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي ، سمعت أبا حازم العبدري ، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول : لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته ، فقال : "اشهد علي أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد ، وإنما هذا كله اختلاف العبارات" . قال الذهبي بعده قلت وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية يقول : أنا لا أكفر أحداً من الأمة ، ويقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم ) أهـ.
قال المقديسي: وقوله (لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد)؛ بين في أن تحرجه في التكفير، إنما هو في أهل التوحيد لا في أهل الشرك والتنديد، فتنبه لذلك فإن هذا هو الذي نحذر من التهور فيه، وحذار من تلاعب الملبسين والمدلسين الذين يوظفون هذا الكلام ويستعملونه في الدفع عن أعداء الملة والدين من الطواغيت المحاربين)( )

إذا كان هكذا يتورع أهل العلم ويحذرون من التكفير فجدير أن ننتقل
الجهة الأخرى لنبحث: لماذا التكفير؟ وما حكم من كفر مسلما؟
وهل منعهم تورعهم من الحكم على من يستحق الكفر بالكفر

الفصل الثاني
حكم التكفير و حكم من كفر مسلما

• لماذا التكفير وما حكمه ؟
• بعض الأحكام الشرعية المترتبة على الكفر والإيمان
• حكم من كفر مسلما

الفصل الثاني
حكم التكفير و حكم من كفر مسلما

لماذا التكفير وما حكمه ؟
بادئ ذي بدء .. التكفير حكم شرعيٌ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة: وأن مادة "كفر .. يكفر .. كافرا" جاء القرآنُ بها فلا يكاد تخلو من هذه الكلمة ومشتقاتِها سورة من طوال سوره، أو جزءٍ من أجزائه, ولكن هناك فرق بين الإسراف في التكفير وبين تنزيل حق الله على من يستحقه و ممن هو أهل لذلك . بحيطة شديدة وبلا إفراط ولا تفريط , ولقد مر بنا قول القاضي عياض:
(إن إدخال كافر في الملة أو إخراج مسلم عظيم في الدين) , وحيث أن التكفير حكم شرعي فلذا وجب تطبيقه , ووجب أن نشهد على الكافر بكفره كما نشهد لمن دخل الإسلام بإسلامه.
وواجب لغيره من الأحكام: لأن هناك حقوق وأحكام شرعية تترتب على تكفير من وقع في الكفر, فكما أن التهور في إلقاء الحكم مذموم فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة أيضا مذموم خاصة إذا ترتب على ذلك ضياع حقوق, وكم من الحقوق هضمت وكم من العقول غيبت من أجل تورع جاهل, أو إحجام في وقت الإقدام, أو من مداهنة أو من تمييع للحق مخافة الخلق, ولقد وقفت على كلام نفيس في الإجابة على مثل هذا السؤال للشيخ عبد الأخر حماد الغنيمي: " إن هناك أموراً كثيرة يطالب بها المسلمون تجاه من يُحكم بكفره سواء كان حاكماً أو محكوماً فمن هذه الأمور:
البراءة من الكافرين:
البراءة من هذا الكافر وإعلانه بالبغض والعداوة لكفره وقد قال الله عز وجل:

ولا شك أن إبراهيم والذين معه حين قالوا ذلك كانوا فئة مستضعفة لا يستطيعون قتال قومهم ومع ذلك تبرأوا منهم وبارزوهم بالعداوة والبغضاء ، وكذلك كانت حال نبينا – صلى الله عليه وسلم - في مكة فقد كان ومن معه مستضعفين لا يقوون على قتال مشركي قريش، ومع ذلك فإنه – صلى الله عليه وسلم -
كان يصدع بالحق في وجوههم ويسفه عبادتهم لغير الله ويتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة ، بل وفي الدنيا أيضاً كما في قوله - صلى الله عليه وسلم- :
" ..أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .. "( ).
قال البيهقي في الدلائل (2/275) : " وفي هذا الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- أوعدهم بالذبح وهو القتل في مثل تلك الحال ثم صدق الله تعالى قوله بعد ذلك بزمان فقطع الله دابرهم وكفى المسلمين شرهم " .
النصح للأمة:
ومن هذه الأمور : النصح للأمة ببيان حال هؤلاء الذين يدّعون الإسلام مع كونهم ليسوا كذلك فإن تركهم من غير أن يبين حالهم فيه غش للأمة وكتمان للحق الذي أمرنا بالصدع به .
لمعاملتمهم بما أمر الشرع :
ومن هذه الأمور أن المرتدين لا تحل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، فيجب على من عرف حال المرتدين أن لا يأكل ذبائحهم وأن لا ينكح نساءهم ويجب عليه أيضاً أن يُعرِّف من لا يعلم حالهم بذلك حتى يعاملهم بنفس المعاملة .
لإعداد العدة لهم :
"ومن هذه الأمور أنه يجب على المسلمين الإعداد لقتال هؤلاء الكفار عند عدم القدرة على قتالهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/259) : "يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب " .
إلى غير ذلك من الأمور الواجبة تجاه المرتدين والتي لاعلاقة لها بالقدرة على قتالهم ، فإذا كان المسلم غير قادر على بعض هذه الأمور فإن ما يقدر عليه لايسقط وجوبه ، وقد تقرر في الأصول أن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- :" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ، فنحن إن لم نستطع إزالة منكر هذا الحاكم الكافر - وهو كفره- بأيدينا فإننا ننتقل إن استطعنا إلى التغيير باللسان وهو بيان ما هو عليه من الكفر وأنه يلزمه الإقلاع عنه والتوبة إلى الله ، فالمسلم عليه القيام بما يستطيع في باب تغيير المنكر .
كما أنه لايشترط أن يعلم المغير أن المنكر سيزول من جراء تغييره، بل على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن علم أن المنكر سيبقى على حاله، قال النووي في شرح مسلم (2/23): " ولا يسقط عن المكلف الأمر والنهي لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول كما قال الله عز وجل:{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}"المائدة 99( )

بعض الأحكام الشرعية المترتبة على الكفر والإيمان:
وبالإضافة لما ذكره الشيخ عبد الآخر - فيما سبق- من أحكام,أذكر بعض الأحكام الشرعية التي تتعلق بالكفر والإيمان, لنعلم أن الحكم بتكفير معين من الناس يترتب عليه كثير من الأحكام الشرعية التي لا يسعنا تجاهلها,ولا يشفع لنا ورعنا في تركه,مع الأخذ في الاعتبار أن الحكم ينطق به ذو أهلية على مستحقه.
من هذه الأحكام:
أحكام الولاية: بطلان ولاية الكافر على المسلم في صور كثيرة فلا يجوز أن يكون الكافر ولياً أو حكماً أو قاضياً أو إماماً للمسلمين ، وصلاته باطلة فلا يكون إماما للصلاة, ومن صلى خلفه مع علمه فصلاته باطلة .
لا يلي الكافر مال المسلم فلا يكون وصياً عليه, ولا يمكن الكافر من التقاط لقيط في دار الإسلام , إلى غير ذلك من صور الولاية المختلفة .
أحكام النكاح: فإن الكافر يحرم نكاحه من مسلمة, ولا يكون ولياً لها في النكاح وإذا نكح وهو مسلم ثم أرتد فسد نكاحه،فإن استمر معاشرة زوجته فهذا زنا
أحكام التوارث: فإن اختلاف الدين مانع من التوارث لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر )) [متفق عليه].
أحكام الجنائز : أن الكافر أو المرتد لا يُغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ولا يجوز لمسلم أن يقف على قبره عند مواراته أو أن يستغفر له ، وهذا من تمام البراءة من المشركين في محياهم ومماتهم قال تعالى : (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة 84] وقال سبحانه:
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى)
[التوبة 113]

أحكام الولاء و البراء : فتجب عدم موالاة الكافر، وتجب البراءة منه، ويجب أن يبغضه المؤمن في الله (مع عدم ظلمه)، ولا يعينه على شيء يضر المسلمين .
أحكام الهجرة : مبناها على الإيمان والكفر فيجب على المؤمن الهجرة من بين الكافرين ما أمكنه ذلك لينجو بدينه من فتنتهم وحتى لا يكثر سوادهم, هذا بالطبع في حالة وجود دولة الخلافة التي تحكم بشرع الله .
أحكام الجهاد : وما يترتب عليه من معاملة الأسرى والغنائم والجزية والخراج ، كل هذا مبني على الإيمان والكفر , أحكام الديار مبنية على الإيمان والكفر ، فلا يجوز للمسلم أن يذهب الى دار الكفر إلا لحاجة ولا يقيم بها إلا لضرورة ، كما لا يجوز للكافر دخول دار الإسلام إلا بعهد ، وهناك أماكن لا يجوز للكافر أن يقيم بها وهي جزيرة العرب ، وهناك أماكن لا يجوز لهم دخولها كالحرم.

فإذا علمنا أنه حكم شرعي ويترتب عليه كثيرا من الأحكام السابقة
فما حكم من يخطئ ويكفر مسلما؟
هذا ما سنبحثه في النقطة التالية

حكم من كفر مسلما
قد سبق في الباب الأول أن هناك معاصي أطلق عليه الشارع لفظ الكفر وهي دون الكفر الأكبر ومنها ما هي كفر, فما حكم من يقع في تكفير مسلم بغير حق. هل تحمل أحاديث الوعيد على ظاهرها , فقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم-:
(إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ ‏ ‏بَاءَ ‏ ‏بِهِ أَحَدُهُمَا )
بلا شك أنه قد أوقف نفسه على شفا حفرة لا يأمن من أن ينزلق على رأسه في الهاوية, أما ما ورد من عودة الكفر عليه فتأولها العلماء , ولمزيد من التوضيح أنقل كلام أهل العلم وتأويلهم لمثل الحديث السابق.
قال المقديسي في الرسالة الثلاثين في التحذير من أخطار التكفير:
" ففي هذه الأحاديث الصحيحة من الوعيد والتهديد ، ما يجعل أولي الألباب يحتاطون لدينهم أشد الاحتياط في هذا الباب الخطير، إذ أن ظاهرها قاض بأن من كفر مسلماً بما لم يكفره الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر هو بذلك وهذا وعيد شديد استشكله العلماء ، ولذلك ذكروا فيه عدة تأويلات ، ومما رجحه بعضهم من ذلك ؛ أن من اعتاد الهجوم على مثل هذه المعصية الكبيرة ، وتجرأ على تعطيلها ، فإن ذلك يؤدي به إلى الكفر ، أو يختم له به ، لأن المعاصي بريد الكفر وكبارها أسرع إليه من صغارها ، والمستهتر بالكبائر يخشى عليه أن يجره استهتاره إلى اقتحام أسباب الكفر وتعاطيها ، وإلى هذا المعنى أشرنا حين قلنا ( … أن الغلو في التكفير يودي إلى الكفر ) .. وقد ذكر النووي في شرحه لمسلم استشكال بعض العلماء لظاهر الوعيد في هذه الأحاديث .. وذلك لأن مذهب أهل الحق ، أهل السنة والجماعة ، أن لا يكفر المسلم بالمعاصي ، ومن ذلك قوله لأخيه ( كافر ) ، من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام . لذلك ذكر في تأويله خمسة أوجه :
أحدها : أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر .
الوجه الثاني : معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
الثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين ، نقله القاضي عياض عن الإمام مالك بن أنس .
الرابع : معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر ، وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر .
الوجه الخامس : معناه قد رجع عليه تكفيره ، فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافراً ، فكأنه كفر نفسه ، إما لأنه كفر من هو مثله ، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام ، والله أعلم ) أ هـ مختصراً من شرح مسلم .
هذا وقد ضعف النووي الوجه الثالث المروي عن مالك ، بدعوى أن الخوارج عند الأكثرين لا يكفرون ببدعتهم ، وتعقبه الحافظ في الفتح فقال : (ولِما قاله مالك وجه ، وهو أن منهم من يكفر كثيراً من الصحابة ، ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة والإيمان ، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة(11)، لا من مجرد صدور التكفير منهم بالتأويل ) .. ثم قال : ( والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم ، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم ) أهـ
هذا ومما يعرفك أن من العلماء من أخذ وعيد هذه الأحاديث على ظاهره ، أن طائفة ممن جنحوا منهم إلى تكفير الخوارج؛ قد استدلوا لذلك بالأحاديث المتقدمة:
• منهم أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( 429هـ) ، حيث قال في سياق ذكره للأصول التي اجتمع عليها أهل السنة :
(وقالوا بمروق أهل النهروان على الدين ،لأن النبي صلي الله عليه وسلم سماهم مارقين ، لأنهم كفروا عليا وعثمان وعائشة وابن عباس وطلحة والزبير ، وسائر من اتبع عليِا بعد التحكيم ، وأكفروا كل ذي ذنب من المسلمين . ومن أكفر المسلمين وأكفر أخيار الصحابة ، فهو الكافر دونهم ) أهـ.( )
• وكذا القاضي أبو بكر ابن العربي (543هـ) حيث قال وهو يعدد أوجه الحكم بتكفيرهم : ( ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد بالنار فكانوا هم أحق بالاسم منهم ) (14)
وكذا تقي الدين السبكي في فتاواه احتج بذلك حيث ساق حديث (من رمى مسلماً بالكفر أو قال عدو الله إلا حار عليه ) ثم قال : ( وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع .. ) إلى قوله : ( ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالاً والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك )
وخلاصة القول بعدما تقدم:
"... إن تعدى حدود الله في هذا الحكم الخطير ، مهلكة لا يغامر في اقتحامها إلا رقيق الورع المستخف بدينه .. وإلا فإن في الأحاديث المتقدمة من الوعيد ما فيه رادع لأصحاب القلوب السليمة عن التكلم في هذا الباب إلا عن علم وبصيرة ، مع الاحتياط اللازم للدين .. فإن ذنباً سماه الله على لسان الرسول- صلى الله عليه وسلم- كفراً ، ليس كغيرة من الذنوب .. بل إما أن يكون كفراً على الحقيقة أي مخرج من الملة ، على وجه من الوجوه المتقدمة أو يكون بريداً للكفر يؤدي ويوصل إليه .. أو يكون على أقل تقدير كبيرة من كبائر الذنوب ، إذ هذا الوعيد كما تقدم ، هو من إمارات الكبيرة ، وعلاماتها ، وهو من جنس وعيد قاتل المؤمن .. فإذا كان هذا الوعيد بهذه الصورة التي عرفت، قد ورد في تكفير المرء لرجل مسلم واحد .. فكيف يكون فيما يتقحمه بعض المتهورين من رمي عموم جماهير المسلمين بالتكفير ، لبعض شبهات عندهم ، لا ترقى إلى قوة الأدلة الشرعية .. ؟؟ لا شك أن هذا مع ضلالته وفساده وبطلانه ، ينطوي على مرض في القلب ، أو غل على المسلمين ، أو تيه وعجب بالنفس كي يستثنيها ويستخلصها من بين ألوف بل ملايين مَنْ حكم عليهم بالهلاك ، وهو في الحقيقة أهلكهم، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكُهم ) ورواه مالك وأبو داود، كما ذكر المنذري في الترغيب والترهيب وقال : ( وفسره مالك ؛ إذا قال ذلك معجباً بنفسه مزدرياً بغيره ، فهو أشد هلاكاً منهم ، لأنه لا يدري سرائر الله في خلقه ) أهـ . )) ( ) وعلى المسلم اللبيب وهو يبحث في هذه المسألة ألا يقع فيما وقع فيه المغالين في التكفير, فيكفرهم فيأتي ليعالج مسألة فيقع هو نفسه في الداء العضال, وما أحسن ما ذكره :
الشيخ القرضاوي في رسالته (ظاهرة الغلو في التكفير) :
فبعد أن فنّد أدلة جماعة التكفير والهجرة قال: " ومع هذا كله لا أريد أن أقع فيما وقع في هؤلاء الإخوة المسرفون، فأكفرهم كما كفروا الناس، وإن جاءت الأحاديث بتكفير من كفر مسلما، لأن هذه الأحاديث فيمن كفر مسلما بغير تأويل، وهؤلاء لهم تأويلهم وإن كان مرفوضا.ولهذا اختلف السلف في تكفير الخوارج، برغم ما ورد في ذمهم من أحاديث مرفوعة صحاح، والثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لم يكفرهم، ولم يبدأهم بقتال، ولما قيل له: أهم كفار؟ قال: من الكفر فروا!. ولهذا أصر على القول بأنهم (إخواننا) على الرغم من غلوهم وانحرافهم عن جادة الصواب في أفكارهم."( )

الباب الثالث
ضوابط التكفير

• الفصل الأول : موانع التكفير
• الفصل الثاني : شبهات وردود

الفصل الأول
موانع التكفير

• تميهد في الفرق بين الإفتاء والقضاء
• مانع الجهل
• مانع الإكراه
• مانع التأويل
• موانع أخرى في الدليل والفعل والفاعل

تمهيد
معنى الإفتاء والقضاء:
الإفتاء : هو الإخبار عن الحكم الشرعي في المسألة.
أما القضاء: فهو الإخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام.
الفرق بين الإفتاء والقضاء : قال ابن القيم في إعلام الموقعين:
"الفرق بين المفتي والقاضي: قال أبو عمرو: قال أبو عثمان الحداد: "القاضي أيسر مأثما, وأقرب إلى السلامة من الفقيه ". يريد المفتي لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول والقاضي شأنه الأناة والتثبت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة. انتهى
وقال غيره المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي, لأنه لا يلزم بفتواه, وإنما يخبر بها من استفتاه, فإن شاء قبل قوله, وإن شاء تركه. أم القاضي فإنه يلزم بقوله. فيشترك هو والمفتي في الأخبار عن الحكم, ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء فهو من هذا الوجه خطره أشد خطر تولي القضاء .
ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي, كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة- رضي الله عنها- أنها ذكر عندها القضاة, فقالت: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط".
وروى الشعبي عن مسروق عن عبد الله يرفعه "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا وكل به ملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم فيرفع رأسه إلى الله فإن أمره أن يقذفه قذفة في مهوى أربعين خريفا"
وفي السنن من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال:رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "القضاة ثلاثة:اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار فهو في النار" ( ).
إذن فالمفتـــي والقاضي كلاهما مخبرا عن الحكم الشرعي، ويزيد القاضي أن خبره مرتبط به الإلزام، ومعنى الإلزام أي أمر السلطات المختصة بتنفيذ الحكم.

الفروق بين الإفتاء والقضاء :
يستوي المفتي والقاضي كلاهما في أهلية الأداء لكن الفرق الأساسي بينهما هو الإلزام وعدمه . ذكر الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في كتابه طلب العلم الشريف مجمل الفروق بين الإفتاء و القضاء فقال :
1 ــ الإلزام: وملخصه أن القاضي يأمر بتنفيذ ماحكم به،
أما المفتي فلا يأمر بتنفيذ ماأفتى به.
2 ـ صفات المفتي والقاضي:
فالمفتي والقاضي كلاهما يجب أن يكون: مسلماً، بالغا ً، عاقلاً، عدلاً، عالماً( ). ثم يختلفان في ثلاثة شروط وهى:
أ- الحرية: فالقاضي يشترط أن يكون حرا ً، أما المفتي فلا يشترط، ففتوى العبد صحيحة وجائزة مادام عدلا عالما.
ب - الذكورة: فالقاضي يشترط أن يكون ذكراً عند جمهور العلماء وهو الراجح
لقوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة) رواه البخاري والقضاء ولاية. أما المفتي فلا يشترط فيه الذكورة، ففتوى المرأة جائزة ودواوين السنة مشحونة بأسئلة الصحابة والتابعين لعائشة وغيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وهذا إفتاء منهن.
جـ - سلامـة الحواس: كالبصر مشترطة في القاضي بالإجماع، أما المفتي فلا، فتجوز فتوى الأعمى والأخرس على ماسيأتي بيانه في صفة المفتي وشروطه، (أدب المفتي) لابن الصلاح صـ 106 ــ 107.
3 ــ النظر في طرق الإثبات الشرعية: نظراً لما يترتب على حكم القاضي من إلزام الخصوم بحكمه وتنفيذه فيهم فإنه يجب عليه أن يتثبت في قبول أقوالهم مالا يجب على المفتي، فيجب على القاضي إحضار المدعي عليه بجانب المدعي، ويسألهما عن البينات والشهود وينظر في عدالة الشهود ويطلب اليمين ممن وجبت عليه، ثم يفصل في الدعوى على الوجه المفصل في كيفية القضاء. أما المفتي فإنه يقبل قول السائل ولا يطلب منه شهودا ,ً ولا يمينا ً, ولا يطلب المفتي من السائل إحضار بقية أطراف المسألة ليتحقق مما نُسب إليهم، وكل ما يفعله المفتي ليحترز من احتمال خطأ السائل أن يقول المفتي في أول جوابه (إن كان الأمر كما قال السائل فالجواب كذا وكذا.).

4 ــ فيمن يفتيه أو يحكم له: يجوز للمفتي أن يفتي نفسه أو قريبه وشريكه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه أو لقريبه. وسيأتي
5 ــ فيمــن يتناولـــه قول كل منهما: قال ابن القيم رحمه الله:
(ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله، فالمفتي يفتي حكما عاماً كلياً أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير) ( )
6 ــ موضوعات الشريعة التي يتناولها كل منهما: المفتي يمكن أن يفتي في أي موضوع من موضوعات الشريعة فيفتي في مسائل الاعتقاد والتفسير وفي أحكام العبادات والمعاملات وغيرها.كما يشهد بذلك ــ على سبيل المثال ــ مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما القاضي: فلا دخل له في المسائل العلمية المتنازع فيها، ولا يجوز أن يُلزم أحدا ً باجتهاده فيها بغير حجة من كتاب أو سنة أو إجماع. هذا ما ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى) جـ 3 صـ 238 ــ 240. ) أهـ إعلام الموقعين 1/38.)) ( )

بعد هذا علينا أن نعلم أن تكفير عين من الناس, يرتبط بالقاضي أكثر من المفتي, فالقاضي هو الذي يقيم الحجة بما لديه من سلطان, وكذا يأمر بحبسه واستتابته, ثم قد يصدر عليه الحكم بالردة والقتل إن لم يتوب إلى الله ويرجع عن كفره, وقد يرى القاضي أن هنالك مانع مما سنذكره في الفصل التالي يمنع من وقوع حكم التكفير, وقد يحكم القاضي بتعذير مقترف الفعل المكفر لشبهة ترفع عنه حكم الكفر. ولننظر كيف كان يحكم قضاة الإسلام في مثل هذه المسائل.

هكذا كان يحكم قضاتنا
في مسائل التكفير

قال القاضــي عياض رحمه الله:
(شاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى أيام قضائه أُتِيَ برجل هاتَرَ رجلا، ثم قصد إلى كلبٍ فضربه برجله وقال له: قُمْ يا محمد، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك، وشهد عليه لفيفٌ من الناس، فأمَرَ به إلى السجن، وتقصّى عن حاله وهل يصحب من يُسْتَراب بدينه؟، فلمّا لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسَّوط وأطلقه) أهـ. قال الشارح إنَّ خَصم هذا الرجل كان اسمه محمداً.
وقال أيضا (ونزلت أيضا مسألة استفتي فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور- رحمه الله- في رجل تنقّصه آخر بشيء، فقال له: إنما تريد نقضي بقولك، وأنا بَشَرٌ وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاعه أدبا، إذ لم يقصد السَّب. وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله)( )

وهكذا كان يفتي أئمتنا في مسائل التكفير:
سئل شيخ الإسلام عمن سَبَّ شريفا من أهل البيت، فقال: (لعنه الله، ولعن من شَرَّفه)، فأجاب ابن تيمية رحمه الله (وليس هذا الكلام بمجرده من باب السَّب الذي يُقتل صاحبه، بل يستفسر عن قوله: من شَرّفه، فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لَعْن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله. وإن لم يثبت ذلك ــ إلى قوله ــ لم يكن ذلك موجبا للقتل باتفاق العلماء) ( ).

فلعل بعد هذا التمهيد نكون قد وقفنا على أنه لابد من أهلية معتبرة شرعا للقاضي أو المفتي حال حكمه على معين من الناس إذا تلبسه بما يظن أنه كفر, وعليه فلنتقل إلى الفصل الأول من هذا الباب وهو موانع التكفير التي تحول بين الشخص المعين ونزول الحكم عليه.

موانع التكفير
أولاً: مانع العذر بالجهل

العذر بالجهل من موانع التكفير الذي يرفع به هذا الحكم عن معين من الناس, فيقوم مانع بينه وبين تطبيق الحكم عليه, فمن وقع في فعل كفر وهو يجهل أنه كُفر، فجهله ــ إذا كان معتبراً ــ يمنع من تكفيره، ودليله قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ( ) , فلا عذاب في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد بلاغ الحجة الرسالية.

ومن أدلة العذر بالجهل:
ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ – قال :" أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ – أي رزقه - اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا : خَيْرَ أَبٍ . قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ؛ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ ) .
و في رواية عند مسلم ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَىَ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَىَ بَنِيهِ فَقَالَ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ، ثُمَّ اسْحَقُونِي ، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ ، فَو اللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ، لَيُعَذِّبُنِي عَذَاباً مَا عَذَّبَهُ أَحَداً ، قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلأَرْضِ : أَدِّ مَا أَخَذْتِ ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ . فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ : خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ ! أَوْ قَالَ : مَخَافَتُكَ ! فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ ) .
قال ابن حجر في الفتح :(( قال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال:
كيف يغفر له وهو منكر للبعث و القدرة على إحياء الموتى؟
و الجواب : إنه لم ينكر البعث و إنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ، و قد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ) ( ).
ومن تلك الأدلة :ما قصه القرآن الكريم من سؤال الحواريين لعيسى بن مريم:
( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ ) [ المائدة: 112 ] .
قال أبو محمد بن حزم - رحمه الله - : ( فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ و لم يبطل بذلك إيمانهم ، و هذا ما لا مخلص منه ، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها ) ( ).
ويستدل أيضا بالإجماع الذي ذكره الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال : (برهانٌ ضروريٌ لا خلاف فيه : و هو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، و هو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً ، و هو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، و أسقط كلمةً عمداً كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامداً ، فإنه كافر بإجماع الأمَّة كلِّها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة و ينقص أخرى ، و يبدل كلامه جاهلاً ، مقدراً أنه مصيب ، و يكابر في ذلك ، و يناظر قبل أن يتبين له الحق ، و لا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ، و لا فاسقاً و لا آثماً ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلِّها كافر بذلك لا محالة ، و هذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة"( )
فهل كل جهل يعذر صاحبه؟
لم يُترك هذا الأمر بلا ضوابط , و إلا لعطلت الحدود واعتذر كل من قارف فعلا مكفرا بالجهل, ولو عذر كل جاهل بجهله لفضل الجهل على العلم كما قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف ؛ فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ و التمكين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرُسل)( )
فالعذر حيث أنه مانع من التكفير ليس على إطلاقه, فهناك قضايا و أحوال لا يعذر فيها بالجهل, يوضح ذلك ما أجاب به فضيلة الشيخ سعيد حوى على سؤال وجه إليه عبر شبكة الإسلام : هل يعذر المسلم بالجهل لأحكام الشريعة ؟
أجاب الشيخ سعيد حوى رحمه الله : ((الأحكام الشرعية المقررة في الكتاب والسنة، والأمور التي انعقد الإجماع عليها لا يسع أحدا أن يخالفها بدعوى الجهل بها، فلا يُعد هذا الجهل عذرًا مسوغًا، وذلك لمن يقيم في الديار الإسلامية. وهذا النوع من العلم هو الذي يسميه الشافعي - رضي الله عنه - (علم عامة) لا يسع أحدًا أن يجهله، وذلك لأن العلم قسمان، تولى النص بيانهما، ولنترك الكلمة للإمام العظيم، فهو يقول في رسالة الأصول: "العلم علمان: علم عامة لا يسع أحدًا غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم رمضان وحج البيت إذا استطاع، وزكاة أموالهم، وأنه حرم عليهم القتل والزنى والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعلموه ويعملوا به ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعلموه ويعملوا به ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عما حرم عليهم منه، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصًا في كتاب الله تعالى، وموجود عامًا عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه، وهذا العلم هو الذي لا يمكن الغلط فيه من الخبر ولا التأويل ولا يجوز التنازع فيه". وبهذا يتبين أن هذا العلم هو المأخوذ من صريح الكتاب والسنة المتواترة، والمشهور من الأحاديث الذي انعقد على أحكامه إجماع المسلمين. أما القسم الثاني فقد بينه الشافعي في الرسالة أيضًا، وسماه علم الخاصة، وهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، ولم يرد فيه نص صريح من كتاب أو سنة ولم ينعقد عليه إجماع. وإن هذا النوع من العلم يختص به الفقهاء الذين عكفوا على الدراسات الفقهية، وهو درجة عالية يسع العامة أن يجهلوه ولا يسع الفقهاء أن يهملوه. وبهذا يتبين أن الأصول العامة للمحرمات والفرائض تعتبر كل مقيم في الديار الإسلامية على علم بها، ولا يعذر بالجهل به، إلا في حالة الاشتباه ولا يستثنى من ذلك الذميون الذين يقيمون في الديار الإسلامية. فلا يعذرون في الجهل بالحد والقصاص والديات وموجباتها، وغير ذلك مما يطبق عليهم من عقوبات تطبق على المسلمين، وذلك لأنهم يقيمون في الديار الإسلامية فيفترض فيهم مثلاً العلم بما يعلمه عامتهم من أن: الزنا يوجب الحد، وغير ذلك من العقوبات مع موجباتها ، ولأنهم يقيمون مع المسلمين على أساس أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. وإن الأحكام التفصيلية التي تؤخذ بالاستنباط بالأقيسة وغيرها من طرق الرأي لا يعرفها كما ذكرنا إلا الخاصة من علماء الشرع المتخصصين. .. هذا وإن الجهل بأحكام النصوص منه ما يكون عذرًا، ومنه ما لا عذر فيه، ولقد ضبط علماء الأصول ذلك في أقسام أربعة:
القسم الأول: جهل لا يعذر فيه صاحبه، ولا شبهة فيه كالردة بعد إيمان، وارتكاب ما نص القرآن نصًا قاطعًا على تحريمه معتقدًا حلة، وكذلك ما تواتر وثبت بالإجماع، فإن الجهل بهذا إثم، والإثم لا يبرر الإثم. وقد ذكر علماء الأصول من ذلك جهل غير المسلم بالوحدانية، وجهله بالرسالة المحمدية إذ بلِغ الدعوة الإسلامية على الوجه الصحيح، وأقيمت الأدلة القاطعة بصدقها، فإنهم قالوا إن ذلك جهل لا يعذر صاحبه.
القسم الثاني : جهل يعذر فيه الشخص لأنه موضع اشتباه من حيث الدليل، وذلك يكون في الجهل بالمسائل التي يحتاج فهمها إلى ضرب من التأويل والتفسير، وتكون هي محتملة للتأويل، والحق فيها لا يتبين إلا بعد الفحص والتأمل.. ..
القسم الثالث : الجهل في مواضع الاجتهاد، والجهل الذي لا تتوافر فيه أسباب العلم توافرًا تامًا، أو يكون الجهل معه شبهة أسقطت العقاب.. ..
القسم الرابع : الجهل بالأحكام الإسلامية في غير الديار الإسلامية وهو جهل قوي إلى درجة أن جمهور الفقهاء قال إنه تسقط عنه التكليفات الشرعية، حتى إنه لو أسلم رجل في دار الحرب، ولم يهاجر إلى الديار الإسلامية، ولم يعلم أنه عليه الصلاة والصوم والزكاة، ولم يؤد فرضًا من هذه الفرائض، فإنه لا يؤديها قضاء إذا علم، وقال زفر يجب عليه أن يؤديها إذا علم، ووجهه أنه بقبوله الإسلام صار ملتزمًا أحكامه وعليه أداؤها، ويعذر إذا لم يؤدها في وقتها، ولكن إذا علم فحكم الالتزام ثابت، ويجب عليه قضاء ما التزم. ووجهة جمهور الفقهاء، أن دار الحرب ليست موضع علم بالأحكام الشرعية، فلم تستفض فيها مصادر الأحكام، ولم تشتهر، فكان الجهل جهلاً بالدليل، والجهل بالدليل يسقط التكليف إذا لم يتوجه الخطاب. وعلى ذلك يتميز هذا القسم عن بقية الأقسام السابقة، بأن الجهل هنا ليس عذرًا فقط، بل إنه مسقط للخطاب. ويجب أن نقرر هنا أنه إذا كان الجهل ليس موضوعه أمرًا من الأمور التي تعد من أصول الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة، بل كان أمرا هو موضوع اجتهاد واختلف فيه الفقهاء، واختار ولي الأمر الأخذ بأقوال بعض الأئمة، وأعلن ولي الأمر الأخذ به، فإن ذلك يكون موضوع عذر، حتى يشيع الإعلان بحيث لا يسع أحدًا أن يجهله" أ.هـ. كلام أبي زهرة. أقول : هناك أمور معلومة من الدين بالضرورة، فهذه لا يعذر أحد بالجهل بها في دار الإسلام، فمن أنكرها أو جهلها كفر وبالتالي: لا يعتبر مسلمًا بسبب الجهل أو الإنكار، وفقهاء الحنفية يحكمون بكفره قبل أن يقر بها، فإذا أقر بها بعد البيان فكأنه أسلم من جديد ويرتبون على ذلك فساد نكاحه وبطلان حجه، وأما الشافعية فيقولون: لا يكفر بالجهل إلا بعد البيان فإذا أصر بعد البيان حكم بكفره. وأما الجهل بالأحكام التي تعتبر معرفتها فريضة عينية على كل مسلم مما ليس من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة فهذه الجهل بها في دار الإسلام فسوق، والفتوى هي التي تحكم التقصير في العمل من وجوب التوبة وحدها أو وجوبها مع غيرها. أما الجهل في غير دار الإسلام فإنه يعتبر عذرًا ما لم يكن تقصير، فلو افترضنا أن إنسانًا جاهلاً حدث إنسانًا كافرًا في غير دار الإسلام عن الشهادتين فنطق بهما ذلك المبلغ مؤمنًا بهما ولم يعلمه الآخر شيئًا ولا يستطيع هو أن يتعلم من مسلم آخر أو كان يجهل وسيلة تصل به إلى العلم فالعذر في حقه قائم.) ( )
فإذا علمنا أن تكفير معين يحتاج إلى النظر في حاله لعله جاهل , وإن تقدير الجهل الذي يرفع هذا الكفر لابد أن يكون من عالم عنده أهلية النظر والاعتبار, فعلينا أن نعلم أيضا أن هناك مانع آخر من موانع التكفير ألا وهو الإكراه.

ثانيا: مانع الإكراه
معنى الإكراه :
الإكراه هو حمل الغير على القيام بفعل أو التلفظ بقول لا يريده المُكره لو ترك وشأنه حر الاختيار ، وإنما يفعل ما يفعله تحت وطأة الخوف و التهديد .,فلذا المكره بفعل من أفعال الكفر يقف إكراهه حائلا بينه وبين تكفيره, على تفصيل يأتي ذكره.
ودليل اعتبار الإكراه مانع من التكفير:
قوله تعالى:(مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيْمَانِ)( ) ويشترط في صحة الإكراه على الكفر كمانع أن يكون بالتهديد بالقتل أو القطع أو أن يقع على المكلف تعذيب شديد وهذا قول الجمهور .
كما يشترط أن المكره على الكفر لا يكفر إلا إذا انشرح صدره بالكفر.

أقسام الإكراه:
الأول : الإكراه الملجئ :
وهو الذي يكون فيه التهديد بالقتل أو قطع عضو ، ومنه التهديد بمنع الطعام والشراب إلي الحد الذي يخاف منه على سلامة النفس أو الأعضاء.
والثاني : الإكراه الغير ملجئ :
الذي يكون التهديد فيه بضرب أو حبس أو قيد. وليس له حد معين ، ويختلف ما يكون به هذا النوع من الإكراه باختلاف الأشخاص ، وما يتسبب في إلحاق الغم والحزن بالحبس والقيد والضرب.
والإكراه الملجئ : معتبرا عند الفقهاء في إسقاط بعض آثاره دون البعض الآخر, فليس كل إكراه ملجئ وليس كل ملجئ يعفى عن صاحبه, والمقصود في بحثنا هذا أن من الإكراه ما يمنع من وقوع حكم التكفير على المُكرَه, والذي يقدر هذا الإكراه وكونه معتبر أو غير معتبر شرعا هو من عند أهلية الإفتاء أو القضاء.
فالإكراه سبب لإباحة الأفعال التي تبيحها الضرورة كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير وكالتلفظ بكلمة الكفر. فلو أكره على شئ من ذلك لم يعاقب به ، ولا يعد الفعل جريمة ، وهذا هو معنى إباحة الفعل. ومن هذا القبيل الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر فإنه سبب لإباحة هذا التلفظ ، ولا يحكم بالردة ولا بعقوبتها لعدم قيام الجريمة. إما إذا كان الإكراه متعد للغير فهنا يحظر ولا يباح كالإكراه على القتل أو الضرب لا يباح لأن نفس الغير في مثل عصمة نفس المُكرَه ، ولا يدفع الضرر بما يساويه أو بما هو أكثر منه. وهذا ما يوافق قواعد الشرع (لا يزال الضرر بضرر مثله).

سبق اللسان:
كذلك من الخطأ سبق اللسان فهو يرفع الكفر : فمن نطق بالكفر وهو لا يقصده فصاحبه لا يكفر، لأنه يُبطل شرط العمد. ودليل اعتبار الخطأ كمانع: قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) الأحزاب 5
ودليله كمانع من التكفير:
حديث الرجل الذي أضلّ راحلته ثم وجدها فقال:
(اللهم أنت عبدي وأنا ربك) وفي الحديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل بأنه: (أخطأ من شدة الفرح) الحديث متفق عليه.
و ويستدل بقرائن الحال لها دخل في اعتبار هذا المانع من عدمه. وقد مر بنا في قضاء قضاتنا , وحكم أئمتنا أنهم كانوا ينظرون في قرائن الأحوال فإن كان هناك شبهة درأوا بها الحدود .

ثالثا: مانع التأويل
معنى التأويل:
هو: وضـع الدلـيل الشـرعي في غير موضعه باجتهاد أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النصّ . فإذا تأول فعل من أفعال الكفر فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة
ودليل اعتبار التأويل مانع من موانع الكفر:
حادثة قدامة بن مظعون وفيها أنه تأول حل شرب الخمر بالآية الكريمة:
(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ) المائدة 93
وتفصيل حادثة قدامة ذكرها الإمام القرطبي في تفسيره فقال:
( " قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنهم , وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله , ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر , وكان ختن عمر بن الخطاب , خال عبد الله وحفصة , وولاه عمربن الخطاب على البحرين , ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبد القيس - عليه بشرب الخمر , روى الدارقطني قال : " ...... ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد ; قال : لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله ! فقال عمر : وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ فقال له : إن الله تعالى يقول في كتابه :" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات, ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا ; شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها ; فقال عمر : ألا تردون عليه ما يقول ; فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا لمن غبر وحجة على الناس ; لأن الله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" الآية ; ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى ; فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات , الآية ; فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر ; فقال عمر : صدقت ماذا ترون ؟ فقال علي رضي الله عنه : إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى , وإذا هذى افترى , وعلى المفتري ثمانون جلدة ; فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة"
وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال : لما قدم الجارود من البحرين قال : يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا , وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك ; فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ فقال : أبو هريرة ; فدعا عمر أبا هريرة فقال : علام تشهد يا أبا هريرة ؟ فقال: " لم أره حين شرب , ورأيته سكران يقيء" , فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ; ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه , فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر ; فقال : أقم على هذا كتاب الله ; فقال عمر للجارود : أشهيد أنت أم خصم ؟ فقال الجارود: أنا شهيد ; قال : قد كنت أديت الشهادة ; ثم قال لعمر : إني أنشدك الله ! فقال عمر : أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك ; فقال الجارود : أما والله ما ذلك بالحق , أن يشرب ابن عمك وتسوءني ! فأوعده عمر ; فقال أبو هريرة وهو جالس :" يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون" , فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله , فأقامت هند على زوجها الشهادة ; فقال عمر: يا قدامة إني جالدك ; فقال قدامة : والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر . قال : ولم يا قدامة ؟ قال : لأن الله سبحانه يقول : " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ " فيما طعموا " الآية إلى " المحسنين " .
فقال عمر : أخطأت التأويل يا قدامة ; إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله , ثم أقبل عمر على القوم فقال : ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا ; فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا , فقال عمر : إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط , أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي ! والله لأجلدنه ; ائتوني بسوط , فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير , فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم : أخذتك دقرارة أهلك ; ائتوني بسوط غير هذا . قال : فجاءه أسلم بسوط تام ; فأمر عمر بقدامة فجلد ; فغاضب قدامة عمر وهجره ; فحجا و قدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال : عجلوا علي بقدامة , انطلقوا فأتوني به , فو الله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال : سالم قدامة فإنه أخوك , فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه , فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له , فكان أول صلحهما . قال أيوب بن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره . قال ابن العربي : فهذا يدلك على تأويل الآية , وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني , وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح ; وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد , فكان هذا من أفسد تأويل ; وقد خفي على قدامة ; وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما ; قال الشاعر :
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا *** على شجوه إلا بكيت على عمر
فمن استحلال حراما بتأويل لا يكفر حتى تقام عليه الحجة , ويجب على الإمام أو قاضيه أن يستتيبه فإن لم يتب قتله لكفره كما أجمع على وعمر , فأما قدامة رضي الله عنه لم يستحل حرمت الخمر إنما ظن أن الآية دليل على شربها على صنف من الناس , لا كل الناس , وراجعه عمر وحده الحد . فهو تأويل يدخل تحت قوله تعالى :
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ)

التأويل المستساغ و التأويل الغير مستساغ :
ما يعذر به هو التأويل المستساغ الذي لصاحبه دليلا وأن كان مرجوحا, أما التأويل الذي لا يعذر به صاحبه هو التأويل بمحض الرأي والهوى دون استناد إلى دليل شرعي, كامتناع إبليس عن السجود لآدم محتجاً بأنه خير منه, فقال: كما حكى الله عنه : (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) فهذا محض الرأي، وكتأويلات الفرق الباطنية التي أسقطوا بها الواجبات الشرعية فإنها محض الهوى.
فإذا عرفنا هذه الموانع التي تحول بين الفاعل, وتنزيل حكم الكفر عليه فعلينا أن نعلم أن هناك موانع أخرى في الفعل وفي الدليل ألخصها من كتاب الجامع في طلب العلم وهي :

شروط في فعل الكفر ودليله وفاعله :
يشترط شروط أخرى غير ما سبق ذكره:
ففي الدليل: أن يكون الدليل الشرعي صريح الدلالة على أن فاعل هذا العمل كافر كفراً أكبر لا يحتمل التأويل. ولا يكون كذلك إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة, أو بإجماع .
ويشترط لتحقــق صفــة الكـفـر في القــول والفعــل:
أن يكون القـول أو الفعل نفسه صريح الدلالة على الكفر، أي أنه مشتمل على المناط المكفِّر الوارد في النص الشرعي المستَدَل به على التكفير.
ومثاله: من قال: يا سيدي البدوي أغثني أو اقض حاجتي أو وسِّع رزقي أو نجني من عدوي فهذه أقوال مكفِّرة لأنها صريحة الدلالة على دعاء غير الله.
ويشترط أن يتبين قصــد الفاعــل أي نيّته:
أما تبين قصــد الفاعــل أي نيّته، فيكـون بسـؤاله عما أراده بقولـه أو بفعلـه، كرجـل يدعـو عنـد قــبر ولا يُسمع صوته ولا مَنْ يدعو وما يدعو به، فيُسأل، فإن قال:
• أدعو الله أن يغفر لهذا الميت فهو مُحسن.
• وإن قال: أدعو الله عند هذا القبر رجاء القبول فعمله هذا بدعة غير مكفرة.
• وإن قال: إنه يدعو صاحب القبر بقضاء حوائجه فعمله هذا مُكفر.
فتبيّن القصد يُعيِّن المراد من محتمل الدلالة، وفي هذا قال النووي فيما نقله عن الصيمري والخطيب:
(وإن سُئِل ــ أي المفتي ــ عمن قال كذا وكذا مما يحتمل أموراً لا يكون بعضها كفراً، فينبغي للمفتي أن يقول: يُسأل هذا عما أراد بما قال، فإن أراد كذا فالجواب كذا، وإن أراد كذا فالجـواب كـذا) (المجموع) للنووي، 1/ 49.
وأختم هذا الفصل بتنبيهين مهمين :
التنبيه الأول : في الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين : أو تكفير النوع أن يقال: من قال كذا كفر ومن فعل كذا كفر، لا يعنى تنزيل الحكم على العين الشخص المعين, وهو ما كان يطلقه السلف إذا لزم الأمر حرصا منهم على عدم تكفير من لا يكفر شرعا, أو لترهيب الآخرين من فعل معين, فهذا النوع لا يستلزم النظر في ثبوت سبب الكفر على فاعله أو خلوه من موانعه .
أما تكفير المعين: فهو الحكم بالكـفر على الشخـص المعين الذي فعل الســبب (القـول أو الفعـل المكفر). وهذا يلزم فيه التحقق من ثبوت صفة الكفر لقوله أو لفعله ويستلزم النظر في ثبوت السبب على فاعله وخلوّه من موانع الأحكام.
وبعبارة أخرى يمكن القول بأن الفرق بين النوعين هو:
أن التكفــير المطلــق هو تجــريم الفعل، وينظر فيه إلى أمر واحد وهو السبب المكفر مجرداً من حيث استيفائه لشروط وصفه بأنه مكفر من جهة الدليل الشرعي ومن جهة قطعية دلالة الفعل نفسه.
التنبيه الثاني : في الفرق بين الحكم القضائي والحكم الدياني,هناك فرقاً بين الحكم القضائي في الدنيا، والحكم الدياني على الحقيقة.
فإذا كان الذي وقع في فعل مكفر ادعـى الجهل وحقيقته على خلاف ذلك فهو غير معذور. ولا تنفعه دعواه عند الله تعالى، وعذره هو كأعذار المنافقين الذين كانوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم - فتدرأ عنهم هذه الأعذار في حكم الدنيا ولم تنفعهم في الآخرة .
أما في الحكم القضائي: فقبول عذره مرجعه إلى القاضي الشرعي الذي يُرفع إليه أمره- إن وُجد-، وقد يَعتبر بعض القضاة هذا الاعتذار شبهة تدرأ الحد عنه، خاصة وأن حد الردّة هو من حقوق الله وهى مبنية على المسامحة بخلاف حقوق العباد. وغاية هذا إذا لم يقبل القاضي عذره أن يحكم عليه بالردة ــ مع استيفاء بقية الشروط ــ وتجب استتابته منها بعد الحكم وقبل استيفاء العقوبة بقتله، فإن تاب حكم بإسلامه .

الفصل الثالث
شبهات وردود( )

أولا: الموالاة و شبهة المسرفين في تكفير المعين.
ثانيا: شبهتا الاستحلال والجحود للمحجمين عن حكم التكفير.

أولا: الموالاة و شبهة المسرفين في تكفير المعين.

التكفير بالمولاة الغير مكفرة
كما ذكرنا في مقدمة هذا البحث أن هناك فريق أسرف في الحكم بالتكفير فكفر بما يعتقد أنه مكفرا, وهو ليس كذلك, فكانت أقوى شبههم التي نقف معها في هذا الفصل هي التكفير بالموالاة الغير تامة, ومن هؤلاء الذين خاضوا بلا أهلية معتبرة فأسرفوا على أنفسهم وقاموا بالتكفير بما لا يعد مكفرا :
جماعة التفكير والهجرة:
أو جماعة المسلمين كما سمت نفسها ، أو جماعة التكفير والهجرة كما أطلق عليها إعلامياً( ) ، هي جماعة إسلامية سارت على نهج الخوارج في التكفير بالمعصية ، نشأت داخل السجون المصرية في بادئ أمرها، وبعد إطلاق سراح أفرادها ، تبلورت أفكارها ، وكثر أتباعها في صعيد مصر وبين طلبة الجامعات خاصة .وقد اضمحلت بفضل الله وتفنيد أهل العلم لأفكارها .
تأسست جماعة التفكير والهجرة داخل السجون أيام الطاغية جمال عبد الناصر أسسها الشيخ علي إسماعيل وتزعمها فيما بعد شكري أحمد مصطفى . هذه الجماعة بجوار مغالتها وتكفيرها لمن أرتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها , وبالإضافة إلى أنهم يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله أو قبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم, فهم يكفرون بالموالاة الغير مكفرة المحكومين بحجة أنهم رضوا وتابعوا وتولوا الحكومات التي لا تحكم بغير ما أنزل الله.
ووقعت هذه الجماعة وأمثالها في مصيدة التكفير الهرمية وخلاصتها : أن رئيس الوزراء كافر لأنه يوالي رئيس الدولة الكافر الذي لا يحكم بما أنزل الله, ووزراء الدولة كفار لأنهم يوالون رئيس الوزراء الذي يوالي رئيس الدولة الذي لا يحكم بما أنزل الله وهكذا نواب وزراء الدولة يوالون وزراء الدولة الذين يولون رئيس الوزراء الذي يوالي رئيس الدولة الذي لا يحكم بما أنزل الله , حتى وصلوا إلى رؤساء الشركات ونوابهم الذين يوالون .... رئيس الدولة الذي لا يحكم بما أنزل الله هكذا حتى كفروا المجتمع كله بالموالاة بزعمهم .
لذا كان لابد في هذا البحث من جلاء شبهة الموالاة الغير تامة.

أقسام الموالاة:
تنقسم الموالاة إلى أقسام منها المكفر ومنها الغير مكفر, ذكرها الشيخ عبد المحسن العبيكان في رسالة له بعنوان : حكم مظاهرة المشركين
تنقسم موالاة الكفار ومظاهرتهم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون تولياً تاماً مطلقاً عاماً فهذا كفر مخرج عن ملة الإسلام وهو مراد من أطلق الكفر . الدليل : قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة المائدة 51.
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) الممتحنة 1.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيات ما نصه (نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد على ذلك ؛ فقال تعالى : (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ) أي: ومن يرتكب نهى الله في هذا ، فقد بريء من الله ، كما قال تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ ـ إلى أن قال ـ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) ؛ وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) النساء 114؛ وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)الآية . وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) سورة الانفال 73. أ هـ
وقال الإمام ابن جرير الطبري : من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضي وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه . أ هـ
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : قد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة . أ هـ .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي : إن كان تولياً تاماً كان ذلك كفراً وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه . أ هـ
الثاني : ما يحرم بالموالاة :أن تكون لأجل تحصيل مصلحة خاصة للمتولي والمظاهر وليس هناك ما يلجئ إليها من خوف ونحوه فهذا حرام وليس بكفر .
الدليل : قصة حاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- الذي رواها البخاري ومسلم وغيرهما وهي أنه كتب كتابا ً لقريش يخبرهم فيه باستعداد النبي – صلى الله عليه وسلم - للزحف على مكة إذ كان يتجهز لفتحها وكان يكتم ذلك ليبغت قريشا ً على غير استعداد منها فتضطر إلى قبول الصلح وما كان يريد حرباً ، وأرسل حاطب كتابه مع جاريه وضعته في عقاص شعرها فأعلم الله نبيه بذلك فأرسل في أثرها علياً والزبير والمقداد وقال : (( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها )) فلما أتي به قال : (( يا حاطب ما هذا )) ؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل على ! إن كنت حليفاً لقريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا ً يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتدادا ً عن ديني ولا رضي بالكفر بعد الإسلام ، فقال عليه الصلاة والسلام: (( أما إنه قد صدقكم )) واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فلم يأذن له ، قالوا وفي ذلك نزل قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ِ) الآية( سورة الممتحنة 1).
قال الحافظ ابن حجر : ( قوله في قصة حاطب بن أبي بلتعة (( فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه )) إنمـا قال ذلك عمر مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض من بنسب إلى النفاق وظن أن من يخلف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق القتل لكنه لم يجزم بذلك فلذلك استأذن في قتله وأطلق عليه منافقاً لكونه أبطن خلاف ما أظهر وعذر حاطب ما ذكره فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه وعند الطبري منطريق الحارث عن علي في هذه القصة (( فقال أليس قد شهد بدراً قال بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك )) أ هـ .
وقال ابن حزم:[ وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين أو على أخذ أموالهم أو سبيهم فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق ولا يكون بذلك كافراً لأنه لم يأت شيئا ً أوجب به عليه كفراً قرآن أو إجماع ]
وقال الشيخ محمد رشيد رضا : [ وإذا كان الشارع لم يحكم بكفر حاطب في موالاة المشركين التي هي موضع النهي ] أ هـ .
ولذا لم يذكر الفقهاء الموالاة والمظاهر من ضمن المكفرات في باب حكم المرتد يتضح ذلك لمن أطلع على كتاب الإقناع وشرحه والمغني وغيرهما . ويلاحظ أن الله عز وجل نادى حاطبا ً بلفظ الإيمان في قوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) الآيـة فـدل علـى أنه لم يكفر بذلك العمل مع أنه قال](أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ) و قال (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ).
الثالث : الجائز منها: أن تكون بسبب خوف من الكفار ونحوه فالحكم في ذلك الجواز . الدليل : قوله تعالى : (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) قال ابن كثير : أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء : إنه قال (( إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم )) أ هـ
وقال الشيخ محمد رشيد رضا : [ يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم ، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي ، أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء)) (51) سورة المائدة ، يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم ، وإن كان الخلاف أو الاتفاق لمصلحتهـم ، وفاتهم أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان محالفاً لخزاعة وهم على شركهم، بل يزعم بعض المتحمسين في الدين على جهل أنه لا يجوز للمسلم أن يحسن معاملة غير المسلم أو معاشرته أو يثق به في أمر من الأمور ] أ هـ .

ومتى وجدت الموالاة والمظاهرة للكفار فإن الذي سيطبق نوع هذه الموالاة والمظاهرة من الأقسام الثلاثة على من فعلها عليه أن يتقى الله في عدم التسرع وعليه أن يعرف حقيقة الأمر وباطنه فالورع عن أكل المحرمات وفعل المنكرات ليس بأولى من الورع في إخراج مسلم عن ملة الإسلام .... الخ"
قاله الفقير إلى عفو ربه عبد المحسن بن ناصر آل عبيكان المستشار والمفتش القضائي بوزارة العدل وإمام وخطيب جامع الجوهرة في الرياض بتاريخ 16 محرم 1424))

بعدما معرفة الشروط والموانع أختم هذا المبحث
بعاقبة الخائضين بالموالاة المكفرة.

عاقبة موالاة الكافرين وخيانة المسلمين
وإن كان أهل العلم أنكروا على من خلط بين الموالاة المكفرة والغير مكفرة فإن ذلك لا يقلل من خطورة الموالاة المكفرة, ولذا أختم هذا المبحث بالتحذير من عاقبة الموالاة حتى لا يستهان بها ففي أحداث سنة 642 هـ ذكر ابن كثير في البداية والنهاية , بين الصالح أيوب أمير مصر وعمه الصالح إسماعيل أمير دمشق رأى الثاني أن السبيل في الانتصار على ابن أخيه هو التعاون مع الصليبيين أعدى أعداء المسلمين وقتها في تكوين جبهة متحدة للقضاء على الصالح أيوب والاستيلاء على مصر وبالفعل تحالف إسماعيل مع أمير الصليبيين في صيدا وطرابلس واستعد للهجوم على مصر, وعندها قرر الصالح أيوب الاستعانة بالخوارزميين المسلمين الذين تفرقوا في البلاد بعد اكتساح بلادهم على يد التتار .
قال ابن كثير:(( ثم دخلت سنة اثنين وأربعين و ستمائة... وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال والأقمشة والعساكر فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك والمنصور صاحب حمص مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية على رؤوس أطلاب المسلمين وكانت كؤوس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كؤوس المنون عن كؤوس الزرجون فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف وأسروا جماعة من ملوكهم و قسوسهم وأساقفتهم وخلقا من أمراء المسلمين وبعثوا بالأُسارى إلى الصالح أيوب بمصر وكان يومئذ يوما مشهودا وأمرا محمودا ولله الحمد. وقد قال بعض أمراء المسلمين:
"قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح", وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة فغرق جميع ما كان بينهما من العمران وافتقر كثير من الناس فانا لله وإنا إليه راجعون" ( )

كان هذه الوقفة مع شبهة المكفرين بما لا يعد مكفرا, وننتقل إلى شبهة المعطلين لهذا الحكم بما لم يشترطه أهل السنة والجماعة من استحلال أو جحود .
لنعرف هل كل فعل يشترط فيه الجحود أو الاستحلال ليكون مكفرا

ثانيا: شبهتا الاستحلال والجحود للمحجمين عن حكم التكفير.

المراد بالجحد و الاستحلال :

قال الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز جرت عادة العلماء على:

* استعمال لفــظ الجحــد مع الواجبــات الشرعيــة، فيقال: جحد الواجب، أي قال إنه ليس واجبا أو أنكر وجوبه، فيقال: جحد وجوب الصلاة وجحد وجوب الجهاد وجحد وجوب الصدق في القول.
* واستعمال لفظ الاستحلال والاستباحة مع المحرمات، فيقال استحل الحرام أو استباحه، أي قال إنه حلال أو مباح أو أنكر أنه حرام، فيقال: استحل الخمر أو الزنا.

فالجحد يستعمل مع الواجبات والاستحلال مع المحرمات، فيقال جحد الواجب واستحل المحرَّم، ولا يستقيم أن يقال: استحل الواجب وجحد الحرام، وإن كان يقال أحيانا: جَحَد تحريم الحرام كجَحْد تحريم الخمر كما في قول ابن تيمية:

(وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك (مجموع الفتاوي) 7/ 609 ــ 610، فاستعمل لفظ (جحد تحريم) بدل (استحل). ولكن الشائع هو استعمال لفظ الجحد في انكار الواجب، ولفظ الاستحلال في استباحة الحرام أي انكار تحريمه".

قال الشيخ الزرقا : " ونحن إذا قلنا إن الجحد والاستحلال يثبتان على العبد ــ في أحكام الدنيا ــ بقوله، فإن القول قد يكــون نطقاً بلسانه، أو كتابةً بخطه أو بأمره، وذلك لما دلّت عليه القاعدة الفقهية من أن (الكتــاب كالخطــاب)، انظر (شرح القواعد الفقهية) للشيخ أحمد الزرقا، صـ 285، ط دار الغرب الإسلامي، 1403 هـ.

و الجحد والاستحلال كلاهما يرجع إلى أصل واحد، وهو التكذيب بالنصوص الشرعية، فالجاحد ــ المنكر لوجوب الواجب ــ مكذب بالنص الموجب لفعل الواجب، والمستحل ــ المنكر لتحريم الحرام ــ مكذب بالنص الحاظر لفعل المحرم، وكل مكذب بالنصوص فهو كافر، لقوله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لما جاءه، أليس في جهنم مثوى للكافرين) العنكبوت 68، وقال تعالى (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) العنكبوت 47. فالجاحد والمستحل كافران.
وسـبب الكفــر هــنا هو مجــرد التصــريح ــ نطقاً أو كتابةً ــ بانكار الواجب أو استحلال الحرام، دون النظر في الباعث للشخص على ذلك، وهذا الباعث هو ماقام بقلبه وحمله على الجحد أو الاستحلال، وهو نوع كفره:

* فقد يجحد أو يستحل بلسانه، وهو مكذب بقلبه لما أنكره بلسانه، فكفره كفر تكذيب.
* وقد يجحد أو يستحل بلسانه، وهو مصدق بقلبه لما أنكره بلسانه، فكفره كفر جحود.
* وقـد يقـر بوجـوب الواجـب وتحـريم الحـرام بقلبـه ولسانه إلا أنه يقول إنه لن يلتزم بذلك، فكفره كفر عناد واستكبار.)) الجامع في طلب العلم الشريف

شبهة من اشترط الجحد أو الاستحلال في التكفير :

فشبهة الطرف الثاني الذين أرادوا أن يفروا من التكفير , أنهم اشترطوا شروطا لتكفير المعين وجانبهم في ذلك الصواب فمنهم من اشترط الجحود أو الاستحلال للأفعال التي هي من أصل الإيمان , فقالوا في بعض المعاصي ليكون الفعل مكفرا يشترط فيه الكفر أو الاستحلال فشرطوا لتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله أن يكون مستحلا أو جاحدا, واستدلوا بأدلة وضعوها في غير موضعها من هذه الأدلة :

قــول الإمــام الطحـاوي رحمه الله :

• (ولايخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ماأدخله فيه)
• وبقاعدة أهل السنة : " لانكفر مسلما بذنب مالم يستحله "

هذه العبارات ذكرها الإمام الطحاوي في معرض الرد على الخوارج, وخرجت منه مخرج العموم, لكن استدل بها الذين وقفوا على الطرف النقيض من المسرفين في التكفير واستدلوا بها على أنه لا يكفر إلا من استحل الذنب, ولو رجعنا إلى قول علمائنا الأثبات لوجدنا أنهم لا يحصرون الكفر في الاستحلال والجحود , حتى إن شراح العقيدة الطحاوية لهم استدراكات على قول الإمام الطحاوي كابن أبي العز الحنفي .
وسبب الخطأ :هو الخلط بين نوع الكفر وسبب الكفر, فالجحد سبب من أسباب الكفر وليس نوعا مستقلا بذاته , فمن اشترط الجحد أو الاستحلال فقد حصر الكفر في سبب من أسبابه . بينما أنواع الكفر كما استقرأها العلماء من نصوص الشرع هي : كفر التكذيب وكفر الجحود وكفر الاستكبار وكفر الشك والريب وكفر التقليد وكفر الجهل. و أسبابها تتعدد وقد سبق الفرق بين نوع الكفر وسببه, والتكفير بالجحد هو مذهب غلاة المرجأة لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط فيكون الكفر فقابله وهو الجحد فقط, أما نحن أهل السنة فعندنا الإيمان قول وعمل, والكفر لا يكون بالجحد الذي هو التكذيب فقط.

قال ابن تيمية رحمه الله :
(والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا اتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم، فعُلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقا وموافقة وموالاة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق) (مجموع الفتاوى) جـ 7 صـ 292
وقال ابن تيمية أيضا (والتكذيب أخصّ من الكفر، فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبا) (مجموع الفتاوى) 2/ 79.
فالرد على هؤلاء : بأن يقال لهم الجحود أو الاستحلال أخص من الكفر فكل مستحل أو جاحد فهو كافر, وليس كل كافر مستحل أو جاحد.

فكفر الحاكم بغير ماأنزل الله مثلا هو من جهة فعله لا من جهة اعتقاده، كما قال ابن كثير - رحمه الله ــ في تفسير قوله تعالى:« أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ » قال: (فمن فعل ذلك فهو كافر) أهـ.

قال الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز " ولم يقل (فمن اعتقد أو فمن جحد) فالاعتقاد والجحود مناطات مكفرة أخرى، أما الحكم بغير ماأنزل الله فهو مناط مكفر بذاته" وقد سبق التفصيل في حكم من لم يحكم بما أنزل الله لكن المراد هنا إثبات أن الكفر قد يكون بفعل مكفر, ويكون هذا الفعل سببا للكفر, ولا يشترط له الجحود والاستحلال الآتي :

وأما الاستحلال :
فمراد أهل السنة بالنصوص التي استدل بها الفريق الثاني هو الرد على الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة , وأهل السنة لا يكفرون بالكبيرة إلا إذا استحلها فاعلها , كما سبق ونقلنا عن الإمام القرطبي في حادثة ابن مظعون - رضي الله عنه- السابقة,وفي هذه الحادثة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على أن المعاصي غير المكفرة كشرب الخمر لا يكفر صاحبها إلا بالاستحلال، كما أجمعوا على أن المعاصي المكفرة يكفر صاحبها بمجرد إتيانها (سواء كانت فعلا أو تركا) دون نظر في جحد أو استحلال، كإجماعهم على تكفير تارك الصلاة فيما رواه عبد الله بن شفيق. وهذا الذي أجمع عليه الصحابة من اشتراط الاستحلال للتكفير بالذنوب غير المكفرة، رتب عليه أهل السنة القاعدة المشهورة (لا نكفِّر مسلما بذنب مالم يستحله).

قال ابن تيمية أيضا (إنه قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة مادلّ عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعملٍ إذا كان فعلاً منهياً عنه مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر ما لم يتضمن ترك الإيمان) (مجموع الفتاوى) 20/ 90. ومعلوم أن الإيمان قول وعمل والذي يكفر به هو ترك شيء من أصل الإيمان جحد أم لم يجحد , استحل أم لم يستحل .
وقال الشيخ حافظ حكمي (ولانكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلاله لما جنى، «ولانكفر بالمعاصي» التي قدمنا ذكرها وأنها لاتوجب كفراً، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك) (معارج القبول) 2/438. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله ــ في بيان اعتقاد أهل السنة ــ (ولايكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، كنحو الزنا والسرقة، وماأشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر) (مقالات الإسلاميين) ط المكتبة العصرية، جـ 1 صـ 347.

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ــ في رده على أحد مخالفيه ــ (وأما المسألة الثالثة: وهى من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام، أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زني أو من سرق أو سفك الدم بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر. وأما أهل السنة فمذهبهم أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ماكفّرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك، وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر ــ إلى أن قال ــ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، أتظن أن أبا بكر وأصحابه لا يفهمون ...؟ ياويلك أيها الجاهل الجهل المركب إذا كنت تعتقد هذا) أهـ من (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب) وهى القسم الخامس من مؤلفاته، ط جامعة الإمام محمد بن سعود، صـ 233 ــ 234.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : [ وها هنا أصل آخر وهو أن الكفر نوعان : كفر عمل ، وكفر جحود وعناد ، فكفر الجحود : أنه يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه ، وأما كفر العمل : فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وما لا يضاده ، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان ] أنظر كتاب الصلاة ص (55)

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء :
ليس كل كفر عملي لا يخرج من ملة الإسلام ، بل بعضه يخرج من ملة الإسلام وهو ما يدل على الاستهانة بالدين والاستهتار به كوضع المصحف تحت القدم وسب رسول من رسل الله مع العلم برسالته ونسبة الولد إلى الله والسجود لغير الله وذبح قربان لغير الله ، ومن ذلك ترك الصلوات المفروضة كسلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) رواه الإمام أحمد وعن بريده بن الحصيب رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل والكفر ترك الصلاة) أخرجه مسلم . ( ) .

شرط الاستحلال والجحود شرط قديم يتجدد

شرط اشترطه المرجئة قديما هروبا من تكفير الخوارج واشترطه بعض المعاصرين كأمثال الشيخ على الحلبي الذي كتب كتابين ضمنهما اشتراط الاستحلال والجحود لنفس الشيء وهو الهروب من تكفير الحكام, وقد قام بالرد عليه بعض العلماء, منهم الشيخ الدكتور محمد أبو رحيّم( ) , وكذلك أصدرت لجنة البحوث والإفتاء فتواه

لماذا اشتراط الجحود أو الاستحلال؟
في الحقيقة هي ردة فعل كما ذكر الدكتور محمد أبو رحيّم في إجابته على سؤال طرحته عليه شبكة أنا المسلم للحوار الإسلامي في لقائها معه :
( س : يعتقد البعض أن الجنوح للإرجاء ممن جنح إليه كان رَدة فعل للتكفير؟
د.أبو رحيّم : إذا كان معنى الإرجاء لغة يعني التأخير، فإن معناه الاصطلاحي يختلف باختلاف متعلقه. وأول إرجاء ظهر كرد فعل للتكفير في الأعم الأغلب كان داخل مذهب الخوارج الذين قطعوا بتكفير المشتركين في الفتنة، فخرج من بينهم من يرجئ أمرهم، ولم يقطعوا بكفر أصحاب الكبائر عامة.
أما إرجاء العمل عن مسمى الإيمان فقد انحصرت فرقها مع كثرتها في ثلاثة أصناف؛ فمنهم من جعل الإيمان مجرد ما في القلب كالجهمية واليونسية، ومنهم من جعله مجرد قول اللسان كالكرامية، ومنهم من جعله تصديق الجنان وقول اللسان وهم مرجئة الفقهاء.
وأما إرجاء وعيد أصحاب الكبائر فهي ثمرة من ثمرات الإرجاء السابق، فالمرجئة الخالصة (العبيدية) جزمت بتأخر الوعيد وعدم لحوقه بأصحاب الكبائر لأنه لا يضر -عندهم- مع الإيمان معصية كما لا ينفع من الكفر طاعة، والواقفة (كغيلان ومحمد بن شبيب) جوّزوا تأخير الوعيد وجزموا بعدم نفوذه على أصحاب الكبائر.

إذا نظرنا إلى فرق المرجئة التي تقدم ذكرها نخلص إلى أن أول إرجاء ظهر في الإسلام كان ردة فعل للتكفير، ولكن تكفير من؟ ! تكفير من يستحق التكفير أم تكفير من لا يستحق التكفير؟! إنهم الصحابة الذين أجمعوا على تكفير تارك الصلاة، وأجمعوا على تحكيم شرع الله الذي شرعه لهم في كتابه وسنة نبيه بما يحفظ عليهم دينهم ودنياهم. ولم يرتضوا شرعاً غيره.

إن هذين المحورين -الصلاة والحكم بما أنزل الله- هما المحوران الأساسيان اللذان قام على هدمهما الفكر الإرجائي المعاصر.
لقد اجتمع في مرجئة العصر ما وقع فيه أسلافهم من أصناف المرجئة، بيد أن نقطة البدء لم تكن كما كان من شأن مرجئة الخوارج، بل كانت بإخراج العمل عن مسمى الإيمان وعدّه شرطاً في كمال الإيمان أو ثمرة عند من حصر الإيمان بالقول والاعتقاد أو بالاعتقاد!! ثم انطلقوا بعدها لهدم التكفير المشروع بضوابطه التي حدّها علماء السلف. وإذا كانت فرقة المرجئة قد عدّت من خالفهم في فهمهم السقيم مارقاً من الدين فإن مرجئة العصر قد اتخذت لنفسها استراتيجية خاصة بدءاً بلائحة الاتهام وانتهاءً برفع أمر المخالفات وجوباً للجهات المعنية لمعاقبته!!إن لائحة الاتهام -عند مرجئة العصر- جاهزة والتجريم عندهم لمجرد القول أو الفعل المخالف لمعتقداتهم جاهز مع كونهم لا يرون التلازم بين الظاهر والباطن إلا أنهم خرقوا قاعدتهم فقالوا: هذا خارجي، هذا تكفيري، هذا ثوري، هذا حزبي!!... )) ( )

وخلاصة القول :

أن شرط الاستحلال والجحود ليس من شروط التكفير في الفعل المكفر على مذهب أهل السنة والجماعة, وأنهما شرطان عند المرجئة , وما يعيننا على التفريق بين ما يكون فيه الجحود والاستحلال شرط هو أن الواجبات الشرعية قسمان:

* منها ما يدخل في أصـل الإيمـان فيكفـر تاركهـا بمجـرد الامتنـاع عنها، جحدها أو لم يجحدها، ومن هذا الباب كفر تارك الصلاة ومانعي الزكاة بإجماع الصحابة . فتقييد التكفير في هذا القسم بالجحد هو مذهب غلاة المرجئة.
* ومنها ما يدخل في الإيمـان الواجب فلا يكفر تاركها بمجرد الامتناع عنها، فإذا جحد وجوبها كَفَرَ سواء فعلها أو امتنع عنها.

فتعميـم القـول بأن تـارك الواجـب لا يكـفـر إلا بالجحــد ــ دون تفـريق بين ما يُخل بأصـل الإيمان وما يُخل بالإيمان الواجب ــ هو قول غلاة المرجئة كما قال ابن تيمية، انظر في مجموع الفتاوى) 7/ 209 و 205.

فيستفاد مما سبق: أن الجحود والاستحلال فعلان مكفران مستقلان , ما دام ما جحده أو استحله معلوم من الدين بالضرورة, وأن الواجبات التي هي من أصل الإيمان يكفر تاركها بمجرد الترك وإن لم يصاحب ذلك جحودا و لا استحلال.

الخاتمة

بحمد الله تعالى وتوفيقه وامتنانه, قد وقفت على فوائد وأحكام عدة أسجلها في هذه الخاتمة, عسى الله أن ينفع به ففي المبحث اللُغوي :

الفصل الأول من الباب الأول:

• وقفت على أن الكفر إذا أطلق يراد به نقـيض الإِيمان وهذا هو الأصل. إلا إذا وجدت قرينة فيمكن أن يؤول إلى كُفرُ النعمة أو العصيان أو الامتناع أو يأتي بمعنى الستر والتغطية والحجب والتغليف, كما يوصف به الباغي ولا يكون المقصود تكثيره كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بعضُكم رِقابَ بَعْضٍ» ويطلق أيضا على منْ أَخلَّ بالشّرِيعَةِ كمن لم يؤدي نعم الله عليه, وقد يراد به التبري كما قال إبليس: {{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } إبراهيم 22

كما أني وقفت على:
 أن لفظ (الكفران) يراد به كفران النعمة على الأكثر.
 أن لفظ (الكُفُورُ) - بضم الكاف- يجمع المعنيين: الكفر في الدين وكفر النعمة, وترجيح إحدى المعنيين يحتاج إلى قرينة قد تفهم من سياق الكلام أو بدليل مستقل مرجحا للمعنى المراد. وأنه ( الكَفُورُ) - بفتح الكاف - هو المبالغُ في كُفْرانِ النعمةِ
 وكَفَرَ فُلانٌ: وصف يطلق لغةً إذا اعْتَقَدَ الكُفْرَ، أو إذا أظْهَرَ الكُفرَ وإن لم يَعْتَقِدْه. ودليل ذلك قول الله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } , وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه. وفيها دليل على أن أطلاق الكفر لا يعني الحكم على المعين بالكفر.

ومن أهم ما وقفت عليه في بحث مادة الكفر الضابط اللغوي :
( كل لفظ كفر لم يتعدى بالباء - ككفر العشير- لا يكن كفراً أكبراً )

• وفي الفصل الثاني: من الباب الأول:
وقفت من خلال الآيات التي أثبتها في الفصل الثاني من الباب الأول على أن هناك معاصي أتت بلفظ الكفر في أحاديث كثيرة مثل: (من حلف بغير الله فقد كفر) أو (فقد أشرك)، (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، (لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).
فالمراد بالكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس الكفر الناقل عن الملة.
ومن خلال الأحاديث وشرحها وقفت على كثير من المعاصي التي تأتي في لفظ الشارع أنها كفر ولكن لا يراد بذلك حقيقة اللفظ, وإنما يطلق عليها ذلك لشدة حرمتها وللتنفير منها حتى يأخذ المسلم منها حزره, وهذه المعاصي هي:
• سباب المسلم أو قتاله .
• كفر العشير.
• الطعن في الأنساب وادعاء النسب بالكذب .
• التكهن وإتيان المرأة في دبرها .
• الحلف بغير الله.
• تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم .
• مشاركة الكفار أعيادهم .
• بعد الألفاظ التي ظاهرها الكفر: كقولهم "مطرنا بنوء كذا".
• بعض المعاصي : كالطعن في الأنساب و النياحة على الميت وضرب الخدود وشق الجيوب ترك الرمي بعد تعلمه.
فهذه المعاصي وإن كانت من كبائر الذنوب إلا أنها لا تصل إلى الكفر بحال, وإطلاق الشرع عليها لفظ الكبر من باب تعظيم حرمتها في النفوس لتجتنب.
وفي الفصل الثالث من الباب الأول:
• وقفت على أن الكفر- المعرف بلام التعريف - يراد به في لغة القرآن والسنة، - أصالة - الكفر الأكبر وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة, وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام. إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.

• وأنه تتعدد أسباب الكفر ولكنها تندرج تحت أربع نواقض: النواقض القولية, والفعلية, والعقدية, وناقض الشك كالشك في الله أو رسوله أو الجنة أو النار.
وأن الكفر يشمل أفعال قائمة بذاتها وأعظمها إنكار و جحود ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم- مما علم من دين الإسلام بالضرورة, أو فعل معصية مكفرة مخرجة من الملة دل على كفرها نصي قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

• وأن ما ذكر من لفظ الكفر معرفا باللام في القرآن فالأصل فيه الكفر الأكبر إلا إذا كان الكفر غير معرف مع قرينة قوية في الدلالة على أن المراد غير ذلك.
و مثاله: الكفر الذي ورد في قول الله تعالى:( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) في من لم يحكم بما أنزل الله.
• وأن قول ابن عباس – رضي الله عنه- (كفر دون كفر) لا ينطبق على حكام زماننا لأنهم نحو الشريعة وبدلوها, وقرائن أحوالهم وتصريحاتهم لتدل على حكمهم.

• أما في السنة فقد أتى التصريح على أفعال بعينها أنها كفر, فبالإضافة إلى ما هو كفر واضح ككفر المنافقين والمرتدين وردت نصوص في كفر:
• تارك الصلاة : فهو يكفر إذا إصرار على الترك حتى يقام عليه الحد.
• منكر السنة أو الطاعن فيها:إذا كان ما أنكره أو طعن فيه قطعي الثبوت والدلالة.
• ساب النبي: صلى الله عليه وسلم علم بإقرار النبي بأن دم الساب هدر لا دية فيه.
• والخلاف في تكفير ساب الصحابة وارد: أما المبشرين بالجنة منهم أو أحدهم فمن سبهم بلعن أو بما برأهم الله منه كفر: إذا تضمن فعله تكذيبا للقرآن أو السنة, وهذا الطعن وسيلة الملاحدة والفرق الضالة لهدم الدين عن طريق الطعن في حملته إلينا.
• مكفر الصحابة: ومن قال بكفر أصحاب النبي كلهم إلا نفر منهم كفر ولا كرامة.
• ووقفت على أن السحر منه ما هو كفر وهو الذي يستعين فيه الساحر بالشياطين.
• وعلى أن من أنكر ما هو معوم من الدين بالضرورة أو استحله كفر.

وفي الفصل الأول من الباب الثاني:
• من أجل الأخطار والآثار المترتبة على تكفير المسلم حذرنا الله – تعالى- في كتابه وكذلك رسوله – صلى الله عليه و سلم- أشد التحذير من الوقوع في هذه المعصية.
• ووقفت على أن الخطأ في تكفير المسلم أشد من سفك دمه وأن ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد.

وفي الفصل الثاني من الباب الثاني:
وقفت على :
• أن حكم التكفير حكم شرعي ليميز الله به الخبيث من الطيب, وأن الذي يحكم بهذا الحكم يجب أن يكون عالما ذو أهلية معتبرة شرعا.
• وأن الحكم بتكفير معين من الناس يترتب عليه حقوق وأحكام شرعي منها: ما يندرج تحت أحكام الولاية, ومنها ما يندرج تحت أحكام المواريث, ومنها ما يندرج تحت أحكام الجنائز, ومنها ما يندرج تحت أحكام الولاء والبراء, ومنها ما يندرج تحت أحكام الهجرة, ومنها ما يندرج تحت أحكام الجهاد, وأضيف هنا لقد ذكره الفقهاء في أبواب عديدة: ذكروه في أبواب العبادات: فجاء ذكره في قولهم إذا ارتد المسلم بطل صومه, أو قولهم ومن نواقض الوضوء الارتداد ونحو ذلك , فيجب على العالم ذو الأهلية أن يصدع به إذا استوفى شروطه حتى لا تضيع الحقوق.

• كما وقفت على أن من كفر مسلم لا يكفر:
وقد حملت الأحاديث التي تكفر من كفر مسلما على تأويلات: بأنها محمولة على المستحل لذلك وهذا يكفر. أو رجع عليه كذبه لا كفره, أو حمل هذه الأحاديث على الخوارج(وهذا بعيد), أو أن يرجع عليه تكفيره لا الكفر نفسه. فالأحاديث لزجر المسلم ولترهيبه من أن يؤذي مسلما ثبت إسلامه بيقين.
• و أن تكفير المسلم مهلكة لا يغامر في اقتحامها إلا رقيق الورع المستخف بدينه, و إلا فإن ما ورد في أحاديث النهي عن تكفير المسلم فيها الكفاية لكل ذي قلب سليم.
• كما أني وقفت على أن المسلم يجب عليه أن لا يكفر من كفر المسلمين متأولا حتى لا يقع في مثل ما وقع هو فيه المسرف في التكفير.

وأهم ما وقفت عليه في الفصل الأول من الباب الثالث:
• أن حكم التكفير يلزمه قاضي في بعض الأحوال لا مفتيا وذلك في أحكام الردة مثلا, حتى يستطيع إقامة الحجة, فإن الذي يقيم الحجة إما أمير مطاع أو عالم ذو هيبة. فالقاضي يرفع أمر المحكوم عليه بالتكفير إلى السلطات الحاكمة لتنفذ حكم ردته, لذا فمن أهم الفروق بين القاضي والمفتي هو الإلزام الذي يتميز به القاضي عن المفتي.
• وأن القاضي حال قضائه أو والمفتي حال إفتائه يجب أن تتوفر فيه الفطنة والذكاء ومعرفة أحوال عصره, والبحث في القرائن التي تحيط بكل قضية أو فتوى فإن وجد للمتهم شبهة لا يحكم بتكفيره. وعلى المفتي أن يحتاط في فتواه.

في الفصل الثاني من الباب الثالث:
• وقفت على أن مانع الجهل من الموانع الشرعية ولكنه ليس على الإطلاق, فإنه يعتبر في الأحكام التي تخفى على العامة والمتداولة بين العلماء.
• وأنه لا يعذر بكل جهل و إلا لكان الجهل أفضل من العلم كم قال الشافعي.
• أن تكفير معين يحتاج إلى النظر في حاله لعله جاهل, وجهله يقف مانعا من تكفيره, وإن تقدير الجهل الذي يرفع هذا الكفر لابد أن يكون من عالم عنده أهلية النظر والاعتبار.
ثم وقفت على أن من موانع التكفير الإكراه:
• وأن المكره قد يأتي بأفعال كفر ولكنّه لا يكفر ما لم ينشرح صدره بالكفر.
• وأن الإكراه يقسم إلى إكراه ملجئ وآخر غير ملجئ:
فالملجئ منه يبيح بعض المحرمات بما فيها التلفظ بالكفر
والغير ملجئ لا يبيح المعاصي المتعدية ضررها على الغير.
• ويشترط أن يتبين قصــد الفاعــل أي نيّته فقد يفعل ما ظاهره كفر وحقيقته غير ذلك كمن يدعو للميت عند قبره فهو لم يدعو غير الله فلم يشرك بل هو مثاب, وقد يفعل و ظاهره الكفر و حكمه مبتدع لا كافر, وقد يفعل ما هو كفر وحقيقته كفر فيكفر باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع, والذي يبين لن قصد الفاعل هو سؤاله وقرائن أحواله.

وقد سجلت في الموانع تنبيهين مهمين:
الأول:أن إطلاق الكفر على الفعل لا يعني تكفير الفاعل إنما هو تجريم الفعل فحسب.
الثاني: أن هناك فرق بين الحكم القضائي و الحكم ديانة ,فقد يقع مسلما في كفر وينجو منه قضائيا, فإن كانت حقيقته غير ذلك فتجب عليه التوبة, حتى يلقى الله لا يشرك به شيئا.
• و وقفت على أن التأويل مانع معتبر شرعا, وهو يرفع الكفر عن العالم المتؤول الذي معه أدوات الاجتهاد وأراد الحق فأخطأه بعد أن يستفرغ جهده.
• وأنه ينقسم إلى تأويل مستساغ وتأويل غير مستساغ.
• وأنه لا يكفر المتؤول وأن وقع في محرم, ما لم يستحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو المشهورة حرمته عند العلماء .

وفي الفصل الثالث والأخير من الباب الثالث:
• تناولت شبهتين يقع فيهما من يقحم نفسه في قضية التكفير
الأولى منهما: يقع فيها المسرفون في التكفير, وهم الذين يكفرون بما يظنون أنه مكفر وأقوى شبهة لديهم الموالاة, إذا لا يفرقون بين الموالاة المكفرة والموالاة الغير مكفرة.
والثانية: شبهة الذين يشترطون للتكفير- هروبا من الوقوع في الصنف الأول- شروطا لم يشترطها الشارع, وليست على قواعد أهل السنة والجماعة.

• ولتفنيد الشبهة الأولى أثبت: أن الموالاة أقسام منها الكفر ومنها دون ذلك ومنها المباح, أثبته بأقوال العلماء الثقات, من أهل العلم المتخصصين.
• ووقفت في بحثي على أن الموالاة المكفرة لا يستهان بها فقد أدت إلى ضعف المسلمين وهزيمة المتناحرين منهم.

• أما الشبهة الثانية: وهي عند من اشتراط الجحود والاستحلال ليكون الفعل مكفرا, ليفروا من حكم التكفير, فخطأهم أتى من حيث خافوا أن يقعوا في الإفراط فوقعوا في التفريط, أي وقعوا على الطرف النقيض, وهي شبهة تتجدد كلما برزت طائفة حكم التكفير, سواء في العصر القديم أو الحديث , تنتج من الإفراط أو التفريط في مسائل الكفر والإيمان, فقد وقعت هذه الشبهة من قبل عند المرجئة, وتكررت في عصرنا هذا مع طائفة من المنتسبين لأهل العلم. وتصدى لهم علماء منهم هيئة البحوث والإفتاء بمكة المكرمة. مع فارق أن المرجئة الأول أنكروا تكفير أهل الحق القائمين بالشرع , أما من احتذى حزوهم في هذا العصر أنكروا تكفير المبدلين للشرع .
• ووقفت على أن الجحود فعل مكفر بذاته, وأن الكافر الجاحد لما يستحق عليه الكفر يكفر سواء فعل ما جحده أو لم يفعله.
• وأن اعتبار الجحود شرطا نتج عن عدم التفريق بين أنواع الكفر وأسبابه, والصحيح أن الجحود سببا للكفر لا شرطا فيه.
• ووقفت على أنه قد تتعدد الأسباب المكفرة في النوع والحد من أنواع الكفر.
• ووقفت على أن كلا شبهتي المفرطين والمسرفين في التكفير نتجت عن قلة العلم, وعدم الفهم لكلام العلماء , وعن عدم معرفة الواقع الذي قيل فيه كلام العلماء.
وبعد.. فقد استفرغت جهدي , في دراسة أقوال العلماء بكل ما أتيح لي من وسائل علمية, وقضيت أوقات لا يعلم بها إلا الله في تسجيل هذا البحث, فإن كان ما كتبته صوابا فالحمد لله أولا وأخيرا, وأشكر من أعانني وحثني على المضي في هذا البحث الدقيق الشائك, وإن كانت الأخرى فالله ورسوله من براء .
و أسأل الله المغفرة والهداية والتوفيق لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
كما لا يفوتني أن أشكر أستاذي المشرف عمر أسيف على كل ملاحظة أرسلها.

أبو عبد الله
زكريا الخطيب
فيينا في
السابع من جمادى الأول 1422 هـ
السادس من يوليـــو لعام 2003 م

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك